المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيمجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور - طرق الكشف عن مقاصد الشارع

[نعمان جغيم]

فهرس الكتاب

- ‌شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌البَابُ الأَوّلاستخلاص المقاصد من منطوق النصوص ومفهومها

- ‌الفصل الأولتعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها، وفائدة العلم بها

- ‌المبحث الأول: تعريف مقاصد الشريعة وبيان أقسامها

- ‌المطلب الأول: تعريف مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الثانيأقسام المقاصد الشرعية

- ‌المبحث الثانيفائدة العلم بمقاصد الشارع

- ‌تمهيدبين أصول الفقه ومقاصد الشريعة

- ‌الفصل الثانياستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌تمهيدطرق إفادة الكلام

- ‌المبحث الأولاستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية لإستخلاص المقاصد من ظواهر النصوص الشرعية

- ‌النموذج الأول: استخلاص المقاصد من النص والظاهر:

- ‌النموذج الثاني: دلالة الأمر والنهي:

- ‌النموذج الثالثدلالة العام

- ‌الفصل الثالثوظيفة السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌تمهيدطبيعة النص الشرعي ومستويات فهمه

- ‌المبحث الأولالعناصر التي تتحكم في فهم الخطاب

- ‌المطلب الأوللغة الخطاب

- ‌المطلب الثانيالمخاطِب (المتكلّم)

- ‌المطلب الثالثالمخاطَب (السامع)

- ‌المطلب الرابعسياق الخطاب

- ‌نماذج تطبيقية

- ‌المبحث الثانينماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي

- ‌المطلب الأولأهمية القرائن في تحديد المقصود من الأوامر والنواهي

- ‌المطلب الثانيأهمية القرائن في تحديد المقصود من صيغ العموم

- ‌المطلب الثالثتخصيص الخطاب الشرعي بعادات المخاطَبين وأعرافهم

- ‌المطلب الرابعتخصيص العام بقول الصحابي

- ‌المطلب الخامسأهمية السياق في تحديد المقصود من النص

- ‌الفصل الرابعاستخلاص المقاصد من خلال معرفة علل الأحكام الشرعية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولتعليل الأحكام الشرعية وعلاقته بالكشف عن مقاصد الشريعة

- ‌المطلب الأولالتعليل بين القائلين به والرافضين له

- ‌المطلب الثانيتعليل العبادات

- ‌المبحث الثانيمسالك العلة ووظيفتها في الكشف عن مقاصد الشارع

- ‌الفَصْلُ الخَامَسِسكوت الشارع ودلالته على مقاصده

- ‌المبحث الأولأنواع سكوت الشارع

- ‌المبحث الثانيالفرق بين دلالة سكوت الشارع في العبادات وسكوته في المعاملات

- ‌المبحث الثالثعلاقة سكوت الشارع بمرتبة العفو

- ‌المبحث الرابعهل السكوت عن النقل نقل للسكوت (هل ترك النقل ينزل منزلة نقل الترك)

- ‌البَابُ الثَّانياستخلاص المقاصد من طريق الاستقراء

- ‌الفَصْلُ الأَوّلمفهوم الاستقراء وأنواعه

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولمفهوم الاستقراء

- ‌المبحث الثانيأنواع الاستقراء

- ‌أولًا: الاستقراء التام

- ‌ثانيًا: الاستقراء الناقص:

- ‌الفَصْل الثَّانِيالاستقراء في القرآن الكريم والعلوم الشرعية

- ‌المبحث الأولالاستقراء في القرآن الكريم

- ‌المبحث الثانيالاستقراء في العلوم الشرعية

- ‌المطلب الأولالاستقراء عند الأصوليين

- ‌المطلب الثانيتطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين

- ‌الفَصْلِ الثَّالِثالاستقراء عند الإمام الشاطبي

- ‌تَمْهِيد

- ‌المبحث الأولتعريف الاستقراء عند الشاطبي وبيان الأساس الذي يقوم عليه

- ‌المبحث الثانيالاستقراء عند الإمام الشاطبي بين القطع والظن

- ‌المبحث الثالثحَلُّ الإمام الشاطبي لمشكلة الاستقراء الناقص

- ‌المبحث الرابعمجالات استخدام الشاطبي للإستقراء

- ‌الفَصْلُ الرَّابعِالاستقراء عند الإمام محمد الطاهر بن عاشور

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولالاستقراء بين القطع والظن عند ابن عاشور

