المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: الاستقراء الناقص: - طرق الكشف عن مقاصد الشارع

[نعمان جغيم]

فهرس الكتاب

- ‌شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌البَابُ الأَوّلاستخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها

- ‌الفصل الأولتعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها

- ‌المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها

- ‌المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الثانيأقسام المقاصد الشرعية

- ‌المبحث الثانيفائدة العلم بمقاصد الشارع

- ‌تمهيدبين أصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌الفصل الثانياستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌تمهيدطرق إفادة الكلام

- ‌المبحث الأولاستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية لإستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية

- ‌النموذج الأول: استخلاص المقاصد من النص والظاهر:

- ‌النموذج الثاني: دلالة الأمر والنهي:

- ‌النموذج الثالثدلالة العام

- ‌الفصل الثالثوظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌تمهيدطبيعة النص الشرعي ومستويات فهمه

- ‌المبحث الأولالعناصر التي تتحكم في فهم الخطاب

- ‌المطلب الأوللغة الخطاب

- ‌المطلب الثانيالمخاطِب (المتكلّم)

- ‌المطلب الثالثالمخاطَب (السامع)

- ‌المطلب الرابعسياق الخطاب

- ‌نماذج تطبيقية

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌المطلب الأولأهمية القرائن في تحديد المقصود من الأوامر والنواهي

- ‌المطلب الثانيأهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

- ‌المطلب الثالثتخصيص الخطاب الشرعي بعادات المخاطَبين وأعرافهم

- ‌المطلب الرابعتخصيص العام بقول الصحابي

- ‌المطلب الخامسأهمية السياق في تحديد المقصود من النص

- ‌الفصل الرابعاستخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولتعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الأولالتعليل بين القائلين به والرافضين له

- ‌المطلب الثانيتعليل العبادات

- ‌المبحث الثانيمسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع

- ‌الفَصْلُ الخَامَسِسكوت الشارع ودلالته على مقاصده

- ‌المبحث الأولأنواع سكوت الشارع

- ‌المبحث الثانيالفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات

- ‌المبحث الثالثعلاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو

- ‌المبحث الرابعهل السكوت عن النقل نقل للسكوت (هل ترك النقل ينزل منزلة نقل الترك)

- ‌البَابُ الثَّانياستخلاص المقاصد من طريق الاستقراء

- ‌الفَصْلُ الأَوّلمفهوم الاستقراء وأنواعه

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولمفهوم الاستقراء

- ‌المبحث الثانيأنواع الاستقراء

- ‌أولًا: الاستقراء التام

- ‌ثانيًا: الاستقراء الناقص:

- ‌الفَصْل الثَّانِيالاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية

- ‌المبحث الأولالاستقراء في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثانيالاستقراء في العلوم الشرعية

- ‌المطلب الأولالاستقراء عند الأصوليين

- ‌المطلب الثانيتطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين

- ‌الفَصْلِ الثَّالِثالاستقراء عند الإمام الشاطبي

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولتعريف الاستقراء عند الشاطبي وبيان الأساس الذي يقوم عليه

- ‌المبحث الثانيالاستقراء عند الإمام الشاطبي بين القطع والظن

- ‌المبحث الثالثحَلُّ الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

- ‌المبحث الرابعمجالات استخدام الشاطبي للإستقراء

- ‌الفَصْلُ الرَّابعِالاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولالاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيمجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

- ‌الفَصْل الخَامِسْدراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي

- ‌المبحث الأولالفرق بين الاستقراء العلمى والاستقراء في العلوم الإنسانية

- ‌المبحث الثانيإمكانية تحقيق الاستقراء وجدواه

- ‌المبحث الثالثنتيجة الاستقراء بين اليقين والظن

- ‌المبحث الرابعحل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُدراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولاستقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة

- ‌المبحث الثانياستقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة

- ‌المبحث الثالثاستقراء مجموعة من النصوص الشرعية المشتركة في معنى واحد

- ‌الترغيب في التيسير على العموم:

- ‌العفو عن أهل الكتاب:

- ‌الأمر بالتيسير على ذوي الحاجات والأعذار في الصلاة:

- ‌الترغيب في أن يكون الإنسان سمحاً في معاملاته:

- ‌كفارة اليمين:

- ‌كفارة قتل الصيد في الحرم:

- ‌كفارة القتل الخطأ:

- ‌كفارة الظِّهار:

- ‌التيسير في المعاملات:

- ‌1 - شرع الشُّفْعة:

- ‌2 - الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب

- ‌3 - شرع السَّلم:

- ‌4 - الترخيص في العرايا

- ‌5 - شرع القرض:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر

الفصل: ‌ثانيا: الاستقراء الناقص:

