الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التشبيه
الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى،
ــ
(تنبيه): بهذا التقسيم يعلم أن التشبيه حقيقة، وليس مجازا، وهذا مما لا يشك فيه ذو تحقيق، إذا كان مصرحا فيه بالأداة، نحو: زيد كالأسد. نعم إذا حذفت أداته، مثل: زيد أسد، ففيه مجاز الحذف. ونقل ابن الأثير فى كنز البلاغة أن الجمهور على أن التشبيه الصريح، نحو: زيد كالأسد، مجاز، ونحن لا نسلم له صحة هذا النقل، ولا نتخيل لذلك شبهة إلا أن ندعى أن معنى زيد كالأسد مشابهته فى جميع الأمور، وأن ذلك متعذر، وهذه شبهة ساقطة مبنية على باطل، كما سيأتى.
ثم رأيت فى العمدة لابن رشيق أن التشبيه مجاز قال: وإنما كان مجازا؛ لأن المتشابهين إنما يتشابهان بالمقاربة، وعلى المسامحة انتهى.
وهى الشبهة الساقطة التى تخيلت أنها التى لوحظت، ونقل الوالد أيضا فى تفسيره: أن التشبيه مجاز. والكلام على أن التشبيه خبر أو إنشاء سيأتى فى آخر الأقسام.
وقوله: (فانحصر فى الثلاثة) أى: انحصر هذا العلم أو الكلام فى الثلاثة، وهذه الفاء مشعرة بالتعليل، وليس فيما يليها ما يشعر بالتعليل، إنما ذكر سبب تقديم كل واحد على أخويه.
التشبيه: ص: (التشبيه الدلالة على مشاركة أمر لأمر فى معنى).
(ش): التشبيه فى اللغة: جعل الشئ شبيها بآخر، والتشبيه الاصطلاحى ليس فيه ذلك، بل فيه ادعاء التشبيه، أو اعتقاده مجازا عند وصفه بذلك، وهو قولك مثلا:
زيد كعمرو، وتسميته تشبيها مجاز؛ لأنه نقل إليه من اعتقاد التشبيه، فلفظ التشبيه الاصطلاحى مجاز عن لفظ التشبيه اللغوى، وقد حده المصنف فقال: الدلالة، ولا يصح ذلك بالتفسير المتقدم من أن الدلالة صفة اللفظ، فإن التشبيه فعل المتكلم، ولا يصح جواب الخطيبى، بأنه عرف التشبيه بحسب الاصطلاح، لا بحسب اللغة؛ لأن التشبيه بحسب الاصطلاح، ليس هو الدلالة؛ لأن الدلالة إن كانت صفة اللفظ، فواضح أن التعريف فاسد، وإن كانت صفة السامع، فكذلك؛ لأن التشبيه فعل المتكلم.
وإن كانت صفة المتكلم، فكذلك؛ لأن التشبيه فى الاصطلاح لفظ؛ ولذلك جعل أركانه
والمراد - ههنا - (1) ما لم تكن على وجه الاستعارة التحقيقية، والاستعارة بالكناية، والتجريد؛
ــ
المشبه، والمشبه به، والأداة، والوجه، وكل هذه ليست شيئا من كون المتكلم دل على المشاركة، فلا يبقى إلا أن التشبيه: الدلالة الحاصلة من اللفظ، وفيه تعسف. ويكون اللفظ سمى تشبيها مجازا فإن التشبيه بالحقيقة فعل المتكلم، وقوله:(فى معنى) يريد:
فى مدلول؛ لأنه فى محل العناية، لا ما يقابل الجوهر ثم يقال عليه: إن التشبيه الذى هو أصل الجميع التشبيه المعنوى الشامل للاستعارة، وغيرها، وقد قدم التشبيه الأخص وهو ذو الأداة لفظا، أو معنى، وجوابه أن التشبيه المعنوى، كالفرع عن التشبيه بالأداة؛ فإنها مرادة فيه فى المعنى، لا اللفظ.
(وقوله: والمراد هاهنا ما لم تكن على وجه الاستعارة، والاستعارة بالكناية؛ والتجريد).
هذا كالفصل المخرج لما دل على المشاركة، وليس هو المراد هنا، فالاستعارة وإن دلت على المشاركة، وفيها
التشبيه المعنوى، فليست تشبيها لفظيا، فليس مرادا هنا.
والاستعارة بالكناية ليست تشبيها، أما عند السكاكى، فلأنها عنده استعارة فتشبيهها معنوى، وأما عند المصنف؛ فلأنها وإن كانت تشبيها إلا أنه لما غلب عليها اسم الاستعارة، قصد تأخير الكلام فيها، وذكرها مع الاستعارة. وأما التجريد؛ فلأنه ليس تشبيها على ما سيأتى؛ فلذلك أخره إلى علم البديع.
