المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالثحل الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص - طرق الكشف عن مقاصد الشارع

[نعمان جغيم]

فهرس الكتاب

- ‌شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌البَابُ الأَوّلاستخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها

- ‌الفصل الأولتعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها

- ‌المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها

- ‌المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الثانيأقسام المقاصد الشرعية

- ‌المبحث الثانيفائدة العلم بمقاصد الشارع

- ‌تمهيدبين أصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌الفصل الثانياستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌تمهيدطرق إفادة الكلام

- ‌المبحث الأولاستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية لإستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية

- ‌النموذج الأول: استخلاص المقاصد من النص والظاهر:

- ‌النموذج الثاني: دلالة الأمر والنهي:

- ‌النموذج الثالثدلالة العام

- ‌الفصل الثالثوظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌تمهيدطبيعة النص الشرعي ومستويات فهمه

- ‌المبحث الأولالعناصر التي تتحكم في فهم الخطاب

- ‌المطلب الأوللغة الخطاب

- ‌المطلب الثانيالمخاطِب (المتكلّم)

- ‌المطلب الثالثالمخاطَب (السامع)

- ‌المطلب الرابعسياق الخطاب

- ‌نماذج تطبيقية

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌المطلب الأولأهمية القرائن في تحديد المقصود من الأوامر والنواهي

- ‌المطلب الثانيأهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

- ‌المطلب الثالثتخصيص الخطاب الشرعي بعادات المخاطَبين وأعرافهم

- ‌المطلب الرابعتخصيص العام بقول الصحابي

- ‌المطلب الخامسأهمية السياق في تحديد المقصود من النص

- ‌الفصل الرابعاستخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولتعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الأولالتعليل بين القائلين به والرافضين له

- ‌المطلب الثانيتعليل العبادات

- ‌المبحث الثانيمسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع

- ‌الفَصْلُ الخَامَسِسكوت الشارع ودلالته على مقاصده

- ‌المبحث الأولأنواع سكوت الشارع

- ‌المبحث الثانيالفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات

- ‌المبحث الثالثعلاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو

- ‌المبحث الرابعهل السكوت عن النقل نقل للسكوت (هل ترك النقل ينزل منزلة نقل الترك)

- ‌البَابُ الثَّانياستخلاص المقاصد من طريق الاستقراء

- ‌الفَصْلُ الأَوّلمفهوم الاستقراء وأنواعه

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولمفهوم الاستقراء

- ‌المبحث الثانيأنواع الاستقراء

- ‌أولًا: الاستقراء التام

- ‌ثانيًا: الاستقراء الناقص:

- ‌الفَصْل الثَّانِيالاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية

- ‌المبحث الأولالاستقراء في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثانيالاستقراء في العلوم الشرعية

- ‌المطلب الأولالاستقراء عند الأصوليين

- ‌المطلب الثانيتطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين

- ‌الفَصْلِ الثَّالِثالاستقراء عند الإمام الشاطبي

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولتعريف الاستقراء عند الشاطبي وبيان الأساس الذي يقوم عليه

- ‌المبحث الثانيالاستقراء عند الإمام الشاطبي بين القطع والظن

- ‌المبحث الثالثحَلُّ الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

- ‌المبحث الرابعمجالات استخدام الشاطبي للإستقراء

- ‌الفَصْلُ الرَّابعِالاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولالاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيمجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

- ‌الفَصْل الخَامِسْدراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي

- ‌المبحث الأولالفرق بين الاستقراء العلمى والاستقراء في العلوم الإنسانية

- ‌المبحث الثانيإمكانية تحقيق الاستقراء وجدواه

- ‌المبحث الثالثنتيجة الاستقراء بين اليقين والظن

- ‌المبحث الرابعحل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُدراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولاستقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة

- ‌المبحث الثانياستقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة

- ‌المبحث الثالثاستقراء مجموعة من النصوص الشرعية المشتركة في معنى واحد

- ‌الترغيب في التيسير على العموم:

- ‌العفو عن أهل الكتاب:

- ‌الأمر بالتيسير على ذوي الحاجات والأعذار في الصلاة:

- ‌الترغيب في أن يكون الإنسان سمحاً في معاملاته:

- ‌كفارة اليمين:

- ‌كفارة قتل الصيد في الحرم:

- ‌كفارة القتل الخطأ:

- ‌كفارة الظِّهار:

- ‌التيسير في المعاملات:

- ‌1 - شرع الشُّفْعة:

- ‌2 - الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب

- ‌3 - شرع السَّلم:

- ‌4 - الترخيص في العرايا

- ‌5 - شرع القرض:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر

الفصل: ‌المبحث الثالثحل الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

‌المبحث الثالث

حَلُّ الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

المراد بمشكلة الاستقراء الناقص -كما سبق الإشارة إليه- هي أننا إذا أعطينا أوصاف الكلية والعموم والقطع لنتيجة الاستقراء الناقص، فإن ذلك يقتضي الجزم بعدم وجود أي مخالف لها أو شاذ عنها، والتحقق من ذلك أمر غير ممكن، كما أن هذا الشذوذ والإستثناء واقع فعلًا في القواعد الشرعية الكلية.

وقد قرر الشاطبي -نفسه- أن تخلف بعض الجزئيات قد يؤدي إلى الشّكّ في الكليات، ذلك أن الكلي إنما يُؤخذ من الجزئيات، فإذا خالف الكليُّ الجزئيَّ دلَّ على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به، أي أن نتيجة هذا الاستقراء لا تكون قطعية؛ "لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءًا من الكلي لم يأخذه المعتبر [المستقرئ] جزءًا منه". (1) ولحل هذا يقترح الشاطبي منهجًا تكامليًّا في التعامل مع الكليات والجزئيات يقوم على اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها، وبالعكس، وتكون النتيجة اعتبارهما معًا في كل مسألة والسعي إلى الجمع في النظر بينهما. (2)

وقبل الحديث عن عناصر الحلّ الذي قدمه الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص، ينبغي بيان موقفه من مبدأ الإطراد بوصفه أَحَدَ أهمِّ الأسس التي يقوم عليها تفسير نيتجة الاستقراء.

موقف الإمام الشاطبي من قانون الإطراد:

لقد أثبت الشاطبي قانون الإطراد في الكون وفيما يُبنى عليه من عوائد الناس، وسماه باستقرار عوائد المكلفين وجريان الوجود على ترتيبه. وقد استدلَ الشاطبي على سريان قانون الإطراد على أحوال الكون وعوائد المكلفين بالأدلة الآتية (3):

(1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 6.

(2)

انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 5 - 6، وانظر أيضًا مج 1، ج 2، ص 47 - 49.

(3)

انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 212 - 215.

ص: 252

1 -

استقرار أحكام الشريعة الإِسلامية وتكاليفها، ووضعها "على وزان واحد، وعلى مقدار واحد، وعلى ترتيب واحد، لا اختلاف فيه بحسب متقدم ولا متأخر". (1) فكونها بهذه الصورة دليل على استقرار موضوعات التكليف، وهي أفعال المكلفين وعوائدهم، وأفعال المكلفين لا تكون مستقرة مطردة إلّا إذا كان الكون باقيًّا على ترتيبه، أي سائرًا على قانون الإطراد. ويدلّ على صحة هذا البرهان امتناع عكسه، أي أنه لو حديث تغيُّرُ في ترتيب الكون لأدى ذلك إلى حدوث مثله في عوائد الناس المبنية على ذلك، ولأدى ذلك إلى تغيير التشريع واختلافه، وهو باطل، فما أدى إليه فهو كذلك.

2 -

ما جاء من إخبارالشارع بأن أحوال هذا الوجود دائمة غير مختلفة إلى قيام الساعة، من أمثال قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} [الروم: 30]، وقوله:{سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (62)} [الأحزاب: 62]، وقوله:{سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (23)} [الفتح: 23]، وقوله:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا (43)} [فاطر: 43]، وقوله:{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)} [الإسراء: 77].

