المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الرابعسياق الخطاب - طرق الكشف عن مقاصد الشارع

[نعمان جغيم]

فهرس الكتاب

- ‌شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌البَابُ الأَوّلاستخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها

- ‌الفصل الأولتعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها

- ‌المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها

- ‌المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الثانيأقسام المقاصد الشرعية

- ‌المبحث الثانيفائدة العلم بمقاصد الشارع

- ‌تمهيدبين أصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌الفصل الثانياستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌تمهيدطرق إفادة الكلام

- ‌المبحث الأولاستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية لإستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية

- ‌النموذج الأول: استخلاص المقاصد من النص والظاهر:

- ‌النموذج الثاني: دلالة الأمر والنهي:

- ‌النموذج الثالثدلالة العام

- ‌الفصل الثالثوظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌تمهيدطبيعة النص الشرعي ومستويات فهمه

- ‌المبحث الأولالعناصر التي تتحكم في فهم الخطاب

- ‌المطلب الأوللغة الخطاب

- ‌المطلب الثانيالمخاطِب (المتكلّم)

- ‌المطلب الثالثالمخاطَب (السامع)

- ‌المطلب الرابعسياق الخطاب

- ‌نماذج تطبيقية

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌المطلب الأولأهمية القرائن في تحديد المقصود من الأوامر والنواهي

- ‌المطلب الثانيأهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

- ‌المطلب الثالثتخصيص الخطاب الشرعي بعادات المخاطَبين وأعرافهم

- ‌المطلب الرابعتخصيص العام بقول الصحابي

- ‌المطلب الخامسأهمية السياق في تحديد المقصود من النص

- ‌الفصل الرابعاستخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولتعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الأولالتعليل بين القائلين به والرافضين له

- ‌المطلب الثانيتعليل العبادات

- ‌المبحث الثانيمسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع

- ‌الفَصْلُ الخَامَسِسكوت الشارع ودلالته على مقاصده

- ‌المبحث الأولأنواع سكوت الشارع

- ‌المبحث الثانيالفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات

- ‌المبحث الثالثعلاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو

- ‌المبحث الرابعهل السكوت عن النقل نقل للسكوت (هل ترك النقل ينزل منزلة نقل الترك)

- ‌البَابُ الثَّانياستخلاص المقاصد من طريق الاستقراء

- ‌الفَصْلُ الأَوّلمفهوم الاستقراء وأنواعه

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولمفهوم الاستقراء

- ‌المبحث الثانيأنواع الاستقراء

- ‌أولًا: الاستقراء التام

- ‌ثانيًا: الاستقراء الناقص:

- ‌الفَصْل الثَّانِيالاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية

- ‌المبحث الأولالاستقراء في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثانيالاستقراء في العلوم الشرعية

- ‌المطلب الأولالاستقراء عند الأصوليين

- ‌المطلب الثانيتطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين

- ‌الفَصْلِ الثَّالِثالاستقراء عند الإمام الشاطبي

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولتعريف الاستقراء عند الشاطبي وبيان الأساس الذي يقوم عليه

- ‌المبحث الثانيالاستقراء عند الإمام الشاطبي بين القطع والظن

- ‌المبحث الثالثحَلُّ الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

- ‌المبحث الرابعمجالات استخدام الشاطبي للإستقراء

- ‌الفَصْلُ الرَّابعِالاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولالاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيمجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

- ‌الفَصْل الخَامِسْدراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي

- ‌المبحث الأولالفرق بين الاستقراء العلمى والاستقراء في العلوم الإنسانية

- ‌المبحث الثانيإمكانية تحقيق الاستقراء وجدواه

- ‌المبحث الثالثنتيجة الاستقراء بين اليقين والظن

- ‌المبحث الرابعحل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُدراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولاستقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة

- ‌المبحث الثانياستقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة

- ‌المبحث الثالثاستقراء مجموعة من النصوص الشرعية المشتركة في معنى واحد

- ‌الترغيب في التيسير على العموم:

- ‌العفو عن أهل الكتاب:

- ‌الأمر بالتيسير على ذوي الحاجات والأعذار في الصلاة:

- ‌الترغيب في أن يكون الإنسان سمحاً في معاملاته:

- ‌كفارة اليمين:

- ‌كفارة قتل الصيد في الحرم:

- ‌كفارة القتل الخطأ:

- ‌كفارة الظِّهار:

- ‌التيسير في المعاملات:

- ‌1 - شرع الشُّفْعة:

- ‌2 - الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب

- ‌3 - شرع السَّلم:

- ‌4 - الترخيص في العرايا

- ‌5 - شرع القرض:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر

الفصل: ‌المطلب الرابعسياق الخطاب

‌المطلب الرابع

سياق الخطاب

وهو على نوعين:

1 -

السياق اللغوي، أي الجمل المكوِّنة والسابقة واللاحقة لنص الخطاب المرادُ تفسيره واستخلاصُ المقصود منه. فالنص القرآني أو الحديث النبوي لا يمكن -عادةً- أخذه مبتورًا عن النصوص الأخرى، سواء النصوص الواردة في السياق اللغوي بمعناه الخاص، أي الجمل السابقة واللاحقة له، أو بمعناه العام، أي النصوص الأخرى التي لها علاقة ما بهذا النص مع ورودها في مواضع وأزمنة مختلفة عما ورد فيه ذلك النص، حيث يكون استحضار تلك النصوص معينًا على فهم هذا النص، إِمَّا لكونها مُبَيِّنَةً له، أو مكمِّلة لمعناه، أو مخصِّصة لعمومه، أو مقيِّدة لإطلاقه.

