الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
حل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية
بعد استعراض مواقف كل من الفلاسفة والمناطقة، والشاطبي، ومحمد الطاهر ابن عاشور من الاستقراء، وكيفية حلّ مشكلة الاستقراء الناقص، وتسويغ نتيجته، يمكن تلخيص تصور مقترح لحل تلك المشكلة في النقاط الآتية:
1 -
يبدو -كما سبقت الإشارة- أن سبب الحيرة في الموقف من نتيجة الاستقراء في الشرعيات ناتج عن الخلط في تكييف هذا النوع من الاستقراء وتصنيفه. وبيان ذلك أن الخطأ والخلط يقع عندما يُلْحَق الاستقراء في الشرعيات (الاستقراء المعنوي) بالاستقراء المنطقي والعلمي ويقاس عليهما، ويحتكم في تقييمه إلى القوانين التي تحكمهما. والأَوْلى أن يُلْحَق هذا النوع من الاستقراء بباب المرويات، فيحكم بقوانين الرواية، وذلك للأسباب الآتية:
أ - أن مادة هذا الاستقراء عبارة عن نصوص شرعية تحكمها قوانين الرواية.
ب - أننا في موضوع المقاصد نهدف إلى الكشفِ عن شيءٍ قصدَ إليه الشارع، وبثَّه في نصوصه، وذللث أمر قد تَمَّ في زمن مضى، ونحن نسعى إلى الكشف عنه.
ج - أن النصوص الشرعية التي تمثل مجال الاستقراء نصوصٌ تاريخية محدودة، بمعنى أنها قد وُضِعَت وانقطع المزيد عليها.
ولا يعني ما ذُكِر أننا سنهمل كلّ قوانين المبحث العلمي، ونُخْضِع الاستقراء المعنوي لقواعد المنهج التاريخي البحت، وإنما المراد أن تفسير نتيجة الاستقراء -بعد أن تتم عملية الاستقراء وفقًا للقواعد المنطقية والعلمية التي تحكمه- يكون طبقًا للقواعد التي تحكم مبادئ: الآحاد، والشهرة، والتواتر وما يتعلق بها من ظنية وقطعية. وربما كان هذا هو الأمر الذي جعل الشاطبي يقيس الاستقراء المعنوي على التواتر المعنوي، ويُخْضِعُه لقوانينه بدلًا من إخضاعه لقوانين الاستقراء المنطقي.
2 -
ينبغي التفريق بين نوعين من الاستقراء: الاستقراء الْمُنْصَبُّ على الأوصاف
العرضية، أو استقراء وجود حُكْم من الأحكام في عدد من الجزئيات المتماثلة، والاستقراء الذي يهدف إلى إثبات وجود معنى من المعاني أو قيمة من القيم. فالاستقراء الأول-وهو الاستقراء المنطقي أو العلمي- يُعْنَى بمستويين من المبحث:
النوع الأول: وجود الوصف أو الحكم موضوع الاستقراء، واتصافه بالعموم والكلية، وهو الذي يسمى نتيجة الاستقراء أو التعميم الإستقرائي، والثاني هو حصر الجزئيات والأفراد الداخلة تحت هذا الاستقراء، ثم التحقق من عدم شذوذ أيٍّ منها عن هذا الحكم العام. فحصر الجزئيات وإثبات انضوائها كلها تحت التعميم الإستقرائي يمثِّل الجانب الأساس في هذا التوع من الاستقراء.
أما النوع الثاني من الاستقراء الذي يمكن تسميته -جريًا على اصطلاح الشاطبي- بالاستقراء المعنوي فهو كذلك يُعنى بنفس المستويين، لكن مع اختلاف في الأولوية. فيكون الجانب الأساس فيه هو إثبات وجود معنى من المعاني واتصافه بالعموم، وليس من اللازم أن يكون ذلك العموم تامًّا بحيث يَسْلَم من الشذوذ والإستثناء مهما كان نوعه. أما المستوى الثاني من المبحث في هذا النوع من الاستقراء، وهو تتبع الجزئيات فالهدف منه هو الإستعانة بها في إثبات وجود المعنى موضوع الاستقراء وانتشاره فيها بما يعطيه صفة العموم، وليس من اللازم استقصاء جميع الجزئيات الموجودة والمتوقع وجودها، وإنما يكفي أن نُثبت أن معنى من المعاني أو قيمة من القيم مقصودٌ للشارع، من خلال طلب الشارع تحصيله أو اجتنابه وإزالته، ومن خلال بَثِّ ذلك في عدد كبير من أحكامه وتصرفاته، فيكون المستوي الثاني خادمًا ومكملًا للمستوى الأول. وهذا الذي ينبغي أن يُفْهَم من الاستقراء المعنوي، وهو الفارق بين الاستقراء المعنوي المستعمل في العلوم الشرعية والاستقراء المنطقي والعلمي.
