الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
نماذج تطبيقية على أهمية السياق والمقام في تحديد المقصود من الخطاب الشرعي
المطلب الأول
أهمية القرائن في تحديد المقصود من الأوامر والنواهي
لما كانت صيغة الأمر تحتمل معاني كثيرة، منها: الإيجاب (1)، والندب (2)، والإباحة (3)، والتعجيز (4)، والإهانة (5)، وغيرها، فإن القصد الشرعي منها إنما يتحدّد بحسب القرائن الحالة والمقالية المقترنة بها.
- فمثلًا قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ" مَرَّتَيْنِ. قِيلَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ:"إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ فَاكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ". (6)
فقوله: "اكلفوا" أمر يحتمل الوجوب ومن ثَمّ وجوب تجنب كلّ عمل شاقّ على النَّفس، ويحتمل مجرد الترغيب. والقرائن مما التي حددت أن المقصود منه "الرفق بالمكلّف خوف العنت أو الإنقطاع، لا أنّ المقصود نفس التقليل من العبادة". (7)
(1) مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)} [النور: 56].
(2)
مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] حيث ذهب الجمهور إلى أن الأمر فيها للندب، وذهب آخرون إلى أنه للإيجاب. انظر في ذلك ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله: أحكام القرآن، تحقيق علي محمد البجاوي، (بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، د. ت)، ج 3، ص 1370.
(3)
مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51].
(4)
مثل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23].
(5)
مثل قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49].
(6)
صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (49)، مج 1، ج 2، ص 606.
(7)
الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 113.
ودلل ذلك ما أخرجه ابن ماجه عن أَبي هُرَيْرة أن رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اكلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ خَيْرَ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ". (1)
فقوله: "فإن خير العمل أدومه وإن قلّ" قرينة تدلّ على أن علّة أمر الناس بأن يكلفوا من العمل ما يطيقون هو مخافة ما يمكن أن يصيبهم من عنت يؤدي بصاحبه إلى الإنقطاع، فمن كانت فيه طاقة على الإكثار من العبادات دون خشية من الإنقطاع جاز له الإكثار من ذلك.
وكذلك النهي يَرِدُ لأغراض متعددة منها التحريم (2)، والكراهة، (3) والإرشاد، (4) والدعاء، (5) وغيرها، والذي يحدّد المقصود من النهي بعد ذلك هو ما يحفّ به من قرائن.
- ومن أمثلة ذلك ما ورد في النهي عن الوصال، حيث روى البخاري عن أَبي
هُرَيرةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ يا رَسُولَ الله. قَالَ: "وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ". فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ فَقَالَ: "لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدتُكُمْ كالتَّنْكِيلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا". (6)
فالنهي عن الوصال يحتمل أن يكون للتحريم، ومن ثَمّ يكون الشارع قاصداً إلى التقليل من الصوم، ويحتمل أن يكون مجرّد ترغيبٍ القصدُ منه الرِّفق بالمكلّفين. وقد دلّت القرائن على أن المقصود هو الرفق لا التقليل من الصوم، ومن تلك القرائن وصال النبي صلى الله عليه وسلم، ووصاله بالصحابة لما امتنعوا عن ترك الوصال؛ ليبيِّن لهم ما يلحق بهم من مشقَّةٍ جرّاء الوصال ويُظهرَ لهم عمليّاً الحكمة من نهيه. فعدم انتهاء الصحابة عن الوصال ما كان ليقع لولا أنهم علموا من خلال القرائن الحالية التي صاحبت نهي
(1) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب (28)، ج 2، ص 436، الحديث (4240).
(2)
مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152].
(3)
مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87].
(4)
مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
(5)
مثل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].
(6)
صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (49)، مج 1، ج 2، ص 606، الحديث (1965).
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أن النهي إنما كان ترفُّقاً بهم، ولو كان نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم محمولاً على حقيقته -وهي التحريم- لما واصل بهم بعد أن نهاهم؛ لأن ذلك يُعدّ تناقضاً، وحاشاه أن يقع منه ذلك. ومن ذلك أيضاً ما روي عن السلف الصالح من وصالهم مع -علمهم بالنهي، وما كان منهم ذلك إلّا لأنهم علموا أن المقصد من النهي إنما كان هو الرفق بهم، فمن وجد في نفسه قدرة فواصل فلا شيء عليه. (1) ولذلك ترجم البخاري للأحاديث الواردة في النهي عن الوصال بقوله:"بَاب الْوِصَالِ وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي اللَّيْلِ صِيَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وَنَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عَنْهُ رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ وَمَا يُكرُه مِنَ التَّعَمُّقِ". (2)
- ومن أمثلة ذلك النهي الوارد في المزارعة، فقد أخذه البعض -وكل رأسهم رافع بن خديج وسالم بن عبد الله بن عمر- كل ظاهره من كونه للتحريم، وفهم بعض الصحابة -وعلى رأسهم ابن عباس- من القرائن الحالية التي صاحبت النهي أن المقصد من النهي ليس التحريم وإنما هو الترغيب في المواساة بين الصحابة بأن يعود من كان له فضلُ أرضٍ على من لا أرضَ له ليستغلّها ويسدّ بها خلته. (3)
فهذا الصحابي الذي وقعت له الحادثة فهم من القرائن الحالية التي صاحبتها أن النهي إنما كان ترغيبًا في عدم كرائها لا نهي تحريم، فالقرائن الحالية هي التي جعلته يرجح معنى من معاني النهي على المعاني الأخرى. وكذلك روي عن ابن عباس أن
(1) انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 113 - 114.
(2)
صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب (48)، مج 1، ج 2، ص 60، تعليقاً قبل الحديث (1961).
