الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل [تعريف السكاكي للحقيقة اللغوية]
عرّف السكاكى الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما وضعت له، من غير تأويل فى الوضع؛ واحترز بالقيد الأخير عن الاستعارة، على أصح القولين؛ فإنها مستعملة فيما وضعت له بتأويل
…
ــ
فى استيفاء اللذات أو الأسباب التى قلما تتآخذ فى اتباع الغى إلا أوان الصبا، كالمال والإخوان، فتكون استعارة الأفراس حينئذ تحقيقية على التقديرين، لكون المشبه المتروك محققا عقليا على الأول، وحسيا على الثانى، ويكون لفظ الصبا حقيقة وعلى التقديرين فى البيت استعارة تبعية، ونظير البيت فى تجويز الوجهين قوله تعالى: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ (1) وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (2) على ما ذكره السكاكى، وإن كان المصنف قد جزم بأنها تحقيقية، فإن قلت: المصنف يرى أن الاستعارة بالكناية حقيقة لغوية، وقد جعل هنا لفظ" الصبا" على الاحتمال الأول استعارة بالكناية، وجعله مجازا على الميل والجهل، فقد جعل الاستعارة بالكناية مجازا. قلت: عنه جوابان: أحدهما: أن الصبا ليس مجازا عن الصبوة، بل حقيقة فيها - أيضا - كما يقتضيه كلام الجوهرى. الثانى: أنه إنما أراد بكون الاستعارة بالكناية حقيقة أنها غير مستعملة فى ملزوم واللازم المذكور، الذى هو من خواص المشبه به، والأمر هنا كذلك، فإن الصبا لم يستعمل فى السفر الذى يلزمه الأفراس أما كون لفظ الاستعارة بالكناية تجوز به عن معنى من المعانى، فالمصنف لا يمنع ذلك.
تعريف السكاكى للحقيقة اللغوية: ص: (فصل: عرف السكاكى الحقيقة اللغوية إلخ).
(ش): هذا فصل يتضمن اعتراضات على السكاكى فى تعريف الحقيقة والمجاز والاستعارة، وفى أقسام الاستعارة، فنقل عن السكاكى أنه حد الحقيقة اللغوية بأنها الكلمة المستعملة فيما وضعت له من غير تأويل فى الوضع، واحترز بالقيد الأخير، وهو قوله:" من غير تأويل فى الوضع" عن الاستعارة فإنها على أصح القولين الذاهب إلى أنها مجاز لغوى مستعملة فيما وضعت له وضعا بالتأويل، وهو ادعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان: متعارف، وغيره. والمستعار له داخل فى جنس المستعار منه بهذا التأويل، ثم ذكر عنه أنه عرف المجاز اللغوى بالكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له
(1) سورة الإسراء: 24.
(2)
سورة النحل: 112.
وعرّف المجاز اللّغوى بالكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له بالتحقيق، فى اصطلاح به التخاطب، مع قرينة مانعة عن إرادته، وأتى بقيد التحقيق خ خ؛ لتدخل الاستعارة؛ على ما مرّ.
وردّ: بأن الوضع إذا أطلق لا يتناول الوضع بتأويل، وبأنّ التقييد باصطلاح التخاطب لا بدّ منه فى تعريف الحقيقة.