- ‌المبحث الثانيمجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

- ‌الفَصْل الخَامِسْدراسة تقييمية للإستدلال الإستقرائي

- ‌المبحث الأولالفرق بين الاستقراء العلمى والاستقراء في العلوم الإنسانية

- ‌المبحث الثانيإمكانية تحقيق الاستقراء وجدواه

- ‌المبحث الثالثنتيجة الاستقراء بين اليقين والظن

- ‌المبحث الرابعحل مشكلة الاستقراء الناقص في العلوم الشرعية

- ‌الفَصْلُ السَّادِسُدراسة تطبيقية لمسلك الاستقراء

- ‌تَمْهِيدٌ

- ‌المبحث الأولاستقراء علل الأحكام الضابطة لحكمة واحدة

- ‌المبحث الثانياستقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة

- ‌المبحث الثالثاستقراء مجموعة من النصوص الشرعية المشتركة في معنى واحد

- ‌الترغيب في التيسير على العموم:

- ‌العفو عن أهل الكتاب:

- ‌الأمر بالتيسير على ذوي الحاجات والأعذار في الصلاة:

- ‌الترغيب في أن يكون الإنسان سمحاً في معاملاته:

- ‌كفارة اليمين:

- ‌كفارة قتل الصيد في الحرم:

- ‌كفارة القتل الخطأ:

- ‌كفارة الظِّهار:

- ‌التيسير في المعاملات:

- ‌1 - شرع الشُّفْعة:

- ‌2 - الترخيص في الغرر اليسير والجهالة التي لا انفكاك عنها في الغالب

- ‌3 - شرع السَّلم:

- ‌4 - الترخيص في العرايا

- ‌5 - شرع القرض:

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المصادر

الفصل: ‌المبحث الثانيمجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

‌المبحث الثاني

مجالات استخدام الاستقراء عند ابن عاشور

لقد سعى الإمام محمد الطاهر بن عاشور إلى الإلتزام بالمنهج الإستقرائي في محاولاته التي قام بها للتعرف على مقاصد الشارع الحكيم في كتابيه: مقاصد الشريعة الإِسلامية، وأصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، (1) سواء في ذلك المقاصد الكلية والعامة، أو المقاصد الخاصة. ولكنه لا يصرح عادة بنوع الاستقراء الذي اعتمده في كل مسألة: هل يلتزم الاستقراء التام، أم أنه يكتفي بالاستقراء الناقص؟ والراجح أنه يكتفي في كثير من تلك المسائل باستقراء أغلب تصرفات الشريعة ونصوصها وأحكامها، أي الإكتفاء بالاستقراء الناقص، بناء على أن استقراء كثير من الأدلة -بالشروط التي سبق ذكرها- يمكن أن يفيد اليقين عنده. وقد استقرى الباحث أهم المواطن التي صرح فيها ابن عاشور بتطبيق المنهج الإستقرائي في الكشف عن مقاصد

الشارع، وفيما يأتي جملة منها:

1 -

عدمُ انْبِنَاءِ المقاصد الشرعية على الأوهام والتخيلات: فمن خلال استقراء موارد الشريعة وتصرفاتها تبيّن عدم التفات الشريعة إلى الأوهام والتخيلات، وأمرُهَا بنبذها والبعد عنها، ومن ثَمَّ عدم انْبِنَاءِ المقاصد عليها، وفي ذلك يقول:"ثم إننا استقرينا الشريعة فوجدناها لا تراعي الأوهام والتخيلات وتأمر بنبذها، فعلمنا أن البناء على الأوهام مرفوض في الشريعة إلَّا عند الضرورة، فقضينا بأن الأوهام غير صالحة لأن تكون مقاصد شرعية". (2)

2 -

إثبات مقصد السماحة: وقد بدأ ابن عاشور بتحديد مفهوم السماحة، لأن تحديد المفهوم يمثل أساس الاستقراء، خاصة من حيث تحديد نوع الأدلة والجزئيات التي سيشملها الاستقراء، فعرَّف السماحة بأنها:"سهولة المعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل، وهي راجعة إلى معنى الإعتدال والعدل والتوسط"(3).

(1) ينبغي التنبيه إلى أن ابن عاشور قد استخدم المنهج الإستقرائي في الإستدلال في مؤلفاته الأخرى، ومن ذلك ما جاء في تفسيره التحرير والتنوير، في حصر مراتب المتشابهات في القرآن الكريم، ج 3، ص 158 - 160، وحصر مواقع التزيين المذموم، ج 2، ص 295.

