المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌نماذج تطبيقية من أمثلة النصوص التي تحتاج إلى معرفة أسباب النزول - طرق الكشف عن مقاصد الشارع

[نعمان جغيم]

فهرس الكتاب

- ‌شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌البَابُ الأَوّلاستخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها

- ‌الفصل الأولتعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها

- ‌المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها

- ‌المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الثانيأقسام المقاصد الشرعية

- ‌المبحث الثانيفائدة العلم بمقاصد الشارع

- ‌تمهيدبين أصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌الفصل الثانياستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌تمهيدطرق إفادة الكلام

- ‌المبحث الأولاستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية لإستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية

- ‌النموذج الأول: استخلاص المقاصد من النص والظاهر:

- ‌النموذج الثاني: دلالة الأمر والنهي:

- ‌النموذج الثالثدلالة العام

- ‌الفصل الثالثوظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌تمهيدطبيعة النص الشرعي ومستويات فهمه

- ‌المبحث الأولالعناصر التي تتحكم في فهم الخطاب

- ‌المطلب الأوللغة الخطاب

- ‌المطلب الثانيالمخاطِب (المتكلّم)

- ‌المطلب الثالثالمخاطَب (السامع)

- ‌المطلب الرابعسياق الخطاب

- ‌نماذج تطبيقية

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌المطلب الأولأهمية القرائن في تحديد المقصود من الأوامر والنواهي

- ‌المطلب الثانيأهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

- ‌المطلب الثالثتخصيص الخطاب الشرعي بعادات المخاطَبين وأعرافهم

- ‌المطلب الرابعتخصيص العام بقول الصحابي

- ‌المطلب الخامسأهمية السياق في تحديد المقصود من النص

- ‌الفصل الرابعاستخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولتعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الأولالتعليل بين القائلين به والرافضين له

- ‌المطلب الثانيتعليل العبادات

- ‌المبحث الثانيمسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع

- ‌الفَصْلُ الخَامَسِسكوت الشارع ودلالته على مقاصده

- ‌المبحث الأولأنواع سكوت الشارع

- ‌المبحث الثانيالفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات

- ‌المبحث الثالثعلاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو

- ‌المبحث الرابعهل السكوت عن النقل نقل للسكوت (هل ترك النقل ينزل منزلة نقل الترك)

- ‌البَابُ الثَّانياستخلاص المقاصد من طريق الاستقراء

- ‌الفَصْلُ الأَوّلمفهوم الاستقراء وأنواعه

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولمفهوم الاستقراء

- ‌المبحث الثانيأنواع الاستقراء

- ‌أولًا: الاستقراء التام

- ‌ثانيًا: الاستقراء الناقص:

- ‌الفَصْل الثَّانِيالاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية

- ‌المبحث الأولالاستقراء في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثانيالاستقراء في العلوم الشرعية

- ‌المطلب الأولالاستقراء عند الأصوليين

- ‌المطلب الثانيتطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين

- ‌الفَصْلِ الثَّالِثالاستقراء عند الإمام الشاطبي

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولتعريف الاستقراء عند الشاطبي وبيان الأساس الذي يقوم عليه

- ‌المبحث الثانيالاستقراء عند الإمام الشاطبي بين القطع والظن

- ‌المبحث الثالثحَلُّ الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

- ‌المبحث الرابعمجالات استخدام الشاطبي للإستقراء

- ‌الفَصْلُ الرَّابعِالاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولالاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيمجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

- ‌الفَصْل الخَامِسْدراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي

- ‌المبحث الأولالفرق بين الاستقراء العلمى والاستقراء في العلوم الإنسانية

- ‌المبحث الثانيإمكانية تحقيق الاستقراء وجدواه

- ‌المبحث الثالثنتيجة الاستقراء بين اليقين والظن

- ‌المبحث الرابعحل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُدراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولاستقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة

- ‌المبحث الثانياستقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة

- ‌المبحث الثالثاستقراء مجموعة من النصوص الشرعية المشتركة في معنى واحد

- ‌الترغيب في التيسير على العموم:

- ‌العفو عن أهل الكتاب:

- ‌الأمر بالتيسير على ذوي الحاجات والأعذار في الصلاة:

- ‌الترغيب في أن يكون الإنسان سمحاً في معاملاته:

- ‌كفارة اليمين:

- ‌كفارة قتل الصيد في الحرم:

- ‌كفارة القتل الخطأ:

- ‌كفارة الظِّهار:

- ‌التيسير في المعاملات:

- ‌1 - شرع الشُّفْعة:

- ‌2 - الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب

- ‌3 - شرع السَّلم:

- ‌4 - الترخيص في العرايا

- ‌5 - شرع القرض:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر

الفصل: ‌ ‌نماذج تطبيقية من أمثلة النصوص التي تحتاج إلى معرفة أسباب النزول

‌نماذج تطبيقية

من أمثلة النصوص التي تحتاج إلى معرفة أسباب النزول لإدراك المقصود منها ما يأتي:

1 -

فهم النصوص التي وردت في التدرج في التّشريع، مثل الآيات الواردة في تحريم الخمر والربا. إذ الناظر فيها من غير معرفة بأسباب نزولها يجد فيها شيئاً من التضارب؛ فمنها ما ينص على الحرمة قطعاً، ومنها ما يقتصر على مجرد التنفير مما يفهم منه مجرد الكراهة. وإدراك أسباب النزول يبين كيفية ترتيبها، وأن الحكم هو ما ورد في آخرها نزولاً، وإنما وقع فيها ما وقع تيسيراً على النّاس في التدرج بهم للتخلص من أَسْرِ تلك المحرمات التي تجذّرت فيهم ويصعب التخلي عنها دفعة واحدة.

2 -

قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: 145]. فعبارة "لا أجد

إلَّا" تفيد الحصر، أي حصر المحرمات فيما ذكر، ولكن الناظر في النصوص الشرعيّة الأخرى يرى أن هذه المحرمات تمثل جزءًا فقط من المطعومات المحرمة. ومما يدل دلالة قاطعة على أن الحصر في هذه الآيات غير مقصود ثبوت حرمة الخمر قطعًا بالقرآن والسنة، وهي غير مذكورة في هذه المحصورات.

