الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
استقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة
من المعلوم أن العلة قد تكون هي الحِكْمة ذاتها، وذلك في حال كون الحِكْمة وصفًا ظاهرًا منضبطا، وقد تكون مظنتها، وذلك في حال كون الحِكْمة غير ظاهرة، أو غير منضبطة، فيقام مقامها وصف ظاهر منضبط يكون مظنة وجودها ويعتبر هو العلة. ومن المقرر عند الأصوليين أن العللَ ضابطةٌ لحِكَم قصدها الشارع، وقد تكون تلك الحِكَم ظاهرة متحققة، أو خفية مظنونة التحقق. وعلى ذلك قد تتعدد علل مجموعة من الأحكام، لكن الحِكْمة منها جميعًا واحدة. ويكون الاستقراء هنا لمجموعة من علل الأحكام المختلفة، لكن المستقرئ يلاحظ وجود حِكْمة مشتركة تدور حولها جميع تلك العلل، فيخلص من ذلك إلى أن هذه الحِكْمة مقصودة للشارع.
وسيكون المثال التطبيقي لهذا النوع من الاستقراء هو تحديد موقف الشارع من الغرر في المعاملات، حيث سيتم استقراء جملة المعاملات التي نهى عنها الشارع لعلل مختلفة، ولكن عند التأمل نجد أن كل تلك العلل تجمعها حكمة واحدة، هي رفع الغرر وإبطاله في التعامل بين الناس. وسيتم الاستقراء على المستويات الآتية:
1 -
تحديد موقف الشارع من الغرر في صيغة العقد.
2 -
تحديد موقف الشارع من الغرر في محل العقد.
3 -
تحديد موقف الشارع من الغرر من خلال النصوص الواردة في إبطال الغرر عمومًا.
وقبل الشروع في عملية الاستقراء ينبغي بداية تحديد مفهوم الغرر الذي ستشمله عملية الاستقراء.
تعريف الغرر:
الغرر لغة: الخطر أو الوقوع في الهلاك، والتغرير: حمل النفس على الغرر، يقال:
غرَّر بنفسه وماله تغريراً وتَغِرَّة: عرضهما للهلكة من غير أن يعرف، والإسم الغرر (1)
أما اصطلاحاً: فهو"بيع ما لا يعلم حصوله، أو لا يقدر على تسليمه، أو لا يعرف حقيقة مقداره". (2)
والغرر مراتب: فمنه الغرر اليسير الذي يُتَسامح في مثله عادة، وهو الغرر الذي لا تكاد تخلو منه معاملة عادة، وهناك الغرر الفاحش الذي يضر بمصلحة أحد المتعاقدين أوكلميهما، وهو الذي لا يُتَسامح في مثله عادة، وهناك مراتب بين هذين الطرفين قد يختلف العلماء في إلحاق كل منها بالطرف الأول (المعفو عنه)، أو بالطرف الثاني (الذي جاء الشارع بإبطاله). والغرر المعنيّ بالاستقراء هنا هو الغرر الفاحش، وما أُلحِق به.
أولاً - الغرر في صيغة العقد،
المراد بالغرر في صيغة العقد أن ينعقد العقد على صفة تجعل فيه غرراً، أي أن الغرر يتصل بنفس العقد لا بمحله. ويتضمن الغرر في صيغة العقد خمسة أنواع: بيعتان في بيعة، بيع العربان، بيع الحصاة، بيع الملامسة، بيع المنابذة.
1 -
بيعتان في بيعة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نَهى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ"(3)
وقد اتفق الفقهاء جميعاً على القول بموجَب أحاديث النهي عن بيعتين في بيعة، فمنعوا أن يبيع الشخص بيعتين في بيعة لما في ذلك من غرر ولكنهم اختلفوا في تفسير الصور التي يطلق عليها هذا الإسم والتي لا يطلق عليها. (4)
(1) ابن منظور: لسان العرب، ج 5، ص 11 وما بعدها.
(2)
ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدي خير العباد، (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 15، 1987 م)، ج 5، ص 818.
(3)
رواه الترمذي: سنن الترمذي، كتاب البيوع، باب (18): ج 3، ص 533.