(2)

محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الاسلامية، ص 174.

(3)

المصدر السابق، ص 184.

ص: 277

وانطلاقًا من هذا المفهوم يتبيّن أن كلّ النصوص والأحكام الواردة في السماحة، واليسر، والاعتدال، والتوسط، ورفع الحرج، وأضدادها تدخل ضمن الجزئيات المستقرأة. ثم استعرض في ذلك أهم الآيات والأحاديث الواردة في كل وصف من هذه الأوصاف، (1) ليخلص إلى القول:"واستقراء الشريعة دلّ على أن السماحة واليسر من مقاصد الدين". (2)

3 -

تحديد المقصد العام من الشريعة: وهو حفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه بصلاح الإنسان، وهو المقصد الذي يُعبَّر عنه عادة بحلب المصالح ودرء المفاسد.

وقد قسم ابن عاشور الأدلة المستقرأة في ذلك إلى أنواع:

أ - أدلة كلية صريحة في أن مقصد الشريعة الإصلاح وإزالة الفساد، من أمثال قوله تعالى:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، وقوله:{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85]، وقوله:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60]، وقوله:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، إلى غير ذلك من الآيات. ومن الأحاديث حديث أبي عمرة الثقفي أنه قال:"قُلْتُ يا رَسُولَ الله قُلْ ليِ فِي الإِسْلَامَ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ بالله ثُمَّ اسْتَقِمْ"، (3)

ب - أدلة كلية، لكنها تدلّ على هذا المقصد إيماءً لا صراحة. ومن ذلك الأدلة التي "جاءت دالّة على أن صلاح الحال في هذا العالم مِنَّة كبرى يمنُّ الله بها على الصالحين من عباده جزاءً لهم، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} [الأنبياء: 105 - 106]،

(1) من ذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ} [الحج: 78]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أَحَبُ الدِّينِ إِلَى الله الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ". أخرجه البخاري في صحيحه معلقا في كتاب الإيمان، باب (30)، مج 1، ج 1، ص 18 قبل الحديث (39)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ". صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب (30)، مج 1، ج 1، ص 18، الحديث (39). انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 184 - 187. وسيأتي استعراض النصوص الواردة في هذه الأبواب في فصل الدراسة التطبيقية للإستقراء.

(2)

محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 186.

(3)

صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب (13)، ج 1، ص 65.

ص: 278

وقال مخاطبًا المسلمين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]، وقال في معرض الوعد:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] ". (1)

ج - أدلة جزئية يمثلها ما شرع الله تعالى من أحكام رادعة للناس عن الإفساد، وموجبة أو مرغبة في الصلاح وفعل الخير، مثل شرع القصاص على إتلاف الأرواح وقطع الأطراف، وشرع تعويض قيمة المتلفات، وإباحة تناول الطيبات والزينة. (2)

ثم ينتهي ابن عاشور بعد ذلك إلى أن استقراء هذه الأدلة ونحوها أوجب لنا اليقين بهذا المقصد، فيقول:"ومن عموم هذه الأدلة ونحوها حصل لنا اليقين بأن الشريعة متطلبة لجلب المصالح ودرء المفاسد، واعتبرنا هذا قاعدة كلية في الشريعة". (3)

4 -

تحديد أنواع الحيل ومدى تفويتها للمقاصد الشرعية: حيث اعتمد ابن عاشور الاستقراء طريقًا لتحديد أنواع ذلك التحيل، وأسفر استقراؤه عن تقسيمها إلى خمسة أقسام، وفي ذلك يقول: "وعند صدف التأمل في التحيل على التخلص من الأحكامٍ الشرعية من حيث إنه يُفِيتُ المقصد الشرعي كله أو بعضه أو لا يفيته، نجده متفاوتًا في ذلك تفاوتًا أدَّى بنا الاستقراء إلى تنويعه خمسة أنواع

". (4)

(1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 189 - ، وانظر أيضًا: محمد الطاهر بن عاشور: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، ص 10 - 11.

(2)

انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 189 - 190.

(3)

انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 190.

(4)

أنواع التحيل هذه هي:

1 -

تحيّل يفيت المقصد الشرعي كله، ولا يعوضه بمقصد شرعي آخر، ومثال ذلك من وهب ماله قبل مُضيّ الحول بيوم لئلاّ يعطي زكاته، واسترجعه من الموهوب له من غد، وهذا لا ينبغي الشك في ذمه وبطلانه ووجوب المعاملة بنقيض مقصد صاحبه.

