الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [ما ينبغى للمتكلم المتأنق فيه]
ينبغى للمتكلّم أن يتأنّق فى ثلاثة مواضع من كلامه؛ حتى يكون أعذب لفظا، وأحسن سبكا، وأصحّ معنى:
أحدها: الابتداء؛ كقوله (1)[من الطويل]:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
وكقوله (أشجع)(2)[من الكامل]:
قصر عليه تحيّة وسلام
…
خلعت عليه جمالها الأيّام
ــ
ما ينبغى للمتكلم المتأنق فيه: ص: (فصل ينبغى للمتكلم إلخ).
(ش): لا شك أن هذه المواضع الثلاثة هى محط شوق النفوس، فينبغى التأنق فيها، وهو طلب النيقة وهو حسن التدبر، حتى تكون أعذب لفظا، وأحسن سبكا، وأصح معنى. وقوله:(حتى تكون إلخ) ينبغى أن يكون غاية، لا تعليلا، فإن حسن المطلع - مثلا - ليس علة لعذوبة حروفه وكلماته، بل المعنى يتأنق إلى أن تكون هذه المواضع الثلاثة بهذه الصفة.
(أحدها الابتداء) وهو المطلع، لأنه أول ما يقرع السمع، فإذا كان بهذه المثابة، أقبل السامع على الكلام ووعاه، وإلا أعرض عنه، وإن كان حسنا، وأحسن الابتداءات المختارة، قول امرئ القيس.
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قيل: لما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله، الملك الضليل وقف واستوقف وبكى واستبكى، وذكر الحبيب ومنزله فى مصراع واحد؟! وقوله: أى قول الأشجع فى تهنئة البناء:
قصر عليه تحية وسلام
…
خلعت عليه جمالها الأيام (3)
(1) هو لامرئ القيس، مطلع معلقته، ديوانه ص 8، والإشارات ص 302.
(2)
البيت من قصيدة له يمدح فيها هارون الرشيد.
(3)
البيت للأشجع السلمى، انظر عقود الجمان (2/ 192)، والإشارات والتنبيهات ص 322.
وينبغى أن يجتنب فى المديح ما يتطيّر به؛ كقوله (1)[من الرجز]:
موعد أحبابك بالفرقة غد
وأحسنه ما يناسب المقصود، ويسمى: براعة الاستهلال؛ كقوله فى التهنئة [من البسيط]:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا
وقوله فى المرثيّة (الساوى)[من الوافر]:
هى الدّنيا تقول بملء فيها
…
حذار حذار من بطشى وفتكى
وثانيها: التخلّص ممّا شيب الكلام به من نسيب أو غيره إلى المقصود،
ــ
(و) يجب فى علم البديع على المتكلم (أن يتجنب فى المديح ما قد يتطير به كقوله) أى قول ابن مقاتل الضرير، وينشد الداعى العلوى:
موعد أحبابك بالفرقة غد
فقال الداعى: موعد أحبابك يا ضرير، ولك المثل السوء (وأحسن الابتداء، ما ناسب المقصود) بتضمينه شيئا فى معنى ما سيق الكلام لأجله؛ ليكون دالا عليه (ويسمى) ذلك (براعة الاستهلال) أى فضيلته (كقوله) أى أبى محمد الخازن يهنئ ابن عباد بمولود لبنته:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا (2)
وكقول أبى الفرج الساوى فى المرثية:
هى الدنيا تقول بملء فيها
…
حذار حذار من بطشى وفتكى (3)
(وثانيها التخلص مما شبب الكلام به) مما هو غير المقصود (من تشبيب، أو غيره إلى المقصود)، والتشبيب فى البديع أن يمهد قبل الشروع فى المقصود، ما يمهده من التغزل قبل المدح، أو التثبيت على الخطاب الهائل تلطفا، أو التنبيه على السماع
(1) أنشده ابن مقاتل لمحمد بن زيد الحسينى الداعى العلوى صاحب طبرستان فقال له الداعى: بل موعد أحبابك ولك المثل السوء. انظر شرح عقود الجمان (2/ 195).