(3)
وذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن رافع بن خديج أنه قال: "دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما تصنعون بمحاقلكم؟ " قلت: نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال: "لا تفعلوا، ازْرَعُوها، أو أَزرِعُوها، أو أمسكوها". قال رافع: قلت سمعاً وطاعة". صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، مج 2، ج 3، ص 101.الحديث (2339) وانظر ما ورد في المبحث الثاني من الفصل الأول من الباب الأول من هذا المبحث. وهذا توجيه من التوجيهات لأحاديث النَّهي عن المحاقلة (كراء الأرض) تمّ انتقاؤه لمناسبته للموضوع، وهناك توجيهات أخرى منها ما ذهب إليه الإمام مالك من أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن المحاقلة، والمحاقلة كراء الأرض بالحنطة، وذهب البعض إلى أن النَّهي إنما هو عن كراء الأرض بما ينتجه جزء منها لمَا في ذلك من غرر، أما كراؤها بالذهب والورِق وما في حكمهما فلا مانع منه لإنعدام عنصر المخاطرة. انظر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 166 - 167.
النبي صلى الله عليه وسلم بما لم ينه عن كراء الأرض نهي تحريم وإنما قال: " أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلوماً"، (1) وترجم البخاري للباب بقوله:"باب ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضم بعضاً". (2)
- ومن أمثلة ذلك الأحاديث التي وردت في أنه لا حلف في الإِسلام، ومنها ما رواه مسلم أَنّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا حِلْفَ فِي الإِسْلَامَ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كانَ فِي الجاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً". (3)
فقوله: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلَامِ" يُفهم من ظاهره عموم تحريم كلّ أنواع المحالفة في الإِسلام، ولكن لما سئل أنس بن مالك عن حديث النهي هذا، أنكر هذا الفهم واستدلّ على ذلك بما شهده هو بنفسه في داره من عقد الرسول صلى الله عليه وسلم حلفاً بين قريش والأنصار وهو حِلْف في الإِسلام، وذلك ما رواه مسلم عن عاصم الأحول قَالَ قيل لأَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ: بَلَغَكَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلَامِ"؟ فَقَالَ أنس: قَدْ حَالَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِه". (4) فهذه قرينة تدل على أن النهي ليس على عمومه، ولذلك قال النووي: "أما المؤاخاة في الإِسلام، والمحالفة على طاعة الله، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى، وإقامة الحق فهذا باقٍ لم يُنسخ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث:"وَأَيُّمَا حِلْف" كانَ فِي الجاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً"، وأما قوله: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلَامِ" فالمراد به حلف التوارث، والحلف على ما منع الشرع منه". (5)
- ومن ذلك حديث النهي عن خطبة المسلم على خطبة أخيه: روى الإمام مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا يَخْطُبْ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ". (6)
(1) صحيح البخاري، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، مج 2، ج 3، ص 102، الحديث (2342).
(2)
المصدر السابق، كتاب الحرث والمزارعة، باب (18)، مج 2، ج 3، ص 101.
(3)
صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب (50)، ج 4، ص 1960، الحديث (2530).
(4)
المصدر السابق، كتاب فضائل الصحابة، باب (50)، ج 4، ص 1961، الحديث (2529).
(5)
النووي، أبو شرف يحيى بن زكريا: صحيح مسلم بشرح النووي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 3، 1404 هـ / 1984 م)، ج 16، ص 82.
(6)
الموطأ، ح 2، ص 61 - 62.
فظاهر الحديث حرمة خطبة المرء على خطبة أخيه مطلقاً من بداية الخطبة إلى أن يدعها، ولكن ورد في حديث آخر ما يخالف هذا، وهو ما رواه مالك عن فاطمة بنت قيس:"أن زوجها طلقها، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتدّ في بيت ابن أم مكتوم، وقال: "إِذَا حَلَلْتِ فَآذنِينِي". قالت: فلمَّا حللت ذكرت له أن معاوية بن أَبِي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمَّا أبُو جَهْم فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمّا مُعَاويّة فَصعْلُوك لَا مَالَ لَهُ، انْكحِيِ أُسَامَة بن زَيْد". قالت: فكرهته، فقال:"انْكحِيِ أُسَامَة"، فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به". (1)
فدلّ إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله على أن حديث النهي ليس على إطلاقه. أما الإقرار ففي قولها: "فذكرت له أن معاوية بن أَبِي سفيان وأبا جهم خطباني"، فلم يعترض صلى الله عليه وسلم على كون أحدهما خطبها على خطبة الآخر بل أقره، وأما الفعل فخطبته إياها لأسامة ابن زيد على خطبة كلّ من معاوية وأَبِي جهم. فدلّ هذا على أن الخطبة المنهي عنها هي التي تكون بعد ركون المرأة لخطبة الأول. كما دلّ على أن الراوي لم يبيِّن المقام الذي قيل فيه حديث النهي، كأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم سُئِل عن رجل خطب امرأة فرضيته وإذنت في نكاحه، ثم خطبها غيره على خطبة الأول. (2) فعدم نقل المقام الذي قيل فيه الحديث من قِبَلِ الراوي أدى إلى غموض في دلالة الحديث فاحتيج في بيانه إلى دلالة حديث آخر.
ومن فوائد معرفة المقصود بالأمر والنهي أن الأمر والنهي اللذان يُرَادُ بهما الرفق والرحمة يكونان في حكم الرخصة، إنْ وَجَدَ المكلّفُ في نفسه ضعفاً أخذ بظاهرهما وترخص، وإن وجد في نفسه قوة أخذ بالعزيمة ولم يلتفت إلى الرخص. (3)
(1) الموطأ، ج 2، ص 98 - 99.
(2)
انظر الشافعي: الرسالة، ص 308.
(3)
انظر الشاطبي: الموافقات، مج 2، ج 3، ص 117.