الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
مسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع
المراد بمسالك العلة الطرق التي يتعرف المجتهد من خلالها على علل الأحكام الشرعية. وهذه العلل إما أن يكون الشارع قد نص عليها صراحة في نصوصه وأحكامه، وإما أن يكون قد ترك استنباطها للمجتهد من خلال القرائن اللفظية والمعنوية والعقلية، والمناسبة. وما دام موضوع المبحث ليس في مسالك التعليل ذاتها، لا سيما وأنها قد بُحثت كثيراً (1) فسوف لن يطيل الباحث فيها، وسيكتفي بإعطاء ملخص عمّا قاله الأصوليون في تعريف كلّ منها وبيان أقسامه، ثم يكون التركيز بعد ذلك على بيان ما هو مناسب منها لأن يكون كاشفاً عن مقاصد الشارع، وكيفية الإستدلال به على ذلك.
أولاً- النص:
وهو أهمها، حيث إنه ناطق عن إرادة الشارع وقصده، وإذا استطعنا أن نعرف
مقصد الشارع من خلال منطوق خطابه فتلك الغاية.
وقد عرّفه الآمدي بقوله: "هو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل
بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة، من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال". (2)
وقد قُسِّم النص إلى قسمين (3):
1 -
ما يدلّ على العلية دلالة قاطعة: وذلك كأن يقال: لعلة كذا، أو لسبب كذا،
(1) انظر في تفصيل مسالك العلة: مباحث القياس من كتب الأصول للمتقدمين والمحدثين، ومن أبرز من أفردها بالبحث من المعاصرين الدكتور عبد الحكيم عبد الرحمن السعدي: مباحث العلة في القياس عند الأصولين، (بيروت: دار البشائر الإِسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1، 1406 هـ / 1986 م)؛ والدكتور محمد مصطفى شلبي في كتابه: تعليل الأحكام، (بيروت: دار النهضة العربية، 1401 هـ/ 1981 م).
(2)
الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 277.
(3)
انظر الإسنوي، جمال الدين: نهاية السول، مطبوع مع شرح البدخشي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ / 1984 م)، ج 3، ص 55 - 58؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 278 - 279.
أو لأجل كذا، وكي. (1) ومثلوا لذلك بقوله تعالى:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وقوله:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
2 -
ما يدل على العلِّيّة دلالة ظاهرة، وقد اختُلِفَ في عددها، فجعلها الإسنوي ثلاثة، (2) هي: اللام: مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وإِنَّ، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في المُحْرِم الذي وقصته ناقته: "
…
وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُلَبِّي"، (3) والباء، ومثال ذلك قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 4].
وجعلها الآمدي خمسة، هي: اللام، والكاف، و"مِنْ"، و"إِنّ"، والباء. (4) وزاد البعض "أنْ"، و"إِنْ"، و"أنَّ"، والفاء، ولعل، و"إذْ"، و"حتى". (5)
والأصح أن يقال: إن كل ما رُتِّب على حرف من الحروف التي تفيد التعليل كان ظاهراً في التعليل من غير داعٍ إلى حصرٍ في حروف معينة.
والفرق بين القسمين: الأول والثاني أنّ القاطع هو الذي لا يحتمل غير العلِّية، والظاهر هو الذي يحتمل غيرها احتمالًا مرجوحًا؛ وذلك بسبب استعمال تلك الحروف أحياناً في معان أخرى غير التعليل. (6)
فإذا صرح الشارع بصيغة من الصيغ الموضوعة للتعليل -والتي لا تحتمل غيره- بأن أمراً ما يُعدّ علّة تشريعِ حكمٍ من الأحكام كان ذلك دليلاً على أن ما في تلك العلة
(1) جعل الآمدي الكاف مما يدل على العلية دلالة ظنية. انظر الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 278.
(2)
انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 55 وما بعدها.
(3)
تمام الحديث فيما رواه مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُلَبِّي". صحيح مسلم، كتاب الحج، باب (14)، ج 2، ص 867، الحديث (1206)(103).
(4)
انظر الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 278.
(5)
انظر عبد الحكيم عبد الرحمن السعدي: مباحث العلة في القياس، ص 350 - 364.
(6)
انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 55 - 56.
من حِكْمة هو مقصد من مقاصد الشارع، خاصة إذا علمنا أن أغلب ما صرح به الشارع من علل إنما هو من باب الحِكَم التي تُعدّ في ذاتها مقاصد للشارع من تلك الأحكام.
وصيغ النص القاطع التي ورد التعليل بها في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هي: "من أجل"، و"كي".
ومثال الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ"، (1) فهو صريح في أن قصد الشارع من فرض الإستئذان هو منعُ التجسس على الناس، وستر حرماتهم وأسرارهم، فكل ما أدى إلى خرق ذلك فهو ممنوع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ" وذلك فيما أخرجه مسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الأَضْحَى زَمَنَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ادَّخِرُوا ثَلاثًا ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ"، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: يا رَسُولَ الله إِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ وَيَجْمُلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"وَمَا ذَاكَ؟ " قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلاثٍ، فَقَالَ:"إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا". (2)
فبيّن فيه صلى الله عليه وسلم أن مقصوده من نهي الصحابة عن ادخار لحوم الأضاحي في تلك السنة إنما كان لدفعهم إلى التصدق بما هو زائد عن حاجتهم اليومية لتحقيق التكافل الإجتماعي بين أفراد المجتمع بإطعام الجائعين وسدّ خلّة المحتاجين، وهو صريح في أن مساعدة المحتاجين وتحقيق التكافل الإجتماعي مقصد من مقاصد الشريعة ينبغي السعي إلى تحقيقه، ولو كان ذلك بفرض قيود على حقوق أصحاب الفضل ليعودوا بفضلهم على المحتاجين، وأنه لوليّ الأمر أن يفعل ذلك، ولكن شريطة أن يكون ذلك بالمعروف وبما لا يخرق القواعد والأحكام الشرعية الأخرى التي تحفظ على
(1) أخرج البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِن جُحَرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرَى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ: "لَوْ اعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِن أَجْلِ الْبَصَرِ". صحيح البخاري، كتاب الإستئذان، باب (11)، مج 4، ج 7، ص 168.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الأضاحي، باب (5)، ج 3، ص 1561.