ــ
بالتحقيق فى اصطلاح التخاطب، مع قرينة مانعة من إرادته وأتى بقيد التحقيق المتعلق بالوضع، لتدخل الاستعارة فى قسم المجاز، على ما مر تقريره من أنها مجاز لغوى فإنها مستعملة فيما وضعت له لكن بالتأويل، لا بالتحقيق ثم أورد المصنف عليه أمرين: أحدهما:
أن الوضع إذا أطلق لا يتناول الوضع بتأويل، فلا حاجة إلى قوله: فى حد الحقيقة فيما وضعت له بتأويل. ولا حاجة إلى قوله: فى حد المجاز بالتحقيق؛ لأن لفظ الوضع والفعل المشتق منه إنما ينصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة، وحقيقة الوضع بالتحقيق من غير تأويل، وأورد على السكاكى فى هذا القيد أنه إذا صدق أنها مستعملة فى غير ما وضعت له بالتحقيق، صدق أنها مستعملة فى غير ما وضعت له مطلقا؛ لأن صدق الأخص يستلزم الأعم. قاله: بعض شراح المفتاح. قلت: ليس من الأخص والأعم، بل من العام والخاص؛ لأن قوله:" فى غير وضع فى معنى النفى" فهو صيغة عموم. وقوله:" بالتحقيق" تخصيص أدخل ما استعمل فى وضع بتأويل. الثانى: أن التقييد باصطلاح التخاطب المذكور فى حد المجاز لا بد من ذكره فى حد الحقيقة أيضا لتدخل الحقائق الثلاث، كما أن ذكره فى حد المجاز أدخل الحقائق الثلاث: الشرعية، والعرفية، واللغوية. قال المصنف: لا يقال:
قوله:" من غير تأويل فى الوضع" يغنى عن التقييد باصطلاح التخاطب، فإن الحقيقة الشرعية إذا استعملت فى معناها اللغوى، كإطلاق الصلاة بعرف الشرع على الدعاء، لا يصدق عليه أنه مستعمل فيما وضع له من غير تأويل، بل هو مستعمل فيما وضع له بالتأويل؛ لأن وقوع هذا الاستعمال الشرعى يؤذن بأن إطلاقها على الصلاة بتأويل، لأنا نقول: التأويل بالوضع لا يعم المجازات كلها بل إنما يكون فى الاستعارة على أحد القولين، ولذلك قال: إنما ذكرت هذا لإخراج الاستعارة، يعنى فهب أنه أخرج الاستعارة، فما الذى يخرج بقية أنواع المجازات.
وأورد عليه فى الإيضاح - أيضا - أن حد المجاز يدخل فيه الغلط. قلت: أما اعتراضه بأن الوضع إذا أطلق لا يتناول الوضع بتأويل فصحيح، وقد سبق حد الوضع بما يخرج المجاز بجميع أنواعه، فتسمية المجاز موضوعا إن أطلق فهو مجاز، فلا حاجة إلى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الاحتراز عنه. وقول الخطيبى:" إن ذلك موضوع عند من يقول: الاستعارة موضوعة". فيه نظر؛ لأن القائل: إنها موضوعة، إنما يريد وضعا تأويليا. وقوله:" إذ لو كان كذلك لما صح استفسار" يقال عليه: لا نسلم صحة الاستفسار، بل إذا أطلق الوضع تبادر الذهن إلى الحقيقى، وهذا الكلام منه، هو الذى ألجأه إلى أن يقول فيما سبق:
أن المجاز موضوع، ثم قال: وأيضا ذكر قوله:" بتأويل" لدفع من يتوهم أن الاستعارة موضوعة بالتحقيق، وهذا الجواب قد أشار إليه المصنف فى الإيضاح، ولا يصح؛ لأنه لو كان قوله:" بغير تأويل" للإيضاح، لا للاحتراز. والسكاكى قد صرح بأنه احترز بها عن الاستعارة على أصح القولين، فهذا التأويل مصادم لصريح كلام السكاكى، ثم إنى أقول على كلام السكاكى والمعترضين عليه معا: إن هذا القيد لا يحتاج له سواء أكان الوضع أعم من الحقيقى، أم لا، فإن المجاز ليس فيه وضع، لا بالتحقيق ولا بالتأويل، أما بالتحقيق فظاهر، وأما بالتأويل، فلأن الاستعارة لفظ مستعمل بالتأويل فى غير ما وضع له مطلقا، فالاستعمال فى غير الموضوع وقع مصاحبا للتأويل، أو بسبب التأويل، وليس الاستعمال فى" وضع" لا بالتحقيق ولا بالتأويل، وغاية ما فى الاستعارة ادعاء أن المستعار له داخل فى جنس المستعار منه، وهذا هو التأويل والاستعمال ينشأ عنه فإن سميت هذا التأويل وضعا فلا مشاحة (1) فى الاصطلاح، وأما السؤال الثانى من أن التقييد باصطلاح التخاطب لا بد منه فى حد الحقيقة فأجاب الخطيبى عنه: بأنه اكتفى عن ذكره فيها بذكره فى المجاز، لكون البحث عن الحقيقة فى هذا العلم غير مقصود بالذات، وليس بطائل، والذى يظهر فى جوابه ما ذكره المصنف، ولم يرضه، وهو أن قوله:" من غير تأويل فى الوضع" يغنى عن قوله:" فى اصطلاح التخاطب"؛ لأن إطلاق الصلاة بعرف الشرع على الدعاء، وإن كان استعمالا فى الموضوع، لكنه بتأويل فى الوضع، وهو استعمال الصلاة فى الدعاء، لعلاقة بينه وبين ذات الأركان لا يقال: فكان يستغنى عن ذكرها فى حد المجاز، أيضا؛ لأنا نقول: لعله ذكرها لإخراج المستعمل فى غير موضوعها بالتحقيق، لا لعلاقة، فإنه صدق عليه أنه مستعمل فى غير موضوع بالتحقيق، لأن ما استعمل لا فى وضع بالتحقيق ولا بالتأويل، يصدق عليه أنه استعمل فى غير وضع بالتحقيق؛ فأما اعتراض المصنف على هذا الجواب:
(1) أى: فلا اختلاط، راجع مادة" شحح" القاموس المحيط.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بأن التأويل فى الاستعارة دون سائر أنواع المجاز، ففيه نظر، فإن الذى ليس فى سائر أنواع المجاز، هو هذا التأويل الخاص، وهو كون المشبه فردا من جنس المشبه به أما مطلق التأويل وهو باعتبار المناسبة بين الموضوع وغيره بالعلاقة، فلا بد منه، ولذلك ذهب جماعة من الأصوليين إلى أن المجاز بجميع أنواعه موضوع، وقوله: إنه ذكر هذا القيد لإخراج الاستعارة يجوز أن يريد لإخراجها وغيرها من المجازات، وذكره الاستعارة لأنها المقصود بالكلام، وأجيب عن السكاكى بأنه ترك ذكر هذا القيد فى حد الحقيقة اكتفاء بتعداد أفرادها، وتقسيمها، إلى
الحقائق اللغوية والشرعية، والعرفية، وأما المجاز فلما لم يقسمه احتاج إلى زيادة تدخل أقسامه، وأما الاعتراض بأنه يرد عليه الغلط، فأجاب الخطيبى عنه بأن الغلط خرج بقوله:" مع قرينة عدم إرادته" فإن الغالط لا ينصب قرينة على عدم إرادة الوضع، وفيه نظر؛ لجواز أن يكون نصب القرينة أيضا غلطا بأن تكون قرينة تصرف عن الحقيقة، ولا تصرف إلى ذلك المجاز، كقولك مشيرا إلى كتاب: يأيها الأسد الرامى بالنبل. نعم قد يجاب بأمرين: أحدهما: أن السكاكى صرح فى أثناء هذا البحث بأنا لا نقول فى عرفنا: استعملت الكلمة فيما تدل عليه، أو فى غيره، حتى يقول: الغرض الأصلى طلب دلالتها على المستعمل فيه فيخر (1) الغلط.