(4)
انظر تفصيل المسألة في ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 115. فالبعض يرى أن معناها أن يقول البائع: بعتك هذه السلعة بعشرة نقداً، وبخمسة عشر إلى سنة، فيقول المشتري: قبلت من غير أن يعين بأي ثمن اشترى. وقال البعض معناها أن يبيع الرجل سلعة لآخر على أن يبيعه الآخر سلعة أخرى، كأن يقول له: بعتك هذه الدار بألف على أن تبيعني سيارتك هذه بخمسمائة. وقال البعض الآخر معناها أن يتناول عقد البيع بيعتين على إلَّا تتم منهما إلَّا واحدة مع لزوم العقد.
2 -
بيع العربان:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عَنْ بَيْعِ العرْبَانِ". (1)
3 -
بيع الحصاة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ"(2)
4 -
بيع الملامسة:
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَهَى عَنْ بَيْعِ المُلَامَسَةِ والمُنَابَذَةِ". (3)
(1) البيهقي: السنن الكبري، 5 ج، ص 342. والحديث ضعيف لأنه لا يسلم طريق من الطرق التي روي بها؛ فرواية الإمام مالك في سندها انقطاع، وروايتي ابن ماجة والدارقطني في سنديهما ضعفاء، ولذلك لم ياخذ به بعض الفقهاء، ومنهم الإمام أحمد. أما الجمهور الذين أخذوا به فعلى أساس أنه ورد من طرق عديدة، وأن تلك الطرق وإن كان كل منها فيه ضعف، إلَّا أنها يقوي بعضُها بعضا. انظر الشوكاني،: نيل الأوطار، ج 6، ص 236 - 237.
وبيع العربان أو العربون هو أن يشتري الرجل السلعة ويدفع إلى البائع مبلغا من المال، على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوبا من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. انظر ابن قدامة: المغني، ج 4، ص 256؛ والرملي: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، (بيروت: المكتبة الإسلامية، د. ط، د. ت)، ج 3، ص 459.
وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فمنعه المالكية والحنفية والشافعية وهو قول جمهور الفقهاء. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 122، والرملي: نهاية المحتاج، ج 3، ص 459؛ وأبو الوليد الباجي: المنتقى شرح الموطأ، (مصر: مطبعة السعادة، ط 1، 1331 هـ)، ج 4، ص 142. وأجازه الإمام أحمد. وروي عن جماعة من التابعين أنهم أجازوه منهم: مجاهد، وابن سيرين، ونافع بن الحارث، وزيد بن أسلم. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 122؛ وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 257.
(2)
رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (2)، ج 3، ص 1153. ولبيع الحصاة معنيان: الأول: أن يقول البائع للمشتري إذا وقعت الحصاة من يدي فقد وجب البيع فيما بيني وبينك. والثاني: أن يقول المشتري: أي ثوب وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 111. وقد اتفق الفقهاء على العمل بموجَب الحديث المتقدم فمنعوا بيع الحصاة لما فيه من غرر فاحش. انظر ابن قدامة: المغني، ج 4، ص 229.
(3)
رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (1)، ج 3، ص 1151. ولبيع الملامسة ثلاثة معان:
1 -
أن يشتري المشتري الثوب باللمس فقط ولا ينظر إليه.
2 -
أن يلمس الثوب بيده ولا ينشره ولا يقلبه، فإذا مسه فقد وجب البيع.
3 -
أن يتبايع القوم السلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها. وهذا البيع مجمَع على تحريمه وفساده لما فيه من غرر فاحش. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 111، والضرير، الصديق محمد الأمين: الغرر وأثره في العقود في الفقه الإِسلامي، (الخرطوم: الدار السودانية للكتب، 1990 م)، ص 129 - 135.
5 -
بيع المنابذة:
عن أبي سعيد الخدري قال: "
…
نَهَى (رسول الله صلى الله عليه وسلم) عَنْ المُلَامَسَةِ والمُنَابَذَةِ فَي البَيْعِ
…
والمنابذة (1) أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه، وينبذ الآخر إليه بثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض". (2)
قال الشوكاني: "والعلة في النهي عن الملامسة والمنابذة الغرر والجهالة وإبطال خيار المجلس". (3)
ثانيا - الغرر في محل العقد:
محل العقد أو المعقود عليه هو ما يثبت فيه أثر العقد وحكمه، والمعقود عليه يُطْلَق على ما يشمل البدلين في عقود المعاوضات. وأهم صور الجهالة في محل العقد هي: الجهل بذات المحل، والجهل بجنس المحل، والجهل بمقدار المحل، والجهل بالأجل، وعدم القدرة على تسليم المحل.