ومما يدعم هذا ما أشار إليه الشاطبي عند حديثه عن مجيء نص على جزئي مخالف للقاعدة الكلية المستفادة بالاستقراء والموقف من ذلك، وقد مَثَّل لذلك بما دلّ عليه الاستقراء من أن الشريعة جاءت بحفظ الضروريات، فبيّن أن الذي ثبت
بالاستقراء هو العلم بأن حفظ الضروريات معتبر، لكن لم يحصل العلم بحل الجهات المعَيَّنَة للحفظ، وليس ذلك المقصود من الاستقراء لعسره وتعذر الإحاطة به. وفي ذلك يقول: "
…
فإنه إنما عُلِم أن الحفظ على الضروريات معتبر؛ فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة، فإن للحفظ وجوهًا قد يدركها العقل وقد لا يدركها، وإذا أدركها فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال، أو زمان دون زمان، أو عادة دون عادة". (1)
3 -
هناك جانب آخر يجب النظر إليه عند الحديث عن استقراء الأحكام الشرعية لإثبات مقاصد الشارع، وهو أنه ينبني التفريق بين كون الشارع قاصدًا إلى تحقيق مقصد ما، ومدى تحقق ذلك المقصد في الواقع العملي. فالأول هو المعنيُّ بالبحث، لأنه هو المتعلق بإرادة الشارع وقصده، أما الثاني فإنه لا يتعلق بقصد الشارع وإرادته فقط، بل له تعلق قوي بقصد المكلَّف وحاله وظروفه، فها هنا لا بُدّ لتحقيق المقصد من تكامل عمل الشارع وعمل المكلَّف. فإذا انخرم العنصر الثاني فقد يؤدي ذلك إلى عدم ظهور المقصد أو تخلفه في بعض الحالات، وليس معنى ذلك انعدام قصد الشارع وانخرامه، وإنما ذلك لعدم توفر شروط تحققه.
فمثلًا قصدُ الشارع من العقوبات الازدجار وهو قصد عام في جميع العقوبات، لكن هذا المقصد لا يمكن أن يتحقق واقعيًّا في نفوس الناس إلَّا إذا توافرت له أسبابه وشروطه. فإذا أدّت حال المعاقَب وظروفه إلى عدم ازدجاره، فليس معنى ذلك القدح في كون الشارع قاصدًا إلى ذلك، لأن الشارع إنما قصد إلى ترتيب الازدجار على العقاب، ولم يقصد إلى العمل على تحقيق ذلك عمليًّا في نفوس آحاد المعاقَبِين دون استثناء، وإنما ترك ذلك ليجري على حسب قوانين الأسباب والسنن.
4 -
لَمّا كان الاستقراء المعنوي في مجال إثبات المقاصد -بالمفهوم الذي تَمَّ توضيحه- لا يُعنى كثيرًا بمحاولة استقصاء جميع الجزئيات (وهو ما يسمى بالاستقراء التام)؛ لأن المقصود بالدرجة الأولى هو إثبات المقصد، وهو معنى من المعاني التي بثَّها الشارع في أحكامه، أي إثبات كون الشارع قاصدًا إلى اعتباره في أحكامه، وليس
(1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 7.
المقصود استقراء وجود ذلك المقصد في كل التصرفات والأحكام، كان اشتراط كون الاستقراء تامًّا في الكشف عن مقاصد الشارع ليس فقط عسير التحقيق، وإنما لا تدعو إليه ضرورة ولا حاجة.
5 -
ينبغي أن يؤخذ بعين الإعتبار كون الأحكام الشرعية كثيرة تتجاذبها مقاصد كثيرة، فليس للشارع مقصد واحد في أحكامه وتصرفاته حتى نحتاج إلى استقراء تام لإثبات وجوده في كل الجزئيات والفروع، بل هناك عشرات المقاصد، منها الكلي والجزئي، ومنها العام والخاص، وهي مقاصد تتداخل أحيانًا وتتمايز أحيانًا أخرى، فلذلك نجد الأصل فيها التكامل والتعاضد، لكنها قد تتعارض أحيانًا، فنجد الفرع يتجاذبه أكثر من مقصد. وتبقى مهمة المفتي أو المجتهد هي الترجيح، فيلحق ذلك الفرع بالمقصد الأقرب إله والأنسب له. ولا يعني ذلك الطعن في كليّةِ أو عمومِ المقصد الذي لم يُنْسَب إليه؛ إذْ وصفُ العموم والكلية هنا نسبيان لا مطلقان، أي أن المراد بالعمومِ العمومُ العادي، والكلية بمعنى الإجمال المشتمل على عدد كبير-أو غير محصور -من الفروع والجزئيات والضابط له- ولماكان تحقيق المقاصد في الواقع أمرًا متأثرًا بالظروف المحيطة قد يتغير بتغيرها، كان الفرع الواحد قد يلحق تارة بمقصد ما، ويلحق تارة أخرى بمقصد آخر.