وقوله: (على وجه الاستعارة) أطلقه هنا، وقيده فى الإيضاح بالتحقيقية، واحترز عن التخييلية؛ فإنها لا تدخل التشبيه على رأيه؛ لأن التشبيه الدال على المشاركة، إنما هو الاستعارة بالكناية التى هى قرينة التخييلية، وأما التخييلية فليس فيها إلا ذكر لازم المشبه به، فالمشاركة بين المشبه والمشبه به، لا بين لازم المشبه به وشئ. غير أنه ذكر فى التخييلية لازم المشبه به، تقوية للتشبيه الحاصل فى المكنية، وبهذا التقرير يعلم أنه لا حاجة لتقييدها بالتحقيقية؛ لأنها خرجت بقوله: مشاركة، وأما تقييده فى الإيضاح فلعله لاحتمال أن يتوهم دخولها باعتبار أنها تدل على إثبات مثل لازم المشبه به للمشبه، وحاصله أن الاستعارة التخييلية، لا تدخل فى كلامه. أما فى الإيضاح فقوله: التحقيقية، وأما فى التخلص فلعدم المشاركة، أو لدخولها فى إطلاق الاستعارة، أو
(1) أى بالتشبيه المصطلح عليه فى علم البيان.
فدخل نحو: زيد أسد وقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (1)
ــ
لاستغنائه عن ذكرها بذكر قرينتها وهى المكنية؛ لأن التخييلية عنده لا توجد دون المكنية. وأورد الخطيبى عليه أن كلامه يقتضى أن الثلاثة ليست تشبيها وهى تشبيه.
والذى قاله لا يرد، لأن المراد التشبيه الاصطلاحى، وليست التحقيقية والتجريد تشبيها عنده، كما سيأتى. وأما المكنية، فهى وإن كانت تشبيها، فكلامه لا يقتضى أنها غير تشبيه، بل أنها تشبيه لم يرد الآن الكلام فيه، وقد حصل بمجموع ما ذكره رسم يحصل به تعريف التشبيه المراد هنا، وأورد على هذا الحد، قولك: قام زيد وعمرو، واشترك زيد وعمرو، وكذلك ترافقا، وتصاحبا، واجتمعا، وأكلا، وكذلك جميع أفعال المفاعلة فكل ذلك دال على المشاركة. وكذلك: زيد أفضل من عمرو، وكذلك: تشابه زيد وعمرو فإنه تشابه (2) لا تشبيه وأورد المجاز، فإنك إذا قلت: رأيت أسدا، فقد دللت على مشاركته للأسد المفترس فى الشجاعة؛ إذ لا فرق بين قولك: رأيت شخصا مثل الأسد، ورأيت أسدا فى الدلالة على المشاركة على ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - وهذا لا يرد، فإن المصنف قد قال: المراد ما لم يكن على وجه الاستعارة، والاستعارة مجاز، فقد صرح بإخراجه.
ص: (فدخل فيه نحو قولنا: زيد أسد، وقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ).
(ش): أى دخل فى الحد قولنا: زيد كالأسد، فإنه تشبيه بلا خلاف، ودخل نحو قولنا: كالأسد، بحذف زيد؛ لدلالة قرينة عليه، ودخل فيه ما يسمى تشبيها على المختار، على ما سنذكره - إن شاء الله تعالى - وهو ما حذفت فيه أداة التشبيه، وكان المشبه به خبرا، أو فى حكم الخبر، كقولنا: زيد أسد، وقوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ وقول عمران بن حطان يخاطب الحجاج:
أسد علىّ، وفى الحروب نعامة
…
فتخاء تنفر من صفير الصّافر
ولنا فى ذلك نزاع سنذكره - إن شاء الله تعالى - وأطلق المصنف: المشاركة، وشرط بعضهم أن يكون الاشتراك فى صفة ظاهرة. وقيل: فى أخص صفات النفس، وفيه نظر؛ إذ لا مانع من التشبيه فى صفة خفية، لكن إذا كانت خفية، يشترط فى
(1) سورة البقرة: 18.
(2)
قوله فإنه تشابه إلخ كذا فى الأصل ويظهر أن فى هذا سقطا فتأمل كتبه مصححه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
التشبيه بها بيان وجه الشبه، كقولك: رأيت رجلا كالأسد فى البحر، وإنما يمتنع الخفاء فى العلاقة.
(تنبيه): إذا كان طرفا التشبيه مذكورين، والمشبه به خبر مبتدأ، أو فى حكمه مثل خبر كان، وإن، وثانى مفعولى علمت، والحال، فهل يكون ذلك تشبيها، أو استعارة؟ اختلفوا فيه، وأنا أذكر ما يتضح لى أنه الصواب، ثم أتحفه بكلام الناس فى ذلك. أما الذى يتضح لى - وبالله التوفيق - فهو أن ذلك على قسمين: تارة يقصد به التشبيه، فتكون أداة التشبيه مقدرة، وتارة يقصد به الاستعارة، فلا تكون مقدرة. ويكون الأسد مستعملا فى غير حقيقته، ويكون ذكر زيد والإخبار عنه بما لا يصلح له حقيقة، قرينة صارفة إلى الاستعارة، دالة عليها. فإن قامت قرينة على حذف الأداة، صرنا إليه، وإن لم تقم، فنحن بين إضمار واستعارة. والاستعارة أولى، فليصر إليها.