وقد اختلف أهل العلم من زمن الصحابة - رضوان الله عليهم - في هذه الآيات: هل يُؤخذ بما يفيده ظاهرها من حصر المحرمات في هذه الأربعة، ومن ثَمَّ عدم الأخذ بما ورد في السنة من تحريم كلّ ذي ناب من السباع، والحُمُر الأهلية وغيرها، أم لا يؤخذ به؟ وإذا أُخِذ بما ورد في السنة من محرمات هل يكون ذلك ناسخاً للآيات باعتباره زيادة فيها مخالفة لما ورد في الآية من حصر أم لا؟ فمنهم من اعتبر الحصر في الآية حقيقياً فلم يقل بحرمة غيرما ورد فيها مما جاء تحريمه في السنة، ومنهم من أخذ بما ورد في السنة وذهب إلى أن الزيادة عليها لا تُعدُّ فسخاً لها، وفي ذلك نقاش طويل لا حاجة لعرضه هنا. (1) ويرى ابن عاشور أن الحصر هنا حقيقي، ولكنه بحسب

(1) انظر في تفصيل هذا مثلاً: القرطبي؛ الجامع لأحكام القرآن، ج 7، ص 115 - 124؛ الشنقيطي، محمد الأمين: أضواء الآن في إيضاح القرآن بالقرآن، (القاهرة: مكتبة ابن تيمية، 1413 هـ/ 1992 م)، ج 2، ص 220 - 247.

ص: 107

ما كان محرماً يوم نزول هذه الآية، فهي مكيّة، ولم يحرم بمكة غيرها من الحيوان. (1)

ويبدو أن أفضل توجيه للآية هو ما نقله السبكي (2) عن الشافعي أنه قال ما معناه: "إنّ الكفار لمَّا حرَّموا ما أحلَّ الله، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وكانوا على المضادَّة والمحادّة جاءت الآية مناقضة لغرضهم. فكأنه قال: لا حلال إلَّا ما حرمتموه، ولا حرام إلَّا ما أحللتموه. نازلاً منزلة من يقول لك: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلَّا حلاوة، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة. فكأنه تعالى قال: "لا حرام إلَّا ما أحللتموه من الميتة، والدم، ولحم الخنزيز وما أُهِلَّ لغير الله به" ولم يقصد حِلَّ ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم، لا إثبات الحِلّ". (3)

فمع هذا التوجيه لا تكون هناك حاجة إلى القول بالنسخ، ولا إلى الخوض في الزيادة على النص هل هي فسخ أم لا؟ وغير ذلك مما ثار من نقاش حول كيفية التوفيق بين الحصر الوارد في الآية والسنة الواردة بتحريم أشياء زائدة على ذلك.

وفي ذلك قال إمام الحرمين: "

ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كُنَّا نستجيز مخالفة مالك في مصيره إلى حصر المحرمات فيما ذكر الله تعالى في هذه الآيات". (4)

(1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 8، ص 138 - 140.

(2)

هو عبد الوهاب بن علي بن عد الكافي السبكي، تاج الدين، قاضي القضاة في الشام. ولد عام 727 هـ وتوفي بالطاعون عام 771 هـ انظر الزركلي: الأعلام، ج 4، ص 335.

(3)

نقلاً عن الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج 1، ص 112. وقد نقل الجويني في البرهان كلاماً قريباً من هذا. انظر البرهان، ج 1، ص 253 - 254. ولم يجد الباحث نص هذا الكلام عند الشافعي في كتابيه: الأم، والرسالة، وما وجده هو قوله:"وسمعت بعض أهل العلم يقولون في قول الله عز وجل: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]، الآية: يعني مما كنتم تأكلون". الشافعي، محمد بن إدريس: الأم، خرج أحاديثه وعلق عليه محمود مطرجي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 هـ / 1993 م)، ح 2، ص 389.

وأورد في موضع آخر أنه قيل إنَّها نزلت فيما حرمه المشركون على أنفسهم من مطعومات كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وغيرها، كأنه يقول لهم لا أجد فيما أوحي إلى محرماً من بهيمة الأنعام - مما أحللتم وحرمتم بزعمكم- إلَّا هذه، أمَّا ما عداها مما أحللتم من حرام أو حرمتم من حلال فهو محض افتراء على الله تعالى. انظر الشافعي: الأم، ج 2، ص 383 - 384.

(4)

الجويني: البرهان، ج 1، ص 254.

ص: 108

3 -

قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة: 158]. فقد يفهم من ظاهر الآية مجرد جواز السعي بين الصفا والمروة لا وجوبه؛ إذْ إنّ عبارة "لا جناح" تفيد مجرد رفع الإثم؛ أي الجواز. وقد أشكل على عروة بن الزبير رضي الله عنه الجمع بين هذه الآية وكون السعي من أركان الحج، ولم يَزُلْ إشكاله هذا حتى بيَّنت له عائشة رضي الله عنها سبب نزول الآية. ففي صحيح البخاري أنه سألها:"أَرَأَيتِ قَولَ الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فَوَالله مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاح أَنْ لَا يَطوفَ بِالصّفَا والمَرْوَة. قَالَتْ: بِئْسَمَا قُلْتَ يا ابْن أُخْتِي، إِنّ هَذِه لَوْ كانتْ كَمَا أوَّلْتها عَلَيهِ كانَت "لَا جُنَاح عليه أن لَا يَتَطوّفَ بِهِما"، ولَكِنّها أُنْزِلت في الأَنْصَار، كانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّون (1) لِمَنَاة الطّاغية التي كاَنُوا يَعْبُدُونَها عِنْدَ المُشَلَّلِ (2) فَكانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرّجُ أَنْ يَطوفَ بِالصّفَا والمرْوَة. فَلَمّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِكَ، قَالُوا: يا رَسُولَ الله إنا كنَّا نَتَحَرّجُ أَنْ نَطُوفَ بين الصَّفَا والمرْوَة، فَأنْزَل الله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} الآية. قالت عائشة: وقَدْ سَنَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم (أيْ شَرَعَ) الطّوَافَ بَيْنَهمَا، فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ

الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا". (3)

وعن عاصم بن سليمان قال: "سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الصفا والمروة فقال: كُنَّا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإِسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ} [البقرة: 158] ". (4)

فسبب نزول الآية بصيغة نفي الجناح هو ما وَقَرَ في أذهان الأنصار يومئذٍ من أن السعي بين الصفا والمروة من عمل الجاهلية؛ نظرًا إلى أن الصفا كان عليه صنم يقال له "إِسَاف"، وكان على المروة صنم يقال له "نَائِلَة"، وكان المشركون إذا سَعَوْا بينهما تمسحوا

(1) يهلون: يحجون.

(2)

المُشلَّل اسم مكان بين مكة والمدينة.

(3)

صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (79)، مج 1 ج 2، ص 508 - 509، الحديث (1643).

(4)

المصدر السابق، كتاب التفسير، تفسير سورة البقرة، باب (21)، مج 3، ج 5، ص 182، الحديث (4496).

ص: 109

بهما. فلما ظهر الإِسلام وكسر الأصنام، تحرّج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك، فترلت الآية تخبرهم بأن السعي بينهما من شعائر الإِسلام ولا يخرجه عن ذلك كونه جزءًا من شعائر الحج في الجاهلية، ومن ثَمَّ فإنّ الإتيان به ليس فيه أي جناح. (1)

4 -

قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} [النساء: 3].

فظاهر الآية لا يفهم منه معنى للربط بين الشرط والجزاء، فكيف يكون خوف عدم الإقساط في اليتامى دافعاً إلى نكاح ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع؟ ولكن معرفة سبب النزول يبيِّن هذه العلاقة، ويزيل هذا الغموض. فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها:"أنّ رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق (2) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله".