(2)
البيت لمحمد بن الخازن يهنئ الصاحب بولد لبنته والشطر الثانى منه: وكوكب المجد فى أفق العلا صمدا. انظر شرح عقود الجمان (2/ 195).
(3)
البيت لأبى الفرج الساوى، انظر عقود الجمان (2/ 196).
مع رعاية الملاءمة بينهما؛ كقوله (أبى تمام)(1)[من البسيط]:
تقول فى قومس قومى وقد أخذت
…
منّا السّرى وخطا المهريّة القود
أمطلع الشّمس تبغى أن تؤمّ بنا
…
فقلت كلّا ولكن مطلع الجود
وقد ينتقل منه إلى ما لا يلائمه، ويسمّى: الاقتضاب، وهو مذهب العرب الجاهلية ومن يليهم من المخضرمين؛ كقوله (أبى تمام) [من الخفيف]:
لو رأى الله أنّ فى الشّيب خيرا
…
جاورته الأبرار فى الخلد شيبا
كلّ يوم تبدى صروف اللّيالى
…
خلقا من أبى سعيد غريبا
ــ
للخطاب العظيم وغير ذلك. (مع رعاية الملاءمة بينهما) أى بين ما شيب الكلام به، وبين المقصود (كقوله) أى قول أبى تمام:
يقول فى قومس (2) قومى وقد أخذت
…
منا السرى وخطا المهريّة القود
أمطلع الشمس تبغى أن تؤمّ بنا
…
فقلت كلّا ولكن مطلع الجود
(تنبيه): التخلص باب اعتنى به المتأخرون دون المتقدمين، وقال بعض الناس: لم يأت فى القرآن الكريم تخلص، ونقله ابن الأثير فى الجامع عن الغانمى، وحمله على ذلك أنه وجده يقع متكلفا - فى الغالب - والقرآن لا كلفة فيه. قال التنوخى: ليس كما قال، ففى القرآن الكريم التخلص، قال تعالى: لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) فتخلص من ذكر العذاب، إلى صفاته عز وجل (وقد ينتقل) منه أى مما شبب الكلام به (إلى ما) أى معنى (لا يلائمه، ويسمى الاقتضاب، وهو مذهب العرب الجاهلية) أى الجاهلين، فإن من شأنهم الانتقال من غير مناسبة (ومن يليهم من المخضرمين) من قولهم: ناقة مخضرمة، أى جدع نصف أذنها، والمخضرم من أدرك الجاهلية والإسلام، كأنما قطع نصفه حيث كان فى الجاهلية. قال المصنف:(كقول أبى تمام (4):
لو رأى الله أن فى الشيب خيرا
…
جاورته الأبرار فى الخلد شيبا
كلّ يوم تبدى صروف الليالى
…
خلقا من أبى سعيد غريبا)
(1) البيتان لأبى تمام، ديوانه (أ) ص 120، (ب) 2/ 132، وشرح عقود الجمان (2/ 195)، والمصباح ص 272، وقومس: بلد بالقرب من أصفهان.
(2)
قومس: موضع جهة خراسان.
(3)
سورة المعارج: 2، 3.
(4)
البيت لأبى تمام ص 33، وانظر شرح عقود الجمان (2/ 197).
ومنه: ما يقرب من التخلّص؛ كقولك بعد حمد الله: أمّا بعد قيل: وهو فصل الخطاب، وكقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (1) أى: الأمر هذا، أو هذا كما ذكر. وقوله: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (2) ومنه قول الكاتب: (هذا باب).