2 -

السياق الإجتماعي، وهو الذي يسمى بالمقام، وتدخل فيه أسباب النزول، وأسباب ورود الحديث، والظروف النفسية والإجتماعية السائدة وقت ورود النص الشرعي.

أولاً - القرائن المقالية (السياق اللغوي) وأهميتها في فهم المقصود من الخطاب القرائن المقالية:

هي القرائن التي يتضمنها الكلام، أي تؤخذ من مبني الخطاب والعلاقات بين ألفاظه، ويمكن أن تكون قرائن داخلية، أي متضمَّنة في نفس الخطاب، أو تكون خارجية، أي واردة في نص آخر مستقل. والقرائن التي يتضمنها مبني النص نفسه على نوعين: معنوية ولفظية.

أ - القرائن المعنوية: وهي العلاقات السياقية بين كلمات الجملة سواء منها

ص: 92

الجملة الإسمية أو الجملة الفعلية، مثل الإسناد، (1) والتخصيص، (2) والنسبة، (3) والتبعية، (4) والمخالفة. (5)

ب - القرائن اللفظية: وهي المتعلقة بحالة اللفظ نفسه، مثل: العلامة الإعرابية، (6) والرتبة، (7)

(1) الإسناد هو القرينة التي تميَّز المسند من المسند إليه، وتمييز المسند من المسند إليه يوصلنا إلى تحديد موقع كل كلمة، ومن ثَمّ المقصود منها. وأبرز أمثلة علاقة الإسناد: علاقة المبتدأ بالخبر، والفعل بفاعله، والفعل بنائب فاعله، وغيرها. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 191 - 194.

(2)

التخصيص قرينة سياقية واسعة تشتمل على قيود مضروبة على علاقة الإسناد، حيث يُعبَّر بكل واحدة منها عن جهة خاصة في فهم معنى الحديث الذي يشير إليه الفعل أو الصفة. وأبرز القرائن التي تدخل تحت قرينة التخصيص: التعدية، والغائية، والمعية، والظرفية، والتحديد، والتوكيد، والملابسة، والتفسير، والإخراج. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 194 - 195.

(3)

النسبة: "قيد عام على علاقة الإسناد، أو ما وقع في نطاقها أيضا، وهذا القيد يجعل علاقة الإسناد نسبية"، والفرق بين التخصيص والنسبة أن التخصيص تضييق، أما النسبة فهي إلحاق. والنسبة -مثل التخصيص- قرينة عامة تنضوي تحتها مجموعة كبيرة من القرائن المعنوية، منها: ابتداء الغاية، انتهاء الغاية، البعضية، التعليل، المجاوزة، المصاحبة، الإلصاق، التشبيه، الملك، العندية، الزيادة، وغيرها. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 201 - 203.

(4)

التبعية: "قرينة معنوية عامة يندرج تحتها أربع قرائن هي: النعت، والعطف، والتوكيد، والإبدال". تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 201 - 203.

(5)

المخالفة: "هي مظهر من مظاهر تطبيق القيم الخلافية بجعلها قرائن معنوية على الإعرابات المختلفة". ومثال ذلك التفريق بين موقع كلمة "العرب" في الجملتين الآتيتين: نحن العربُ نكرم الضيف ونغيث الملهوف، نحن العربَ نكرم الضيف ونغيث الملهوف، فكلمة "العرب" في الجملة الأولى خبر المبتدأ، وما بعدها جملة استئنافية، أما في الجملة الثانية فهي مختص، وما بعدها خبر. ويرى الدكتور تمام حسان أن نصبها في الكلمة الثانية لا يحتاج إلى تقدير فعل محذوف "أخص، أو أعني"، وإنما نصبها في الجملة الثانية يرجع إلى مراعاة القيمة الخلافية التي هي المقابلة بين المخصوص والخبر الواقع بعد مبتدأ مشابه لما قبل الإسم المنصوب هنا. تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 200.

(6)

العلامة الإعرابية إما أن تكون حركة، وهي: الفتحة، والضمة، والكسرة، والسكون، أو حرفًا، وهي: الواو، والياء، والألف، أو حذفًا، أي حذف حرف العلة. وقد تكون ظاهرة، أو مقدرة. وهذه القرينة تعين على تحديد الموقع الإعرابي للكلمة الذي يساعد على تحديد المعنى المراد منها. انظر عباس حسن: النحو الوافي، ج 1، ص 102 - 105.

(7)

الرتبة: هي موقع الكلمة في الجملة بالنسبة إلى ما يتعلق بها من كلمات من حيث التقديم والتأخير، وهي على نوعين: رتبة محفوظة، أي لا تتغير، مثل تقدم الموصول على الصلة، والموصوف على الصفة، وتأخر التوكيد عن المؤكد، والبدل عن المبدل، وصدارة الأدوات في أساليب الشرط والاستفهام، ونحوها، ورتبة غير محفوظة، وهي التي تتغير بحسب الأحوال، مثل رتبة المبتدأ والخبر، فالأصل في المبتدأ التقدم، لكنه قد يتأخر أحيانًا، وكذلك رتبة الفاعل والمفعول به، ورتبة الفعل والمفعول به

إلخ. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 207.