والأصوليون مختلفون فيما إذا دار الأمر بين المجاز والإضمار، أيهما أولى، وذلك فى مطلق المجاز، وفى علم أصول الفقه. أما الاستعارة التى هى أشرف أنواع المجاز، فإنها مقدمة على الإضمار، ولا سيما ونحن فى علم البيان الذى الاستعارة فيه هى الأصل. وهم مجمعون على أن الاستعارة خير من الإضمار، وهذا الذى ذكرته من تجويز الاستعارة، لا يحتاج فيه لدليل؛ لأنه مجاز سائغ، وكما يجوز أن تقول: جاءنى أسد تريد الاستعارة، يجوز أن
تقول: زيد أسد، وهذا قياس جلى، وما يظن من الفرق بينهما، سأجيب عنه - إن شاء الله - هذا هو الذى ظهر لى.
وأما الذى قالوه فها أنا أقوله، مبينا ما فيه: قال الزمخشرى فى قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (1): فإن قلت: هل يسمى ما فى الآية استعارة؟ قلت: مختلف فيه، والمحققون على تسميته تشبيها بليغا، لا استعارة.
(قلت): إن أراد أنهم يسمونه تشبيها، وإن كان استعارة، ويكون صم فى الآية مجازا؛ ولكنه يسمى تشبيها، لتقدير اسم المشبه، وذكر اسم المشبه به، مرادا بهما معا المشبه، فقريب. وإن أراد أن أداة التشبيه فيه محذوفة، وصم حقيقة، فلا نسلم. وما الدليل على ذلك؟ قال: لأن المستعار له مذكور، وهم المنافقون.
(1) سورة البقرة: 18.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
(قلت): يعنى بكونه مذكورا: كونه مذكورا فى التقدير، فإن تقدير الآية: المنافقون صم، قالوا: وإنما تطلق الاستعارة حيث يطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلوا عنه، صالحا لأن يراد به المنقول عنه، والمنقول إليه لولا دلالة الحال، أو فحوى الكلام؛ ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كانوا يتناسون التشبيه، ويضربون عن توهمه صفحا.
(قلت): هذا هو الذى عولوا عليه فى أن نحو: زيد أسد تشبيه وليس استعارة.
وزاده السكاكى وضوحا أن قال: وإنما عد زيد أسد، وقرينه المحذوف المبتدأ تشبيها؛ لأنك حين أوقعت أسدا - وهو مفرد غير جملة - خبرا لزيد، استدعى أن يكون هو إياه، مثله فى: زيد منطلق فى أن الذى هو زيد هو بعينه منطلق، وإلا كان زيد أسد مجرد تعديد، نحو: خيل فرس لا إسناد لكن العقل يأبى أن يكون الذى هو إنسان، هو بعينه أسد، فيلزم لامتناع جعل اسم الجنس وصفا للإنسان، حتى يصلح إسناده إلى المبتدأ المصير إلى التشبيه بحذف كلمته، قصدا للمبالغة، انتهى.
وقد زاده المصنف وضوحا بأن قال: الاسم إذا وقع هذه المواقع فالكلام موضوع لإثبات معناه لما يعتمد عليه، أو نفيه عنه. فإذا قلت: زيد أسد فقد وضعت كلامك فى الظاهر؛ لإثبات معنى الأسدية لزيد، وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة كان لإثبات شبه من الأسد له، فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه، فكان خليقا بأن يسمى تشبيها إذا كان إنما جاء ليفيده، بخلاف الحالة الأولى، فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه لشئ، كما إذا قلت: جاءنى أسد، فإن الكلام فيه موضوع لإثبات المجئ واقعا من الأسد، لا لإثبات معنى الأسد لشئ، فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه،
وصار قصده التشبيه مكنونا فى الضمير، لا يعلم إلا بعد الرجوع لشئ من النظر.
ووجه آخر فى كون قصد التشبيه مكنونا فى الضمير، وهو أنه لما لم يكن التشبيه مذكورا جاز أن يتوهم السامع فى ظاهر الحال، أن المراد باسم المشبه به ما هو موضوع، فلا يعلم قصد التشبيه إلا بعد شئ من التأمل، بخلاف الحال الثانية فإنه يمتنع فيه مع كون المشبه مذكورا، أو مقدرا انتهى.