الثانى: أنه خرج بقوله:" كلمة" فإنه ليس من كلمات العرب كما سبق، بقى على المصنف، والسكاكى معا اعتراض هو أقوى من جميع ما سبق، وهو أن قوليهما: إن قول السكاكى:" فى حد الحقيقة من غير تأويل" احتراز عن الاستعارة، فإنها مستعملة فى موضوعها على أصح القولين يقتضى أنا إذا قلنا: إن الاستعارة حقيقة، لا يكون محترزا عنها بهذا القيد، بل تكون داخلة فى حد الحقيقة، وفيه نظر؛ لأنها حينئذ تكون خارجة عن حد الحقيقة فيكون الحد غير جامع، فإن القائل: إنها حقيقة لا يقطع النظر عن التأويل، وأيضا، فإن مفهوم قوله:" إنها مستعملة فى موضوعها" على أحد القولين يقتضى أنها على الآخر مستعملة فى موضوعها، وليس كذلك بل هى على القولين مستعملة فى موضوعها، وإنما استعمالها فى موضوعها على القول بأنها حقيقة أوضح.
(1) خرّ الماء يخرّ، بالكسر خرّا إذا اشتد جريه. انظر اللسان مادة: خرر والمعنى هنا أى، فيعظم الغلط.
وقسّم المجاز اللغوى إلى الاستعارة وغيرها. وعرّف الاستعارة بأن تذكر أحد طرفى التشبيه، وتريد به الآخر، مدّعيا دخول المشبّه فى جنس المشبّه به. وقسّمها إلى المصرّح بها، والمكنى عنها.
وعنى بالمصرّح بها: أن يكون المذكور هو المشبّه به، وجعل منها تحقيقيّة، وتخييليّة: وفسّر التحقيقيّة بما مرّ، وعدّ التمثيل منها:
وردّ: بأنه (1) مستلزم للتركيب المنافى للإفراد
…
ــ
تقسيم السكاكى المجاز إلى الاستعارة وغيرها: ص: (وقسم المجاز إلى الاستعارة وغيرها إلخ).
(ش): هذا اعتراض آخر على السكاكى، وهو أنه قسم المجاز إلى الاستعارة، وغيرها، فلزم أن يكون كل استعارة مجازا، وعرف الاستعارة بأن تذكر أحد طرفى التشبيه وتريد به الطرف الآخر مدعيا دخول المشبه فى جنس المشبه به. (وقسمها) أى الاستعارة إلى: المصرح بها، والمكنى عنها، وعنى بالمصرح بها أن يكون المذكور هو
المشبه به وفى العبارة توسع؛ لأن كون المذكور هو المشبه به ليس الاستعارة، بل ذلك ليكون متعلق الاستعارة، وكذلك قوله:" أن تذكر" ليست الاستعارة الاصطلاحية أن تذكر، بل المذكور، وجعل منها أن من المصرح بها تحقيقية وتخييلية، وفيه توسع؛ لأن المصرح بها كلها تحقيقية وتخييلية، وتحرير العبارة أن يقال: قسم المجاز إلى:
الاستعارة، وغيرها، وعرف الاستعارة بذكر أحد طرفى التشبيه مرادا به الآخر، وقسمها إلى مصرح بها، ومكنى عنها، وعنى بالمصرح بها أن يذكر المشبه به مرادا به المشبه، وقسمها إلى: تحقيقية، وتخييلية، وفسر التحقيقية بما مر، أى ما كان المشبه فيه حسيا أو عقليا، وعد التمثيل منها أى من الاستعارة التحقيقية، فلزم أن يكون التمثيل قسما من التحقيقية، التى هى قسم من المصرح بها، التى هى قسم من الاستعارة، التى هى قسم من المجاز، الذى هو كلمة، والكلمة مفرد، فيلزم أن يكون التمثيل مفردا، ورد ذلك بأن التمثيل مستلزم للتركيب؛ لأنه مركب والتركيب مناف للإفراد، فيلزم أن يكون التمثيل مفردا ومركبا، وذلك جمع بين الضدين وهو محال. وأجاب الخطيبى: بأن المركب قد يطلق عليه كلمة، فيكون مراده بالكلمة فى حد المجاز ما هو أعم من المفرد والمركب، وفيه نظر؛ لأن إطلاق الكلمة على الكلام مجاز، وأيضا فإنه يستلزم أن يكون
(1) أى التمثيل.