2 -

تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه ينقلُ إلى أمرِ مشروع آخر، مثل التجارة بالمال المتجمع خشية أن تنفصه الزكاة، فإنه إذا فعل ذلك فقد استعمل المال في مأذون فيه، وهذا النوع على الجملة جائز.

3 -

تحيّل على تعطيل أمر مشروع على وجه يسلكُ به أمرًا مشروعًا هو أخفُّ عليه من المنتَقَلِ منه، مثل لبس الخف لإسقاط غسل الرجلين في الوضوء، وهذا مقام الترخص إذا لحقته مشقة من الحكم المتنَقَّل منه.

4 -

تحيّل في أعمال ليست مشتملة على معان عظيمة مقصودة للشارع، وفي التحيّل فيها تحقيقٌ لِمُمَاثلِ مقصد الشارع من تلك الأعمال، مثل التحيّل في الأيمان التي لا يتعلق بها حق الغير. وللعلماء في هذا النوع مجال من الإجتهاد.

5 -

تحيّل لا ينافي مقصد الشارع، أو هو يعين على تحصيل مقصده، ولكن فيه إضاعة حق لآخر أو مفسدة أخرى، مثل من تزوج امرأة مبتوتة قاصدًا أن يحللها لمن بَتَّها، وفيه خلاف بين الفقهاء. مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 253 بتصرف.

ص: 279

5 -

إثبات مقصد سدّ الذرائع: حيث ذهب ابن عاشور إلى أن الاستقراء هو عمدة القائلين بسدّ الذرائع -وهو منهم- في إثبات هذا المقصد، فيقول: "فمقصد سدّ الذرائع مقصد تشريعي عظيم استُفِيدَ من استقراء تصرفات الشريعة في تفاريع أحكامها، وفي سياسة تصرفاتها مع الأمم، وفي تنفيذ مقاصدها

". (1)

6 -

كون التشريع منوطاً بَالضبط والتحديد: حيث قام ابن عاشور -عند حديثه عن كون التشريع الإِسلامي منوطًا بالضبط والتحديد- باستقراء الوسائل التي اتخذها الشارع طرقًا للإنضباط والتحديد، فقال:"وقد استقريت من طرق الإنضباط والتحديد في الشريعة ست وسائل". (2)

7 -

قصد الشارع إلى بَثِّ الحرية: والمقصود هنا النوع الأول من الحرية، الذي هو ضد العبودية. (3) وهذا القصد قد أثبته الفقهاء قديمًا بطريق استقراء تصرفات الشريعة، التي دلت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبودية وتعميم الحرية، حتى اشتهرت بينهم قاعدة "الشارع مُتَشَوِّف للحرية"، (4) التي كثيرًا ما استخدموها في مسائل الترجيح. وقد استعرض ابن عاشور النصوص الواردة في الترغيب في تحرير

(1) المصدر السابق، ص 262.

(2)

هذه الوسائل هي:

1 -

الإنضباط بتمييز الماهيات والمعاني تمييزًا لا يقبل الإشتباه، مئل طُرُقِ القرابة المبيَّنَة في أسباب الميراث، وفي تحريم من حرم نكاحه، فبتعين المصير إليها دون ما لا ينضبط من مراتب المحبة والصداقة والنفع والتَّبَنِّي. 2 - مجرد تحقّق مسمى الإسم، كنوط الحدِّ في الخمر بشرب جرعة من الخمر ولو لم تسكر.

3 -

التقدير، كنُصُب الزكوات في الحبوب والنقدين، ونصاب القطع في السرقة، وغيرها.

4 -

التوقيت، مثل مرور الحول في زكاة الأموال، وغيرها.

5 -

الصفات المعيِّنة للماهيات المعقود عليها، كتعيين العمل في الإجارة، وكالمهر والولي في ماهية النكاح لِيُمَيَّزَ عن السفاح.

6 -

الإحاطة والتحديد، كما في إحياء الموات، وحدود الحِرْز في تحقُّق معنى السرقة تفرقةً بينها وبين الخلسة.

مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 266 - 268 بتصرف.

(3)

المعنى الثاني للحرية هو"تمكّن الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض". مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 280 - 281.

(4)

انظر المصدر السابق، ص 281، وانظر أيضًا: محمد الطاهر بن عاشور: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، ص 167 - 168.