ص: 93

والصيغة، (1) والمطابقة، (2) والربط. (3) وهذه القرائن كلها بتضامَّها مع القرائن المعنوية تسهم في تحديد معنى المقال للنص.

ووظيفة القرائن المقالية (اللفظية والمعنوية) هي تحديد المعنى النحوي للكلمات، فهي المسؤولة عن وضوح المعنى وأمن اللبس الذي قد ينتج عن تعدّد المعنى الوظيفي للكلمات. وتحديد المعنى النحوي ينتج عنه تحديد "معنى المقال"، أي المعنى اللغوي المجرد للنص، ثُمّ يُعرض هذا المعنى اللغوي على المقام الذي ورد فيه الخطاب ليتبيّن بعد ذلك هل هذا المعنى اللغوي (ظاهر النص) هو المقصود، أم أن المقصودَ غيره، حيث تؤدي القرائن الحالية والسياق العام للنص الوظيفة الأساسية في تحديد المقصود منه. فالقرائن المقالية تحدَّد المعنى النحوي (المعنى اللغوي) للكلمات، ولكن هذا المعنى مع تحديده من قِبَل القرائن المقالية قد يبقى فيه احتمالُ أكثرَ من معنى، أو بتعبير آخر يبقى النص صالحًا لأن يُستعمل في أكثر من معنى، فتأتي القرائن الحالية لتعيننا على تحديد المراد منه: هل هو كلّ المعاني التي يصلح لها؟ أم أنه مخصوص بمعنى من المعاني التي يحددها المقام؟ ولذلك يعرِّف ابن قيم الجوزية الفقه بأنه: "فهم مراد المتكلّم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم". (4)

(1) مبني الصيغة هو الذي يحدد نوع الكلمة: هل هي فعل، أم اسم، أم حرف؛ إذ لكل نوع صيغته الخاصة، وهو الذي يحدد لنا كون الفعل -مثلاً- لازمًا أو متعديًّا، وهو الذي يحدد لنا المصدر، واسم الفاعل، واسم المفعول، والظرف، والفعل الذي يدل على المشاركة، ويميز التوكيد اللفظي من المعنوي

إلخ. وكل هذا يُعِين -مع القرائن الأخرى- في تحديد الموقع الإعرابي للكلمة، ومن ثَمَّ تحديد معناها في الجملة. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 210 - 211.

(2)

مجال المطابقة هو الصيغ والضمائر، مثل التطابق بين الصفة والموصوف، وبين الاسمين والفعلين المضارعين المتعاطفين، وتكون المطابقة في العلامة الإعرابية، والشخص (التكلم، والخطاب، والغيبة)، والعدد، والنوع (التذكير والتأنيث)، والتعيين (التعريف والتنكير). انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 211 - 213.

(3)

يُعدّ الربط قرينة لفظية على اتصال أحد المترابطين بالآخر، ويكون بين المبتدأ وخبره، وبين الحال وصاحبه، وبين المنعوت ونعته، وبين الشرط وجوابه

إلخ. ويتم الربط بالضمير العائد، وبالحرف، وبإعادة اللفظ، وباسم الإشارة، وبدخول أحد المترابطين في عموم الآخر

إلخ. انظر تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 213 - 216.

(4)

ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق وضبط محمد محيي الدين عبد الحميد، (بيروت: دار الفكر، ط 2، 1397 هـ / 1977 م)، ج 1، ص 219.

ص: 94

ومن أمثلة الخطاب الذي تبيِّن القرائن اللفظية المقصودَ منه قول الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)} [الأعراف: 163].

فصدر الآية، وهو قوله تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} يُفهم منه أن السؤال عن القرية ذاتها، ولكن قوله بعد ذلك {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} قرينة لفظية دلّت على أن المراد السؤال عن أهل القرية؛ لأن ضمير الجمع في "يعدون" يصرف المعنى المراد عن القرية إلى أهلها، ولأن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة. (1)

ثانيًا: المقام (السياق الإجتماعي) وأهميته في فهم المقصود من الخطاب:

سبق تعريف المقام بأنه حصيلة الظروف الإجتماعية والطبيعية والنفسية السائدة وقت صدور الخطاب، والتي يُتوقعّ أن يكون لها تأثير في صيغة الخطاب وتوجيهه وفهمه.

ومقامات الخطاب بما تشتمل عليه من علاقات اجتماعية وعقلية وذوقية وعاطفية وعُرفيّة -سواء بين طرفي الخطاب، أو بينهما واللغة نفسها- يجعلها من العسير على غير أبناء تلك البيئة واللغة الإحاطة بها والتفاعل معها، ولا يمكن الحصول على كلّ ذلك من مجرد قراءة تاريخ هذا المجتمع وأدبه، "ذلك بأن إطار الثقافة الإجتماعية لكلّ أمّة يفرض من تلك العلاقات والارتباطات بالمواقف وبالموضوعات ما لا يفهمه تمامًا إلّا الناشئون في المجتمع ذاته والثقافة ذاتها، ولو أن المتخصص الأجنبي تمكّن من تحصيل فهم الإرتباطات العقليّة أو حتى الاجتماعيّة بالموضوعات والمواقف فكيف يتسنى له مهما حاول أن يفهم الإرتباطات الذوقيّة والعاطفية في المجتمع". (2)

(1) انظر الشافعي: الرسالة، ص 62.