الناس أموالهم وحقوقهم.
ومثال الثانية: قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. فهو نصٌّ في أن قصد الشارع في الأموال إشاعتها بين الناس وإعادة توزيع الثروة بما يمنع احتكارها في أيدي فئة محدودة من أفراد المجتمع. والآية جاءت في معرض بيان المقصد من خصِّ طبقة الفقراء والمساكين بجزء من مال الفيء. (1) فهو نصّ في قصد الشارع إلى إعادة توزيع الثروة بطريقة عادلة تحفظ حقوق الأغنياء والفقراء جميعا.
أمّا ما يدلّ دلالة ظاهرة على المقصد الشرعي فكل ما ورد مرتّباً على حرف من الحروف التي تفيد التعليل، ومن أبرز ما ورد منه في القرآن الكريم:
1 -
ما وردت الإشارة إليه بلام التعليل، مثل قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. فالآية صريحة في أن المقصد من تكليف الرسل بتبليغ الوحي الإلهي إلى الناس هو جعل ذلك الرسول وسيلة لبيانه، والبيان هنا بمعناه الواسع الذي يكون بالقول والفعل والقدوة، حتى يسهل على الناس فهمُ الوحي الإلهي والتزامه في واقع الحياة.
2 -
ما صُدِّرَ بحتى التي للتعليل مثل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} [الأنفال: 39]. فقد دلّت الآية على أن المقصد من قتال الكفار المحاربين هو جعل السيادة في الأرض للدين الحق، وحماية الناس أن يفتنوا في دينهم من قِبَل أهل الكفر والفساد، لا مجرد القتال المهلك للنفوس المتلف للأموال.
ومنه قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: 31]، فدلت الآية على أن المقصد من ابتلاء المؤمنين بالحرب ونقص الأموال والأنفس
(1) تمام الآية: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. والفرق بين الفيء والغنيمة أن الغنيمة ما حُصِّل من أموال أهل الحرب على سبيل القهر والغلبة، وحُكْمُه أنه يُخَمَّس، ثم يوزع ما بعد الخمس على الغانمين غنيِّهم وفقيرهم، والفيء ما حُصِّل من غير قتال، وقد اختلف الفقهاء في تخميسه وفي أصحاب الحق فيه. انظر الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية، ج 32، ص 227 - 233.
والثمرات هو تمحيص إيمانهم ليتميَّز الصادق من الكاذب.
ثانياً - الإيماء والتنبيه:
وضابطه "الإقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا، فيُحْمَل على التعليل دفعاً للإستبعاد". (1)
وقد جعله كل من الرازي والبيضاوي خمسة أنواع، (2) وجعله الآمدي (3) ستة، وأوصله الشوكاني إلى تسعة، (4) وهو راجع إلى القسمة العقلية، وأبرزها:
1 -
ترتيب الحكم على العلة بفاء التعقيب والتسبيب. وهو على أربعة أوجه: إما أن يدخل حرف الفاء على الوصف في كلام الشارع، أو أن يدخل على الوصف في كلام الراوي، أو أن يدخل على الحكم في كلام الشارع، أو أن يدخل على الحكم في كلام الراوي.
ومثال الأول: الحديث المتقدم في المحرم: "
…
وَلَا تُغَطُّوا وَجْهَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يُلَبِّي". (5)
والثاني: لم يظفروا له بمثال.
ومثال الثالث: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
ومثال الرابع: قول الراوي: "
…
أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ". (6)
2 -
أن يحكم الشارع على شخص بحكم عقب علمه بصفة صدرت منه؛ فإنه
(1) الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 212؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 60.
(2)
انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 143؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 60
(3)
انظر الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 279.
(4)
انظر الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 212 - 213.
(5)
سبق تخريجه.
(6)
أخرج البخاري عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ". صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب (60)، مج 1، ج 2، ص 404.
يدل على كون ما حديث علة لذلك الحكم.
ومثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لمن جامع في نهار رمضان: "فَأَعْتِقْ رَقَبَةً"(1)
3 -
أن يذكر الشارع مع الحكم وصفًا لو لم يُقَدّر التعليل به لما كان لذكره فائدة، وهو أربعة أقسام، انظرها في مواطنها. (2)
4 -
أن يفرق الشارع بين أمرين في الحكم بذكر وصف لأحدهما فيعلم أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وإلاّ لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة. (3)
5 -
النهي عن فعل يكون مانعاً لما تقدم وجُوبُه علينا. كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فإنه تعالى لما أوجب السعي إلى الصلاة ونهى عن البيع علمنا أن علة النهي عن البيع هي تفويت الواجب. (4)
هذا خلاصة ما فرعه الأصوليون على الإيماء والتنبيه، وهو راجع إلى القسمة العقلية، ولذلك لم يظفروا لبعض فروعه بأمثلة شرعية.