وحاصل كلام الزمخشرى، والسكاكى، والمصنف، ومن تبعهم أن نحو: زيد أسد، إنما لم يكن استعارة؛ لامتناع إمكان حمل الكلام على الحقيقة، وأن من شرط
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة فى الظاهر، وتناسى التشبيه. ولا حاصل لما قالوه؛ لأنا نقول: ليس من شرط الاستعارة صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة فى الظاهر؛ بل لو عكس ذلك، وقيل: لا بد من عدم صلاحيته، لكان أقرب؛ لأن الاستعارة مجاز لا بد له من قرينة، وإن لم تكن قرينة؛ امتنع صرفه إلى الاستعارة، وصرفناه إلى حقيقته وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة، غير أن تلك القرينة تارة تكون معنوية حالية، مثل: رأيت أسدا، وتارة تكون لفظية، مثل: زيد مخبرا عنه بالأسد، فإنه قرينة تصرف الأسد عن إرادة حقيقته. ثم إن المصنف وكل من تكلم فى قوله تعالى:
فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (1)، وقوله: فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ (2) جعل حصيدا وهشيما استعارة، وهو يناقض قولهم: إنه إذا وقع المشبه به خبرا، أو حالا، يكون تشبيها، وقد جعل الرمانى وغيره من الاستعارة: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً (3) مع أن مبصرة حال، وجعل الرمانى، والإمام فخر الدين، والزنجانى، منه قوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً (4) وإن كان حالا. ثم ليت شعرى! كيف يصنعون فى الإخبار بالمصدر، نحو: زيد ضرب، هل يقدرون على أن يقدروا مثل: ضرب؟ وذلك لا سبيل إليه؛ لوضوح فساده، وبعده عن المقصود من الإخبار بالمصدر، وبرهان ذلك أيضا أنا لم نر أحدا ذهب فى قوله:
فإنّما هى إقبال وإدبار
أنه تشبيه، بل قيل: هو استعارة، ورده عبد القاهر فى دلائل الإعجاز، وقال: هو مجاز حكمى، وكأنه يريد مجاز الإسناد، فكان ذلك اتفاقا منهم على أنه ليس تشبيها، وقال عبد القاهر أيضا، فى قول المتنبى:
بدت قمرا ومالت خوط بان
إنه ليس على تقدير: مثل قمر، بل هو من قبيل المجاز الحكمى، وهذا وارد عليهم إن كان قمرا حالا ومما يرد عليهم
ما ذكره النحاة عن آخرهم فى نحو: زيد زهير شعرا؛ فإنه لا يوافق ما ذكروه، بل يشهد لما قلناه من أنه استعارة. ومما يدل لما قلناه،
(1) سورة يونس: 24.
(2)
سورة الكهف: 45.
(3)
سورة الإسراء: 59.
(4)
سورة الأحزاب: 46.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قول الزمخشرى فى قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (1) ما نصه: وهذا مجاز، شبههن بالمحارث. فقوله:(مجاز) صريح فى أنه استعارة، ولا يعكر عليه قوله: شبههن بالمحارث، فإن فى كل استعارة تشبيها معنويا. وكذلك قال جماعة فى قوله تعالى:
هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ (2) ثم إن الزمخشرى قال فى قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً (3) ما نصه: والحصور من لا يدخل فى الميسر، قال الأخطل:
وشارب مربح بالكاس نادمنى
…
لا بالحصور ولا فيها بسآر
استعير الحصور لمن لا يدخل فى اللعب، فإما أن يريد أن الحصور فى الآية استعارة، فقد جعل الحال استعارة، أو يريد أن الحصور فى البيت استعارة، فقد جعل خبر المبتدأ استعارة، وهو يرى أن: زيد أسد، تشبيه وممن جزم بأن قولنا: زيد أسد، استعارة - التنوخى فى الأقصى القريب، وقال ابن رشيق فى العمدة: إن حية فى قول ذى الرمة (4):
فلمّا رأيت الليل والشّمس حيّة
…
حياة الّذى يقضى حشاشة نازع
استعارة، وظاهر كلامه نسبة ذلك إلى ابن المعتز، إلا أنه قد يقال: لا دليل فيه لما يقول لما سيأتى. وهذه أمور نقلية من كلامهم تنقض أصلهم. ومما ينقض قولهم قول السكاكى، والمصنف، وغيرهما بعد ورقتين: إن من الاستعارة قولهم:
تحية بينهم ضرب وجيع
وقولهم: عتابك السيف، وبما اخترناه من أن: زيد أسد، يصح أن يقع استعارة.
صرح عبد اللطيف البغدادى، فقال فى قوانين البلاغة: التشبيه مصرح بحرفه، والاستعارة أن يطلق على المشبه
اسم المشبه به من غير تصريح بأداة التشبيه، يقال: زيد أسد، وبحر، وغيث، أو زيد أسد فى شجاعته ومما ينقض أصلهم هذا من جهة المعنى أنا نجد اللفظ فى كثير من التراكيب لا يصلح للحقيقة، ويسمونه استعارة، لا يكادون
(1) سورة البقرة: 223.
(2)
سورة البقرة: 187.
(3)
سورة آل عمران: 39.