ص: 280

العبيد، والسبل التي سلكها الإِسلام للتقليل من الرِّق والسعي إلى تخليص البشرية منه بالتدرج، إلى أن قال:"فمن استقراء هاته التصرفات ونحوها حصل لنا العلم بأن الشريعة قاصدةُ بَثّ الحرية بالمعنى الأول [أي ضد العبودية] ". (1)

8 -

إثبات تعليل الأحكام الشرعية -خاصة أحكام المعاملات-: إذْ يرى ابن عاشور أن مقصد الشريعة الأعظم نوطُ أحكامها المختلفة بمعان وأوصاف مختلفة تقتضي تلك الأحكام، لا بأسماء وأشكال، (2) حيث يتبع تغيرُ الأحكام تغيرَ الأوصاف، وقد استدل على ذلك بـ"استقراء أقوال الشارع صلى الله عليه وسلم وتصرفاته، ومن الإعتبار بعموم الشريعة الإِسلامية ودوامها"؛ (3) ذلك أن من مقتضيات عموم الشريعة لكل الناس، ودوامها لكل الأزمان أن تكون منوطة بمعان وأوصاف تحقق مقاصدها، فتدور أحكامُها معها وجودًا وعدما، لتتحقق خاصية المرونة في الشريعة بما يسع تحقيق مقاصد الشارع لمختلف الأقوام على اختلاف عاداتهم وأعرافهم، وعلى اختلاف الحِقَب الزمنية وما يصاحب ذلك من تطور في الحياة البشرية.

9 -

إثبات واجب الإجتهاد: لَمّا كان من مقاصد الشارع تجنُّب التفريع في زمن التشريع، مع وضع الشريعة لتكون عامة ودائمة، كان من اللازم أن يقصد الشارع لتحقيق ذلك إلى إيجاد الوسيلة التي تجمع بين تحقيق هذين المقصدين المتناقضين في ظاهرهما، وتلك الوسيلة هي الإجتهاد، فكانت "الأمة الإِسلامية بحاجة إلى علماءَ أهلِ نظرٍ سديد في فقه الشريعة، وتمكن من معرفة مقاصدها، وخبرة بمواضع الحاجة في الأمة، ومقدرة طما إمدادها بالمعالجة الشرعية لاستبقاء عظمتها، واسترفاء خروقها، ووضع الهناء بمواضع النقب من أديمها. وقد هدانا الله إلى هذا بما أمر به من الإعتبار في أدلة الشريعة وبذل الجهد في استجلاء مراده. حصل لنا ذلك من استقراء آيات كثيرة من الكتاب وأخبار صحيحة من السنّة". (4)

(1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 284.

(2)

محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 245.

(3)

المصدر السابق، ص 289.

(4)

المصدر السابق، ص 294.

ص: 281

10 -

مقاصد الشارع من أحكام النكاح: وفي سعيه إلى استخلاص مقاصد الشارع من أحكام النكاح سلك ابن عاشور مسلك الاستقراء في تحديد الأصول التي يمكان الاستناد إليها في استخراج تلك المقاصد، فقال:"وقد استقريت ما يستخلص منه مقصد الشريعة في أحكام النكاح الأساسية والتفريعية فوجدته يرجع إلى أصلين: الأصل الأول: اتضاح مخالفة صورة عقد النكاح لبقية صور ما يتفق في اقتران الرجل بالمرأة، الأصل الثاني: أن لا يكون مدخولًا فيه على التوقيت والتأجيل". (1)

11 -

نوع النَّسَب الذي قصدت الشريعة إلى إيجاده: وفي تحديد نوع النَّسَب الذي اعتبرته الشريعة وقصدت إلى إيجاده والمحافظة عليه من خلال تشريعاتها في ذلك، سلك مسلك الاستقراء فقال:"واستقراء مقصد الشريعة في النَّسَب أفادنا أنها تقصد إلى نَسَبٍ لا شكّ فيه ولا محيد به عن طريقة النكاح بصفاته التي قررناها". (2)

12 -

قصد الشارع إلى العناية بالمال وحفظه: حيث استعرض ابن عاشور من أجل إثبات هذا المقصد بعض الآيات الواردة في الزكاة التي جُعِلت شعارَ الإِسلام وثالثَ أركان الدين، (3) كما استعرض ما ورد من آيات أخرى وأحاديث سواء في معرض الامتنان على العباد بنعمة المال، أو في بيان أجر النفقة والكسب الحلال، أو في بيان قيمة المال وأهميته في حياة الأفراد والجماعات. (4)

13 -

مقاصد الشارع في الأموال: حيث جعلها خمسة، مما: الرواج (5)،

(1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 317.