1 -
الجهل بجنس المحل:
جهالة جنس المحل هي أفحش أنواع الجهالات، لأنها تتضمن جهالة الذات والنوع والصفة؛ ولذا اتفق الفقهاء على أن العلم بجنس المبيع شرط لصحة البيع، فلا يصح بيع مجهول الجنس لما في ذلك من الغرر الكثير (4)
(1) ذكر الفقهاء لبيع المنابذه ثلاثة معان:
1 -
طرح الرجل ثوبه بالبغ إلى الرجل فبل أن يقلبه أو بنظر فيه.
2 -
أن ينبذ كل واحد من المتبايعين ثوبه إلى الآخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه.
3 -
أن يقول: إذا نبذت إليك الشيء فقد وجب البيع بيني وبينك. انظر ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 111؛ ود. صديق محمد الأمين: الغرر وأثره في العقود، ص: 129 - 135. وقد اتفق الفقهاء على منعه لما فيه من غرر فاحش ولورود النهي عنه في الحديث الصحيح. انظر ابن قدامة: المغني، ج 4، ص 207.
(2)
رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (1)، ج 3، ص 1152.
(3)
الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 234.
(4)
انظر الشيرازي، إبراهيم بن علي: المهذب، (بيروت: دار الفكر، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 270.
2 -
الجهل بذات المحل:
من أنواع الغرر الممنوع في البيع ما يرجع إلى الجهل بذات المبيع؛ وذلك أن المبيع إذا؛ ن مجهول الذات، وإن معلوم الجنس، حصل النزاع في تعيينه. وهذا إنما يتأتى في الأشياء المتفاوتة إذا بِيعَ واحدٌ منها من غير تعيين لذاته كبيع شاة من قطيع. (1)
وهذا النوع من البيع فاسد عند فقهاء المذاهب الأربعة لا يترتب عليه أثره بسبب الغرر الفاحش فيه. (2)
3 -
الجهل بمقدار المحل:
القاعدة العامة أن المحل المشار إليه، مبيعاً كان أو ثمناً، لا يحتاج إلى معرفة قدره، فلو قال: بعتك هذه الثياب بهذه الدراهم التي في يدك، وهي مرئية له، فقبل جاز ولزم البيع مع كون الشياب والدراهم مجهولة القدر؛ لأن الإشارة كافية في وجود العلم المنافي للجهالة المفضية إلى المنازعة، أما المحل غير المشار إليه فالعلم بمقداره شرط لصحة البيع، فلا يصح بيع مجهول القدر ولا البيع بثمن مجهول القدر باتفاق المذاهب الأربعة (3)
4 -
الجهل بالأجل:
لا خلاف بين الفقهاء في اشتراط العلم بالأجل في البيع المؤجل ثمنه، وفي أن الجهل بالأجل من الغرر الفاحش الممنوع في البيع، وإن اختلفوا في بعض جزئيات الجهالة. (4)
(1) ابن رشد: بداية المجتهد، ج 2، ص 111.
(2)
انظر الكاساني: بدائع الصنائع، ج 5، ص 156؛ والشيرازي: المهذب، ج 1، ص 270؛ وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 131.
(3)
انظر القرافي؛ الفروق، ج 3، ص 265؛ والشيرازي: المهذب، ج 1، ص 271 - 272؛ والكاساني: بدائع الصنائع، ج 5، ص 158، 178.
(4)
انظر الشيرازي: المهذب، ج 1، ص 273؛ والقرافي: الفروق، ج 3، ص 265 - 266؛ وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 290، وابن حزم: المحلى، (بيروت: دار الآفاق الجديد، د. ط، د. ت)، ج 8، ص 444.