(2)

تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، ص 42.

ص: 95

ولا غرابة بعد هذا أن نجد عشرات التفسيرات الخاطئة من قِبَل المستشرقين والكتّاب الغربيين للنصوص الشرعية وأحداث التاريخ الإِسلامي، ففضلاً عَمّا يمكن أن يكون فيها من سوء نية وتحامل، فإن عجزهم عن فهم البيئة التي نزل فيها القرآن الكريم والتي انتشر فيها الإِسلام بعد ذلك، وعجزهم عن فهم الأثر التغييري الهائل الذي يتركه الإِسلام في حياة من اعتنقه بصدق وإخلاص، جعلهم عاجزين عن الفهم الصحيح للنصوص الشرعية والأحداث التاريخية، مع أن بعضهم بلغ من المعرفة باللغة العربية والتاريخ الإِسلامي ما لا يدركه كثير من المسلمين أنفسهم. فالذي نشأ في بيئة يحكُمُها الصراع السياسي، وعلاقات الناس فيها تقوم على تبادل المصالح، لا يستطيع فهم ترشيح عمر بن الخطاب أبا بكر رضي الله عنهما للخلافة في سقيفة بني ساعدة، ثم وصية أبي بكر بالخلافة لعمر بعد ذلك إلّا على أنها من باب التحالف السياسي وتبادل المصالح، فهذا رشحه هنا والآخر أوصى له بعد ذلك. ولا يمكن لمثل هذا أن يفهم مرتبة الإيثار التي وصل إليها الصحابة رضي الله عنهم، ومدى إخلاصهم لدينهم، وإيثارهم للحق ومصلحة الإِسلام والمسلمين على مصالحهم الشخصية، واعترافهم بالفضل لأهله.

وتأتي فائدة القرائن الحالية والمقالية في إزالة الإحتمالات التي تعرض للسامع في مقصود المخاطِب من خطابه، وكلّما كان استحضار القرائن التي حفّت بالكلام أشمل كان فهم مراد المتكلّم من كلامه أدقّ، وبالعكس، ولذلك نجد أن الكلام المشافه به أوضح دلالة على مراد المتحدث من الكلام الذي بلَّغه عنه مبلِّغ، أو نُقِلَ كتابةً بسبب ما يفتقده من قرائن حالية تعين على دفع الإحتمالات التي تتطرق إلى الكلام ولا يقصدها المتكلم.

وإهمال القرائن كلّها أو بعضها يؤدي إلى نقص في فهم الخطاب، أو إلى الخطأ الكامل في الفهم، وفي ذلك يقول الشاطبي:"وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه". (1)

(1) الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 258.

ص: 96

هل كلّ كلام يحتاج إلى قرائن حالية؟

ليس من اللازم أن يحتاج كلّ كلام إلى قرائن حالية لفهم معناه، فالكلام المفيد التّام المعنى يمكن أن يُفهم معناه من غير حاجة إلى قرائن حاليّة؛ إذْ ليس كلّ كلام وارد في مقام خاص، بل منه ما يكون على سبيل التوجيه والإرشاد العامين، كما هو الحال فيما نزل من القرآن الكريم من غير سبب خاص، وما ورد في السنّة كذلك. وإنما الذي يكون في حاجة إلى الإطلاع على المقام لتحديد معناه هو ما ورد في مقام خاص. ولا حُجّة فيما اشتهر عن العرب من أن "لكلّ مقام مقال" إذ المراد بهذا تخيُّر الكلام المناسب لكلّ مقام، وعدم إلقاء الكلام على عواهنه دون اعتبار للمقام الذي يقال فيه.

وهنا ينبغي الإشارة إلى أن المقام يتنوع إلى نوعين: مقام خاص، ومقام عام. فالمقام الخاص هو القرائن الحاليّة والظروف التي تحفّ بصدور خطابٍ ما، والتي صاحبته وصبغته بصبغتها. أما المقام العام فهو الحالة العامّة، أو الهدف العام الذي اقتضى مجيء الخطاب ككون القرآن الكريم نزل لهداية الناس وإرشادهم إلى طريق الحق.

مزيد تفصيل في هذا عند الحديث عن أسباب النزول.

ولمّا كانت الشريعة الإِسلامية عامّة زمانًا ومكانًا وأشخاصًا، فإننا نجد أغلب نصوص الشارع تميل إلى التجرّد عن المقام الخاص والإعتماد على المقام العام، وإن كان ولا بُدّ من مقام خاص فغالبًا ما يكون مما يمكن أن يتكرر في مختلف الظروف والأزمان.