3 -

مساعدته في الإستعمالات الرياضية التي تفكك الوقائع وتُحِيلُهَا إلى كميات تخضع للعمليات الرياضية المختلفة، ويمكن قياسها بمختلف المقاييس مما يساعد على تحصيل نتائج أدق وأوثق. (1)

‌ثانيًا: الاستقراء الناقص:

تعريفه: الاستقراء الناقص هو أن يستدل بأكثر الجزئيات فقط، ويحكم من خلالها على الكل. (2) فهو"الذي تدرس فيه بعض جزئيات أو أجزاء الشيء الذي هو موضوع المبحث، وتعتبر فيه النماذج المدروسة أساسًا تقاس عليه بقية الأجزاء أو الجزئيات". (3)

مشكلة الاستقراء الناقص:

لما كان الاستقراء الناقص انتقالًا من جزئيات محدودة إلى نتيجة كلية تشمل تلك المقدمات وزيادة، ثار السؤال الآتي: هل صدق الجزئيات المستقرأة يقتضي ضرورةً صدق النتيجة الكلية؟ ولا شك أن الجواب المنطقي سيكون بالنفي؛ إذ الزيادة على المقدمات التي تشتمل عليها النتيجة قد تكون صادقة، وقد تكون غير ذلك، وليس هناك دليل قطعي على صدقها، ومن ثم يبقى صدق التعميم الإستقرائي ظنيًّا. (4) ولا يمكن أن يُبَرَّر صدق نتيجة هذا النوع من الاستقراء بمبدأ عدم التناقض، لأنه لا تناقض بين صدق المقدمات المستقرأة وخطأ النتيجة، إذ قد يكون مرجع الخطأ إلى الزيادة التي لم تتضمنها المقدمات.

ومن هنا كانت نتيجة الاستقراء الناقص تفيد الظن فقط، نظرًا للفجوة التي يتركها القفز من مجموعة من الجزئيات إلى تعميم كلي، الأمر الذي جعل البعض يقلل من أهمية هذا النوع من الاستقراء في مجال الكشف عن الحقائق واكتساب المعارف.

(1) انظر د. علي عبد المعطي محمد، ود. السيد نفادي: المنطق وفلسفة العلم، ص 291.

(2)

انظر محمد علي التهانوي: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، ج 1، ص 172.

(3)

عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: ضوابط المعرفة وأصول الإستدلال والمناظرة، (دمشق: دار القلم، ط 4، 1414 هـ / 1993 م)، ص 193 - 194.

(4)

انظر في ذلك مثلًا: أبو حامد الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، ص 152.

ص: 216

وهو الأمر الذي اشتهر عند المناطقة وعلماء المناهج باسم "مشكلة الاستقراء".

وبناءً على ما سبق تعرض الإستدلال الإستقرائي إلى عدة طعون يمكن إرجاعها إلى أمرين:

الأول: اعتماده على مصادرات غير مبرهنة، وإنما مأخوذة باعتبارها معارف عقلية قبلية مسلَّمة، ووجود مثل هذه المعارف القبلية أمر غير مسلَّم لدى بعض المذاهب الفلسفية، مثل المذهب التجريبي.

الثاني: كون بعض الاستقراءات إحصائية ظاهرية، مبنية على مجرب الطرد دون اعتبار لمبدأ السببية والعلية، وهي استقراءات يسهل خرقها بتخلف كثير من الأفراد عن الدخول تحت نتائجها.

ويمكن تلخيص ما اصطلح على تسميته (مشكلة الاستقراء) فيما يأتي:

إنه منِ أجل إعطاء مصداقيّة علميّة لنتيجة الاستقراء، حيث يمكين اعتمادها

قانونًا عامًّا يجب التأكد من توافر ثلاثة مبادئ:

1 -

يحب إثبات مبدأ السببية العامة، أي إثبات أن لكل ظاهرة طبيعية سببًا، إذ من غير ذلك يصبح من المحتمل أن يكون تلازم شيئين من الجزئيات المستقرأة (كتلازم تمدد الحديد ووجود الحرارة مثلًا) غير مرتبط بأي سب، وإنما هو وجود تلقائي، وإذا كان وجوده طرديًّا فليس من الضروري أن يتكرر.

2 -

ولا يكفي إثبات مبدأ السببية العامة، وإنما ينبغي على الدليل الإستقرائي -بعد إثبات ذلك- أن يثبت أن سببًا بعينه هو الذي كان وراء هذه الظاهرة (مثل كون الحرارة وحدها السبب في تمدد الحديد)، لأن مجرد الإقتران لا يكفي دليلًا على كونه السبب الحقيقي أو الوحيد، بل يحتمل أن يكون وجوده قد صادف تأثير السبب الحقيقي.