5 -
عدم القدرة على تسليم المحل:
اتفق جمهورالفقهاء على أن القدرة على قسليم المحل شرط في البيع، فلا يصح بيع ما لا يقدر على قسليمه كالبعير الشارد الذي لا يعلم مكانه (1)، وخالف الظاهرية الجمهور فلم يشترطوا القدرة على التسليم لصحة البيع. (2)
بعد بيان أهم صور الجهالة في محل العقد التي تكون عرضة للغرر الفاحش، يأتي استعراض أهمّ المعاملات التي أبطلها الشارع بسبب علّة أو أكثر من العلل الداخلة تحت مُسمَّى الغرر في محل العقد.
1 -
النهي عن المزابنة (3) في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن مسألة عن بيع التمر بالرطب: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذاَ جَفَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا إِذَنْ". (4) والعلة مما الجهل بمقدار أَحَد العوضين، وهو الرطب منهما المبيع باليابس. (5)
3 -
النهي عن بيع الثنيا: فني حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عَن المُحَاقَلَةِ، (6) والمُزَابَنَةِ، (7) والمُخَابَرَةِ، (8) وعَنِ الثّنْيَا إِلّا أَنْ تعلَمَ". (9) والثنيا المراد بها الإستثناء في البيع، وذلك أن يبيع الرجل شيئاً ويستثني بعضَه، ويكون ذلك البعض
(1) انظر الباجي: المنتقى، ج 5، ص 41؛ والشيرازي: المهذب، ج 1، 270؛ وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 222.
(2)
انظر ابن حزم: المحلى، ج 8، ص 388.
(3)
اختلف الفقهاء في تفسير المزابنة وخلاصة ذلك أنها: بيع معلوم القدر بمجهول القدر من جنسه، أو بيع مجهول القدر بمجهول القدر من جنسه، كبيع الرطب على النخل بتمر مجذوذ عُلِم مقدار أحدهما أم لم يُعلم. انظر الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 263، 289.
(4)
رواه مالك بن أنس: الموطأ، كتاب البيوع، باب:"ما يكره من بيع الثمر"، ج 2، ص 429.
(5)
انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 125.
(6)
المحاقلة لغة: بيع الزرع في سنبله بالبُر. الرازي: مختار الصحاح، ص 62. واصطلاحاً هي: بيع الحب في سنبله بجنسه خرصاً. وقيل المحاقلة كراء الأرض. انظر الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية، ج 9، ص 138.
(7)
المزابنة في اللغة مأخوذة من "الزبن" وهو الدفع. انظر الرازي: مختار الصحاح، ص 113. وفي الإصطلاح هي: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر الجذوذ. انظر الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقات الكويتية، ج 9، ص 139.
(8)
المخابرة هي المزارعة ببعض الخراج من الأرض. انظر الرازي: مختار الصحاح، ص 71.
(9)
رواه النسائي: سنن النسائي، كتاب البيوع، باب (74)، ج 7، ص 296.
مجهول القدر (1)، فيصير المبيع غير معلوم، وتكون علة النهي هنا هي الجهل بمقدار محل البيع.
3 -
عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد قال: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ شِرَاءَ مَا فِي بُطُونِ الأَنْعَامَ حَتّى تَضَعَ
…
وعَنْ شِراء العَبْدِ وهُو آبِق، وعَنْ شِرَاء المَغَانِمِ حَتّى تُقسّم، وعَنْ شِرَى الصَّدَقَاتِ حَتّى تُقْبَضَ، وعَنْ ضرْبَةِ الغَائِصِ (2) " (3) والعلّة في كل هذا عدم القدرة على التسليم.
4 -
النهي عن بيع حبل الحبلة: فعن ابن عمر قال: "نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة". (4) والنهي عن بيع حبل الحبلة لا تخرج علّته -على كل التفسيرات التي ذكرها العلماء له- (5) عن جهالة الأجل، أو لكونه معدوماً ومجهولاً وغير مقدور على تسليمه. (6)
5 -
النهي عن أن يبيع الإنسان ما ليس عنده: فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلّ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، ولَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمن". (7) والمراد بما ليس عندك ما ليس في مِلْكِكَ وقدرتك. (8) وعلة إبطاله عدم القدرة على التسليم.