3 -

المعجزات: إِذْ لَمَّا كانت المعجزة فعلًا خارقًا للعادة، دلَّ ذلك على اطراد العادات في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي؛ ذلك أن الفعل الخارق للعادة لا يمكن أن يحصل إلّا إذا تقرر اطراد عادات الكون وسننه، إذْ لو لم تكن سنن الكون سائرة على اطراد لكانت المعجزة واحدة من الإختلالات الواقعة لتلك السنن، فلم يبق للمعجزة معنى.

ومع أن الشاطبي يرى أن سير الكون على قانون الإطراد أمر قطي غير ظني، إلَّا أنه احترز مما قد يورد عليه من طعون بالتصريح بأن ذلك إنما يجري في الكليات لا في خصوص الجزئيات، وهو احتراز مما وقع ويمكن أن يقع من معجزات وخوارق. ومع

(1) المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 213.

ص: 253

إقرار الشاطبي بأن اتحرام قانون الإطراد في الكون جائز عقلًا، إلّا أنه يرى أن ذلك الإمكان قد اندفع بالسمع القطعي الدال على امتناع الوقوع، وهو الأدلة التي سبق ذكرها. (1)

فإن قيل فكيف يكون قانون الإطراد قطعيًّا في الكليات مع الإعتراف بتخلف بعض آحاد الجزئيات في المعجزات والخوارق؟ أَلَا يكون تخلُّف تلك الجزئيات قادحًا في قطعية تلك الكليات؟ فالجواب هو عين ما أجاب به الشاطبي في التوفيق بين قطعية الكليات وإمكانية تخلف آحاد الجزئيات عنها.

وفيما يأتي أهم عناصر الحلّ الذي قدمه الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص، أو مشكلة التوفيق بين اعتبار الكلياتِ عامَّةً قطعيّةً مع إمكانية تخلّف بعض الجزئيات عنها:

1 -

تداخل القواعد الشرعية وتكاملها: (2) فهذا التداخل والتكامل بينها يجعلها تتجاذب الجزئيات الواقعة ضمن المنطقة المشتركة بينها، فيُلحَق جزئي من جزئيات إحدى الكليات بكلية أخرى، وبالعكس، وقد يُلحق الجزئي الواحد مرة بكلية، ومرة بكلية أخرى على حسب الأحوال والظروف. فإذا أخذنا مثلًا الكليات الثلاث (الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات) فإننا نجدها متداخلة ومتكاملة يخدم بعضُها بعضا، ويخصص بعضُها بعضا. فقاعدة الحاجيات قد تُعْمَل أحيانًا في الضروريات، كما هو الأمر في الرخص التي تُعدّ هادمة لعزائم الأوامر والنواهي فيما يتعلق بكثير من التكاليف الشرعية كالصوم، والصلاة، والإيمان، وغيرها؛ فمع أنها تتعلق بحفظ الدين وهو رأس الضروريات، إلّا أن إعمال قاعدة الحاجيات اقتضى الترخيص حتى تتم المحافظة في الوقت نفسه على الضروريات والحاجيات معًا. (3)

والخلاصة أن التداخل بين القواعد الشرعية الكلية وتكاملها يجعل بعضها

(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 213 - 215، 226 - 227.

(2)

انظر مثالًا لذلك عند الشاطبي تداخل وتكامل المقاصد الثلاثة: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات في المسألة الرابعة من النوع الأول من المقاصد. الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 13 وما بعدها.

(3)

انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 7 - 8.

ص: 254

خادما لبعض، ومخصصًا له، ولا يمكن اعتبار ذلك التخصيص الناتج عن التكامل طعنًا في عموم وقطعية تلك الكليات.