(4)
البيت فى ديوانه ص 167 ورواية الديوان" رأين" وهى الصواب.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يترددون فيه، كقولك: تكلم الأسد، ورمى الأسد بالنشاب إلى غير ذلك من القرائن اللفظية الصارفة عن إرادة الحقيقة، وهو استعارة عندهم. وكيف يمكن تناسى التشبيه فى مثله، مع أن الرمى والكلام لا يصلحان من الأسد الحقيقى؟ وليت شعرى! أى فرق بين زيد وأسد، وبين: تكلم أسد، فى عدم إمكان حمل اللفظ فى الظاهر على الحقيقة، وفى كون الأول تشبيها محذوف الأداة، والأسد فيه حقيقة، والثانى استعارة، ثم نقول:
ليس كل ما وقع خبر مبتدأ يمتنع فيه حمله على الحقيقة، فإنك إذا قلت: هذا أسد، والذى فى دارى أسد ونحو ذلك، مريدا زيدا، فقد وقع الأسد خبر مبتدأ. ومع ذلك لا يمتنع حمله على حقيقته، فكان ينبغى أن يسمى استعارة. فالمعنى الذى قالوه، لا يستمر لهم فى كل خبر مبتدأ، إلا إن كان مقيدا بذلك، وتركوه؛ لوضوحه. ثم إن العلة التى ذكروها بعينها، موجودة فى الصفة التى لا تصلح أن تجرى بالحقيقة على موصوفها، نحو: رأيت رجلا بحرا، ومررت بزيد البحر، ومع ذلك هو عندهم استعارة، لا تشبيه؛ لأنه ليس فى حكم الخبر.
وحاصله أن ما ذكروه لا يطرد، ولا ينعكس، ثم يرد عليهم نحو: صار زيد أسدا، فإنه استعارة، كما صرح به المصنف فى الكلام على أن الاستعارة مجاز لغوى، مع ذكر طرفى التشبيه، ووجود ما ذكروه. ثم إن المصنف قال فى قوله صلى الله عليه وسلم:" وهم يد على من سواهم"(1): إنه استعارة، وهو عكس ما ذكره هنا. وجعل صاحب مواد البيان من المجاز قوله تعالى: أُمَّهاتُهُمْ من قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ (2) وقوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وقول النبى صلى الله عليه وسلم:" النساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، والمسلم مرآة أخيه (3) ". وقول على - رضى الله عنه -:" السفر
(1)" حسن" أخرجه أبو داود وابن ماجه عن ابن عمرو، وانظر صحيح الجامع (ح 6712)، والإرواء (ح 2208) وطرفه:" المسلمون تتكافأ دماؤهم
…
".
(2)
سورة الأحزاب: 6.
(3)
أخرجه الخرائطى فى" اعتلال القلوب" عن زيد بن خالد الجهنى، بلفظ:" الشباب شعبة من الجنون، والنساء حبالة الشيطان"، وهو ضعيف، وانظر ضعيف الجامع (ح 3427)، وأما لفظة:" والمسلم مرآة أخيه" فقد أخرجه ابن منيع فى مسنده عن أبى هريرة، ولفظه:" والمسلم مرآة المسلم، فإذا رأى به شيئا فليأخذه"، وهو ضعيف جدّا انظر ضعيف الجامع (ح 5945).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ميزان القوم" إن القوم ومما يشهد لك من الأمور النقلية أن ابن مالك قال فى شرح الكافية: إذا قلت مشيرا إلى شخص: هذا أسد، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: تنزيله منزلة الأسد مبالغة، دون أداة تشبيه، وأنشد:
لسان الفتى سبع عليه سداده
…
فإن لم يزع عن غربه فهو آكله
الثانى: أن ينوى أداة التشبيه، أى زيد مثل الأسد، وفى هذين الوجهين، لا ضمير فى أسد.
الثالث: أن يتأول أسد بصفة وافية بمعنى الأسدية، ويجرى مجرى ما أولته، فيحتمل الضمير، أما إذا أشرت لحيوان مفترس، فلا يتحمل ضميرا، انتهى.
وهذا الذى قال هو الحق الذى لا محيص عنه، فظهر بذلك صحة ما قلناه من أن:
زيد أسد يصح أن يكون تشبيها، وأن يكون استعارة، بحسب المقام. لا يقال: إنما جوز ابن مالك الاستعارة فى: هذا أسد؛ لأن اسم الإشارة لا يصرف عن الحقيقة، كما أن زيدا يصرف؛ لأنا نقول: قد مثل بقوله: لسان الفتى سبع، واللسان كزيد فى صرفه عن إرادة الحقيقة. ثم إن المصنف صرح فيما سيأتى فى التلخيص والإيضاح، بأن قولنا:
الحال ناطقة بكذا استعارة، وهو مخالف لهذا الكلام. وذكره فى الاستعارة التبعية. وأما الوجهان اللذان ذكرهما المصنف مستدلا بهما على أن: زيد أسد تشبيه، فالذى يظهر:
أن الأول هو الثانى، وأما قولهم: إنه تشبيه بليغ، فهو على العكس. فإن البلاغة لا تكون عند تقدير أداة التشبيه، والذى يظهر من كلامهم، أنا إذا جعلناه تشبيها، كانت الأداة مقدرة مع اللفظ، وحينئذ: فكيف يكون بليغا، والكلام حقيقة، والاستعارة أبلغ من الحقيقة بلا نزاع؟ وإنما البليغ إرادة الاستعارة، وادعاء أن المشبه فرد من أفراد
المشبه به.
