الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
تطبيقات الاستقراء عند الفقهاء والأصوليين
لقد استخدم علماء المسلمين الاستقراء في مجالات كثيرة من دراساتهم، فني علم أصول الفقه نجد الاستقراء حاضرًا في كثير من مباحثه، بل هو المُستَنَد الأساس لعلماء الأصول في بعضها. ومن أمثلة ذلك قيام مدرسة الحنفية في الأصول على الاستقراء. فمنظِّرُوا الأصول من علماء الحنفية قاموا باستقراء فتاوى أئمتهم السابقين، ليستخرجوا من ذلك المعاني والضوابط التي التزموا بها في فتاواهم، ثم اتخذوها بعد ذلك أُسُسًا أصَّلُوا الأصول عليها، ومن هنا وُصِفَت أصول الحنفية بأنها ضررة وليست حاكمة. وفي ذلك يقول شاه ولي الله الدهلوي: "
…
واعلم أنِّي وجدت أكثرهم يزعمون أنَّ بناء الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه، وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرَّجة على قولهم. وعندي أن المسألة القائلة: بأنما الخاص مُبَيَّنٌ ولا يلحقه بيان، وأن الزيادة فسخ، وأن العام قطعي كالخاص، وألَّا ترجيح بكثرة الرواة، وأنه لا يجب العمل بحديثِ غيرِ الفقيه إذا انسدَّ باب الرأي، ولا عبرة بمفهوم الشرط والوصف مثلًا، وأن موجَبَ الأمر هو الوجوبُ ألبتة، وأمثال ذلك أصول مُخَرَّجة على كلام الأئمة، وأنها لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة وصاحبه، وأنه ليست المحافظة عليها والتكلف في جواب ما يرد عليها من صنائع المتقدمين كما يفعله البزدوي
…
". (1)
كما استخدم أصولِيُّو مدرسة المتكلمين الاستقراء في إثبات ظنية دلالة اللفظ العام على أفراده، فقد اسْتَقْرَوا العمومات الواردة في القرآن الكريم فوجدوا أكثرها قد خُصِّص، فقرروا أن دلالة العام على أفراده ظنية، واشتهر عنهم في ذلك قولهم إنه ما من عام إلّا وقد خُصِّص. (2)
(1) الدهلوي، أحمد بن عبد الرحيم (شاه ولي الله): الإنصاف في بيان أسباب الإختلاف في الأحكام الفقهية، (القاهرة: المطبعة السلفية، 1385 هـ)، ص 13، 38.
(2)
انظر أبو زهرة، محمد: أصول الفقه، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1417 هـ / 1997 م)، ص 141.
وفي تناوطم بالدراسة مسالك العلة، نجد الاستقراء حاضرًا، كما هو الحال في مسلك الدوران (الطرد والعكس) الذي هو تلازم الحكم والعلة وجودًا وعدما، (1) وهو أمر يحتاج في إثباته إلى الاستقراء، وهو من الاستقراء الناقص. وكما هو في مسلك السبر والتقسيم، إذ التقسيم هو استقراءُ أوصافِ الأصل وجمعها في جملة معينة. (2)
والقواعد والضوابط الفقهية يقوم الجزء الأكبر منها على الاستقراء، إذْ نوعان: قواعد مقتبسة من النصوص الشرعية، مثل "لا ضرر ولا ضرار، (3) و"الأمور بمقاصدها"، (4) وهذا يمثل جزءًا يسيرًا من القواعد الفقهية، أما الجزء الأكبر فإنه مُستمدٌّ بطريق استقراء الفروع الفقهية الواردة في الباب الواحد لإستخراج قاعدة كلية أو أغلبية تنتظم تلك الفروع في عقد واحد، وتضبطها بضابط مشترك. (5)
كما كان الاستقراء أحدَ الوسائل التي اعتمدها الفقهاء في أبواب كثيرة من الفقه الإِسلامي، كإحصاء أنواع المياه، وتحديد دماء الحيض والنفاس والإستحاضة، وتحديد أقصى مدة الحمل، والإستدلال على عدم فرضية صلاة الوتر، (6) وغير ذلك.
وكان الاستقراء هو الوسيلة الأساسية التي اعتمدها علماء اللغة العربية في استخراج قواعدها وضوابطها، إذ استقصوا في سبيل ذلك معظم التراكيب العربية
(1) انظر الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، ج 3، ص 330.
(2)
انظر المصدر السابق، ج 3، ص 289 - 291.
(3)
مأخوذة من الحديث "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ". سنن ابن ماجة الحديث (2340) و (2341).
(4)
مأخوذة من الحديث: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ". صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب (1)، مج 1، ج 1، ص 3، الحديث (1).
(5)
انظر في ذلك مثلا: ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم: الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1405 هـ/ 1985 م)، ص 15؛ الكرابيسي، أسعد بن محمد بن الحسن: الفروق، تحقيق محمد طموم، (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية، ط 1، 1402 هـ / 1982 م)، ج 1، ص 33.
(6)
انظر في الإستدلال بالاستقراء على عدم وجوب صلاة الوتر: أبو حامد الغزالي: المسمَّى، ج 1، ص 55، حيث يقول عن الإستدلال بالاستقراء:"كقولنا في الوتر: ليس بفرض؛ لأنه يُؤدَّى على الراحلة، والفرض لا يُؤدَّى على الراحلة. فيقال: لِمَ قلتم إن الفرض لا يُؤدَّى على الراحلة؛ فيقال: عرفناه بالاستقراء، إذ رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدى على الراحلة، فقلنا: إن كل فرض لا يُؤدَّى على الراحلة".
وطرق أدائها، ومعظم المفردات العربية ومشتقاتها، ثم استخرجوا من ذلك قواعد النحو والصرف، ونفس الأمر كان مع استخراج قواعد علم العروض. (1)
ولَمّا كان أكثر من اعتنى بالاستقراء نظرًا وتطبيقًا هو الإمام الشاطي، ثُمّ تبعه في ذلك الإمام محمد الطاهر بن عاشور فإن بيان مسلك الاستقراء لا يَتِمّ إلّا بإفراد كل واحد منهما بفصل مستقل لبحث موضوع الاستقراء عند كل واحد منهما بشيء من التفصيل.
(1) انظر في هذا المجال: المخزومي، مهدي: الخليل بن أحمد الفراهيدي: أعماله ومنهجه، (بيروت: دار الرائد العربي، ط 2. 1406 هـ / 1986 م)، ص 77 - 82؛ أحمد مختار عمر: المبحث اللغوي عد العرب مع دراسة لقضية التأثير والتأثر، (القاهرة: عالم الكتب، ط 6، 1988 م)، ص 79 - 92.