ويبدو أن أنسب تعريف للإيماء والتنبيه هو ما عرفه به صاحب مسلَّم الثبوت بأنه "ما يدل على عليّة الوصف بقرينة من القرائن"، إذْ الإيماء نوع من التنبيه والإشارة إلى كون معنى من المعاني أو حِكْمة من الحِكَم هي مقصود الشارع من
(1) أخرج البخاري عن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ: "وَلِمَ". قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: "فَأَعْتِقْ رَقَبَةً". قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي. قَالَ: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ". قَالَ: لا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: "فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا". قَالَ: لا أَجِدُ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: "أينَ السَّائِلُ؟ " قَالَ: هَا أَنَا ذَا. قَالَ: "تَصَدَّقْ بِهَذَا". قَالَ: عَلَى أحْوَجَ مِنَّا يا رَسُولَ الله، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتى بَدَتْ أَنْيَابُهُ قَالَ:"فَأَنْتُمْ إِذًا". صحيح البخاري، كتاب النفقات، باب (13)، مج 3، ج 6، ص 535. الحديث (5368) وانظر في هذا النوع الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 65 - 66؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 280.
(2)
انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 149 - 152؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 66 - 67؛ الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 212؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 281.
(3)
انظر في هذا الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 284؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 67.
(4)
انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 154 - 155؛ الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 285.
خطابه أو من تشريع حُكم من الأحكام، وأداة التنبيه في ذلك هي قرينة من القرائن، سواء كان ذلك حرف الفاء أو غيره.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ"(1) فيه إيماء إلى أن علة النهي عن القضاء في حال الغضب هي تشويش ذهن القاضي بما يؤدي إلى عدم سلامة الحُكْم الذي يصدره في تلك الحال، وهذا يدلّ على أن الشارع قاصد إلى دفع ما ينتج عن تشويش ذهن القاضي من فساد في الأحكام، وذلك بتوفير الظروف الملائمة -سواء كانت ذاتية أو موضوعية- لسلامة أحكام القاضي وعدالتها.
ومن الإيماء والتنبيه على المقصد الشرعي ذِكْر الحكم مقروناً بسببه مثل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، فإنه يفهم منه أن من مقاصد شرع القتال دفعُ الظلم الواقع على المؤمنين.
ومنه أن يأمر الشارع بالشيء مبيِّناً مصالحه، أو ينهى عنه مبيِّناً مفاسده، فيعلم أن جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة من مقاصد الشارع. ومن أمثلة ذلك:
1 -
قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]، فإرهاب الأعداء وصرفهم حتى عن مجرد التفكير في التعرض للإسلام والمسلمين مقصد شرعي من مقاصد الأمر بإعداد العُدّة والظهور بمظهر القوة؛ فيحقق ذلك للمسلمين غايتين: سيادة الإِسلام وأهله، ودفع الحرب المهلكة للنفوس المخربة للديار.
2 -
وقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فتعظيم الرب سبحانه وتعالى وصون اسمه من التعرض لأي قبيح مقصد شرعي يجب المحافظة عليه ولو أدى ذلك إلى ترك التعرض لأي المشركين ومعتقداتهم. كما أن في هذه الآية تنبيه إلى أن دفع أعظم المفسدتين بالتجاوز عن أيسرهما مقصد من مقاصد الشارع.
(1) سنن ابن ماجة، كتاب الأحكام، باب (4)، ج 2، ص 39.
ثالثاً - الإجماع:
وهو"أن يُذْكَرَ ما يدلّ على إجماع الأمة في عصر من الأعصار على كون الوصف الجامع علة لحكم الأصل: إما قطعا، أو ظنا". (1) وذلك كإجماعهم على كون الصغر علة لثبوت الولاية على الصغيرة في المال، فيقاس عليه ثبوت الولاية عليها في النكاح.
والإجماع في الحقيقة لا يُعدّ مسلكاً مستقلاًّ للكشف عن العلة، إذْ الإجماع لا يكون من فراغ، بل لا بُدّ له من مُسْتَنَد عرف المجمعون من خلاله العلة المجمع عليها، وهو إما النص، أو الإيماء والتنبيه، أو المناسبة. فالإجماع إنما يأتي مؤكدا لعليّة ذلك الوصف أو لمقصدية حِكْمة من الحِكَم ليرتفع بها من مرتبة الظن إلى مرتبة اليقين، ومن ثَمّ فهو لا يستحقّ أن يُبحث بوصفه مسلكاً مستقلاًّ من مسالك الكشف عن المقاصد.
رابعاً - الشبه:
وهو ما ألحق فيه الفرع بالأصل لجامع يشبهه فيه، وقد اختلف الأصوليون في تعريفه وبيان حقيقته على أقوال (2) أبرزها:
1 -
هو"تردُّدُ فرع بين أصلين شبهه بأحدهما في الأوصاف أكثر". (3)
2 -
هو"الوصف الذي لا تظهر فيه المناسبة بعد المبحث التام، ولكن أُلِف من الشرع الإلتفات إليه في بعض الأحكام، فهو دون المناسب، وفوق الطردي، ولأجل شبهه بكل منهما سمي الشبه". (4)
3 -
هو الجمع بين الأصل والفرع بما لا يناسب الحكم بذاته، لكنه يستلزم ما
(1) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 277؛ وانظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 71.
(2)
انظر في ذلك مثلًا الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 325 - 327؛ الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 219؛ السعدي: مباحث العلة في القياس، ص 455 - 462.
(3)
ابن النجار، محمد بن أحمد الفتوحي: شرح الكوكب المنير، تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد، (الرياض: مكتبة العبيكان، 1413 هـ / 1993 م)، ج 4، ص 187.
(4)
الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 85.
يناسب الحكم. (1)
ومن خلال ما سبق يتبيَّن أن الشبه خاص بالقياس؛ إذْ هو يدور حول إلحاق فرع بأشبه الأصول به، ومن ثَمّ فهو من أنواع القياس وليست له علاقة بالكشف عن مقاصد الشارع.