وثالثها: الانتهاء؛ كقوله (أبى نواس)[من الطويل]:
وإنّى جدير إذ بلغتك بالمنى
…
وأنت بما أمّلت منك جدير
فإن تولنى منك الجميل فأهله
…
وإلّا فإنّى عاذر وشكور
ــ
فإنه تخلص من غير مناسبة، وقد أورد عليه أن أبا تمام ليس من المخضرمين، بل كان فى زمن المعتصم، من الدولة العباسية، ولعل المصنف لم يرد أنه مخضرم، بل قصد تمثيل التخلص بلا مناسبة (ومن الاقتضاب ما يقرب من التخلص) بأن يكون فيه مناسبة غير تامة (كقولك بعد حمد الله: أما بعد) فإن فيه مناسبة ما، وقيل: هو فصل الخطاب، وقد سبق الكلام على ذلك فى شرح خطبة هذا الكتاب، ومما يقرب من التخلص نحو قوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، أى الأمر هذا، أو هذا كما ذكر، فإن قوله:
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ الآية بيان لحال العصاة، والذى قبله، وهو قوله تعالى: قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (3) تبيين لحال المتقين، فتوسط" هذا" بينه وبين ما بعده، ومثاله - أيضا - قوله تعالى: هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ فإنه انتقل من ذكر الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - إلى بيان ما أعد لهم من النعيم، بتوسط" هذا ذكر" وناسب ما قبله لما بعده، ومما يقرب من التخلص - أيضا - قول الكاتب إذا فرغ من باب وأراد الشروع فى آخر:" هذا باب" أى هذا الذى مضى باب، فتوسطه فيه مناسبة ما.
(وثالثها: الانتهاء) أى المقطع، ويطلب تحسينه، لأنه آخر ما يعيه السمع، ويرتسم فى الذهن. قال: فإذا كان مختارا جبر ما عساه وقع قبله من تقصير، وإن كان غير مختار فبالعكس، وربما أنسى حسن ما قبله، ومثال قوله:
وإنى جدير إذ بلغتك بالمنى
…
وأنت بما أملت منك جدير
فإن تولنى منك الجميل فأهله
…
وإلا فإنى عاذر وشكور (4)
(1) سورة ص: 55.
(2)
سورة ص: 49.
(3)
سورة ص: 25، 53.
(4)
البيت لأبى نواس، انظر شرح عقود الجمان (2/ 194)، والإشارات والتنبيهات ص 324.
وأحسنه ما آذن بانتهاء الكلام؛ كقوله (المعرى)[من الطويل]:
بقيت بقاء الدّهر يا كهف أهله
…
وهذا دعاء للبريّة شامل
وجميع فواتح السّور وخواتمها، واردة على أحسن الوجوه وأكملها؛ يظهر ذلك بالتأمّل، مع التذكّر لما تقدّم.
وصلّى الله على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم، اللهمّ اغفر لى بفضلك ولمن دعا لى بخير، واغفر لوالدى ولكلّ المسلمين. آمين، وصلّ وسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وأصحابهم والتابعين، خصوصا النبى المصطفى، والحبيب المجتبى، وآله وأصحابه.
آمين.
ــ
وأحسن الانتهاء ما كان مؤذنا بانتهاء الكلام، كقوله:
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله
…
وهذا دعاء للبريّة شامل (1)
وجميع فواتح السور وخواتمها، واردة على أحسن الوجوه، وأكملها. جملة وتفصيلا من الفصاحة والبلاغة، وجميع الأنواع تقصر عنه العبارات، كالتحميدات المفتتح بها أوائل السور، والابتداء بالنداء فى نحو: يا أَيُّهَا النَّاسُ (2) والابتداء بالبسملة التى هى مفتاح كل خير، والابتداء بالحروف نحو:" الم" وكذلك الخواتم من الأدعية والوصايا والفرائض والمواعظ والوعد والوعيد والتحميد، إلى غير ذلك مما يظهر كثير منه بالبديهة، وكثير بالتأمل، كالدعاء آخر البقرة والوصايا فى نهاية آل عمران، والفرائض فى خاتمة النساء، والتبجيل والتعظيم فى خاتمة المائدة، والوعد والوعيد فى آخر الأنعام، فسبحان العزيز الحكيم (فى نسخة الأصل ما نصه) قال المؤلف رحمه الله: فرغت منه بين المغرب والعشاء، من ليلة الاثنين عاشر جمادى الأولى، سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، والحمد لله كما يحب ربنا ويرضى، وصلّى الله على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(1) البيت للغزى، انظر شرح عقود الجمان (2/ 199).
(2)
سورة الحج: 1.