3 -

إثبات مبدأ التناسق والإطراد، الذي يقتضي بأن الكون يسير على نسق واحد لا يتغير، وأن ما حديث في الماضي بعلة من العلل سيتكرر في الحاضر والمستقبل على

ص: 217

نفس النحو مع وجود نفس العلة. (1)

ولما كان الاستقراء الناقص وسيلة من أبرز وسائل المبحث، لا يمكن الاستغناء عنه سواء في المبحث العلمي أو في الحياة العملية اليومية كان محل عناية من قبل المناطقة، والفلاسفة، وعلماء المناهج، محاولين إيجاد حلول منطقية للمشكلات التي تحول دون الوصول بنتيجته إلى العلم اليقيني أو إلى ما يقرب من ذلك.

وفيما يأتي فرض لخلاصة موقف مختلف المذاهب الفلسفية من هذه المشكلة، والمنهج الذي اتبعه كل مذهب لمحاولة حل هذه المشكلة، وبالتالي الوصول إلى تسويغ منطقي لصدق نتيجة الاستقراء الناقص.

أولًا: موقف الفكر الأرسطي من مشكلة الاستقراء:

لقد أدرك الفكر الأرسطي عُسر إيجاد جواب منطقي شاف ومقنع لهذه المشكلة، فاتجه في حلها إلى افتراض قضايا عقلية قبلية غير مبرهنة، وذلك بناءً على إيمانه بوجود معارف عقلية قبلية مستقلة عن الحس والتجربة.

- أما العنصر الأول من مشكلة الاستقراء فقد حله الفكر الأرسطي بالقول بمبدأ السببية الذي يقتضي أن لكل حادثة سببا، واعتباره مبدأً عقليًا لا يحتاج إلى إثبات أو برهان.

- أما العنصر الثاني منها فقد استعان في حله بمبدأ عقلي قبلي ينفي أن يكون اقتران الظاهرتين مجرد صدفة، ومفاده أن الإتفاق (الصدفة) لا يكون دائميًّا ولا أكثريّا، بمعنى أنه إذا تحرر اقتران شيئين في جميع الأحيان أو أكثرها، فإن ذلك لا يمكن أن يكون لمجرد الإتفاق (الصدفة)، بل لوجود رابطة سببيّة، فكلما وُجد هذا السبب أنتج مسبَّبَه.

- أما العنصر الثالث منها فقد حله باعتماد قضية عقليّة مستنبطة بطريقة برهانية من مبدأ السببيّة، مفادها أن الحالات المتشابهة من الطبيعة تؤدي إلى نتائج

(1) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 25 - 27.

ص: 218

متماثلة. (1)

التجربة والاستقراء الناقص في الفكر الأرسطي:

مع كل ما سبق من محاولات لتخطي مشكلة الاستقراء الناقص، إلَّا أن المنطق الأرسطي بقي على رأيه في أن الاستقراء الشاقص لا يفيد سوى الظن، فهو منهج استدلالي قاصر، ومن ثَمَّ كان الفكر البشري في حاجة إلى منهج يصل بالإستدلال إلى مرتبة تحصيل نتائج يقينية أو قريبة من ذلك. ومن أجل الحصول على ذلك حاول المنطق الأرسطي التقدم بنتيجة الاستقراء مرحلةً أخرى ليصل إلى ما اصطلح على تسميته "التجربة".

والتجربة في الفكر الأرسطي تتكون من استقراء تلازم شيئين في جميع الحالات أو أغلبها، واستنتاج وجود رابطة سببية بينهما اعتمادًا على المبدأ العقلي القبلي القائل بأن الصدفة لا تكون دائميّة ولا أكثريّة، ثم يجمع بينهما باستدلال قياسي صورته:

اقتران (أ) بـ (ب) دائما أُو كثير

صغرى القياس (ثبتت بالاستقراء)

الإتفاق بين شيئين لا يكون دائميًّا ولا أكثريًّا

كبرى القياس (ثبتت بمبدأ عقلي قبلي)

إذًا لابد أن يكون (أ) سببًا لـ (ب)

نتيجة القياس

فالتجربة في المنطق الأرسطي تتلخص في القانون الآتي:

التجربة = استقراء مبدأ عقلي قبلي قياس منطقي كامل

ومن ثَمَّ يكون الاستقراء الناقص مجردَ تعبير عددي عن العيِّنات التي كانت محل الاستقراء، (2) في حين تجمع التجربة بين نتيجة الاستقراء ومبادئ عقلية قبليَّة في شكل قياس منطقي كامل يثمر نتيجة كلية. (3)

ويرى أتباع المنطق الأرسطي أن التجربة بهذا المفهوم تفيد العلم واليقين، على

(1) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 27 - 28.