خامساً - الدوران:
ويسمى أيضاً الطرد والعكس، وهو عبارة عن وجود الحُكْم بوجود الوصف،
وانعدامه بعدمه. (2)
ويمكن أن يكون الدوران مسلكاً من مسالك التعرف على كون حِكْمة من الحِكَم مقصداً للشارع في أحكامه، فإذا رأينا تلازماً بين نوعِ أو جنسِ حِكْمة من الحِكم ونوعِ أو جنسِ حُكْم من الأحكام الشرعية حيث يوجد الثاني بوجود الأول وينعدم بانعدامه حصل لنا ظن راجح بأن الشارع قاصد إلى تحصيل تلك الحِكْمة.
ومثال ذلك دوران الحُكم بالتيسير مع وجود المشقة، حيث يدلُّنا تَتَبُّعُ الأحكام الشرعية على أن الشارع ينحو منحى التيسير حيث توجد المشقة التي لا تُحْتَمل عادة، وهذا ثابت في رخص العبادات كما هو في رخص المعاملات. وسيأتي مزيد تفصيل في هذا عند الحديث عن الاستقراء.
وينبغي التنبيه على أن هذا المسلك -مثل غيره- لا ينبغي أخذه على إطلاقه، فليس مطلق الملازمة والدوران يفيد المقصدية، وإنما مع مراعاة الضوابط الشرعية الأخرى بتخصيص ما خصه الشارع واستثناء ما استثناه، فالأحكام والنصوص والقواعد الشرعية ينبغي أن يُنْظر إليها بوصفها وحدة متكاملة.
(1) انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 86، الرازي: المحصول، ج 5، ص 201.
(2)
انظر في ذلك الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 330 - 333؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 91 - 94؛ الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 221.
سادساً - السّبر والتقسيم:
السبر معناه الاختبار، والتقسيم هو استقراء ما يحتمل أن يكون علَّةً لِشَرْعِ الحُكْم أو مقصداً له، وهو عملية سابقة للسبر.
وسمي بذلك لأن المستنبط يقسم بداية الأوصاف التي تحتمل العليّة، ثم يختبر كل واحد منها ليرى هل يصلح للعلية أم لا؟ (1)
وهو على نوعين:
1 -
التقسيم الحاصر: وهو الذي يكون دائراً بين النفي والإثبات، مثل قول الشافعي في ولاية الإجبار على النكاح: إما أن لا تكون معللة أصلا، وإما أن تكون معللة. وعلى تقدير تعليلها: إما أن تكون معللة بالبكارة أو الصغر أو بغيرها. والأقسام كلها باطلة سوى الثاني؛ وهو تعليلها بالبكارة. (2)
2 -
التقسيم المنتشر: وهو التقسيم الذي لا يكون دائرا بين النفي والإثبات. ومثال ذلك قول المعلل: حُرْمَةُ الربا في البُرِّ إما أن تكون معللة بالطعم، أو الكيل، أو القوت، أو المال. والكل باطل إلّا الطعم، فيتعين التعليل به. (3)
والسبر والتقسيم في الحقيقة لا يمكن أن يكون مسلكاً مستقلاًّ من مسالك الكشف عن العلة، وإنما هو وسيلة أو طريقة من الطرق المتبعة للتحقّق من عليّة الوصف بناءً على مسلك من المسالك الحقيقية، وهي: النص، والإيماء والتنبيه، والمناسبة. فهو مركّب من التقسيم وهو تجميع للأوصاف أو الحِكَم التي يحتمل كل منها أن يكون علة لحُكْم أو مقصداً شرعياً له، ثُمّ بعد ذلك يكرُّ المجتهد على ما افترضه بالاختبار، فيلغي ما ألغاه الشارع ويستبعد ما عُهِد من الشارع استبعاده ليستقر في الأخير على ما كان مناسبا منها لذلك الحُكْم أو ما عُهِد من الشارع
(1) انظر الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 198؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 95 - 96.
(2)
انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 96؛ الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 213 - 214.
(3)
انظر الرازي: المحصول، ج 5، ص 217؛ الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 96 - 97.
اعتباره في جنس ذلك الحكم، وعماده في ذلك الاختبار النص والإيماء والتنبيه والإجماع والمناسبة، فهي في الحقيقة الأدوات الكاشفة عن علّيّة الوصف أو مقصديّة الحِكْمَة، وإنما السبر والتقسيم طريقة لإعمال تلك الكواشف.
سابعاً - المناسبة:
ويُعبَّر عنها بالإخالة، وبالمصلحة، وبرعاية المقاصد. (1)
والمناسب في اللغة هو الملائم، يقال: هذا الشيء مناسب لهذا، أي: ملائم له. (2)
أما اصطلاحاً فهناك اتجاهان في تعريفه:
الإتجاه الأول: يعرفه بأنه "الملائمُ لأفعال العقلاء في العادات". (3)
والاتجاه الثاني: يعرفه بأنه "الوصف الذي يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من جلب منفعة أو دفع مضرة". (4)
وقد نسب الرازي التعريف الأول إلى الذين لا يقولون بتعليل أفعال الله تعالى، والثاني إلى القائلين بتعليل أفعال الله تعالى. (5)
أما الغزالي فقد عرفه بأنه ما كان "على منهاج المصالح، بحيث إذا أُضِيف الحُكْم إليه انتظم"، (6) أي الموافق للمقاصد العامة للشريعة.
ومادام المناسب هو الوصف الذي يترتب على شرع الحكم عنده مصلحة، وتحقيق المصلحة مقصد من المقاصد الأساسية للشارع فإن المناسب يكون طريقاً إلى التعرف على المقاصد الشرعية.