وفسّر التخييلية بما لا تحقّق لمعناه حسّا ولا عقلا، بل هو صورة وهميّة محضة؛ كلفظ الأظفار فى قول الهذلىّ؛ فإنه لمّا شبّه المنيّة بالسّبع فى الاغتيال، أخذ الوهم فى تصويرها بصورته واختراع لوازمه لها، فاخترع لها صورة مثل الأظفار، ثم أطلق عليها لفظ الأظفار:
ــ
المركب موضوعا؛ لأنه وصف المجاز بأن له موضوعا استعمل فى غيره، والأكثرون على خلافه، وأجاب أيضا: بأنا لا نسلم أنه عد التمثيل من المصرح بها التحقيقية، فجاز أن يكون ذكره فى فصلها لمشابهته لها من جهة تحقيق معنى التشبيه المتروك عقلا، وذكر المشبه به فقط. وأجيب أيضا بأن السكاكى لم يلتزم فى التمثيل، أن يكون مركبا، بدليل أنه جعل منه قوله:" وصاعقة من نصله" وعد منه: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ (1) وأجيب أيضا بأنه عد التمثيل من الاستعارة التحقيقية، لا فى كونه مركبا بل فى جهات أخر تظهر بالتأمل، بقى هنا بحث، وهو أن الاستعارة المصرح بها قسمت إلى تحقيقية وتخييلية، ولم تقسم المكنية إلى ذلك فما المانع من تقسيم المكنية - أيضا - إلى تحقيقية، وهو ما كان المشبه به فيها ثابتا فى الحس أو العقل، وتخييلية، وهو ما لم يكن ثابتا فى الحس
ولا العقل، بل فى الوهم، كما ذكره بعض شراح المفتاح، وقد يجاب بأن المكنية لا يكون المشبه به فيها إلا تخييليا؛ لأن المشبه به هو الفرد المدعى دخوله فى حقيقة المشبه به، كما أن المنية مشبهة بالسبع الذى هو مجازى، فالمشبه" المنية"، والمشبه به الذى هو مجازى" السبع" الذى هو موت، هذا على رأى السكاكى فى معنى الاستعارة بالكناية، وأما على رأى المصنف فلا يأتى ذلك.
تفسير السكاكى للاستعارة التخييلية: ص: (وفسر التخييلية إلخ).
(ش): هذا اعتراض ثالث، وهو أن السكاكى فسر الاستعارة التخييلية بما لا تحقق لمعناه، أى للمراد منه، وهو للمشبه إذ لا يكون للمشبه تحقق فى الحس ولا فى العقل، وعبارة المصنف حسا وعقلا، وينبغى أن يقول حسا ولا عقلا؛ ليكون نعتا لكل منهما، لا لمجموعهما، بل هو أى المشبه به صورة وهمية محضة كلفظ" الأظفار" فى قول الهذلى:
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها (2)
(1) سورة الزمر: 67.
(2)
شطر البيت، وهو من الكامل، وهو لأبى ذؤيب الهذلى فى شرح أشعار الهذليين/ 8، وتهذيب اللغة 11/ 38، 14 / -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فإنه لما شبه المنية بالسبع فى الاغتيال أخذ الوهم فى تصويرها بصورته، واختراع لوازمه للمنية من الهيئات والجوارح، وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتياله للنفوس به، فاخترع لها مثل صورة الأظفار ثم أطلق عليها لفظ" الأظفار". قلت: وهذه العبارة تقتضى أن" الأظفار" يكون بها قيام وجه الشبه، لا أنها من القسم الآخر، وهو ما يكمل به وجه الشبه، وقد تقدم عند الكلام فى الاستعارة بالكناية عكسه، فهذا مخالف لما سبق من كلامه فى التلخيص تلويحا، وفى الإيضاح تصريحا والمذكور هنا أقرب إلى الصحة، فإن بالأظفار يكمل وجه الشبه، لا يكون به قوامه، فإن الاغتيال يكون بالأنياب أيضا، وبقى هنا سؤال آخر على المصنف، وهو أن يقال: لا نسلم أن المنية ليس لها أمر عقلى من المقدمات، ولا شك أن له تحققا فى العقل يكون مشبها بالأظفار كما جعلتم للخوف والجوع لباسا متحققا فى العقل، فكانت استعارته تحقيقية فى قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (1) فإنكم قلتم: إن الاستعارة فيه تحقيقية، إما لأن المشبه فيه حسى ولا تفريع عليه، أو عقلى بأن يكون أريد باللباس الشدائد والدواهى، فكما جعلتم اللباس أريد به الشدائد الحاصلة من الجوع، وقلتم تحقيقية؛ لأن المشبه فيه متحقق فى
العقل، فاجعلوا مقدمات الموت المتحققة فى العقل أظفارا، ولا يرد هذا على السكاكى؛ لأنه جعل الاستعارة فى الآية خيالية، فاعترض المصنف عليه بأمور:
أحدها: أن فيما ذكره تعسفا لكثرة الأعمال المذكورة.