وعن عروة بن الزبير -أيضاً- أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فقالت: "يا ابْنَ أخْتِي هَذِه اليتِيمَةُ تَكونُ في حِجْر وَلِيِّهَا تشْرَكُه في مَاِلهِ، ويُعْجِبُه مَالُهَا وجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزوَّجَها بِغَيْر أَنْ يُقْسِطَ في صَدَاقِهَا فَيُعْطيهَا مِثْل مَا يُعْطِيهَا غَيْرُه، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنّ إلَّا أنْ يُقْسِطُوا لَهُنّ ويَبْلُغُوا لَهُنّ أَعَلى سُنَّتهِنّ في الصّدَاقِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنّ. قَالَ عُروة: قَالَت عَائِشَة: وإن النّاسَ اسْتَفْتَوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعْدَ هَذِه الآيةِ فَأنْزَل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127]. قالت عائشة: وقَوْل الله تعالى في آيةٍ أُخْرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] رَغْبَةَ أَحَدِكم عَنْ يَتِيمَتِه حِينَ تَكونُ قَلِيلَة المَالِ والجَمَالِ، قَالَت: فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا عَمَّنْ رَغِبُوا فِي مَالِه وجَمَالِه فِي يَتَامىَ النِّسَاءِ إلّا بِالقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهم عَنْهُنّ إذَا كانَّ قَلِيلات المالِ والجَمَالِ"(3).

(1) الزرقاني: مناهل العرفان، ج 1، ص 110 - 111.

(2)

العذق (بفتح العين) النخلة، وبالكسر العرجون بما فيه من الشماريخ. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 10، ص 238 - 239.

(3)

صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة النساء، باب (1)، مج 3، ج 5، ص 212، الحديث (4574).

ص: 110

ويكمل هذا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قالت عائشة: "هُوَ الرّجُلُ تَكونُ عِنْدَه اليَتِيمَةُ هُوَ وَلِيُّها ووَارِثُهَا فَأَشْرَكَتْه فَي مَالِهِ حَتّى فِي العَذْق فَيَرْغَب أَن يَنْكِحَها ويَكرَهُ أَنْ يُزَوِّجَها رَجُلاً فَيَشْرَكَهُ في مَالِه بِمَا شَرِكَتْهُ فَيَعْضُلَها فَنَزلتْ هَذِه الآية". (1)

5 -

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)} [البقرة: 189].

فظاهر الآية لا يفهم منه الربط بين البِرّ وعدم إتيان البيوت من ظهورها، فإذا عُرِف سبب النزول اتضح المعنى، وذلك ما رواه مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:"كانت الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت إلّا من ظهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له ذلك، فترلت هذه الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} ". (2)

6 -

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} [المائدة: 93].

فظاهر الآية قد يفهم منه أن من آمن وعمل صالحاً واتقى وكان من المحسنين ليس عليه جناح فيما طعم ولو كان محرماً، ولكن إذا عُلِم سبب النزول تبيّن خطأ ذلك. فني صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة: أخرج فانظر ما هذا الصوت، قال: فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي أَلَا إنّ الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها، قال: فجرت في سكك المدينة. قال: وكانت خمرهم يومئذٍ الفضيخ،

(1) المصدر السابق، كتاب التفسير، تفسير سورة النساء، باب (23)، مج 3، ج 5، ص 222، الحديث (4600). والنص الكامل للآية هو:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127].

(2)

صحيح مسلم، كتاب التفسير، ج 4، ص 2319، الحديث (3026).

ص: 111

فقال بعض القوم: قُتِلَ قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] ". (1)

وما روى الترمذي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "مات ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نزلت تحريمها قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ قال: فنزلت {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية". (2)

فسبب النزول هنا مخصص لما يفهم من عموم الآية في رفع الجناح عمن اتصف بصفات الإيمان والتقوى والإحسان فيما طَعِم ولو كان محرَّماً، وقَصْرُ ذلك على من مات قبل استقرار تحريمها.

7 -

قول الله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33].

فربط عدم الإكراه بشرط إرادة التحصن قد يفهم منه بالمخالفة جواز إكراههن إذا انعدمت إرادة التحصن. ومثلُ هذه الآية لا يتجلى معناها تماماً إلّا إذا عُرِف سبب نزولها، وهو ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه "أن جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها مُسَيْكَة، وأخرى يقال لها أميمة، فكان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي رضي الله عنه فأنزل {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} ". (3)

وبناءً على ذلك اتفق المفسرون على أن قيد {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} لا يراد بالشرط فيه "عدم النهي عن الإكراه على الغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن، بل كان الشرط خرج مخرج الغالب" وذلك إما "لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إِذْ كنَّ يحببن التعفف، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة

(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة المائدة، باب (11)، مج 3، ج 5، ص 229.

(2)

سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن، تفسير سورة المائدة، ج 4، ص 321.

(3)

صحيح مسلم، كتاب التفسير، تفسير سورة النور، باب (3)، ج 4، ص 2320، الحديث (3029)(26).

ص: 112

التحصن"، وأن "الداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإِسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن". (1)

ويرى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أن الآية جاءت توطئة لتحريم البغاء وإبطاله من باب ما ورد في التمهيد لتحريم الخمر من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. (2)

والذي يميل إليه الباحث أن الآية لم تأت لتحريم البغاء نفسه، وإنما هي في تحريم إكراه الإماء عليه، ودليل ذلك ما يأتي:

1 -

أن البغاء نوع من أنواع الزنى، وأنه حُرِّم بما حُرِّم به الزنى من أوائل سورة النور، والآيات المحرمة للزنى سابقة في النزول على هذه الآية.

3 -

فائدة ذكر التحصن -الذي هو هنا بمعنى التعفف عن الزنى أو البغاء- أن الإكراه لا يتحقق إلّا مع عدم الرغبة والرضا، فلو كانت الأَمَةُ راضية بالبغاء أو راغبة فيه لما اعْتُبِر طلبُ سيدها منها البغاءَ إكراها. ومع أن النهي عن الإكراه يمكن أن يتم من غير ذكر "إن أردن تحصنا" فإن ذكر هذه الحال -كما يقول ابن عاشور- لزيادة التبشيع. (3)

3 -

وفي قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] دليل على أن الزنى- ومنه البغاء- قد سبق تحريمه، إذ المغفرة بعد الإكراه إنما تكون إذا كان الفعل المكْرَه عليه محرماً، فلو كانت الآية توطئة لتحريم البغاء لما كان لذكر المغفرة هنا محل.

وإنما خصت الآية الإماء بالنهي عن إكراههن على البغاء لما قد ينشأ عن الملك من شبهة، إذْ قد يظن المالك أن ملكه للأمة قد يبيح له التصرف فيها باستئجارها للبغاء بغرض التكسب، وأنها إن امتنعت حق له إكراهها على ذلك بما له من سلطة

(1) محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 18، ص 226.