(1) انظر الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 214.
(2)
انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 1، ص 756.
(3)
الرازي: المحصول، ج 5، ص 158.
(4)
انظر الإسنوي: نهاية السول، ج 3، ص 71 - 72؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 294.
(5)
الرازي: المحصول، ج 5، ص 158 - 159.
(6)
الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 135.
أقسام المناسب:
قسم الأصوليون المناسب إلى أقسام متعددة وباعتبارات مختلفة، اتفقوا في بعضها واختلفوا في بعض آخر اختلافَ اصطلاحٍ أو اختلافَ تفريعٍ وإجمال. (1) ولعل أجمعها -وهو ما استقر عليه المتأخرون- تقسيمه إلى حمسة أقسام: المناسب المؤثر والمناسب الملائم، والمناسب الغريب، والمناسب الملغي، والمناسب المرسل. ووجه الحصر- أنا المناسب إما أن يثبت اعتبارُه شرعاً، أو يثبت إلغاؤُه، أو لا يعلم هذا ولا ذاك. الأول معتبر بالنص أو الإجماع، وهو المؤثر والثاني بترتيب الحُكْم على وفقه وإن لم ينص عليه صراحة أو لم يثبت بالإجماع، وهو الملائم، فإن شهد لاعتباره أصله المعين فقط دون أن يوجد لجنسه شاهد فهو الغريب، وما ثبت إلغاؤه فهو المناسب الملغي، وما لم يثبت اعتباره ولا إلغاؤه فهو المناسب المرسل.
1 -
المناسب المؤثر: وهو الذي دلّ النص أو الإجماع على مناسبته، وصلاحيته لأن يكون علة تُبنى عليها الأحكام الشرعية. (2) وما يثبت من المقاصد بهذا الطريق يُعدّ من المقاصد الثابتة بالنص أو الإجماع، وتكون إما مأخوذة من ظواهر النصوص مباشرة أو بالإستعانة بما يحفّ بها من قرائن، وقد سبقت دراسته ضمن ما ثبت بالنص أو بالإيماء والتنبيه. وإدراج هذا النوع من المناسب ضمن مقاصد الشارع متفق عليه بين العلماء. (3)
ومثال هذا النوع من المناسب النص من الشارع على أن التيسير والتخفيف هو المقصد الشرعي من رخص العبادات والمعاملات، (4) وأن تطهير النفوس من الشُّحّ وتحقيق التكافل الإجتماعي هو المقصد من تشريع الزكاة، (5) وأن الإستدامة على طاعة
(1) انظر الرازي: المحصول: ج 5، ص 159، وما بعدها؛ الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 311 وما بعدها.
(2)
انظر الغزالي، أبو حامد: شفاء الغليل في بيان الله والمخيل ومسالك التعليل، تحقيق حمد الكبيسي، (بغداد: مطبعة الإرشاد، 1390 هـ/ 1971 م)، ص 144.
(3)
الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 312.
(4)
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} [النساء: 28]
(5)
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} [التوبة: 103]،وعَنِ
الله تعالى وتجنيب العلاقات بنِن أفراد المجتمع أسباب البغضاء والعدواة من المقاصد الشرعية لتحريم الخمر. (1)
2 -
المناسب الملائم: وهو الذي لم يرد فيه نص ولا إجماع بعينه، لكن الشارع رتَّب الحُكْم عليه في محل آخر واعتبر جنسه في عينه وبالعكس، أو جنسه في جنسه بنص أو إجماع. والأخذ به محلّ اتفاق بين العلماء إجمالاً (2) وإن اختلفوا في بعض الجزئيات هل هي داخلة ضمن الملائم أم ضمن غيره. (3)
ويمثل لهذا النوع بمسائل سَدّ الذرائع، فهناك بعض الذرائع نصّ الشارع على سدِّها لِمَا تؤدي إليه من مفسدة كالنهي عن سَبِّ آلهة المشركين إذا أدى ذلك إلى سَبِّ الذات الإلهية، (4) وتحريم الخلوة لأنها ذريعة إلى الفاحشة، (5) وتحريم البيوع التي هي من ذراءع الربا كبيع العينة، (6) وصفقتين في صفقة، (7) والنفع الناتج عن قرض (8).
= ابنِ عَبَّاسِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: "ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَأَنِّي رَسُوُل الله فَإِنْ هُمْ أطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله قَدِ افْتَرَضَ عَلَيهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِن هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَن الله افتَرَضَ عَلَيهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالهِمْ تُؤخَذُ مِن أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ".
صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب (43)، مج 1، ج 2، ص 449، الحديث (1458).
(1)
(2)
انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 136.
(3)
الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 312.
(4)
وذلك في قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
(5)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلا تُسَافِرَن امْرَأَةٌ إِلَاّ وَمَعَهَا مَحُرمٌ". صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب (140)، مج 2، ج 4، ص 342، الحديث (3006).
(6)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا تَبَايَعْتُم بالْعِينَةِ وَأَخَدتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ الله عَلَيْكُمْ ذُلَاّ لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ". أبو داود، سليمان بن الأشعث: سنن أبي داود، مطبوع ضمن الكتب الستة، (استانبول: cagoi yayinlaoi، 1981 م)، كتاب الإجارة، باب (54)، ج 3، ص 740 - 741، الحديث (3462).
(7)
عَن أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أوْ كَسُهُمَا أو الرِّبَا". سنن أبي داود، كتاب الإجارة، باب (53)، ج 3، ص 738 - 739، الحديث (3461).