ومما يدلّ على ميل الشارع إلى التجرد من تأثيرات المقام الخاص اتجاهه في كثير من الأحيان إلى تعميم الخطاب، وإغفال الحالة الخاصة التي استدعت تشريع الحكم. فمثلاً تشريع حكم السرقة يروى أن الآيات التي نزلت به نزلت في حادثة معيّنة (1)،

(1) الآية هي قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. وروي أنها نزلت في طعمة بن أبيرق، الذي سرق درعًا من جارٍ له -هو قتادة بن النعمان- في جراب دقيق، ثم خبأها عند رجل يهودي، فنزلت الآية في بيان حكمه. انظر الواحدي، علي بن أحمد: أسباب النزول، تخريج وتدقيق عصام بن عبد المحسن الحميدان، (الدمام: دار الإصلاح، ط 1، 1411 هـ/ 1991 م)، ص 195.

ص: 97

ولكنّنا نجد الآيات لا تلتفت إلى خصوص الحادثة، وإنما وردت بصيغة عامة ومطلقة تجنُّبًا لتأثيرات المقام التي قد تؤدي إلى حصر النص في شخص معين، أو تقييده بمقام معين. ونفس الأمر بالنسبة لحكم اللعان. (1)

كذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتّجه في كثير من الأحيان هذا الإتجاه، فإذا وقعت واقعة وأراد أن يُصدر فيها حكمًا أو خطابًا توجيهيًّا، لم يركّز على خصوص الحالة التي دعت إلى ذلك، إنما يعمّم الحكم، فيخطب في الناس قائلاً: "ما بال أقوام

"، "أيها الناس

"، ومن أمثلة ذلك:

1 -

أخرج أبو داود عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كاَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ، وَلَكِنْ يَقُولُ:"مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا". (2)

2 -

أخرج البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها "أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِي. فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ذَكَّرْتُهُ ذَلِكَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ الله مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَلَيْسَ لَهُ وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ". (3)

3 -

أخرج البخاري عن قَتَادَة أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ في صَلَاتِهِمْ"، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ:"ليَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ". (4)

(1) وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ} [النور: 6] نزلت في هلال ابن أمية، وقيل عويمر العجلاني. انظر النيسابوري، مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، تحقيق وتصحيح محمد فؤاد عبد الباقي، (القاهرة: دار الحديث، ط 1، 1412 هـ/ 1991 م)، كتاب اللعان، ج 2، ص 1129 - 1138 الأحاديث (1492 - 1496).

(2)

الألباني، محمد ناصر الدين: صحيح سنن أبي داود، (الرياض: مكتب التربية العربي لدول الخليج، د. ط، د. ت)، كتاب الأدب، باب (6)، ج 3، ص 909.

(3)

صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب (17)، مج 2، ج 3، ص 251، الحديث (2735).

(4)

المصدر السابق، كتاب الأذان، باب (92)، مج 1، ج 1، ص 226 (الحديث (750).

ص: 98

4 -

أخرج البخاري عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ الله لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ. فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الحاجَةِ". (1)

وقد ورد خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "أيها الناس" في أكثر من 398 حديثًا في الكتب التسعة فقط. (2)

أنواع القرائن الحالية من حيث اقترانها بالنص:

القرائن الحالية -بحكم كونها شيئًا زائدًا عن الخطاب- لا تكون متضمَّنة في الخطاب، بل تحتاج إلى نقل مستقل، أي إلى التعبير عنها بجمل مستقلة. وهذا النقل إما أن يكون مقارنا لنفس الخطاب، أو أن يكون غير مقارن.

1 -

القرائن الحالية المقترنة بالخطاب:

وذلك بأن يذكر الراوي ضمن روايته بعض القرائن الحالية التي صاحبت الخطاب، والتي يراها مهمة في تحديد المقصود منه، ومن أمثلة ذلك:

أ - ما ورد في تفسير الهرج، فيما رواه البخاري عن أَبي هُرَيْرَة عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يُقْبَضُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ". قِيلَ: يا رَسُولَ الله وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ: هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ". (3) فعبارة "فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل" نقل من الراوي للقرينة الحالية التي صاحبت كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبانت عن مقصوده بالهرج.

ب - ما ورد في حديث النهي عن شهادة الزور فيما رواه البخاري أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " قُلْنَا: بَلَى يا رَسُولَ الله. قَالَ: "الإِشْرَاكُ بالله

(1) صحيح البخاري حديث (90).

(2)

هذا طبقا لعملية استقراء قام بها الباحث على قرص ليزر "الكتب التسعة" بالحاسوب.

(3)

صحيح البخاري، كتاب العلم، باب (25)، مج 1، ج 1، ص 36، الحديث (85).

ص: 99

وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ". وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: "أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ" فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لَا يَسْكُتُ". (1) فحال الرسول صلى الله عليه وسلم من كونه جلس بعد أن كان متكئًا قرينة حالية نقلها الراوي لما لها من أهمية في فهم عِظَم حرمة شهادة الزور.

2 -

القرائن الحالية المنفصلة عن الخطاب:

وهي التي يَرِد ذكرها في نصوص أخرى غير مقترنة بالنص محلّ الدراسة، ويكون هذا عادة في أسباب النزول، وأحيانًا في أسباب ورود الحديث.