2 -

تخلف شرط أو وجود مانع لا يُعَدُّ خرقًا للكلي: يرى الشاطبي أن القول بأن الكليَّ ينخرم لتخلف جزئي ما صحيح على الجملة، لكن ذلك لا يكون بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي، وإنما بالنسبة إلى الأمور الخارجية، فكون جزئي من الجزئيات مَنَعَه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه هو أمر خارجي، وليس راجعًا إلى الطعن في ذات الكلي أو الجزئي، إذْ لولا ذلك المانع الخارجي لأُلْحِقَ الفرعُ بكلِّيِّه ولَمَا خرج عنه. وقد مثَّل الشاطبي لذلك بقوله:"فالإنسان مثلًا يشتمل على الحيوانية بالذات وهي التحرك بالإرادة، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض أو مانع غيره، قال صحيح في نفسه، وكون جزئي من جزئياته منعَهُ مانعٌ من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج". (1)

وهذا شبيه بما دفع به بعض الأصوليين مسألة النقض الوارد على العلل الشرعية، وهو المسمى بدفع النقض بإظهار مانع أو فوات شرط. (2)

3 -

عدم معارضة الكلي إلّا بما يماثله: فالكلي لا يُعارَضُ إلّا بكلي مثله، ولما كانت المتخلفات الجزئية من القِلَّة والشذوذ بحيث لا يمكن أن ينتظم منها كلي يعارض ذلك الكلي الثابت، فإنها لا تقدح في كونه كليًّا. (3) وربما اعتُرِض على هذا بأن تخلّف تلك الجزئيات وإن كان لا يُسْقِطُ الإستدلال بتلك الكليات على جزئياتها الأخرى، إلَّا أن القول ببقائها كليات بإطلاق غير مُسلَّم، بل إنها تنزل من مرتبة الكلي المطلق إلى مرتبة القاعدة الأغلبية أو الأكثرية. وهذا من قبيل اللفظ العام الذي يرى جمهور الأصوليين أن دلالته على ما تبقى من أفراده بعد ورود المخصص تصير ظنية. ولكن الشاطبي لا يوافق على هذا الإعتراض. (4)

(1) المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 9.

(2)

انظر في ذلك مثلًا: السبكي: الإبهاج في شرح المنهاج، ج 3، ص 71؛ والزركشي: البحر المحيط، ج 5، ص 277 - 278.

(3)

انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 41، ومج 2، ج 3، ص 194 - 195.

(4)

انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 215 - 216.

ص: 255

4 -

القطعي لا يُعارَض بالظني: لما كان المفترض في القاعدة الكلية القطع فإنها تكون غير محتملة، في حين أن قضايا الأعيان (الجزئيات) المعارضة لها محتملة، أي أنها مظنونة أو متوهمة، والمظنون لا يمكنه أن يكون معارضًا للقطعي، ومن ثَمّ لا تكون الجزئيات المتخلفة عن الكلي طاعنة فيه. (1)

وهذا إنما يستقيم على تفسير وصف الكلية بكونها القواعد الإجمالية، وتفسير العموم بالعموم العادي لا العموم الكلي التام الذي لا يتخلف عنه جزئي ما، وتفسير القطع بالقطع العادي، وأنه القطع بكون الشارع قاصدًا إلى ذلك المعنى، لا القطع بشمول تلك القاعدة لكل الجزئيات من غير شذوذ ولا استثناء.

5 -

الغالب الأكثري مُعْتَبر في الشريعة اعتبار العام القطعي (2). وهذا صحيح، لكن يعترض عليه بأن ذلك ليس من جهة اعتباره قطعيًّا كما هو الحال في العام القطعي، وإنما المراد أن الشريعة توجب العمل به لأنه ظن راجح كما توجب العمل بالقطعيات.

6 -

التفريق بين الكليات العقلية والكليات الوضعية: فتخلُّف بعض الجزئيات إنما يكون قادحًا في الكليات العقلية، أما الكليات الوضعية -مثل الكليات الشرعية والكليات اللغوية- فلا يكون تخلُّف بعض الجزئيات قادحًا فيها. (3) ولكن الشاطبي لم يبيِّن وجه الفرق بين الكليات الوضعية والكليات العقلية، حتى يكون تخلُّف بعض الجزئيات قادحًا في الثانية وغير قادح في الأولى.