الثانى: أنه مخالف لتفسير غيره، فإن غيره فسرها بأنها جعل الشئ للشئ، أى على سبيل المبالغة، ومثلوه بقول لبيد:
إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (2)
فإن تفسيره يقتضى أن يجعل للشمال صورة متوهمة كصورة اليد، لا أن يجعل لها يدا، فإطلاق اسم اليد على تفسيره استعارة، وعلى تفسير غيره حقيقة، وإنما الاستعارة فى إثباتها للشمال، كما قلنا فى المجاز العقلى الذى المشبه فيه حقيقة. قلت: هذا من المصنف يقتضى أن المجاز العقلى استعارة بالكناية، وهو لا يرى ذلك، بل رد على السكاكى القول به، فهو مناقض لما قاله أوائل الكتاب، فليتأمل.
- 260، وسمط اللآلى ص: 888، وأمالى القالى 2/ 255، والصناعتين ص: 314، والإيضاح ص:277.
(1)
سورة النحل: 112.
(2)
سبق البيت ص: 84.
وفيه تعسّف، ويخالف تفسير غيره لها بجعل الشئ للشئ، ويقتضى أن يكون الترشيح تخييليّة؛ للزوم مثل ما ذكره فيه.
ــ
الثالث: أنه يلزم أن يكون ترشيح الاستعارة استعارة تخييلية للزوم ما ذكر فيه؛ لأن الترشيح فيه إثبات بعض لوازم المشبه به المختصة به للمشبه، إلا أن التعبير عن المشبه فى" التخييلية" بلفظه الموضوع له، وفى" الترشيح" بغير لفظه، وهذا لا يفيد فرقا، والقول بذلك يقتضى أن يكون الترشيح ضربا من التخييلية، وليس كذلك.
الرابع: ذكره المصنف فى الإيضاح أن إطلاقه أن التخييلية ما استعمل فى صورة متوهمة مشابهة لمحققة (1)، يقتضى أنه لا يشترط فى" التخييلية" اقترانها بالاستعارة بالكناية لأنه أطلق.
ويدل أيضا على إرادته ذلك، أنه قال: حسن التخييلية بحسب حسن المكنى عنها متى كانت تابعة لها كما فى قولك:" فلان بين أنياب المنية ومخالبها" وقلما تحسن الحسن البليغ غير تابعة لها، ولذلك استهجنت فى قول الطائى:
لا تسقنى ماء الملام فإنّنى
…
صبّ قد استعذبت ماء بكائى (2)
وهذا منه يقتضى أن التخييلية قد تكون غير تابعة للمكنية، فإن قيل: لم لا يجوز أن يريد بغير التابعة للمكنية التابعة لغير المكنية قلنا: غير المكنية هى المصرح بها، فتكون التابعة لها ترشيحا للاستعارة، وهى من أحسن البلاغة، فكيف يصح استهجانه؟
ورأى المصنف أن" التخييلية" لا بد أن تكون تابعة للمكنية، وأجاب عن بيت أبى تمام بجواز أن يكون شبه الملام بظرف الشراب، لاشتماله على ما يكرهه الملوم، كما أن الظرف قد يشتمل على ما يكرهه الشارب لبشاعته أو مرارته، فتكون التخييلية تابعة للمكنى عنها، أو بالماء نفسه؛ لأن اللوم قد يسكن حرارة الغرام كما أن الماء يسكن غليل الأوام، فيكون تشبيها على حد قوله:
والرّيح تلعب بالغصون وقد جرى
…
ذهب الأصيل على لجين الماء (3)
(1) الإيضاح بتحقيقى ص: 280.