(2)

انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 32.

(3)

انظر ابن سينا: البرهان، تحقيق عبد الرحمن بدوي، (القاهرة: دار النهضة العربية، ط 2، 1966 م)، ص 49.

ص: 219

عكس الاستقراء الناقص الذي لا يفيد إلَّا الظن، وفي ذلك يقول الرازي في تعليقه على شرح الإشارات والتنبيهات:"عسى سائل أن يقول: ليست التجربة إلَّا مشاهدات متكررة، كما أن الاستقراء أيضًا مشاهدات متكررة، فكيف أفاد التجربة اليقين دون الاستقراء؟ فالجواب: إنه إذا تكررت المشاهدات على وقوع شيء، وعلم بالعقل أنه ليس اتفاقيًّا، إذ الاتفاقات لا تكون دائمة ولا أكثرية، كانت التجربة مفيدة لليقين، وإن لم يعلم ذلك واستدل بمجرد المشاهدات الجزئية بدون ذلك القياس على الحكم الكلي كان استقراءً ولا يفيد اليقين". (1)

والخلاصة أن المنطق الأرسطي لا يعتبر الاستقراء الناقص بمفرده مفيدًا للعلم ولا سبيلًا يمكن التوصل به إلى التعميم، ولكنه يمكن أن يكون كذلك إذا دعم بمبادئ عقلية قبلية، ليشكل المجموع قياسًا منطقيًّا كاملًا يبرهن على وجود علاقة سببية، ليثبت حكمًا كليًّا يقينيًا وصالحًا للتعميم على كل الحالات المماثلة. وهكذا يتبين أن كل استدلال استقرائي مرده إلى قياس يشتمل على مقدمتين: كبراهما عقلية قبلية، وصغراهما تمثل نتيجة استقراء مجموعة من الأفراد أو الحالات. ومعنى هذا أن الوظفية المباشرة للإستقراء الناقص -في رأي المنطق الأرسطي- هي تقديم صغرى القياس.

ثانيًا: موقف المذهب التجريبى من مشكلة الاستقراء:

المراد بالمذهب التجريي: المذهب الذي يعتبر التجربة والحس المصدر الأساس للمعرفة، وهو بهذا المعنى يعتبر مقابلًا للمذهب العقلي. (2)

وأهم ما يميز المذهب التجريبي عن المذهب العقلي أن الأول لا يؤمن بوجود معارف ومبادئ عقلية قبلية مستقلة عن التجربة والمعرفة الحسية، في حين يؤمن الثاني بإمكانية وجودها.

(1) نقلًا عن: محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 33 - 34.

(2)

" Empiricism is the theory that experience rather than reason is the source of khowledge، and in

this sense it is opposed to rationalism)

" انظر الموسوعة الفلسفية"

" Paul Edwards (ed):the

Encycolopedia of Philosophy . N .Y .:Macmillan Publishing Co. Inc. & the Free Press Lodon:

Collier Macmillan Publishing، 1972، vol. 2،P. 499.

ص: 220

ونظرًا لكون المذهب التجريبي مدرسة فكرية واسعة فإن أصحابه لم يكن لهم موقف موحّد من مشكلة الاستقراء. ويمكن تصنيف أتباع المذهب التجريبي من حيث موقفهم من مدى الوثوق بنتيجة الدليل الإستقرائي إلى اتجاهات ثلاثة: اتجاه يؤمن بإمكانية الوصول إلى اليقين عن طريق الدليل الإستقرائي، واتجاه آخر يرى أن الدليل الإستقرائي لا يفيد سوى الظن الراجح، واتجاه ثالث يشك في قيمة القضية الإستقرائية من الناحية الموضوعية. (1)

الإتجاه الأول ذو النزعة اليقينية:

يمثل هذا الإتجاه جون ستوارت ميل، وهو اتجاه يشترك مع المذهب العقلي في القول بحاجة الاستقراء إلى مبدأ السببية، ومبدأ التناسق والإطراد القائل بأن الحالات المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة. ويقرر أتباع هذا الإتجاه بناء على قضيتي السببية والإطراد في الكون أنه كما حدثت ظاهرة عقيب ظروف معينة فإنها ستحدث باستمرار في كل الظروف المماثلة. ومع هذا التشابه مع المذهب العقلي نجده يختلف عنه في تفسير الأساس الذي يقوم عليه هذان المبدآن (السببية والإطراد). ففي حين يعتبرها المذهب العقلي قضايا عقلية قبلية، يعتبرهما هذا الإتجاه نتيجة استقراءات أوسع وأشمل في الطبيعة، وأننا منذ أن حصلنا على العلم بقضايا السببية نتيجة استقراء لكل ما حولنا من ظواهر الطبيعة، أصبحت بدورها أساسًا لكل تعميم استقرائي لاحق. هذا هو تصور أصحاب هذا الإتجاه لحل العنصرين الأول والثالث من مشكلة الاستقراء.