نعم التشبيه المحذوف الأداة أبلغ من المذكور الأداة؛ لما فيه من الإيجاز. وأما أنه أبلغ من الاستعارة، فلا. وأما قول ابن مالك: إنه يجوز فى: زيد أسد؛ أن يكون تشبيها محذوف الأداة، وأن يكون مرادا به الرجل الشجاع، وأن يكون تنزيلا له منزلة الأسد مبالغة، فقد يستشكل الفرق بين الثانى والثالث، فيقال: إذا أردت به الرجل الشجاع، فقد نزلته منزلة الأسد، وجوابه بأحد أمرين:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأول: أن يقول: فرق بين قولك: جاءنى أسد، تريد رجلا شجاعا، وقولك: جاءنى أسد تنزيلا له منزلة الأسد، والأول مجاز صرف لا مبالغة فيه، ولا نسميه استعارة؛ بل هو أليق باسم المجاز المرسل. والثانى استعارة؛ لأن معناه ادعاء أن المشبه داخل فى جنس المشبه به، وفرد من أفراده، أى: بلغ فى الشجاعة حدا يتوهم ناظره أنه نفس الأسد.
وسيأتى أن الادعاء لا يلزم منه إرادة الحقيقة كما هو رأى المصنف، وهذا معنى أبلغ من الأول، وهو الجدير باسم الاستعارة. وإلى هذا الفرق يشير قول البصريين: إن الأسد على هذا المعنى لا يتحمل ضميرا؛ لأنه لم يؤول بمشتق، وعلى المعنى الآخر يتحمل، لأنه مؤول ولا شك أنه مؤول على التقديرين، غير أنه على تقدير الاستعارة، يكون التأويل فى ادعاء دخول المشبه فى جنس المشبه به، وعلى تقدير المجاز المرسل، يكون التأويل فى إطلاقه على المشتق، فكان كالمؤول عليه. وفى الاستعارة أولناه على أسد وهو رجل، فكان المؤول عليه جامدا، فلم يتحمل الضمير. لكن هذا الذى قلناه يقتضى تخصيص قول المصنف: إن المجاز إذا كانت علاقته مشابهة معناه بغيره، يكون استعارة وأن يقال: إذا كانت العلاقة المشابهة، فإن قوى الشبه بحيث يمكن ادعاء أن هذا هو ذاك، كان استعارة، وإلا كان مجازا مرسلا. ويشهد لصحة ما قلناه قول السكاكى فى تفسير المجاز المرسل: إنه الخالى عن المبالغة فى التشبيه، ولم يقل:
الخالى عن التشبيه، فعلم أن العلاقة إذا كانت المشابهة، ولم تقصد المبالغة لا يسمى ذلك استعارة. وهذا هو الذى يقتضيه كلام الأكثرين كما ستراه - إن شاء الله تعالى - وإن شئت أن تسمى القسمين استعارة؛ أحدهما أبلغ من الآخر، فلا بدع.
الثانى: أن يقال: إن: زيد أسد، عند قصد تنزيله منزلته من باب مجاز الإسناد، فيكون الأسد فيه حقيقة على الحيوان المفترس؛ لكنك أسندته لما لا يصلح له حقيقة، فكان مجازا عقليا. ويشهد لهذا ما قدمناه من عبد القاهر من أن قول الشاعر:
فإنّما هى إقبال وإدبار
من المجاز العقلى، وإن كان الطيبى قد رد ذلك عند الكلام على قوله تعالى:
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ (1) بما لا نطيل بذكره. وقد يستأنس له بقول
(1) سورة البقرة: 177.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
السكاكى: يلزم المصير إلى التشبيه؛ لامتناع جعل اسم الجنس وصفا، حتى يصح إسناده إلى المبتدأ. فكأن السكاكى إنما نفى المجاز اللفظى بأن يراد زيد، ولم ينف صحة إرادة المجاز الإسنادى. ثم إن المصنف بعد ذكره لما سبق، ذكر أن الخلاف فى هذه المسألة لفظى، راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة. وفيه نظر؛ لأن الخلاف معنوى فعلى القول بالاستعارة، يكون الأسد مجازا، وعلى القول بالتشبيه، يكون حقيقة قطعا.
وقوله: (إنه راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة) صحيح، لكن ليس الكشف عن معنى الاستعارة لفظيا، بل معنويا. نعم يمكن أن يقال: إن هذين اصطلاحان، لا يدافع أحدهما الآخر. ثم قال المصنف: إن كونه تشبيها اختيار المحققين، كالقاضى أبى الحسن الجرجانى، والشيخ عبد القاهر، والزمخشرى، والسكاكى.