7 -

الخطأ في إدراج ما ليس من الكلي تحته: وذلك بأن تكون الجزئيات التي ظهر تخلُّفها عن الكلي غير داخلة أصلًا تحت ذلك الكلي، وإنما أُدْخِلَت فيه لشدة شبهها بجزئياته، أو أنه ظهر لنا دخوطا تحت ذلك الكلي، وهي في الحقيقة داخلة تحت كلي آخر أولى بها فلذلك ألحقها الشارع به. (4)

(1) انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 194.

(2)

انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 41.

(3)

انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 41.

(4)

انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 41.

ص: 256

8 -

عدم إدراك وجه انضواء الجزئيات تحت كلياتها: وذلك بأن تكون الجزئيات التي ظهر لنا تخلُّفها عن الكلي في حقيقتها داخلة فيه، ولكن لم يظهر لنا وجه دخولها. (1)

والملاحظ من هذه الحجج أن الشاطبي يريد أن يدفع الطعن في الكليات بأي طريق كان ذلك، فهو منذ البداية يقرر أن "هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات"، (2) ثم يختم المسألة بالقول:"فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح"، (3) ويقول في موضع آخر:"إذا ثبت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال". (4)

9 -

تفسير الشاطبي لمعنى التخصيص: ومما عضد به الشاطبي عدم انتقاض كليات الشريعة وقواعدها العامة بما يرد عليها من استثناءات وتخصيصات، وما يشذّ عنها من جزئيات، موقفُه من مسألة تخصيص العام. فقد ذهب إلى إنكار وجود التخصيص بالمعنى الذي قصده جمهور الأصوليين، سواء كان التخصيص بمتَّصل أم بمنفصل، حيث رفض مفهوم التخصيص عند جمهور الأصوليين من كونه: بيانُ خروج الصيغة عن وضعها من العموم (الحقيقة) إلى الخصوص (المجاز). (5) ويرى

(1) انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 41.

(2)

انظر الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 40.

(3)

المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 41.

(4)

المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 194.

(5)

انظر في مفهوم التخصيص عند مختلف طوائف الأصوليين: الآمدي: الأحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 299 - 300. وخلاصة ما أورده الآمدي في مفهوم التخصيص ما يأتي:

1 -

مفهوم التخصيص عند أرباب العموم -وهم جمهور الأصوليين- هو "تعريفُ أن المرادَ باللفظ الموضوع للعموم حقيقةَ إنما هو الخصوص"، أو هو"صرف اللفظ عن جهة العموم إلى جهة الخصوص"(ص 300).

2 -

مفهوم الخصوص على مذهب أرباب الإشتراك، هو"تعريفُ أنّ المرادَ باللفظ الصالح للعموم والخصوص إنما هو الخصوص"، فالتخصيص ليس إخراجًا لبعض ما تناوله الخطاب عنه، وليس فيه نقلٌ لِلَّفْظِ من الحقيقة إلى المجاز، بل غايته استعمالُ اللفظ في بعض محامله دون البعض (ص 299 - 300).

3 -

مفهوم التخصيص على مذهب أرباب الوقف هو أن "اللفظ عندهم موقوف لا يُعْلَمُ كونه للخصوص أو للعموم، وهو صالح لاستعماله في كل واحد منهما. فإن تام الدليل على أنه أريد به العموم وجب حمله عليه، وامتنع إخراج شيء منه، وإن تام الدليل على أنه للخصوص لم يكن اللفظ إذ ذاك دليلًا على العموم، ولا متناولًا له، فلا يتحقق بالحمل على الخاص إخراج بعض ما تناوله اللفظ على بعض محامله الصالح لها"(ص 299).