أما موقفهم من العنصر الثاني من مشكلة الاستقراء فإن جون ستوارت ميل حاول الإعتماد على التجربة في إثبات علاقة السببية بين ظاهرتين متلازمتين دائمًا أو غالبا، ونفي أي رابطة سببية مع أي عامل آخر باقتراح أربعة طرق يمكن بأي واحدة منها تحقيق ذلك، وهي:

1 -

طريقة الإتفاق: وخلاصتها أنه إذا اتفقت مجموعة من الحالات للظاهرة المراد

(1) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 70.

ص: 221

بحثها في ظرف واحد فقط، مع تنوعها في كل الظروف الأخرى، فإنه يمكننا أن نستنتج أن هذا الظرف الوحيد الذي تتفق فيه جميع هذه الحالات، هو السبب الوحيد في هذه الظاهرة.

3 -

طريقة الإختلاف: وهي الطريقة التي يكون فيها المستقرئ أمام مجموعة من الحالات المتشابهة في جميع الظروف باستثناء ظرف واحد، ويلاحظ وجود الظاهرة في الحالات المتشابهة في جميع الظروف وانعدامها في الحالات التي ينعدم فيها ذلك الظرف المستثنى، فيستنتج من ذلك أن ذلك الظرف المستثنى هو سبب الظاهرة، بناءً على اختلاف الظاهرة وجودًا وعدمًا باختلاف ذلك العامل.

3 -

طريقة التلازم في التغير: وخلاصتها أن الظاهرة التي يلازم تغيرها تغير ظاهرة أخرى بشكل متناسب، تُعَدّ مرتبطة بها بنوع من العلاقة السببية.

4 -

طريقة البواقي: اومفادها أنه إذا أدت مجموعة من المقدمات إلى مجموعة أخرى من النتائج، وأمكن إرجاع كل النتائج في المجموعة الثانية، باستثناء نتيجة واحدة، إلى جميع المقدمات في المجموعة الأولى باستثناء مقدمة واحدة، فإننا نستنتج من ذلك وجود علاقة سببية بين المقدمة والنتيجة الباقيتين. (1)

ولحن الملاحظة الجلية التي يمكن استخلاصها من النظر في كل هذه الطرق أنها لا تعدو أن تفيد ظنًا غالبًا برابطة السببية بين ذينك الشيئين المتلازمان، والتقليل من احتمالات كون الرابطة السببية مع عامل ثالث، لكنها لا يمكن أن توصل إلى نتيجة يقينية.

الإتجاه الثاني ذو النزعة الترجيحية:

يسلم أصحاب هذا الإتجاه بحاجة التعميم الإستقرائي إلى افتراض قضايا ومصادرات، لكنه يختلف عن المذهب العقلي والإتجاه الأول من المذهب التجريبي

(1) انظر في تفصيل آراء جون ستوارت ميل هذه: إرفين، وكارل كوهن: مدخل إلى المنطق

Irving M. Copi، Carl)

(Cohen:Intyouduction to Logic. N.Y.Macmillan Publishing Company. 1990.pp 377 - 401

ود. زكي نجيب محمود: المنطق الوضعي، ج 2، ص 195 - 198.

ص: 222

في طريق إثباتها، فهو لا يعترف بكونها قضايا عقلية مسبقة -كما يرى المذهب العقلي- كما أنه لا يري إمكانية إثباتها باستقراءات سابقة، فهي في رأيه غير ممكنة الإثبات، وتبتى مجرد قضايا احتمالية، ومن ثَمّ فما يُبنى عليها من استقراءات لا يمكن أن تثمر يقينا، وإنما تقتصر وظيفة الاستقراء على تقوية الإحتمال وترجيحه، فكلما زاد عدد الأفراد أو الحالات المستقرأة زادت نسبة احتمال الصدق في نتيجة الاستقراء. (1) وليس من اللازم عند أصحاب هذا الإتجاه أن يفيد الاستقراء القطع فـ "العلوم الطبيعية كلها قائمة على الترجيح لا اليقين". (2)

الإتجاه الثالث ذو النزعة النفسية:

يعدّ دايفيد هيوم (David Hume) الرائد الأوهي لهذا الإتجاه الذي يعترف بكون علاقة العلة والمعلول هي الأساس الذي تُبنى عليه جميع الاستدلالات الخاصة بأمور الواقع، وهي علاقة يمكن أن تتعدى الحواس وتنبئنا بموجودات وأشياء لا نراها ولا نشعر بها. ولكنه يري في علاقة السببية بمفهومها العقلي -بوصفها علاقة ضرورة بين السبب والمسبَّب- قضية لا يمكن أن تطالها الخبرة الحسية، وكل ما يمكن أن تدركه الخبرة الحسية هو اقترانهما ببعضهما البعض واطراد ذلك الإقتران والتعاقب، أما علة ذلك الإقتران فإنها خارج إطار الحس والتجربة. ومن ثَمَّ يذهب إلى التسليم بعدم كون الإتفاق دائميًّا أو أغلبيًّا -كما هو الشأن عند أتباع المذهب العقلي- لكنه يرى أن مبرر ذلك ليس منطقيًّا، ولا هو معرفة عقلية قبلية، بل هو مبرر نفسي (سيكولوجي). فهو يرى أن فكرتنا عن العلاقة بين العلة والمعلول تعكس انطباعًا نفسيًّا ذاتيًا هو وليد عادة ذهنية ناتجة عمًا يشاهده الإنسان من تحرار الإقتران بين هذين الموضوعين، وهو بدوره يولِّد انطباعًا بفكرة الضرورة والحتمية، أي ضرورة حدوث المعلول بوجود علته. ومن ثَمَّ فإن هيوم يرى أن فكرتنا عن العلاقة بين العلة والمعلول لا تعكس الواقع الموضوعي، ولا هي آثار للبرهان العقلي، أي أنها لا تقوم على أساس قوانين الواقع الموضوعي. ولكنه مع هذا يعتقد بالقضايا التي نستدل عليها

(1) انظر محمد باقر الصدر: الأسس المنطقية للإستقراء، ص 83.

(2)

زكي نجيب محمود: المنطق الوضعي، ج 2، ص 301.

ص: 223

بالتجربة والاستقراء، لكنه يفسر ذلك تفسيرًا نفسيًا ذاتيًّا. (1)

ومهما يكن طريق إدراك علاقة العلية -سواء طبقًا للواقع الموضوعي، أو لانطباع نفسي ذاتي، أو معرفة عقلية قبلية- فإن الجامع بين الإتجاهات كلِّها هو الإعتراف بوجود هذه العلاقة، والإقرار بمبدأ عدم كون الإتفاق دائميًا أو أغلبيّا.

والأخذ بتفسير هيوم يضعنا أمام أحد موقفين: إما أَنَّ حكمنا على العلاقات بين الأشياء هو مجرد انطباعات نفسية لا علاقة لها البتة بقوانين الواقع الموضوعي، وبذلك تستوي الحقائق الواقعية والخيالات، وهذا الإتجاه سيقودنا إلى السفسطة. وإما أن نعترف بوجود علاقة بين قوانين الواقع الموضوعي وانطباعاتنا النفسية عن العلاقات بين الأشياء، وفي هذه الحالة نقول: إنه لا مانع من كون أحكامنا على هذه العلاقات نتيجة انطباعات نفسية، بل سنجد كل الأحكام ناتجة عن هذه الإنطباعات التي قد تعكس حقائق واقعية أو أوهامًا، حسب عملية الإستدلال التي توصلنا بها إلى هذه

الأحكام، وما يحيط بها من ملابسات وما يتوفر فيها من شروط.

ونحن في سعينا إلى الحكم على نتيجة الاستقراء بالقطع أو الظن، أو بالصدق وعدمه، إنما يمكننا الحصول على ذلك من خلال الإنطباع الذهني المتكون نتيجة لتكرار الملاحظة، كما أننا في ممارسة عملية الاستقراء لا نسعى إلى إثبات مطلق وجود علاقة العلية، إذْ يكفي في حصول ذلك ملاحظةٌ واحدةٌ للعلاقة بين عنصرين، وإنما نسعى إلى إثبات اطراد هذه العلاقة بين أفراد نوع أو أنواع جنس، وهذا الإنطباع لا يتأتى إلَّا من خلال عملية تكرار الملاحظة مع الحصول على نتائج متشابهة.

والإنطباع الذي يقول عنه هيوم إنه يثيره في الذهن نفس تحرار الأمثلة التي اققرنت فيها (أ) مع (ب)، وأنه عبارة عن تهيؤ الذهن واستعداده لكي ينتقل من موضوع إلى فكرة ما تصاحبه عادة، هو انطباع لا يمكن أن يحصل من غير تكرار وسواء قلنا إنه ناتج عن مجموع الإنطباعات الناتجة عن مشاهدة كل حالة، أو إنه

(1) انظر Hume، David: A treatise of Human N ature، ed. by Ernest G. Mossner، London: Penguin Group، 1984. pp.121 - 147.

