الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
الاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور
لا يفصح ابن عاشور -عادةً- في استعماله الاستقراء عن نوع الاستقراء الذي استعمله: هل هو استقراء تام أم ناقص، ولكن جريًا على ما اشتهر من كون الاستقراء التام يفيد اليقين، وإنما النزاع في نتيجة الاستقراء الناقص، فالمفترض عند ابن عاشور أن يقول بيقينية نتيجة الاستقراء التام، خاصة وأنه ذهب إلى أن الاستقراء الناقص يفيد القطع واليقين في كثير من الأحوال. وبعد تتبع موقف ابن عاشور من نتيجة الاستقراء الناقص في كتابيه: مقاصد الشريعة الإِسلامية، وأصول افظام الاجتماي في الإِسلام، تبيَّن من خلال أقواله أن نتيجة الاستقراء الناقص تترقى من مرتبة الظن إلى الظن القريب من اليقين، وقد تصل أحيانًا إلى اليقين. وفي ذلك يقول: "
…
وعلى هذا فالحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قد يكون علمًا قطعيّا، أو قريبًا من القطعي، وقد يكون ظنّا". (1)
ومن المواطن التي صرح فيها بإفادة الاستقراء الناقص القطع ما يأتي:
1 -
قوله: "واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإِسلامية منوطة بحِكَم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد". (2)
3 -
وعند حديثه عن المصالح القطيعة، عَدّ من المصالح القطعية "ما تضافرت الأدلة الكثيرة عليه مما مستنده استقراء الشريعة
…
". (3)
3 -
وعند حديثه عن إثبات تعليل أحكام الشريعة، وقبولها القياس، قال: "فإن استقراء الشريعة في تصرفاتها قد أكسب فقهاء الأمة يقينًا بأنها ما سوَّت في جنسِ حكمٍ من الأحكام جزئياتٍ متكاثرة إلّا ولتلك الجزئيات اشتراك في وصف يتعين
(1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 156.
(2)
المصدر السابق، ص 118.
(3)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 221.
عندهم أن يكون هو موجِبُ إعطائِها حكمًا متماثلا". (1) ومن المعلوم أن الاستقراء الذي يورده الفقهاء والأصوليون لإثبات التعليل يكون ناقصًا عادة.
4 -
وعند حديثه عن مقاصد التصرفات المالية، وأن للمال مكانة سامية في الشريعة الإِسلامية قال:"وإذا استقرينا أدلة الشريعة من القرآن والسنة الدالة على العناية بمال الأمة وثروتها، والمشيرة إلى أن به قوام أعمالها وقضاء نوائبها، نجد من ذلك أدلة كثيرة تفيدنا كثرتها يقينًا بأن للمال في نظر الشريعة حظًا لا يُستهان به". (2)
5 -
وعند حديثه عن أن من مقاصد الشارع بَثّ الحرية، والإقلال من العبودية، استقرأ مجموعةً كبيرةً من أدلة الشارع المثبتة لذللث، ثم قال:"فمن استقراء هاته التصرفات ونحوها حصل لنا العلم بأن الشريعة قاصدة بَثّ الحرية بالمعنى الأول [أي ضد العبودية] ". (3)
6 -
وعند حديثه عن مقصد السماحة واليُسْر قال: "واستقراء الشريعة يدلّ على هذا الأصل في تشريع الإِسلام، فليس الإستدلال عليه بمجرد هذه الآية أو هذا الخبر حتى يقول معترض إن الأصول القطعية لا تثبت بالظواهر لأن أدلة هذا الأصل كثيرة منتشرة، وكثرة الظواهر تفيد القطع، ولهذا قال إمام الفقه والحديث مالك بن أنس في مواضع من الموطأ "ودين الله يسر" وحسبك بهذه الكلمة من ذلك الإمام فإنه ما قالها حتى استخلصها من استقراء الشريعة". (4)
7 -
وعند حديثه عن المغيبات -التي جاءت بها نصوص الشرع من غير أن تكون لعقولنا قدرة على إدراك حقيقتها، ومع ذلك فاللازم تصديقها واليقين بما فيها- يُلْحِقُ بذلك بعض المسائل التعبدية التي شرعها الشارع ولم تَهْتَدِ عقولنا إلى الحكمة من تشريعها، فيقول: "ونلحق بهذا القسم أشياء اشتملت عليها الشريعة من غير عالَم الغيب لم نَهْتَدِ إلى حقيقتها، فنحن نتلقاها كما جاءت موقنين باشتمالها
(1) المصدر السابق، ص 248.
(2)
المصدر السابق، ص 328.
(3)
المصدر السابق، ص 284.
(4)
محمد الطاهر بن عاشور: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، ص 26 - 27.
على مصالح لم تتضح لنا، جاعلين يقيننا بذلك مُستنتَجًا من استقراء جمهرة الأحكام في سائر الأحوال، إذْ نجد تلك الأحكام حقائق بيِّنة ومصالح واضحة، ولا يُعَدُّ يقيننا ذلك وهمًا، بل تفويضا". (1)
وقد حدد ابن عاشور جملة من المعايير أو الشروط التي تحدِّد مرتبة العلم التي يفيدها الاستقراء بين القطع والظن، ويمكن تلخيصها في الآتي:
1 -
"مقدار فيض ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها". (2) فعلى قدر كثرة الأدلة التي يشملها الاستقراء تكون قوة الإفادة في النتجة المستخلصة منه، فكلما زاد عدد الأدلة والشواهد المستقرأة زادت قوة العلم الذي يفيده الاستقراء.