(8)
عن أَنْسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَقْرَضَ أحَدُكُمْ قَرْضًا فَأَهْدَى لَهُ أوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَلا يَرْكَبْهَا وَلا يَقْبَلْهُ إِلَاّ أنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ". سنن ابن ماجة، أبواب الأحكام، باب (59)، ج 2، ص 61، الحديث (2432).
وهناك ذرائع كثيرة لم يرد في عينها نص ولا إجماع، ولكنها عند النظر فيها يتبيّن ما تؤدي إليه من فساد راجح على ما يرجى منها من مصالح فيُفْتَى بسدِّها وإن لم يرد في عينها نص ولا إجماع، ويكون مستَنَدُ ذلك ملاءمة ذلك المنع لما عُهِد من الشارعَ مِنْ منعٍ في جنس الذرائع المقطوع أو الغالب على الظن أنها تؤدي إلى حرام أو ينتج عنها مفسدة أعظم مما يُتَذَرَّع به من مصلحة. وبستخلص من ذلك كون الشارع قاصداً إلى سدّ هذا النوع من الذرائع.
3 -
المناسب الغريب: وقد عرفه الغزالي بأنه "الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع". (1) وعرفه البيضاوي بأنه "ما أثر نوعه في نوع الحكم ولم يؤثر جنسه في جنسه". (2) فهو المناسب الذي لم يشهد باعتباره سوى أصله المعين، دون أن يوجد شاهد لجنسه، ولذلك سمي غريباً؛ لأنه شهد لنوعه حكم واحد.
ومثلوا له بتوريث المطلقة ثلاثاً في مرض الموت معاملة للزوج بنقيض قصده، لأنه إنما قصد من تطليقها طلاقاً باتّاً حرمانها من الميراث، ولم يكن الطلاق لسبب مشروع. ووجه غرابته أن مثل هذه المعاملة (المعاملة بنقيض القصد) لم تُعْهَد في تصرفات الشارع إلّا في حالة واحدة هي حرمان القاتل من الميراث معاملة له بنقيض قصده إذْ استعجل الميراث بقتل مورثه. ولم يُعْهَد من الشارع في غير هذا الموضع معاملة المتصرف بنقيض قصده.
وهذا المثال فيه نظر، فإن معاملة الوارث القاتل بنقيض قصده إنما قَصَد منه الشارع سدّ ذرائع سفك الدماء، فهو في الواقع فرع من فروع باب سدّ الذرائع، وسدّ الشارع لذرائع الفساد ليس غريباً في نصوصه وأحكامه، بل هو منتشر انتشاراً واسعاً في نصوص القرآن والسنة وأحكامهما وفي اجتهادات الفقهاء بعد ذلك.
وقد فهم سيدنا عثمان رضي الله عنه هذا المقصد فقال بتوريث المطلقة ثلاثاً في مرض الموت (3)
(1) الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 136.
(2)
انظر شلبي: تعليل الأحكام، ص 249.
(3)
انظر البيهقي: السنن الكبرى، كتاب الخلع والطلاق، باب "ما جاء في توريث المبتوثة في مرض الموت"، ج 7، ص 362 - 363.
لَمَّا رأى أن الناس صاروا يتخذون هذا الطلاق ذريعة لحرمان أصحاب الحقوق من حقوقهم.
4 -
المناسب الملغي: وهو المناسب الذي ظهر إلغاؤه وإعراض الشارع عنه في جميع صوره. ومثاله تحصيل الربح من طريق الفوائد الربوية، فمن المقاصد الشرعية للمعاملات المالية تحصيل الربح، والتعامل الربوي -ولا شك- محصِّلُ للربح بالنسبة لصاحب رأس المال، وقد يحصِّلُ فائدة لبعض المقترضين، وقد يقول قائل -بناءً على ذلك- إن التعامل الربوي محقِّق لمقصد من مقاصد المعاملات المالية وهو الربح لرب المال، ودفع حاجة المقترض وبناء على ذلك يمكن التعامل به إذا حقق هذا المقصد. ولكن مهما قيل في هذا فإنه غير صالح للإحتجاج به، أوَّلاً: لأن الشارع قد ألغى هذه المناسبة والمصلحة بنصوص صريحة، وثانياً: لما يترتب على ذلك من مفسدة أكبر وكذلك يقال فيما قد يوجد من مصالح في الخمر والقمار وغيرها من المحرمات.
5 -
المناسب المرسل: هناك اتجاهان في تريف المناسب المرسل: (1)
الإتجاه الأول: أن المناسب المرسل هو الذي لم يشهد الشرع لا لبطلانه ولا لاعتباره، بمعنى أنه ليس هناك نص يشهد بالاعتبار لنوع هذه المصلحة ولا لجنسها، كما أنه لا يوجد نص يشهد ببطلانها. (2)
والواقع أنه عند التدقيق يصعب أن نجد مصلحة مناسبة -لم يثبت إلغاؤها- لا يشهد لها شاهد من المقاصد العامة للشريعة. نعم، قد لا نجد ما يشهد لنوعها أو جنسها القريب، أما أن لا نجد ما يشهد لجنسها -ولو العالي- فهو أمر غير وارد وما يعرف بالمصالح المرسلة، وإن لم يشهد لنوعه أو جنسه القريب نص أو إجماع، إلّا أنه عند إرجاعه إلى المقاصد والمبادئ العامة للشريعة نجده لا يخرج عنها، بل يندرج فيها. وعن هذا المعنى للمناسب المرسل يقول الغزالي: "والصحيح أن الإستدلال المرسل في الشرع لا يُتَصَوَّر حتى نتكلم فيه بنفي أو إثبات؛ إذْ الوقائع لا حصر لها، وكذا
(1) انظر حسان، حسين حامد: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، (القاهرة: مكتبة المتنبي، 1981 م)، ص 15 - 19.