6 -
النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها: وقد وردت فيه أحاديث كثيرة، منها ما رواه أنس بن مالك: "أَنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَة حَتّى تُزهِيَ، قَالُوا: مَا تُزهِي؟
(1) انظر الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 234.
(2)
الغائص والغوَّاص من يغوص في البحر لإستخراج اللؤلؤ. الرازي: نحتار الصحاح، ص 202. وضربة الغائص هي أن يقول البائع: أغوص غوصة فما أخرجته من اللآلئ فهو لك بكذا. انظر الموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف الكويتية، ج 9، ص 160.
(3)
رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب التجارات، باب (24)، ج 2، ص 1، الحديث (2196).
(4)
رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (3)، ج 3، ص 1153، الحديث (1514).
(5)
انظر اختلاف العلماء في تفسير المراد بحبل الحبلة في: الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 230 - 231.
(6)
انظر المصدر السابق، ج 6، ص 231.
(7)
رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب التجارات، باب (20)، ج 2، ص 13، الحديث (2188).
(8)
انظر الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 239.
قَال: تَحْمَرّ فَقَالَ: إِذاَ مَنَعَ الله الثَّمَرَةَ فَبِمَ تَسْتَحِلّ مَالَ أَخِيكَ". (1) وعلة النهي هنا هي احتمال فساد الثمار قبل النضج، وفي ذلك ما فيه من الغرر، إذْ يرجع البائع بالثمن كاملاً، ويذهب المشتري بلا شيء.
7 -
النهي عن بيع عسب الفحل: فعن جابر رضي الله عنه قال: "نَهَي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الجَمَلِ"(2)
قال الشوكاني في بيان علّة هذا النهي: "وأحاديث الباب تدل على أن بيع ماء الفحل وإجارته حرام لأنه غير متقوم، ولا معلوم، ولا مقدور على تسليمه، وإليه ذهب الجمهور". (3)
8 -
تقييد السَّلَم بما يرفع عنه الغرر: عقد السلم من العقود التي تعارف عليها العرب قبل مجيء الإِسلام. وقد أقره الإِسلام، لكنه أدخل عليه بعض التعديلات دفعاً لما فيه من غرر وذلك بتحديد مواصفات المُسْلَم فيه، وتحديد مقداره، وأجلِ السَّلّم. فعن ابن عباس أنه قال:"قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: "مَنْ أَسْلَفَ فَي تَمرِ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ معلُومٍ، وَوَزْن مَعلُومٍ، إِلى أَجَلٍ مَعلُومٍ" (4)
9 -
وجوب بيان العيوب التي بالمبيع: وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه عقبة بن عامر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوله: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعاً وَفَيهِ عَيْبٌ إِلّا بيَّنَهُ لَهُ". (5)
10 -
إبطال التصرية: وقد وردت في ذلك أحاديث منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُصَرّاةً (6) فَهُوَ بِخَيْر النَّظَرَيْنِ: إِنْ شَاءَ أَمسَكَهَا، وَإِنْ
(1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب (3)، ج 3، ص 1190، الحديث (1554)(15).
(2)
رواه النسائي: سنن النسائي، كتاب البيوع، باب (94)، ج 7، ص 310.
(3)
الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 229.
(4)
رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب (25)، ج 3، ص 1226 - 1227، الحديث (1604).
(5)
رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب التجارات، باب (45)، ج 2، ص 24، الحديث (2246).
(6)
يقال: "صرَّى" الشاة "تصرية" إذا لم يحلبها أياماً حتى يجتمع اللبن في ضرعها. الرازي: مختار الصحاح، ص 152.
شَاءَ رَدّهَا وَصَاعاً مِنْ تَمْرٍ" (1) وعلة التحريم هنا ما في التصرية من تغرير بالمشتري بإظهار كون الشاة (أو الناقة أو البقرة) حَلُوباً، وهي في واقع الأمر ليس كذلك.
11 -
جواز الرّدّ بالعيب: ومن الأدلة على ذلك ما روي عن سمرة بن جندب: "أن رجلاً اشترى عبداً فاستغلّه، ثم وجد به عيباً فردّه، فقال: يا رسول الله إنه قد استغلّ غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ". (2) وعلّة جواز الردّ هنا ما كان من البائع من تغرير بالمشتري بعدم بيان العيب الذي في المبيع.