(2)

انظر المصدر السابق، التحرير والتنوير، ج 18، ص 226.

(3)

المصدر السابق، التحرير والتنوير، ج 18، ص 227.

ص: 113

عليها وحرية التصرف فيها.

وبناءً على هذا التوجيه للآية تفسير معرفة سبب النزول غير لازمة لصرفة المقصود من الآية، والله أعلم بمراده.

ثانيًا - أسباب ورود الحديث:

تُعَدّ معرفة أسباب ورود الحديث عاملاً مهماً في فهم المعنى المقصود من الحديث. والأحاديث النبوية من حيث أسباب الورود على نوعين: أحاديث قيلت لسبب خاص، وأخرى ليس لها سبب خاص، وإنما جاءت خدمة للسبب العام الذي جاءت الرسالة من أجله، وهو إصلاح حال البشرية وهدايتها إلى أقوم السُّبُل.

والأحاديث التي وردت في سبب خاص تحتاج إلى معرفة سبب الورود لفهمها وتحديد المقصود منها من حيث المعنى، ومن حيث الأفراد الذين تنطبق عليهم: هل هي خاصة بمن صدرت فيهم؟ أم تَعُمّهم هُم وغيرهم ممن يصلحون للدخول تحتها، وذلك بحسب ما يحفّ بالحديث من قرائن.

أما الأحاديث التي جاءت من غير سبب خاص فإنها تكون عامّة لجميع الأمة، ولا تكون في حاجة إلى معرفة سبب الورود لفهم المقصود منها، ولكنها مع ذلك قد تحتاج إلى معرفة نوع آخر من أسباب الورود، وهو المقام الذي صدرت فيه؛ أي بأي وصف صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم: هل بوصف 5 مبلِّغاً، أم بوصفه إمامًا مدبِّراً لشؤون الأمة، أم بوصفه بشراً عادياً يجتهد في أمور الدنيا كما يجتهد غيره؟

وقد يكون الجهل بسبب ورود الحديث مورثاً للغلط في تحديد معناه، لذلك نجد الرواة يهتمون -عادةً- بنقل سبب ورود الحديث، خاصة إذا رأوا فيه أهمية لصرفة المقصود منه. وقد يغيبا أحياناً سبب ورود الحديث -الذي يكون مخصصاً لعموم الحديث، أو مقيدًا لإطلاقه، أو صارفاً للأمر فيه عن الوجوب إلى الندب أو غير ذلك- عن البعض فيؤدي ذلك إلى التحيّر في فهم الحديث أو إلى سوء فهمه، وربما يطلع بعض العلماء على السبب ويخفى ذلك على البعض الآخر فيؤدي إلى الإختلاف بينهم.

ص: 114

روى البيهقي عن علي بن أحمد البردعي قال: "دخل إسحاق ابن راهوية وأحمد ابن حنبل ويحيى بن معين مكة، وأرادوا عبد الرزاق فدخلوا مسجد الحرام، فرأوا رجلاً شاباً على كرسي وحوله الناس وهو يقوله: يا أهل الشام، ويا أهل العراق، سلوني عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لرجل: من هذا الجالس؟ فقال: المطّلبي الشافعي. قال إسحاق: فقلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله مُرَّ بنا إليه نجعل طريقنا عليه. قال: فلما قمنا عليه قلنا: يا أبا عبد الله سله عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أمكنوا الطير في أوكارها". فقال: وما تصنع بهذا؟ هذا مفسَّر: دعوا الطير في ظلمة الليل في أوكارها. فقال إسحاق: والله لأسألنه: يا مطّلبي، ما تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمكنوا الطير في أوكارها"؟ (1) قال: نعم يا فارسي، هذا أحمد ابن حنبل بلغني أنه يفتي بالعراق في هذا الحديث: دعوا الطير في ظلمة الليل في أوكارها

". (2)

ثم قال الشافعي: "كان أهل الجاهلية إذا أرادوا سفرًا عمدوا إلى الطير فسرحوها، فإن أخذت يمينًا خرجوا في ذلك الفأل، وإن أخذت يساراً، أو رجعت إلى خلفها تطيروا ورجعوا، فلما أن بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة فنادى في الناس: "أمكنوا الطير في أوكارها، وبكروا على اسم الله". (3)

وروي عن وكيع بن الجراح أنه سئل عن هذا الحديث فقال: "إنما هو عندنا على صيد الليل"؛ أي على تحريم الصيد بالليل، فذُكِر له قوله الشافعي فاستحسنه، وقال:"ما ظنناه إلّا على صيد الليل". (4)

ومن أمثلة الأحاديث التي تحتاج إلى معرفة سبب الورود لفهم معناها فهماً صحيحًا، حديث النهي عن سبِّ الدهر. فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(1) أخرج البيهقي عن أم كرز الكعبية أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أقروا الطير على مكاناتها" وروي "على مكناتها". البيهقي، أحمد بن الحسين: السنن الكبرى، (د. م: دار الفكر، د. ط، د. ت)، كتاب الضحايا، باب أقرو الطير على مكاناتها، ج 9، ص 311). والمكنات بمعنى الأمكنة، والمكنة من التمكن.

(2)

البيهقي: مناقب الشافعي، ج 1، ص 307 - 308.

(3)

البيهقي: المصدر السابق، ج 1،ص 307 - 308، وانظر أيضاً البيهقي: السنن الكبرى، ج 9، ص 311.

(4)

البيهقي: مناقب الشافعي، ج 1، ص 309.

ص: 115

"لَا تَسُبُّوا الدّهْزَ فَإِنّ الله هُوَ الدَّهْرُ". (1)

فذهب البعض -بناءً على ظاهر الحديث- إلى القول بأن "الدهر" اسم من أسماء الله تعالى، ولكن الإطلاع على سبب ورود الحديث ينفي ذلك. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ الله عز وجل يُؤْذِينِي ابنُ آدمَ. يَقُولُ: يا خَيْبَة الدَّهْرِ، فَلَا يَقُولَنّ أَحَدُكم يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ ليلَهُ ونَهَارَهُ، فَإَذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا". (2) وفي بيان ذلك يقول الإمام الشافعي: "إنما تأويله- والله أعلم- أن العرب كان من شأنها أن تذمّ الدهر وتسبّه عند المصائب انتي تنزل بهم: من موت، أو هدم، أو تلف مال، أو غير ذلك، وتسبّ الليل والنهار -وهما الجديدان والفَتَيَان- ويقولون: أصابتهم قوارع الدهز وأبادهم الدهز وأقى عليهم، فيجعلون الليل والنهار اللذين يفعلان ذلك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسبُّوا الدَّهْرَ" على أنه الذي يفعل بكم هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنَّما تسبون الله عز وجل، فإن الله تعالى فاعل هذه الأشياء". (3)

ومن ذلك الأحاديث التي وردت في بيان أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة عن أفضل العمل، وأحبه إلى الله تعالى، فكان جوابه مختلفاً، فمرة ذكر أن أفضل الأعمال هو الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، ومرة جعله الصلاة لوقتها، ومرة الصوم، ومرة أدوم الأعمال، ومرة المداومة على تلاوة القرآن الكريم، ومرة الحب في الله والبغض في الله، ومرة التلبية والنحر في الحج، ولا يمكن تفسير ذلك إلّا بأن هذه الأفضلية ليست على إطلاقها؛ إذْ الأفضل على الإطلاق لا يمكن أن يتعدد، وإنما أفضلية بالنسبة إلى السائل أو إلى الحال التي يخصها السؤال، فيتحصل أن سبب الإختلاف. في تحديد أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى هو اختلاف المقام الذي صدرت فيه، فكان الجواب بحسب حال السائل،

(1) صحيح مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب (1)، ج 4، ص 1763.