(2)
انظر حسان، حسين حامد: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، ص 17.
المصالح، وما من مسألة تفرض إلّا وفي الشرع دليل عليها، إما بالقبول أو بالرد". (1) وبعد أن استعرض نماذج مما اعتُبِر من المصلحة المرسلة، خلص إلى القول: "فقد تبيّن أن كلّ مصلحة مرسلة فلا بُدّ أن تشهد أصول الشريعة لردها أو قبولها". (2)
الإتجاه الثاني: أن المناسب المرسل هو المصلخة التي اعتبر الشارع جنسها، كما فعل الصحابة في إعطاء الشارب حدّ القاذف؛ لأن الشرب مظنة القذف فأقاموا مظنة القذف مقام القذف بناءً على ما عُهِد من الشارع في إقامة مظنة الشيء مكن الشيء نفسه، فهو مناسب شهد الشارع لجنسه. (3)
وبناءً على ذلك يحون الإرسال الموصوف به هذا النوع من المناسب ليس معناه الإرسال الحقيقي والخلو التام عن أيّ شاهد بالاعتبار أو الإلغاء، وإنما المقصود عدم وجود أصل تتوفر فيه جميع شروط الأصل المقيس عليه ليقاس عليه، فمن تلك الجهة سُمي مرسلاً؛ أي لعدم وجود أصل يضبطه.
وعلى هذا يكون المناسب المرسل هو الذي لم يشهد له أصل معين، لكنه يشهد له أصل كلي، وهو تعريف الشاطبي، حيث عرَّفه بقوله:"أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين". (4) وقال عنه في الموافقات: "كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائماً لتصرفات الشرع، ومأخوذا معناه من أدلته، فهو صحيح يُبْنَى عليه، ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به
…
ويدخل تحت هذا الضرب الإستدلال المرسل الذي اعتبره مالك والشافي، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين، فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين، وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه
…
". (5)
(1) الغزالي، أبو حامد: المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق محمد حسن هيتو، (دمشق: دار الفكر، ط 2، 1400 هـ / 1980 م)، ص 359.
(2)
المصدر السابق، ص 363.
(3)
انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 221.
(4)
الشاطبي: الإعتصام، ج 2، ص 354.
(5)
الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 27، وانظر أيضا قول الغزالي:"وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة". المستصفى، ج 1، ص 222.
وبذلك يتبيّن أن مجرّد المناسبة (أي تلتي العقل السليم بالقبول لمصحلة من المصالح) وحدها لا تحني في عدِّ مصلحة من المصالح مقصداً من مقاصد الشارع المعتبرة، كما أنه لم يكتفِ الأصوليون بالمناسبة وحدها في الحكم على وصف من الأوصاف بكونه العلة، وإنما لا بُدّ أن ينضاف إلى المناسبة شهادةُ الشرع شهادةً خاصة بدلالة النص أو الإجماع على قبولها أو بملاءمتها لأحكام الشارع، أو شهادة عامةً بأن يشهد لجنسها -ولو العالي- شاهد من الشرع. (1)
وما اشترطه الغزالي ومن تبعه في المصلحة المرسلة حتى تكون معتبرة من كونها ضرورية كليّة قطعيّة، (2) إنما هو محاولة لضبط باب المصالح حتى لا ينسب كلُّ مدَّعٍ ما شاء مما يظنه مصلحة إلى الشارع الحكيم. (3) وهي في الحقيقة لا يمكن اعتبارها شروطاً للمصلحة المرسلة، وإنما هي شروط لِتَحَقُّقِ معنى الضرورة التي يبطل بها الحظر طبقاً للقاعدة الفقهية "الضرورات تبيح المحظورات"، فالمصلحة التي ينبغي تقييدها بهذه الشروط هي المصلحة التي ورد ما يعارضها في الشرع أو التي لم تَجْرِ لها وفق معهود الشرع في تشريعه، ومع ذلك اضطر الناس إليها أو مسّت حاجتهم إليها فعند ذلك يُشترط فيها لتقديمها على النص ما اشترطه الغزالي من كونها عامة وكليّة وضرورية، وعندئذ لا تصير من باب تقديم المصلحة على النص، وإنما من باب "الضرورات تبيح المحظورات".
ويتضح هذا من خلال المثال الذي مثّل به الغزالي لهذا النوع من المرسل، وهو مثال تَتَرُّسِ الكفار بمجموعة من المسلمين، حيث لا يمكن دفع الكفار إلّا بقتل المسلمين المتتَرَّس بهم. (4) فقتل المسلمين في أصله حرام ودفع الكفار حال الخوف من تسلطهم على المسلمين واجب، ومصلحة دفع الكفار يترتب عليها ارتكاب محرَّم -بل كبيرة من الكبائر- وهو قتل نفوس مؤمنة، فلذلك احتيج في مثل هذه المصلحة
(1) انظر الشاطبي: الإعتصام، ج 2، ص 352؛ الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 135.
(2)
انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 218.
(3)
انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 216.
(4)
انظر المصدر السابق، ج 1، ص 218، 222.
إلى الشروط المذكورة.
أما إذا كان المرسل بمعنى الذي يشهد لجنسه -ولو العالي- شاهد من مقاصد الشرع ومبادئه العامة وليس فيه ارتكاب محرّم ولا معارضة معتبرة لنص شرعي، فلا معنى عند ذلك لحصره في الضروريات فقط، أو في الضروريات والحاجيات، ما دامت هذه المصلحة من باب المعاملات القائمة على التعليل، ولم يرد ما ينقضها أو يعارضها في الشرع، بل يمكن أن تتعدى إلى التحسينيات أيضا، ولا يشترط فيها أن تكون كليّة ولا عامّة.