ص: 224

انطباع مستقل نتج عن ملاحظة مجموع تلك الحوادث المتكررة فلا فرق، إذ المهم أنه ناتج عن عملية التكرار التي هي أمر واقعي.

أما فيما يتعلق بإنكار دافيد هيوم وجود حقيقة واقعية لعلاقة السببية، استنادًا إلى عدم إمكانية إثبات ذلك بالتجربة والخبرة الحسية فإنه يُرَدّ عليه بأن عدم امتداد التجربة والحس لإثبات قضية من القضايا لا يكفي مبرِّرا لنفيها، والاعتقاد بعدمها، إذْ الحكم على القضية بالنفي أو الإثبات سيان كلاهما يحتاج إلى إثبات. وطبقًا للمذهب التجريبي فإن كلًّا من الحكم على قضية بالنفي، أو بالإثبات يحتاج إلى التجربة والخبرة. فإذا كان الحكم على علاقة السببية بالوجود متعذّرًا -طبقًا للمذهب التجريبي- لعدم القدرة على إثبات ذلك تجريبيا، فإن الحكم عليها بالعدم لا بُدّ أن يكون في حاجة هو أيضًا إلى إثباتٍ بالتجربة والخبرة، وهو أمر متعذر لعدم امتداد التجربة إلى ذلك. وهن هنا يلزم أصحاب المذهب التجريبي التوقف عن الحكم على علاقات السببية بالوجود أو الإنتفاء. ونخلص من هذا إلى أنه لا يوجد مبرر عقلي لنفي علاقة السببية.

ثالثًا، تفسير نتيجة الاستقراء وفقًا لمعايير الإختيار:

يقوم هذا التفسير على أساسٍ مفاده أننا عند التدقيق في الاستقراءات الفاشلة -التي يُسْتَدَل بها عادة على نقض الدليل الإستقرائي والطعن فيه- نجدها ناتجة عن عدم توفر المتطلبات اللَّازمة للدليل الإستقرائي في مرحلته الإستنباطية، إذْ من شروطه توحيد معايير ومقاييس انتقاء الجزئيات المستقرأة، بأن تكون كلها مشتركة خاصية مفهومية تتميز بها عن غيرها من الجزئيات التي لا يشملها الاستقراء، وأن يكون اعتقاد المستقرئ أنه لا توجد أي خاصية مفهومية إضافية تتميز بها الحالات التي شملها الاستقراء عن الحالات الأخرى التي يراد تعميم النتيجة عليها.

ومن هنا يتبين أن عملية الاستقراء تحتاج إلى أمرين:

1 -

تحديد المعايير التي يتم على أساسها اختيار الجزئيات المستقرأة، لأن ذلك في غاية الأهمية لتحديد التعميم الإستقرائي الذي سنصل إليه.

ص: 225

3 -

مراعاة الدقة في إطلاق التعليمات الإستقرائية، وذلك بالأخذ بعين الإعتبار كل الشروط والملابسات الواجب توافرها لتحقيق التعميم الإستقرائي، وذكر كل القيود والمحترزات اللازمة في التعميم، إذْ إن إدخال عنصر من غير صنف العناصر المستقرأة -نظرًا لقوة شبهه بها- سيؤدي إلى خرقا التعميم الإستقرائي فنحكم على نتيجة الاستقراء بالخطأ، وعلى الدليل الإستقرائي بالقصور والحقيقة أن الأمر غير ذلك، إذْ إن ما عُدَّ نقضًا للإستقراء، ما هو إلَّا عنصر خارج عن عناصر الصنف المستقرأ، وإنما أدخل فيها إما لعدم تحديد مقاييس التصنيف، أو لعدم الدقة في تطبيقها. ومن هنا تبرز أهمية تحديد خصائص ومميزات الجزئيات محل الاستقراء بتعريفها تعريفًا جامعًا مانعا، ويصير التعميم الإستقرائي خاضعًا لتعريف العناصر المستقرأة.

ومن الأمثلة على هذه الطريقة ما ذهب إليه فون رايت (G. H. Von Wright) الذي تناول بالتحليل مثال دايفيد هيوم عن كرة البلياردو، وخلاصته أننا نلاحظ أن اندفاع الكرة الأولى تجاه الكرة الثانية واصطدامها بها يتبعه حركة الكرة الثانية، ونستنتج من ذلك أن حركة الكرة الأولى علة حركة الكرة الثانية، ونعمِّم بالاستقراء هذه الملاحظة لنقول: كلّما تحركت واصطدمت كرة أولى بكرة ثانية فإن ذلك سيتبعه تحرك الكرة الثانية. ولكننا قد نجد في بعض الكرات أن كرةً قد تحركت وصدمت كرة أخرى دون أن يؤدي ذلك إلى تحرك الكرة الثانية، كأن تكون الكرة الثانية مثبتة في طاولة البلياردو أو لوجود عائق قوته مساوية لقوة دفع الكرة الأولى، أو أقوى منها، أو لأن الكرة الثانية معدنية والأولى ورقية فلا تقدر على تحريكها، أو غير ذلك من الأسباب. فهل يكون معنى ذلك أن التعميم الإستقرائي المستنتج كان خاطئًا من أصله؟