(قلت): كلام أكثر هؤلاء ليس صريحا فيما ادعاه؛ لأنه يجوز أن يريدوا، أنه استعارة تسمى تشبيها، فيكون مجازا إلا أنه تشبيه حقيقة، ويشهد له تصريح أكثر هؤلاء فى مواضع - كما سبق - بعكس هذا. وقد صرح الإمام فخر الدين أيضا باختيار أنه تشبيه. ثم نقل المصنف، عن عبد القاهر أنه وافق على أنه تشبيه، ثم قال: فإن أبيت إلا أن تطلق عليه لفظ الاستعارة؛ فإن حسن دخول أدوات التشبيه لم يحسن إطلاقه؛ وذلك بأن يكون اسم المشبه به معرفة، مثل: زيد الأسد، فإنه يحسن أن تقول:
زيد كالأسد. وإن حسن دخول بعض أدوات التشبيه دون بعض؛ هان الخطب فيه، وذلك بأن يكون المشبه به نكرة غير موصوفة، قولك: زيد أسد، فإنه لا يحسن أن يقال:
كأسد، ويحسن أن يقال: كأن زيدا أسد، وتبعه الإمام فخر الدين.
(قلت): لا يظهر السبب فى امتناع حسن: زيد كأسد، وبهذا المثال مثل المصنف للمسألة التى نقل فيها عبد القاهر أنه تشبيه ليس استعارة. وكيف ينقل عنه أن الخطب فيه هين، وأنه إنما لا يحسن إطلاق الاستعارة، إذا كان الخبر معرفة. وكأنه لاحظ فى امتناع حسن: زيد كأسد، أنه تشبيه بفرد من أفراد الأسد، وذلك غير مقصود، إنما المقصود
تشبيهه بحقيقة الأسد وجنسه، فحسن أن يعرف فيقال: كالأسد أى كهذا الجنس، ولذلك قال الإمام فخر الدين: زيد كأسد بالتنكير، كلام بارد بخلاف: زيد كالأسد بالتعريف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وإن لم يحسن دخول شئ منها، إلا بتغيير لصورة الكلام كان إطلاقه أقرب، وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به، كقولك: زيد بدر يسكن الأرض، وشمس لا تغيب، وقوله:
شمس تألّق، والفراق غروبها
…
عنّا، وبدر والكسوف صدود
فإنه لا يحسن أن يدخل الكاف فى شئ من ذلك إلا بتغيير صورة اللفظ، كقولك:
هو كالبدر إلا أنه يسكن الأرض، وكالشمس إلا أنه لا يغيب.
(قلت): انظر كيف جعل إطلاق الاستعارة على هذا القسم قريبا، مع أن السامع لا يمكنه صرفه إلى حقيقته، وهو موافق لما اخترناه، غير أن فيما قاله من أن دخول أداة التشبيه فى شئ من ذلك، لا يمكن إلا بتغيير صورة اللفظ، نظرا لجواز أن يقال: هو كبدر يسكن الأرض، ويكون المشبه به خياليا لا حقيقيا، كما تقدم فى تشبيه فحم فيه جمر، ببحر من مسك موجه الذهب. ثم قال: وقد يكون فى الصفات والصلات التى تجئ فى هذا النوع ما يحيل تقدير أداة التشبيه معه، فعرف إطلاقه أكثر، كقول أبى الطيب:
أسد دم الأسد الهزبر خضابه
…
موت فريص الموت منه يرعد
فإنه لا يحسن أن يقال: هو كالأسد والموت؛ لأن تشبيهه بجنس الأسد دليل أنه دونه، أو مثله، وجعل دم الأسد الذى هو أقوى الجنس خضاب يده، دليل أنه فوقه.
(قلت): إحالة دخول الأداة هنا كيف تجتمع مع القول بقرب إطلاق الاستعارة، وينبغى أن يكون موجبا لإطلاق الاستعارة، ومحيلا لكونه تشبيها؟ ثم ما المانع أن يقال:
هو كأسد دم الهزبر خضابه فيكون المشبه به أسدا بهذه الصفة؟ ولا بدع فى جعل فرد من مادة الأسد، بلغ إلى أن صار دم غيره من الأسود خضابه، كما سبق فى قوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإنه قصد به أن بعض أفراد النوع، يميز عنه بشئ غايته أن هذا بعيد، أما محال فلا نسلم، ثم قال: وكذا قول البحترى:
وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا
…
وموضع رحلى منه أسود مظلم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أن يرجع فيه إلى التشبيه الساذج حتى يكون المعنى: هو كالبدر لزم أن يكون البدر المعروف موصوفا بما ليس له، فظهر أنه إنما أراد أن يثبت من الممدوح بدرا له هذه الصفة العجيبة، التى لم تعرف للبدر، فهو مبنى على تخيل أنه أراد فى جنس البدر، وأخذ له هذه الصفة. فالكلام موضوع لا لإثبات الشبه بينهما؛ ولكن لإثبات تلك الصفة، فهو كقولك: زيد رجل كيت وكيت، لم تقصد إثبات كونه رجلا؛ بل إثبات كونه متصفا بما ذكرت، فإذا لم يكن اسم المشبه فى البيت مجتلبا لإثبات التشبيه تبين أنه خارج عن الأصل المتقدم من كون الاسم مجتلبا لإثبات التشبيه. فالكلام فيه مبنى على أن كون الممدوح بدرا، شئ قد استقر وثبت، وإنما العمل فى إثبات الصفة الغريبة.