ويتضح هذا في مثال اتخاذ الدواوين وجمع القرآن الكريم -وهما مثالان لما عمل به الصحابة من المصالح المرسلة- فمصلحة اتخاذ الدواوين لا يترتب على الأخذ بها أية مخالفة للنصوص الشرعية أو ارتكاب لمحظور بل هي من باب النفع المحض، وكذلك الأمر في الجمع الأول للقرآن الكريم، ومن ثَمّ لا يُشترط في مثل هذه المصلحة أن تكون كلية عامة ضرورية أو حاجية، فللناس أن يتخذوا من وسائل جلب النفع ودفع الضرر ما شاءوا وفي جميع مجالات الحياة بما فيها التحسينيات مادامت لا تؤدي إلى أي محظور فإذا تبين أنها تؤدي إلى محظور أو تخرم مقاصد الشريعة وقواعدها العامة احتيج عند ذلك إلى ضبطها بالضوابط التي ذكرها الغزالي.
ومن هنا يتضح أن ما اصطلح عليه باسم المصلحة المرسلة في معناه العام تنقسم إلى قسمين:
1 -
ما كان مصادماً لنص أو قاعدة شرعية عامة، أو لم يَجْرِ على وفق مقاصد الشريعة، فهذه تُعدّ في حقيقتها من باب المناسب الملغي وتخضع لشروط الضرورة، وقواعد التعارض والترجيح.
وليست كلّ مصلحة عارضت نصا فهي ملغاة، وإنما التي يُقْطَع بإلغائها هي التي تعارض نصّاً بمعناه الأصولي، أي الذي لا يحتمل التأويل -سواء كان التأويل بصرفه عن ظاهره، أو بتخصيصه، أو بتقييده- أما إذا كانت المصلحة لها شاهد من الشرع وعارضت ظاهراً يحتمل التخصيص أو التقييد فإنها تكون محلّ نظر واجتهاد. فإذا
كانت المصلحة المعارضة للظاهر من نوع المناسب المؤثر أو الملائم المعمول بهما اتفاقاً فإنها لا تردّ مباشرة، وإنما تخضع للقواعد الشرعية في الجمع والترجيح كما هو الحال عند تعارض نص ظني مع قياس صحيح. (1) ولذلك نجد أن الغزالي قد قيّد المصلحة الملغاة بأنها "ما يصادم في محلٍّ نصّاً للشرع فيتضمن اتباعُهُ تَغْيِيرَ الشرع، فهو باطل عندنا". (2) فالمصلحة المتفق على إلغائها لا تعارض فقط ظاهر نص من النصوص، بل تعارضه بوجه يؤدي العملُ بها إلى إلغاء النص وتغيير الشرع.
2 -
ما لم يكن مصادماً للنصوص والقواعد الشرعية العامّة، ولم يكن في باب التعبدات التي ثبت أن الشارع قاصد إلى الإكتفاء فيها بما شرع من غير زيادة عليه ولا إنقاص منه، فللناس أن يتخذوا منه ما شاءوا من غير قيد.
وما دام قد ثبت أن المقصد الأعلى للشريعة هو المحافظة على مصالح الخلق بدفع المفاسد وجلب المصالح، فإن المصلحة التي تتلقاها العقول بالقبول ويشهد لنوعها أو جنسها شاهد من الشرع أو على الأقل لا تثبت مخالفتها لنصوص الشريعة وقواعدها العامة ومقاصدها المستخرجة من تلك النصوص تُعدّ مقصداً شرعيا.
ومع القول بأن المناسبة يمحن أن تدلّ على أن المناسب الذي توفرت فيه الشروط المذكورة مقصدُ من مقاصد الشارع، إلّا أن الشاطبي يرى أن طريق المناسب المرسل لا يصح أن يُستنبط من بابه شيءُ من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل. (3)
ومعنى ذلك أن المقاصد الأساسية للشرع تثبت بالنص عليها - سواء كان النص صريحاً أو بأن قشهد لجنسها نصوص الشارع وما يستنبط منها من قواعد عامّة- أما ما يمكن إثباته بطريق المناسبة فهو المقاصد التبعيّة التي تكون خادمة للمقاصد الأصلية أو وسيلة إليها، ولا تعارض بين قسميتها وسائل واعتبارها مقاصد، فهي
(1) انظر في تفصيل تعارض المصلحة مع النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية: البوطي، محمد سعيد رمضان: ضوابط المصلحة في الشريعة الإِسلامية، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 4، 1402 هـ / 1982 م)،
ص 131 - 133، 139، 200 - 201.
(2)
الغزالي: شفاء الغليل في مسالك التعليل، ص 210.
(3)
الشاطبي: الإعتصام، ج 2، ص 367.
وسيلة بالنسبة إلى ما فوقها من مقاصد، وهي في الوقت ذات 5 مقاصد في نفسها أو بالنسبة إلى ما هو دونها. وقد ثبت أن ما لا تتحقق المقاصد الأصلية إلّا به وكان مناسباً لم يثبت إلغاؤه فالشارع قاصد إلى تحصيله، فيصير في ذاته مقصداً شرعيا. (1)
ورأي الشاطبي هذا هو الذي يشهد له الواقع؛ ذلك أن المقاصد الأساسية للدين تمثل القواعد التي يُبنى عليها الدين والضوابط التي تضبطه وتحدِّد حدوده، ومثل هذا لا يصح أن يثبت بالمناسب المرسل؛ لأن المناسب المرسل لا يثبت في ذاته إلّا بشهادة تلك الأصول، فهو فرع عنها ولا يمكن أن يصير أصلاً لها، وإنما يثبتُ مثلُ هذه المقاصد بالنصوص الشرعية والإجماع.
(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 300 - 301.