13 -
إباحة القيام بالغبن: ويجمع ما سبق في إبطال الغرر في المعاملات حديث ابن عمر قال: "ذَكَرَ رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يُخدع في البيوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خَلَابَةَ". (3) وقد اختلف العلماء في جواز شرط الرّدّ بالغبن، بناءً
على اختلافهم في هذه الحادثة هل هي خاصة بهذا الصحابي، أم عامة؟ (4)
ثالثاً - النصوص الواردة في الغرر في القرآن الكريم والسنة النبوية:
لم تَرِدْ في القرآن الكريم نصوص خاصة في حُكْم الغرر أو في حُكْم جزئية من جزئياته، بل وردت نصوص عامة تدخل تحتها جميع الأحكام الجزئية التي ذكرها الفقهاء في الغرر المنهي عنه، وهي الآيات التي تنهي عن أكل أموال الناس بالباطل، ومنها:
- قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء: 29].
- وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29].
والغرر بكل جزئياته وتفاصيله -من غير شكّ- داخل تحت أَكْل أموال الناس
(1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (7)، ج 3، ص 1158، الحديث (1524)(26).
(2)
رواه ابن ماجة: سنن ابن ماجة، أبواب التجارات، باب (43)، ج 2، ص 23، (2243).
(3)
رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (12)، ج 3، ص 116، الحديث (1533). والرجل قيل هو حبان بن منقذ، وقيل بل هو منقذ والد حبان، ومعنى لا خلابة، أي لا خديعة. انظر الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 271.
(4)
انظر تفصيل ذلك في الشوكاني: نيل الأوطار، ج 6، ص 271 - 272.
بالباطل فيكون منهيّاً عنه.
أها في السنّة المطهرة فقد وردت أحاديث كثيرة تنهي عن الغرر بوصف عام وما اشتمل عليه من معاملات، منها:
1 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الغَرَرِ"(1)
2 -
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "نَهَى رُسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ"(2)
3 -
عن ابن عمر- رضي الله عنهما: "نَهَى رُسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ"(3)
4 -
عن سعيد بن المسيب: "أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ"(4)
نتيجة الاستقراء:
من خلال بها تَمَّ استقراؤه من المعاملات التي أبطلها الشارع لِعِلَلٍ مختلفة تشترك كلمها في عنصر واحد، هو منع الغرر، وكذلك النصوص التي وردت في النهي عن الغرر يمكن الخلوص إلى أن الغرر واحد من أهم مفسدات العقود، ذلك أن العقود شُرِعت لتحقيق مصالح الناس وتلبية حاجاتهم، فإذا أقدم شخص على عَقْدٍ فإنما ذلك لحاجة إلى المعقود عليه، وحاجات الناس تختلف من شخص لآخر، فإذا قصد شخص عقداً فإنما يقصد من المعقود عليه بها تتوافر فيه المواصفات والشروط التي تُلبِّي رغبته وتسدّ حاجته، وذلك يقتضي أن يكون المعقود عليه واضحاً تمام الوضوح للعاقد، ومأمون الحصول له، وأن تكون صيغة العقد سليمة وواضحة تفي بالغرض وتمنع التنازع. فإذا دخل الغرر صيغة العقد أو محلّه لم يَعُد العاقد على بيِّنةٍ من أمره فيما هو مقبل عليه مما قد يؤدي إلى إلى الإضرار به وغبنه، أو إلى حدوث نزاع بين العاقدين. وبناءً على ذلك يمكن الجزم بأن من مقاصد الشارع رفع الغرر وإبطاله، في معاملة اشتملت على غرر فاحش، أي غير معفوٍّ عنه، فهي معاملة
باطلة في حُكْم الشرع.
(1) رواه مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب (2)، ج 3، ص 1153، الحديث (1513).
(2)
رواه ابن ماجه: سنن ابن ماجة، كتاب التجارات، باب (23)، ج 2، ص 14 - 15، الحديث (2195).
(3)
رواه البيهقي: السنن الكبرى، ج 5، ص 338.
(4)
رواه البيهقي: السنن الكبرى، ج 5، ص 338.