أولاً - أسباب النزول:

تعريفه: سبب النزول هو: "ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبيِّنة لحكمه أيام وقوعه. والمعنى أنه حادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو سؤال وُجَّه إليه، فنزلت الآية أو الآيات من الله تعالى ببيان ما يتصل بتلك الحادثة، أو بجواب هذا السؤال". (2)

أسباب النزول بين العموم والخصوص:

ينبغي الإشارة بداية إلى أن السبب الحقيقي في نزول القرآن الكريم هو إصلاح أوضاع المجتمع البشري اعتقادًا وسلوكا، وهداية الناس إلى أَقْوَمِ السُّبُل لتحقيق الفوز في الدنيا والآخرة. أما الأسباب الخاصة التي تروى لنزول كثير من الآيات فهي في الغالب مجرّد مناسبات اختارتها الحكمة الإلهية لتكون توقيتًا لنزول تلك الآيات حتى يكون ذلك أبلغ في الإصلاح والإفهام، فهي وسائل تربويّة بمثابة وسائل الإيضاح المُعِينَة على الإفهام، أو هي من باب تَخَوُّلِ المناسبات المُعِينة على التأثير في النفوس، وقد أوضح ذلك شاه ولي الله الدهلوي بقوله: "وقد ربط عامة المفسرين كلّ آية من آيات الأحكام وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها، وظنوا أنها هي

(1) سبق تخريجه.

(2)

الزرقاني، محمد عبد العظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن، (د. م: دار الفكر، د. ط، د. ت)، ج 1، ص 106.

ص: 100

سبب النزول. والحقُّ أن نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس الإنسانية، وإزالة العقائد الباطلة، والأعمال الفاسدة.

"فالسبب الحقيقي -إذاً- في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة في نفوس المخاطَبين. وسبب نزول آيات الأحكم إنما هو شيوع المظالم ووجوب الأعمال الفاسدة فيهم

أما الأسباب الخاصة والقصص الجزئية التي تَجَشَّم بيانَها المفسرون فليس لها دخل في ذلك إلّا في بعض الآيات التي تشتمل على تعريض بحادث من الحوادث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو قبله، بحيث يقع القارئ بعد هذا التعريض في ترقّب وانتظار لما كان وراءه من قصة أو حادث أو سبب، ولا يُزَال تَرَقُّبُه إلّا ببسط القصة وبيان سبب النزول". (1)

ويقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "

ولكني لا أعذر أساطين المفسرين الذين تلقفوا الروايات الضعيفة فأثبتوها في كتبهم ولم ينبهوا على مراتبها قوة وضعفاً، حتى أوهموا كثيرًا من الناس أن القرآن لا تُنَزَّل آياته إلّا لأجل حوادث تدعو إليها، وبئس هذا الوهم فإن القرآن جاء هادياً إلى ما به صلاح الأمة في أصناف الصلاح، فلا يتوقف نزوله على حدوث الحوادث الداعية إلى تشريع الأحكام". (2)

وليس معنى هذا إنكار أهمية أسباب النزول في فهم معاني القرآن الكريم أو التقليل من شأنها في ذلك، فعامّة المفسرين على أن لأسباب النزول أهمية كبيرة في فهم معاني القرآن الكريم -كما سيأتي بيانه- وإنما ينبغي أن يكون المقصود منه عدم قصر معاني الآيات التي وردت في أسباب خاصة على تلك الخصوصيات إلَّا إذا ثبت بالدليل خصوصها بها، والإنكار إنما يكون على من يذهب هذا المذهب. فمع الإهتداء بتلك الأسباب في فهم معاني الآيات فإن ذلك لا يمنع من إعطائها ما تحتمله من معاني غير تلك الخصوصيات.

(1) الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم (شاه ولي الله): الفوز الكبير في أصول التفسير، نقله من الأصل الفارسي إلى اللغة العربية سلمان الحسيني الندوي، (بيروت: دار البشائر الإِسلامية، ط 2، 1987 م)، ص 20 - 21.

(2)

محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 1، ص 46.

ص: 101

وبناءً على السبب العام لنزول القرآن الكريم تقررت قاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، (1) إذْ الأحكام الشرعيّة إنما شرعت لضبط حياة الناس وهدايتهم إلى أقوم السبل، أما أسباب النزول فهي مناسبات اختارتها العناية الإلهية لتكون مناسبة لتشريع الحُكم لما سبقت الإشارة إليه من حِكَم، ما لم تقم قرينة تدلّ على قصر الحكم الذي وردت به الآية على سبب النزول، فإذا قامت تلك القرينة كان الحكم مقصوراً على سببه بإجماع العلماء. (2)

مفهوم سبب النزول في عرف الصحابة والتابعين:

الناظر في استعمال الصحابة رضي الله عنهم لعبارة "نزلت الآية في كذا" يجد أنه غير مقصور على أسباب النزول الخاصة، بل يتعداها إلى إطلاقات أخرى يوضحها ما دكره ابن تيمية في فتاويه (3) وأورده شاه ولي الده الدهلوي في كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير، من أن استقراء كلام الصحابة والتابعين في مفهوم سبب النزول عند قولهم:"نزلت الآية في كذا" يشير إلى أنهم يطلقون ذلك على عدة معاني أهمها:

1 -

"المعنى الحقيقي لسبب النزول، وهو بيان الحادث الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان سببًا لنزول تلك الآية.