(2)

المصدر السابق، ص 321.

(3)

من ذلك قوله تعالى: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55]، وقوله:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7].

(4)

من ذلك قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقوله:{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254]، وقوله:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْ يَوْمِ يُصْحُ الْعِبَادُ فِيهِ إلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقَولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُم أَعْطِ مُمْسِكَا تَلَفًا". صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب (29)، مج 1، ج 2، ص 443. انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 328، وانظر أيضًا: محمد الطاهر بن عاشور: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، ص 197 وما بعدها.

(5)

وهو "دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق". محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 338.

ص: 282

والوضوح، (1) والحفظ، (2) والثبات، (3) والعدل فيها، (4) وذلك اعتمادًا على الاستقراء. (5)

14 -

مقاصد الشارع من تشريع المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان: حيث عمل على استقراء السُّنَن الواردة في ذلك، وما ورد في شأنها عن علماء السلف، خاصة علماء المدينة، حيث يقول:"ولقد استقريت ينابيع السنّة في هذه المعاملات البدنية على قِلَّة الآثار الواردة في ذلك، وتتبعت مرامي علماء سلف الأمة وخاصة علماء المدينة في شأنها، فاستخلصت من ذلك أن مقاصد الشريعة فيها ثمانية". (6)

15 -

مقاصد الشارع من عقود التبرعات (7): وفي ذلك يقول: "وقد نجد في

(1) وهو"إبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر الإمكان، ولذلك شرع الإشهاد والرهن في التداين". محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 346.

(2)

وذلك مأخود من قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل مال امرى مسلم إلّا عن طيب نفس". البيهقي: السنن الكبرى، ج 6، ص 100. انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 346.

(3)

معناه "تقرُّرها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا منازعة". محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 347.

(4)

وذلك "بأن يكون حصولها بوجه غير ظالم، وذلك إما أن تحصل بعمل مكتسبها، وإما بعوض مع مالكها أو تبرع، وإما بإرث". محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 349.

(5)

انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 338 - 349.

(6)

وهي:

1 -

التكثير منها،.

2 -

الترخيص في اشتمالها على الغرر المتعَارَف في أمثالها.

3 -

التحرز عما يُثقِل على العامل في هذه العقود.

4 -

أن هذه العقود لم يُعْتَبر لزومُ انعقادها بمجرد القول، بل جُعِلت على الخيار إلى أن يقع الشروع في العمل (عند المالكية).

5 -

إجازة تنفيل العَمَلَة في هذه العقود بمنافعَ زائدةٍ على ما يقتضيه العمل بشرط دون تنفيل رب المال.

6 -

التعجيل بإعطاء عوض عمل العامل بدون تأخير، ولا نظرة، ولا تأجيل.

7 -

إيجاد وسائل إتمام العمل للعامل، فلا يُلْزَم لإتمامه بنفسه.

8 -

الالإبتعاد عن كل شرط أو عقد يشبه استعباد العامل، بأن يبقى يعمل طول عمره أو مدة طويلة جدًّا، بحيث لا يجد لنفسه مخرجا. محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 353 - 356 بتصرف.

(7)

عقود التبرعات هي: "بذل المكلَّف مالًا أو منفعة لغيره في الحال أو المآل بلا عوض بقصد البِرّ والمعروف غالبا" وذلك مثل الوصية والهبة وغيرها. وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالكويت: الموسوعة الفقهية، ج 10، ص 65.

ص: 283

استقراء الأدلة الشرعية منبعًا ليس بقليل، يرشدنا إلى مقاصد الشريعة من عقود التبرعات"، (1) وهي:

أ - "التكثير منها لما فيها من المصالح العامة والخاصة".

ب - "أن تكون التبرعات صادرة عن طيب نفس لا يُخَالِجُه تردُّد".

جـ - "التوسع في وسائل انعقادها حسب رغبة المتبرعين".

د - "أن لا يُجْعَل التبرع ذريعة إلى إضاعة مال الغير، من حق وارث أو دائن". (2)

16 -

مقاصد الشارع من نصب الحكاّم: حيث إن استقراء الشريعة في تصرفاتها يبيّن أن من مقاصدها نصب حكام يسوسون مصالح الأمة، ويقيمون العدل فيها، وينفذون أحكام الشريعة بينها. (3)

(1) محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 357.

(2)

المصدر السابق، ص 358 - 361 بتصرف.

(3)

انظر المصدر السابق، ص 363.

ص: 284