2 -
خفاء دلالة الأدلة المستقرأة ووضوحها. فمن المعلوم أن الأدلة تتفاوت مراتبها من حيث الوضوح والخفاء، فكلما كانت دلالة الأدلة المستقرأة أكثر وضوحًا وصراحةً زادت قوة نتيجة الاستقراء إلى أن تصل إلى مرتبة اليقين والقطع، وبالعكس، كما قلَّ وضوح دلالة الأدلة وزاد خفاؤُها قَوِيّ جانبُ الظن في نتيجة الاستقراء. وقد مثل ابن عاشور لذلك بكون النصوص الواردة في تحريم الخمر واضحة الدلالة على أن مقصد الشريعة حفظ العقول عن الفساد العارض، ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حدِّ الإسكر وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سدُّ ذريعة إفساد العقل حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريمَ القليل من الخمر أو النبيذ الذي يسكر كثيره فتلك دلالة خفية، ولذلك اختلف الفقهاء في هذا المقصد، واختلفوا تبعًا لذلك في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر. فمن غلب على ظنه كون هذا الأخير مقصدًا شرعيًا سَوَّى بينهما في التحريم وإقامة الحد، ومن لم يغلب على ظنه ذلك فَرَّق بينهما في مرتبة التحريم وفي العقوبة. (3)
(1) المصدر السابق، ص 46.
(2)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 156.
(3)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 161.
3 -
احتمال قيام المعارِضَات لشواهد الاستقراء. فقيام المعارِضَات لشواهد الاستقراء قادح في نتيجته؛ فإن احتمال وجود هذه المعارِضات سيدخلُ -ولا شكّ- عنصرَ الظن على نتجيته، وذلك بحسب قوة هذه الإحتمالات، فكلما قويّ احتمال قيام المعارض قويّ عنصرُ الظن لدى المجتهد في نتيجة استقرائه. (1)
4 -
ما تتصف به النصوص من عموم أو جزئية، فإذا كانت النصوص المستقرأة عمومات وكليات، كانت صالحة لأن يثمر استقراؤها نتيجة قطعية، أما إذا كانت جزئية فإن نتيجة استقرائها لا تعدو عادة أن تكون ظنية. (2)
5 -
قطعية وظنية الثبوت، إذْ يشترط ابن عاشور في النصوص التي يمكن أن يؤدي استقراؤها إلى نتيجة قطعية أن تكون قطعية الثبوت، أي يقينية النسبة إلى الشارع الحكيم، أوعلى الأقل يكون بعضها كذلك. (3)
وبناءً على ما سبق يكون الاستقراء الذي يُثْمِر مقاصدَ قطعية هو الذي يشمل أدلة متكررة من القرآن تكرُّرًا ينفي احتمال أن يُقْصَدَ منها المجاز والمبالغة، (4) وتكون هذه الأدلة عمومات أو نصوصًا في معانيها، وتكون كلها قطعية المتن (أي وردت متواترة، وهي إما من القرآن أو السنة المتواترة) أو على الأقل أكثرها تتصف بهذه الصفات، ولا بأس أن تدعم بعد ذلك بأدلة من السنة ظنية الورود. فمثل هذا الاستقراء الذي تتوافر فيه هذه الشروط ولو كان ناقصًا يثمر مقاصد قطعية.
ومثال الاستقراء الذي يثمر مقصدًا شرعيًّا قطعيًّا، استقراء جملة الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي نَصَّت على اليُسْر ورفع الحرج أو أومأت إليه، وهي كثيرة جدّا، "فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول إن من مقاصد الشريعة التيسير، لأن الأدلة المستقرأة في ذلك كله عمومات متكررة، وكلها قطعية النسبة إلى الشارع لأنها من القرآن، وهو قطعي المتن". (5)
(1) انظر المصدر السابق، ص 161.
(2)
انظر المصدر السابق، ص 160 - 161، 189.
(3)
انظر المصدر السابق، ص 160.
(4)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 159.
(5)
المصدر السابق، ص 160.
أما إذا كان الاستقراء مبنيًّا على أدلة كثيرة، لكنها إما كلها جزئي، أو أغلبها كذلك، وما كان منها متصفًا بصفة العموم والكلية لم يكن قطعي النقل، أي حديث آحاد، فإن هذا النوع من الاستقراء يُثْمِر نتيجة ظنية لكنها قريبة من القطعي.
وقد مثَّل ابن عاشور لهذا النوع من الاستقراء بما أورده الشاطبي من أن من مقاصد الشارع منع الضرر ودفعه، استنادًا إلى استقراء ما ورد في القرآن الكريم من آيات تنهى عن الضرر مثل قوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231]، وقوله:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، وقوله:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]، وغيرها، وما ورد في السنّة من أحاديث أبرزها قوله صلى الله عليه وسلم:"لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"(1) ومنها النصوص الواردة في السنّة عن التعدي على النفوس، والأموال، والأعراض، وعن الغصب، والظلم، وكل ما هو في معنى إضرار وضرار فهذه الأدلة، وإن كانت كثيرة إلَّا أنها أدلة جزئية، والدليل العام منها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار" هو خبر آحاد، وليس بقطعي النقل عن الشارع. (2)
ولكن الملاحظ أن الشاطبي -وفي هذا المثال بالذات- يفهم من كلامه أنَّ مثل هذا النوع من الاستقراء يفيد القطع، إذْ يرى أن "الضرر مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات وقواعد كليات
…
فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك". (3)
(1) سبق تخريجه.
(2)
محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 160 - 161.
(3)
الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 12.