3 -

"بيان ما تنطبق عليه الآية مما حديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده، فهو بيان لصورة من الصور التي تصدق عليها الآية. وفي هذه الحال يكون المقصود بقولهم "نزلت في كذا" نزلت في مثل هذا، أو في بيان حكم هذا وأمثاله". (4)

(1) انظر السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر: الإتقان في علوم القرآن، (بيروت: دار إحياء العلوم، ط 2، 1412 هـ/ 1992 م)، ج 1، ص 86 وما بعدها.

(2)

انظر الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج ا، ص 126.

(3)

يقول ابن تيمية: "وقولهم نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عني بهذه الآية كذا". ابن تيمية، أحمد بن عبد العليم: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، (د. م: د. ن، تصوير الطبعة الأولى، 1398 هـ، د. ت)، ج 13، ص 339.

(4)

شاه ولي الله الدهلوي: الفوز الكبير، ص 61 بتصرف.

ص: 102

الحالات التي يلزم فيها معرفة أسباب النزول لفهم المقصود من الخطاب:

يرى الإمام شاه ولي الله الدهلوي أن كثيرًا مما يروى من أسباب النزول لا تدعو الحاجة إليه في تفسير القرآن الكريم، وأن اعتبار الإحاطة به شرطًا من شروط التفسير فيه تفويت لحظ النَّفس من كتاب الله تعالى، وحرمان من إدراك روحه وجوهره، وأن ما فعله البعض من محاولة تقصي سبب نزول لأكثر آيات القرآن الكريم يُعدّ من باب الإفراط. (1)

وإذا أخذنا أسباب النزول بمفهومها العام عند الصحابة والتابعين رضي الله عنهم الذي سبق ذكره - فإن النصوص القرآنية التي يتعذّر فهمها بغير الإطلاع على أسباب النزول تنحصر في حالين:

1 -

"معرفة القصص التي تتضمن الآيات القرآنية التعريض بها؛ فإن فهم إيماء هذه الآيات وإشارتها لا يتيسر إلَّا بمعرفة تلك القصص"، (2) فالآية في مثل هذه الحالة تكون مبهمةً يتوقَّف فهم المراد منها على العلم بسبب النزول، ومثال ذلك قوله الله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة: 1]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 104].

3 -

سبب النزول الذي يفيد تخصيصاً لعام، أو تقييدًا أطلق، أو بياناً لمجمل، أو يدفع تشابهاً، وأمثال ذلك مما يُصْرَفُ فيه الكلام عن ظاهره المتبادر منه، إذْ إنّ فهم مقاصد الآيات ومراميها لا يتأتى بدون ذلك. (3)

والخلاصة أن ما كان من الآيات تَامّ المعنى بعموم صيغته مستقلاًّ فَهْمُهُ عَمّا يُورَدُ بشأنها من أسباب النزول، وعن الحادث الذي كان سببًا للنزول فإنه لا يُحتَاج في التعرف على مقصوده إلى استحضار أسباب النزول، وإنما يفتقر إلى استحضار ذلك ما

(1) انظر المصدر السابق، ص 66 - 67.

(2)

المصدر السابق، ص 62.

(3)

انظر المصدر السابق، ص 62، ومحمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 1، ص 49 - 50.

ص: 103

وقع فيه تعريض بخصوص الحادث ومتعلقاته، إذْ تكون الحاجة إذ ذاك ماسةً إلى معرفة سبب النزول للتمكن من معرفة سياق الحادث وخلفياته، ومن ثَمَّ حُسْن فهم النص وإدراك مقاصده. وهو ما عبَّر عنه شاه ولي الله الدهلوي بالإطلاع على فوائد بعض القيود وأسباب التشديد والتأكيد في بعض المواضع التي تتوقف معرفة حقيقتها على معرفة أسباب النزول". (1)

بين عموم الرسالة وخصوص سبب النزول:

قد يبدو أن هناك شيئاً مَن التعارض بين عموم أحكام الشريعة الإِسلامية، وكون كثير من الآيات نزلت في مناسبات خاصة مما قد يَفهم منه البعضُ قصر تلك الآيات على ما نزلت بسببه من أحداث ووقائع، بل إن مثل هذا الإلتباس قد وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم في فهم بعض الآيات كما سيأتي بيانه عند الحديث عن بعض التطبيقات التي تبيِّن مدى أهمية معرفة سبب النزول في فهم النصوص الشرعيّة. وقد تنبه علماء المسلمين إلى هذه القضية منذ القرون الأولى، فبحثوها فيما اشتهر بمسألة "هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟.

وبداية يجب التنبيه إلى أن القرآن من حيث سبب النزول على قسمين: قسم نزل ابتداءً من غير سبب خاص، وإنما اكتفاء بالسبب العام، وقسم نزل بسبب خاص. أما الأول فلا خلاف في عمومه لكل الناس، أما الثاني فهو على أقسام:

القسم الأول: أن يكون اللفظ مكافئاً لسبب النزول من حيث العموم والخصوص، بأن يكون كلّ منهما عامّاً أو خاصًّا. ويكون حكمُ اللفظ هنا مساواةُ السبب، فإن كان السبب عامًّا وَاللفظ عامًا كان اللفظ العام متناولاً كلّ أفراد سببه في الحكم، ومثال ذلك آيات سورة الأنفال التي نزلت في غزوة بدر وآيات سورة آل عمران التي نزلت في غزوة أحد. وإذا كان اللفظ خاصًّا وَنازلاً في سبب خاص فإن حكمه مقصور على شَخْصِ سببه الخاص، ومثال ذلك قول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا

(1) شاه ولي الله الدهلوي: الفوز الكبير، ص 64، وانظر أيضاً 107.