(2)

المصدر السابق، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب (1)، ج 4، ص 1762.

(3)

البيهقي: مناقب الشافعي، ج 1، ص 336 - 337؛ وانظر ابن عاشور، محمد الطاهر: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، (تونس: الشركة التونسية، 1979 م)، ص 38.

ص: 116

وبحسب واجب الوقت في حقه.

فمن الأحاديث التي جعلت أفضل العمل الإيمان بالله تعالى:

ما أخرجه البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: "إِيمَانٌ بالله وَرَسُولِهِ". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: "الجهَادُ فِي سَبِيلِ الله". قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجٌّ مَبْرُورٌ". (1)

وما أخرجه أحمد أنّ رَجُلاً قَالَ: "يا رَسُولَ الله أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَان بالله وَتَصْدِيقً وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ الله وَحَجٌّ مَبْرُورٌ". قَالَ الرَّجُلُ: أَكثَرت يا رَسُول الله. فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فَلِينُ الْكَلَامِ وَبَذْلُ الطَّعَامِ وَسَمَاحٌ وَحُسْنُ خُلُقٍ". قال الرَّجُلُ: أُرِيدُ كَلِمَةً وَاحِدَةً. قَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اذْهَبْ فَلَا تَتَّهِمِ الله عَلَى نَفْسِكَ". (2)

ومن الأحاديث التي جعلت أفضل العمل الصلاة على وقتها، ما رواه البخاري عَنْ عَبْد الله بْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال:"سَأَلْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يا رَسُولَ الله أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى مِيقَاتِهَا". قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيًّ؟ قَالَ: "الجهَادُ فِي سَبِيلِ الله" فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي". (3)

ومن الأحاديث التي جعلت الصوم أفضل الأعمال، ما أخرجه النسائي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ". (4)

ومن الأحاديث التي جعلت المداومة على تلاوة القرآن الكريم أفضل الأعمال،

(1) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (18)، مج 1، ج 1، ص 14.

(2)

ابن حنبل، أحمد: مسند الإمام أحمد، شرحه ووضع فهارسه أحمد محمد شاكر، (القاهرة: دار الحديث، ط 1، 1416 هـ/ 1995 م)، مسند الشاميين، حديث رقم (17741)، ج 13، ص 508.

(3)

صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب (1)، مج 2، ج 3، ص 271.

(4)

رواه النسائي: سنن النسائي، ترتيب وإعداد عبد الفتاح أبو غدة، (بيروت: دار البشائر الإِسلامية، ط 3، 1409 هـ / 1988 م)، كتاب الصيام، باب ذكر الإختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، ج 4، ص 165.

ص: 117

ما أخرجه الدارمي عن زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الحالُّ الْمُرْتَحِلُ". قِيلَ: وَمَا الحالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: "صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ وَمِنْ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ". (1)

ومن الأحاديث التي جعلت أحب العمل إلى الله تعالى أدومه، ما أخرجه مسلم عن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى الله؟ قَالَ:"أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ". (2)

ومن الأحاديث التي جعلت الحب في الله والبغض في الله أحب الأعمال إلى الله تعالى، ما أخرجه أحمد عَنْ أَبي ذَرٍّ قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى الله عز وجل؟ " قَالَ قَائِلً: الصَّلَاةُ وَالزَّكاةُ، وَقَالَ قَائِلٌ: الجهَادُ. قَالَ: "إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى الله عز وجل الحبُّ فِي الله وَالْبُغْضُ فِي الله". (3)

ومن الأحاديث التي جعلت التلبية والنحر في الحج أفضل الأعمال، ما أخرجه ابن ماجه عَنْ أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الْعَجُّ (4) وَالثَّجُّ (5) ". (6)

المقامات التي تصدر فيها تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم:

من أنواع المقام الذي لا يمكن الإستغناء عنه لفهم المقصود من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم المقام الذي يصدر فيه خطابه صلى الله عليه وسلم: هل هو مقام تشريع، أم مقام إمامة، أم مقام قضاء، أم مقام نصح وإرشاد، أم غيرها؟ إذ معرفة ذلك يمكِّننا من التعرف على المقصود من الحديث: هل هو الإلزام إيجاباً أو تحريماً، أم مجرد الترغيب في الفعل أو

(1) الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن: سنن الدارمي، تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني، (باكستان/ فيصل آباد: حديث أكاديمي للنشر والتوزيع، 1404 هـ / 1984 م)، كتاب فضائل القرآن، باب (32)، ج 2، ص 337.

(2)

صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (30)، ج 1، ص 541، الحديث (783)(218).

(3)

مسند الإمام أحمد، مسند الأنصار، حديث رقم (21200)، ج 15، ص 483.

(4)

العجّ: رفع الصوت بالتلبية. ابن منظور: لسان العرب، ج 2، ص 318.

(5)

الثجّ: سيلان دم الهدي والأضاحي. ابن منظور: لسان العرب، ج 2، ص 221.

(6)

سنن ابن ماجه، أبواب المناسك، باب (16)، ج 2، ص 160 - 161، الحديث (2924).

ص: 118

الترك، أم الإباحة؟ وفيما يأتي أهم المقامات التي يصدر فيها تصرَّف الرسول صلى الله عليه وسلم:

1 -

مقام التشريع: والمقصود بالتشريع هنا معناه الخاص، وهو ما كان الأخذ به لازمًا، سواء من باب الإيجاب أو التحريم، أمّا ما لم يكن الأخذ به لازمًا فلا يدخل في هذا مع أنه قد يدخل في باب التشريع بمعناه العام، إذ المندوب والمباح داخلان في باب التشريع بمعناه العام.