ص: 257

الشاطبي أنه ليس فيما يُسمى تخصيصًا -سواء كان بمخصصات متّصلة أم منفصلة- إخراجٌ لأيِّ شيء مما شمله اللفظ العام، كما ليس فيه إخراج له من الحقيقة إلى المجاز وإنما "هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد"، (1) فالتخصيص عنده "بيان المقصود بالصيغ المذكورة، فإنه رَفْعٌ لتوهُّمِ دخولِ المخصوض تحت عموم الصيغة في فهم السامع، وليس بمراد الدخول تحتها، وإلاّ كان التخصيص نسخًا". (2) فاللفظ -عند الشاطبي- باقٍ على عمومه، ولكنه عموم مقيَّد بما قصده المتكلمٍ، أي أن العموم هنا مقصور على ما قصد المتكلم أن يَعُمَّه بخطابه، سواء كان عموما قياسيّا، أي من حيث الوضع اللغوي الإنفرادي للفظ، أو عمومًا استعماليّا. (3)

ويفهم من هذا أن رأي الشاطبي يشبه رأي أرباب الإشتراك في مسألة: هل للعموم في اللغة صيغة موضوعة له خاصة به تدلّ عليه أم لا؟ (4) من حيث إن العام مشترك بين الحقيقة اللغوية، والعرفية (الإستعمالية)، والشرعية، والذي يحدِّد المرادَ من هذه الثلاث بصيغة العموم هو السياق والقرائن، ومنها ما يُسمى عند الأصوليين بالمخصصات.

والخلاصة أن الفرق بين تفسير الشاطبي لما يُسمى بالتخصيص وتفسير جمهور الأصوليين له، أن التخصيص في رأي الشاطبي راجع إلى بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الإستعمال العربي أو الشرعي، أما عند جمهور الأصوليين فإنه يرجع إلى بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص، فهو يرى أن التخصيص بيانٌ لوضع اللفظ، وهم يرون أنه بيان لخروج اللفظ عن وضعه. (5)

وقد كان دافع الشاطبي إلى تبني هذا التقسيم لصيغ العموم وتفسير التخصيص هو المحافظة على قوة الإحتجاج بكليات القرآن الكريم وعموماته بالقطع بدلالتها

(1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 213.

(2)

المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 214.

(3)

انظر تفريق الشاطبي بين العموم القياسي والعموم الإستعمالي في: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 200 وما بعدها.

(4)

انظر في هذه المسألة: الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 221 وما بعدها.

(5)

انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 214.

ص: 258

على ما تشمله، (1) وإذا تحقق هذا لكليات القرآن الكريم وعموماته فسيتحقق للكليات والتعميمات الإستقرائية؛ لأن الاستقراء مما يثبت به العموم عنده.

10 -

عدم تخصيص الرخص للعزائم: ومما عضد به ذلك أيضًا ما ذهب إليه من أن العمومات- التي هي عزائم- إِذَا رُفِعَ الإثمُ عن المخالف فيها لعذر من الأعذار لم يعدّ ذلك تخصيصًا طا، بمعنى أن الرُّخص لا تُعَدُّ طعنًا ولا نقضًا لعموم العزائم، فأحكام تلك العزائم متوجهة على عمومها من غير تخصيص، (2) أي أن تخلف بعض الجزئيات لعذر (وهو شبيه بتخلف بعض الجزئيات عن التعميم الإستقرائي لمانع) لا يُعَدُّ خرقًا لعموم العام، سواء كان العموم ناتجًا عن عموم لفظي أو استقرائي، إذ العموم -عند الشاطبي- يثبت بكلا الطريقين. (3)

والخلاصة أن القانون الذي يحكم علاقة الكليات بالجزئيات عند الشاطبي، هو أن تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إذا كان لعارض أو مانع فإنه لا يكون قادحًا في ذلك الكلي؛ لأنه راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى، أما إذا لم يكن لعارض أو مانع فإنه لا يصح شرعًا، ويكون تخلُّفه قادحًا في ذلك الكلي. (4)

(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 215 - 216.

(2)

انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 218.

(3)

انظر المصدر السابق، مج 2، ج 3، ص 221.

(4)

انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 49.

ص: 259