الواقع أن الأمر ليس كذلك، أي أن التعميم ليس خاطئًا من أساسه، ولكنه قاصر وغير دقيق، لإغفاله ذكر بعض القيود والمحترزات، ومن هنا يدعونا "فون رايت" إلى تعديل صيغة هذا التعميم أو القانون الإستقرائي بما يأتي:"حينما تصطدم كرة بثانية، فإن الأخيرة لا تتحرك إلَّا إذا توافرت شروط محددة، وتحققت ظروف معينة". (1)

(1) انظر (the Logical problem of Inducation، p.46 ،G. H. Von Wright

نقلًا عن د. علي عبد المعطي، ود. السيد نفادي: المنطق وفلسفة العلم، ص 302.

ص: 226

ومن هنا يمكن أن يكون الاستقراء ذاته معينًا على اكتشاف صفات أو شروط جديدة نضيفها إلى الظاهرة محل الاستقراء بغرض إقامة صياغة كاملة للقانون العام الذي نسعى إلى إرسائه، أي أن عملية الاستقراء لها تأثير في مسألة صياغة المفاهيم والتصورات وتكوينها، كما أنها تتأثر بها، فعملية التأثير متبادلة بين الاستقراء وصياغة المفاهيم والتصورات وتكوينها.

وهذا المسللث في تبرير التعميم الإستقرائي شبيه بما ذهب إليه "جون ديوي" من اعتبار الوظيفة الأساسية لعملية الاستقراء هي التوصل إلى اكتشاف العيِّنة التي تكون ممثلة لما يشبهها من الحالات، وتُتَّخَذ معيارًا يعتمد عليه التعميم الإستقرائي. (1)

ومن أمثلة ذلك أيضًا مسألة اليسر في أحكام الشارع، فإذا قلنا -مثلًا- إن استقراء موارد الشريعة دلَّ على أن من مقاصدها التيسير فيعترض معترض بأننا لا نلمح حضور هذا المقصد في الحدود لما تتصف به من شدَّة وصرامة. فإننا للإجابة على هذا الإعتراض نجد أنفسنا ملزمين بداية بتحديد مفهوم التيسير عند الشارع، فإذا حدَّدنا التيسير المقصود في النصوص الشرعية، أمكننا بعد ذلك القول هل إن الشارع راعى جانب التيسير في مجال العقوبات أم لا؛ إذْ قد يدخل البعض في التيسير ما هو في حقيقته ليس منه، ومن هنا وجب بداية تحديد مفهوم التيسير المقصود لدى الشارع.

وقد اعتمد الشاطي هذا النوع من التسويغ في كتاب المقاصد عند حديثه عن أن القاعدة الكلية لا يقدح فيها شذوذ آحاد الجزئيات، وستأتي مناقشتها عند الحديث عن الاستقراء عند الإمام الشاطبي.

وقد بحث علماء أصول الفقه هذا بالتفصيل في قادح العلة المسمى "النقض" وما يتعلق به من جواز تخصيص العلل الشرعية. وأبرز مثال لذلك ما يسلكه المناظر عادة في دفع النقض، كدفع النقض بإظهار مانع أو فوات شره. بأن يظهر المعلل مانعًا من ثبوت الحكم في صورة النقض، أو تخلف شرط من شروط الحكم في صورة

(1) انظر ذلك في هذا المبحث عند الحديث عن الاستقراء في المنطق الغربي الحديث.

ص: 227

النقض. (1)

ومن الطبيعي أن يُثَار هنا اعتراض بأنه من العسير الإحاطة بكل الظروف والشروط المؤثرة في الجزئيات المستقرأة، كما أنه من العسير التحقق من اشتمال التعميم الإستقرائي عليها عند صياغته، ولكن يمكن القول إنه وإن كان هذا عسيرًا في العلوم الطبيعية والتجريبية، فإنه أيسر في القضايا الشرعية.

(1) انظر في تفصيل هذه المسائل: نعمان جغيم: طرق إبطال العلة (رسالة ماجستير في أصول الفقه، كلية الشريعة والقانون بالجامعة الإِسلامية العالمية بإسلام آباد، بكستان، 1996، غير مطبوعة)، ص 161 - 164.

ص: 228