ص: 104

الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)} [الليل: 17 - 18] فقد قيل إنَّها خاصة في أبي بكر الصِّديق على اعتبار"ال" في "الأتقى" للعهد، والمعهود هو الصِّديق رضي الله عنه. (1)

القسم الثاني: أن يكون السبب خاصًّا واللفظ عامًّا، وهذا الذي اختلف فيه العلماء: هل العبرة بخصوص السبب أم بعموم اللفظ؟

نُسِبَ إلى أبي الحسن الأشعري والمزني وأبي ثور والشافعي وبعض أصحابه القول بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، (2) أي أن الآيات التي نزلت في أسباب خاصة تثبت أحكامها لمن نزلت فيهم حصرًا ولا تعمّ غيرهم. ولكن لمَّا كان هؤلاء يقرُّون بعموم الشريعة لكلّ النّاس، وحاجة الناس إلى نصوص تحكم تصرفاتهم، فقد قالوا إن ثبوت الأحكام التي نزلت بها تلك الآيات لما يشبه الحالات التي نزلت فيها إنما يكون بدليل آخر وهو إما القياس بشروطه، بأن يقاس بقية الناس على سبب النزول، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". (3) وقد استدل هذا الفريق بأدلة لا داعي لإيرادها في هذا المقام، ومن أراد تفصليها فلينظرها في مواطنها. (4)

أما جمهور العلماء فقد ذهبوا إلى أنه مادام اللفظ عامّاً فإن الحكم يتناول كلّ أفراد اللفظ، سواء منها أفراد سبب النزول، وغيرها مما يمكن أن ينطبق عليه. (5)

(1) انظر السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 88.

(2)

انظر الزَّركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 40.

(3)

كثيراً ما يورد الأصوليون هذا الدليل وينسبونه للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يصح وروده حديثاً؛ فقد قال عنه السخاوي:"ليس له أصل". انظر السخاوي، محمد بن عبد الرحمن: المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تحقيق عبد الله محمد الصِّديق، وعبد الوهاب عبد اللطيف، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1399 هـ / 1979 م)، ص 192. وقد ورد في السُّنّة ما يفيد معناه، ففي سنن الترمذي عن أميمة بنت رُقيقة قالت: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة، فقال لنا في ما استطعتن وأطقتن، قلت الله ورسوله أرحم بنا منّا بأنفسنا. فقلت يا رسول الله بايعنا، قال سفيان: تعني صافحنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما قولي لمائة امرأة كقولي لإمرأة واحدة". سنن الترمذي، كتاب السير، باب (36)، ج 3، ص 77.

(4)

انظر الغزالي: المستصفى، ج 2،ص 36 - 38؛ والزرقاني: مناهل العرفان، ج 1، 125 - 126، 130 - 134؛ والرازي: المحصول، ج 3، ص 124 - 126.

(5)

انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 36؛ والجويني: البرهان، ج 1، ص 254 - 255.

ص: 105

وأقوى دليل على ما ذهب إليه الجمهور من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هو أن الشريعة قد نزلت عامة زماناً ومكاناً وأشخاصاً، (1) دلّ على ذلك نصوص كثيرة، منها قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقوله:{إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وكونها هي الشريعة الخاتمة يؤكد ذلك. وما دامت الشريعة عامة فلا يعقل حصر نصوصها في أسباب محدودة وأشخاص معدودين، وإنما يكون الأصل عموم أحكامها إلّا ما دلَّ دليل على خصوصيته فإنه يقصر على ما جاء خاصّاً فيه. وإنما أسباب النزول الخاصة -كما سبقت الإشارة- في أغلبها مناسبات اختارتها العناية الإلهية لتكون مناسبة لتنزيل بعض الأحكام ليكون ذلك أبلغ في التأثير والإفهام.

وقد استدل الجمهور على مذهبهم بأدلة أبرزها احتجاج الصحابة رضوان الله عليهم بعموم تلك الألفاظ مع ورودها على أسباب خاصة من غير لجوء إلى القياس أو إلى أي دليل خارجي لتعدية الحكم من سبب النزول إلى ما يشبهه. (2)

والخلاصة أن الفريقين متفقان على أن ما نزل من الأحكام بصيغة العموم فهو على عمومه ولو كان وارداً في سبب خاص، وإنما الخلاف في طريقة تعديّة الحكم: هل هو بعموم اللفظ مباشرة دون حاجة إلى دليل خارجي، أم بواسطة دليل آخر؟ وفي ذلك يقول ابن تيمية:"والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعيَّن، وإنما غاية ما يقال: إنَّها تختص بنوع ذلك الشخص، فيعمّ ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معيَّن إن كانت أمراً أو نهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته". (3)

(1) وفي ذلك يقول الشاطبي: "الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة؛ بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف ألبتة". الموافقات، مج 1، ج 2، ص 186.

(2)

انظر الزرقاني: مناهل العرفان، ج 1، ص 129؛ الجويني: البرهان، ج 1، ص 255.

(3)

ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 13، ص 339.

ص: 106