والأصل في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته التشريع إلّا ما دلّ دليل غلى خلافه، وذلك لكونه صلى الله عليه وسلم رسولاً مبلغاً ومشرعاً، (1) فمهمته الأساسية التي اختير من أجلها رسولاً هي التشريع (سواء كان التشريع تبليغاً عن الله تعالى أو إنشاءً لأحكام جديدة). ويشمل مقام التشريع مقامي: الفتوى، والقضاء، فكلاهما يُعدّ تشريعاً، إلَّا أنّ ما كان صادراً في مقام القضاء لا يحق لأحد أخذه إلّا بحكم القاضي. (2)

وما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحداً وتصرفات في هذا المقام يكون الأخذ به لازماً، واتباعه محتّماً.

وقد يختلف العلماء في مقام صدور بعض الأحكام هل صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه مفتياً أم بوصفه قاضثاً، فيختلفون تبعًا لذلك في كيفيّة العمل بهذا الحكم. ومثال ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة لما اشتكت إليه قِلّة النفقة من أَبِي سفيان رضي الله عنه، حيث قَالَتْ:"يا رَسُولَ الله إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. فَقَالَ: "خُذِي مَا يَكفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ". (3)

فاختلف الفقهاء في هذا: هل هو تصرف بطريق الفتوى فيجوز بناءً على ذلك لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه من جاحده بغير إذنه ولا حكم من. القاضي؟ أم

(1) انظر القرافي: الفروق، ضبطه وصححه خليل المنصور، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1. 1418 هـ /1998 م)، ج 1، ص 357.

(2)

انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 358.

(3)

صحيح البخاري، كتاب النفقات، باب (9)، مج 3، ج 6، ص 534.

ص: 119

أنه تصرف بالقضاء فلا يجوز لأحد أن يأخذ حقه أو جنسه إذا ظفر به عند غريمه إلَّا بحكم من القاضي؟ (1)

ومن قرائن كون تصرَّف النبي صلى الله عليه وسلم قصد به التشريع: الإهتمام بإبلاغه إلى العامة، والحرص على العمل به، وإيراد الحكم في صورة قضية كليّة. (2)

2 -

مقام الإمامة: وهو تصرَّف الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفه إمامًا وقائداً بما يقتضيه صلاح الدولة من تنظيم وتدبير، سواء في وقت السِّلم أو الحرب، وهو الذي يدخل ضمن مجال السياسة الشرعيّة. ومثال ذلك تصرَّف النبي صلى الله عليه وسلم في بعث الجيوش، وصرف أموال بيت المال في جهاتها، وتولية الولاة، وغيرها. (3) ولم يُعدّ هذا من باب التشريع -بمعناه الخاص- لأنه لا يلزم الحاكم الأخذ به، وإنما يتخير منه ما يكون مناسباً لظروف الدولة، وله أن يعدل عنه إلى غيره إذا كان أكثر تحقيقاً لمصلحة الإِسلام والمسلمين. هذا بالنسبة للإِمام، أما بالنسبة للرعية فإن الفرق بينه وبين التشريع أنه لا يصح لأحد أن يُقْدم على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفه إمامًا إلّا بإذن إمام الزمان. (4)

وتتضح لنا أهمية التفريق بين مقامي التصرف بالتشريع والتصرف بالإمامة من خلال حادثة الحباب بن المنذر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى حين اختار صلى الله عليه وسلم موقعاً للمسلمين لخوض المعركة، ورأى الحباب أن ذلك الموقع غير مناسب فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم: هل هذا الفعل من باب التشريع؟ فلا يسع معه إلَّا الإمتثال، أم أنه من باب التصرف بالإمامة؟ فيمكن العدول عنه إلى ما هو أنسب. أخرج الحاكم في المستدرك عن الحباب بن المنذر الأنصاري قال: "أشرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بخصلتين فقبلهما مني؛ خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة بدر فعسكر خلف الماء فقلت: يا رسول الله أَبِوَحْيٍ فعلتَ، أو بِرَأْيٍ؟ قال: بِرَأْيٍ يا حُبَابُ. قلت: فَإنّ الرَّأْيَ

(1) انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 359 - 360.

(2)

انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 154.

(3)

انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 358.

(4)

انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 358.

ص: 120

أنْ تَجْعلَ الماءَ خَلْفَكَ فإن لجَأْتَ لجأْتَ إليه. فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي". (1)

وقد يختلف الفقهاء في تكييف حكم من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم هل هو تصرَّف بالفتوى أم بالإمامة، ومثال ذلك حديث إحياء الموات، فيما أخرجه أبو داود عَنْ سَعِيدِ ابْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهي لَهُ وَلَيْسَ لِعرقٍ ظَالم حَقًّ". (2)

فمن رأى أنه تصرَّف بالفتوى أجاز لكل أحد أن يحيى أرضًا مواتاً من غير حاجة إلى إذن الإمام بناءً على أن تجويز الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك تشريع عام، وهو قول مالك والشافعي، ومن رأى أنه تصرَّف بالإمامة منع ذلك إلَّا بإذن من الإمام، وهو قول أبي حنيفة. (3)

3 -

مقام الهدي والإرشاد: وهو الحال الذي يكون فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله غير مقصود به الإلزام، وإنما هو إما من باب الإجتهاد في أمر دنيوي، أو من باب الشفاعة، أو النصيحة.

ومثال الإجتهاد في تدبير الأمور الدنيوية نهيه صلى الله عليه وسلم للصحابة عن تأبير الخيل. أخرج مسلم عن راع بن خديج قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يأبرون النخل. يقولون يلقحون النخل. فقال: "ما تصنعون؟ ". قالوإ: كنّا نصنعه. قال: "لَعَلّكم لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كانَ خَيْراً". فتركوه فنفضت (4) أو فنقصت. قال: فذكروا ذلك له، فقال: " إِنَّمَا أنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكم بِشَيءٍ مِن دِينكم فَخُذُوا بِه، وإِذَا أَمَرْتُكم بِشَيء مِن رَأْي فَإِنَّمَا أنَا بَشَرٌ". (5)

ومثال الشفاعة التي أخذ بها المشفوع لديه قصة كعب بن مالك حين طالب عبد الله بن أبي حدرد بمال كان له عليه، وكان عاجزاً عن أداء الدين كاملاً، فتخاصما

(1) الحاكم، أبو عبد الله محمد: المستدرك على الصحيحين في الحديث، (بيروت: دار الفكر، 1398 هـ / 1978 م)، ج 3، ص 427.

(2)

الألباني: صحيح سنن أبي داود، كتاب الخراج والإمارة والفيء، ج 2، ص 594.

(3)

انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 3359؛ وانظر وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية الكويتية: الموسوعة الفقهية، ج 2، ص 241 - 242.

(4)

نفضت: أي أسقطت ثمرها.

(5)

صحيح مسلم، فضائل الصحابة، باب (38)، ج 4، ص 1835 - 1836، الحديث (2362).