(قلت): ما ذكره واضح؛ ولكنه لا يصل إلى درجة استحالة تقدير الأداة. وما المانع أن يكون المشبه به بدرا بهذه الصفة، ويكون المشبه به خياليا لا حقيقيا؟ ثم قال: وكما يمتنع فى ذلك دخول الكاف، يمتنع دخول: كأن ونحو تحسب، ثم قال: وأيضا هذا الفن إذا فليت عن سره، وجدت محصوله أنك تدعى حدوث شئ هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختص بصفة عجيبة، لم يتوهم جوازها على ذلك الجنس، فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى.
(قلت): كون تقدير التشبيه ليس له معنى صحيح؛ ولكن لا نقول: إنه مستحيل أن يراد.
(تنبيه): يستثنى من كلامهم، ما إذا كان المشبه به المذكور خبرا عن المشبه، وهو تمثيل، كقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (1) فإنه يصدق أن طرفى التشبيه مذكوران، والمشبه به خبر، وهو استعارة، كما سيأتى. وهذا مما يدل لما اخترناه من أن ذلك، ليس لازما أن يكون تشبيها. ويستثنى أيضا نحو: زيد أسد يرمى بالنشاب إلا أن يجعل تشبيها خياليا، وفيه بعد. ومثال هذا قول ذى الرمة:
فلمّا رأيت الليل والشمس حيّة
…
حياة الّذى يقضى حشاشة نازع
(1) سورة الزمر: 67.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ولعل ابن رشيق إنما جعله استعارة لهذا المعنى.
(تنبيه): أطلق المصنف أن طرفى التشبيه إذا كانا مذكورين، فهو تشبيه لا استعارة، إذا كان المشبه به خبرا. فدخل فى ذلك ما إذا وقعا خبرا عن مفرد، كقولك:
زيد هو أسد، وما إذا لم يكن، كقولك: زيد أسد، والذى يظهر أنه لا فرق، لكن فى المفتاح وإنما عد نحو: زيد أسد تشبيها؛ لأنك حين أوقعت أسدا وهو مفرد غير جملة خبرا لزيد، استدعى أن لا يكون إياه إلى آخره. فظاهر هذه العبارة توهم أن المشبه به قد يكون جملة، وأنه متى كان جملة لا يكون تشبيها؛ لكن الظاهر أنه لا يريد ذلك، وكيف يتصور أن يريده ولفظ أسد يستحيل أن يقع جملة؟ لأنك إذا أخبرت به وبمبتدئه عن زيد، فالجملة مجموع الكلمتين لا الأسد، فلم يقع المشبه به خبرا للمبتدأ الذى هو زيد، وتقدير أداة التشبيه قيل: هو أسد، لا يحسن؛ لأن هو من هو أسد، ليس مشبها به، بل مشبه إلا بقصد قلب التشبيه.
ولو كانت الاستعارة التمثيلية لا تكون إلا بجملة؛ لكنت أقول: احترز عن: زيد يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فإن المشبه به وقع خبرا، وليس تشبيها كما تقدم، وسيأتى ولكنه ليس بهذا القيد؛ لأن من التمثيل وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كما ذكرناه، وإنما يريد أن الخبر إذا كان جملة لم يستدع إيقاع الجملة خبرا أن لا يكون هو إياها، بل المطلوب تعلق أحدهما بالآخر فقوله: حين أوقعت أسدا وهو مفرد غير جملة، قيد لكون الأسد هو زيد، لا أنه قيد يخرج زيد هو أسد عن أن يكون أسد تشبيها. ثم قيل: فى كلام السكاكى نظر، فإن الحمل بين المبتدأ والخبر، يستدعى أن يكون أحدهما هو الآخر، مفردا كان الكلام، أم جملة.
(قلت): الخبر إذا كان مفردا، كقولك: زيد قائم، فالقائم هو زيد بلا شك، وإذا كان جملة كقولك: زيد هو القائم، فالمحكوم به ليس القيام، بل مضمون الجملة، وهو ثبوت القيام لزيد، أو الحكم به على الخلاف فى ذلك. وكل من ثبوت القيام لزيد والحكم به غير قيامه، فيصدق أن يقال فى: زيد قائم، الخبر هو المبتدأ؛ لأن: زيد قائم، بخلاف زيد هو قائم، فإن مدلوله: زيد ثبت له القيام، أو حكم له به، فلا يكون هو عين المبتدأ، إلا بتأويل: زيد موصوف بالقيام، أن تعلق أحدهما بالآخر، ينحل منه وصف يجرى على زيد هو الخبر فى المعنى.