ص: 121

حتى علت أصواتهما في المسجد وسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجرته، فأشار على كعب ابن مالك أن يضع نصف الدين، وكان في ذلك شافعاً لعبد الله بن أَبِي حدرد، ولم بين أمره لكعب بوضِع الشطر من باب التشريع الملزم. أخرج البخاري عن عَبْد الله بْن كَعْبِ بْنِ مَالِكٌ أنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٌ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْوَد دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: "يا

كَعْبُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يا رسُولَ الله، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يا رَسُولَ الله. قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قُمْ فَاقْضِهِ". (1)

ومثال الشفاعة التي لم يأخذ بها المشفوع لديه قصة فراق بريرة لزوجها مغيث، وذلك عندما أعتقتها عائشة فخُيِّرَت بين البقاء مع زوجها أو مفارقته، فاختارت مفارقته. وقد شقّ ذلك على زوجها مغيث - وكان شديد الحبّ لها - فاستشفع بالرسول صلى الله عليه وسلم فشفع له عندها، لكنها لم تأخذ بشفاعته. وما يبيِّن الفرق بين تصرَّف النبي صلى الله عليه وسلم بالتشريع وتصرفه بغير التشريع أنها رضي الله عنها استفسرت - قبل رد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم هل طلبه صلى الله عليه وسلم من باب التشريع الملزم؟ فلا تكون لها الخِيّرة من أمرها، أم أنه غير ذلك؟ فلما أخبرها أنه مجرد شافع أصرَّت على اختيار الفراق. أخرج أبو داود عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُغِيثًا كانَ عَبْدًا فَقَالَ: يا رَسُولَ الله اشْفَعْ لِي إِلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا بَرِيرَةُ اتَّقي الله فَإِنَّهُ زَوْجُكِ وَأَبُو وَلَدِكِ". فَقَالَتْ: يا رَسُولَ الله أَتَأمُرُنِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: "لا، إِنَّمَا أَنَا شَافعٌ". فَكانَ دُمُوعُهُ قَسِيلُ عَلَى خَدِّهِ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ: "أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَبُغْضِهَا إِيَّاهُ! ". (2)

ومن أمثلة الشفاعة التي لم يأخذ بها المشفوع لديه قصة جابر بن عبد الله لما مات أبوه في غزوة أُحُد وترك ديوناً عليه تعسَّر على جابر أداؤها، فاستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم على غرمائه علَّهم يضعوا عنه شيئًا من ديونهم، لكنهم رفضوا، فتدخلت العناية الإلهية متمثِّلة في بركة النبي صلى الله عليه وسلم فأدى كلّ الديون دون أن ينقص ذلك من ثمره شيئاً.

(1) سبق تخريجه.

(2)

الألباني: صحيح سنن أبي داود، كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حرٌّ أو عبد، ج 2، ص 421.

ص: 122

أخرج البخاري عن الشَّعْبيِّ قال: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله رضي الله عنهما أنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ فَلَمَّا حَفَرَ جِزَازُ النَّخْلِ قال أَتَيْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي قَدِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ فَقَال: "اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ". فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ. فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ. فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:"ادْعُ لِي أَصْحَابَكَ". فَمَا زَالَ يَكيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى الله عَنْ وَالِدِي أَمَانَتَهُ وَأَنَا أَرْضَى أَنْ يُؤَدِّيَ الله أَمَانَةَ وَالِدِي وَلَا أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتي بِتَمْرة فَسَلَّمَ الله الْبَيَادِرَ كلَّهَا وَحَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي كاَنَ

عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهَا لَمْ تَنْقُصْ تَمْرةً وَاحِدَةً". (1)

ومن تصرفاته صلى الله عليه وسلم التي فهم منها بعض الصحابة- بناءً على اطلاعهم على سبب الورود - أنها لم تكن من باب التشريع وإنما كانت من باب تدبير الأمور الدنيوية، وخفي سبب الورود على بعض الصحابة فظنُّوه سنّة من السنن فالتزموه، ما أخرجه مسلم عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كاَنَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً وَكاَنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالحَصْبَةِ. قال نَافِع قَدْ حَصَّبَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالخلَفَاءُ بَعْدَهُ". (2)

ولكن اطّلاع عائشة رضي الله عنها على سبب تصرَّف النبي صلى الله عليه وسلم جعلها تدرك أن نزوله صلى الله عليه وسلم بالأبطح لم يكن سنّاً له، وإنما اختاره لتجميع أصحابه لكونه أنسب مكان للخروج. ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري:"إِنَّمَا كاَنَ مَنْزلٌ يَنْزِلُهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم لِيَكونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِه. تعني بالأبطح". (3) وروى البخاري -أيضاً - عن عطاء، عن ابن عباس، قال:"لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيءٍ إِنَّمَا هُوَ مَنزلٌ نَزَلَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ". (4)

ومن القرائن التي تدل على أن الفعل أو القول لم يُقصد به التشريع عدم حرص

(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب (18)، مج 3، ج 5، ص 38.

(2)

صحيح مسلم، كتاب الحج، باب (59)، ج 2، ص 951، الحديث (1310).

(3)

صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (148)، مج 1، ج 2، ص 542، الحديث (1765).

(4)

صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (148)، مج 1، ج 2، ص 543، الحديث (1766).

ص: 123

النبي صلى الله عليه وسلم -أو الصحابة على تنفيذه.

4 -

مقام التأديب: لَمَّا كان القصد من التأديب -في غالب الأحيان- هو زجر النفوس عن اتباع هواها، وردعها عن شهواتها، وقد تكون تلك الشهوات من القوة بحيث تحتاج النَّفس معها إلى رادع قوي، فإن المؤدِّب قد يبالغ في النهي إلى درجة التهديد والتوبيخ، ليكون ذلك أبلغ في الردع والزجر وعلى عِظَم الذنب المنهي عنه تَعْظُم وسيلةُ الزجر والتأديب.

وهذا أسلوب يستعمله المربي والمؤدب والواعظ، ولا يقصد به- عادةً - ظاهره بقدر ما يقصد به الزجر والترهيب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المربين والمؤدبين، ومن ثم فإنه ليس بِدْعاً أن يستعمل هذا الأسلوب التربوي. وليس معنى كونه لا يقصد به ظاهره عادة أنه ليس بحق، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلّا حقاً وصدقاً، وإنما المقصود به أن ظاهره غير مراد بالقصد الأول، وإن قُصِد فبالتَّبَع، أما القصد الأول فهو الزجر والتخويف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يُعدّ دعوة إلى تطبيق تلك العقوبة، ولا أمراً بالالتزام بها، وأنها لا تحمل على إطلاقها كما سيأتي في الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكبي بعض الكبائر حال ارتكابها.

ومن أمثلة ذلك حديث فقء عين من اطلع على قوم من ثقب باب أو جدار دون إذنهم، فقد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم عينه لو أن أحدهم خذفها بحصاة أو طعنها بمسلة أو غير ذلك.

أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلعً عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُن عَلَيْكَ جُنَاح". (1)

وأخرج البخاري أيضاً عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّي صلى الله عليه وسلم وَمَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ: "لَوْ أعْلَمُ أنَّكَ تَنْظُرُ لَطعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الإسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ، (2) وفي رواية أخرى أنه قال: "لَوْ

(1) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب (23)، مج 4، ج 8، ص 365، الحديث (6902).

(2)

صحيح البخاري، كتاب الإستئذان، باب (11)، مج 4، ج 7، ص 168، الحديث (6241).

ص: 124

أَعْلَمُ أَنْ تَنْتَظِرَنِي لَطَعَنْتُ بِهِ في عَيْنِكَ". (1)

والظاهر -والله أعلم- أن قصد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن تشريع عقوبة النظر من غير إذْنٍ بأن تكون فقء عين الناظر، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفقأ عين من اطَّلع عليه، وأن من اطّلع على قوم دون إذنهم بطريق تسَوُّرِ الجدار أو فتح الباب أو غيرهما لا يعاقب بذلك. فالحديث ليس أمراً بفقء عين المطَّلِع، ولا دعوة إلى ذلك، وإنما خرج مخرج التحذير من هذا الفعل المشين وتهويله، ولكن لو أن أحدًا طبّق ذلك فعلًا فإنه لا يكون ملوماً، ولا يلومنّ المطَّلِع إلّا نفسه.

ونص الحديث نفسه يحمل من القرائن اللفظية ما يدل على ذلك، فقوله:"ما كان عليك جناج" تفيد أنك لست مطالباً بفعل ذلك ولا مُرَغَّباً فيه، ولكنك إن فعلته دفاعاً عن حرماتك فلا جناح عليك، ومثله قوله:"فلا يلومن إلّا نفسه"، وقوله:"لو أعلم أن تنتظرني".

وقد جعل خفاءُ هذا المقام البعضَ يذهب إلى ردّ الأحاديث الواردة في هذا بحجة أنها تخالف الأصول الشرعيّة المرعيّة في القِصاص. (2)

ومن هذا الباب الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكبي بعض الكبائز

أخرج البخاري عَنْ أَبِي شُرَيح أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يُؤْمِنُ والله لا يُؤْمِنُ والله لا يُؤْمِنُ! " قِيلَ: وَمَنْ يا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "الَّذِي لا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائقَةُ. (3)

وأخرج البخاري أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَشْرَبُ الخمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنً وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنً وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ". (4)

(1) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب (23)، مج 4، ج 8، ص 36، الحديث (6901).

(2)

انظر ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق محمد محيى الدين عيد الحميد، (بيروت: دار الفكر، ط 2، 1397 هـ / 1977 م)، ج 2، ص 336.

(3)

صحيح البخاري، كتاب الأدب، جاب (29)، مج 4، ج 7، ص 103، الحديث (6016).

(4)

صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب (30)، مج 2، ج 3، ص 149، الحديث (2475).

ص: 125

وأخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كاَنَ يُؤْمِنُ بالله وَاليَوْمَ الآخِرِ فَلا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كاَنَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمَ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كاَنَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمَ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". (1)

وأخرج مسلم عَنْ حَنَشٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فِي غَزْوَةٍ فَطَارَتْ لِي وَلأصْحَابي قِلادَةٌ فِيهَا ذَهَبٌ وَوَرِقٌ وَجَوْهَرٌ فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهَا فَسَأَلْتُ فَضَالةَ بْنَ عُبَيْدٍ فَقَالَ: انْزِعْ ذَهَبَهَا فَاجْعَلْهُ فِي كِفَّةٍ وَاجْعَلْ ذَهَبَكَ فِي كِفَّةٍ ثُمَّ لا تَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلا بِمِثْلٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ كاَنَ يُؤْمِنُ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يَأْخُذَنَّ إِلَّا مِثْلاً بِمِثْلٍ". (2)

وأخرج البخاري عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعَ: "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بعضٍ". (3)

وأخرج البخاري عَنِ الحْسَنِ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فَقُلْتُ يا رَسُولَ الله هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ إِنَّهُ كاَنَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ". (4)

فمذهب أهل السنة أن نفي الإيمان عن مرتكبي الكبائر المذكورة في الأحاديث سالفة الذكر ليست على ظاهرها في نفي مطلقْ الإيمان- بدليل أن بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - وقع في بعضها ولم تخرجه عن دائرة الإيمان ولا عن دائرة الصحبة - وإنما خرجت مخرج التهديد والتوعد في مقام التأديب والنهي عن الوقوع في هذه الكبائز وقد حملها أهل السنة على نفي كمال الإيمان.

(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب (85)، مج 4، ج 7، ص 135 - 136، الحديث (6136).

(2)

صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب (17)، ج 3، ص 1214، الحديث (1591)(92).

(3)

صحيح البخاري، كتاب العلم، باب (44)، مج 1، ج 1، ص 47، الحديث (121).

(4)

صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (23)، مج 1، ج 1، ص 16، الحديث (31).

ص: 126

ومن هذا الباب أيضاً ما يقتضيه مقام التأديب من ترغيب وترهيب بإطلاق الأمر في الترغيب في بعض خصال الخير، وإطلاق النهي عن الإستمتاع ببعض متع الحياة الدُّنيا إلى درجة قد يبدو فيها شيء من المثالية التي يعسر على عامة الناس الإلتزام بها. والحقيقة أن أصول الشريعة جاءت بالتوسط والإعتدال، وما يبدو أحيانا من مبالغة في الترغيب أو الترهيب فإنَّما يكون باعتبار أحوال الناس المختلفة في ميلهم عن سَنَنِ الإعتدال. فمن غلب عليه الإنحلال في الدين جيء له بالتشديد في الترهيب والزجر، ومن غلب عليه الخوف جيء له بالمبالغة في الترجية والترغيب ليعود الكلّ إلى الإعتدال، وفي ذلك يقوله الإمام الشاطبي:"فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط. فإن رأيت ميلاً جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر. فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الإنحلال في الدين. وطرف التخفيف- وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً، ومسلك الإعتدال واضحاً. وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه". (1)

كما أن الأوامر والنواهي المطلقة جاءت كذلك لتناسب القدرات المختلفة للناس، فيحملها كلٌّ على حسب قدراته وطاقته، وقد وضح ذلك الشاطبي بقوله: "

فإن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أشياءَ وأمر بأشياءَ، وأطلق القول فيها إطلاقاً ليحملها المكلَّف في نفسه وفي غيره على التوسط، لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي، فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة، والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة، وقد تقدم أن المكلَّف جُعِلَ لهْ النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومُنَّتُه، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجرداً من الإلتفات إلى المعاني". (2)

وقد زلّت بسبب خفاء هذا المقام الدقيق بعض الفرق الخارجة عن منهج أهل السنة والجماعة، مثل الخوارج، فأخذوا هذه النصوص على ظاهرها كفروا مرتكب الكبيرة.

(1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 128.

(2)

الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 114.

ص: 127