(2)
الطائى هو أبو تمام، وشطر الشعر فى ديوانه ص 14، والمصباح ص: 142، والإيضاح بتحقيقى ص:281.
(3)
البيت لأبى خفاجة الأندلسى فى ديوانه ص 18، التلخيص ص 71 وفيه (والريح تعبث بالغصون)، والإيضاح ص 263.
وعنى بالمكنىّ عنها: أن يكون المذكور هو المشبّه، على أن المراد بالمنيّة السبع؛ بادّعاء السّبعية لها؛ بقرينة إضافة الأظفار إليها.
ــ
فيكون تشبيها، كما صرح به المصنف فى التشبيه كما سبق، ولا يكون استعارة، والاستهجان حاصل على التقديرين؛ لأنه كان ينبغى أن يشبهه بظرف شراب مكروه، أو بشراب مكروه؛ ولهذا لم يستهجن" أغلظت لفلان القول" و" جرعته منه كأسا مرة" أو" سقيته أمر من العلقم"، هذا ما أورده المصنف على السكاكى، واعلم أن جعله" لجين الماء" و" ماء الملام" تشبيها، يقتضى جعل لباس الجوع والخوف تشبيها، وقد عده فى أول الكلام على الاستعارة" استعارة" وإنما ردد القول فى أنها تحقيقية أو تخييلية، فهذا الكلام مخالف لما سبق، وأجاب الخطيبى عن الأول، والثانى بأن ما ذكره السكاكى هو الموافق لإجماع الناس على أن الاستعارة التخييلية مجاز لا حقيقة، وما ذكره المصنف يقتضى أنها ليست مجازا، فلا تكون استعارة، وعن الثالث بأنه لا يلزم أن يكون الترشيح تخييلية؛ لأن الترشيح للمبالغة فى الاستعارة، والتخييل لحصول الاستعارة، وبينهما فرق، وهذا هو الفرق الذى ذكره المصنف، وقال: لا يحصل به فرق، والظاهر مع الخطيبى، لأن ما يقوى الشئ الحاصل هو الجدير
باسم الترشيح، وما لا تعلم الاستعارة إلا به هو الجدير باسم الاستعارة، وعن الرابع بأن عدم وجدان استعارة تخييلية دون استعارة بالكناية لا يقتضى أن يكون اقترانها بالكناية شرطا، ويشهد لما قاله أن السكاكى قال: الاستعارة بالكناية لا تنفك عن الاستعارة التخييلية، وستقف فى آخر الفصل على تفصيل هنا، ثم ذكر فى آخر الفصل أن المكنية توجد دون التخييلية فقد حصل انفكاك إحداهما عن الأخرى، وإذا صح انفكاك المكنية فكذلك يصح انفكاك التخييلية، ومن جهة المعنى أن الأصل عدم توقف إحدى الاستعارتين على الأخرى، فمدعى الاشتراط هو المحتاج إلى دليل.
الاستعارة المكنية: ص: (وعنى بالمكنى عنها إلخ).
(ش): هذا اعتراض آخر على صاحب المفتاح، حاصله أن المصنف يرى أن الاستعارة بالكناية أن يذكر لفظ المشبه مرادا به حقيقته، ويدل على أن القصد تشبيهه بغيره بذكر شئ من لوازم ذلك الغير والسكاكى يرى أن المكنية عبارة عن ذكر المشبه مرادا به المشبه به، بعد ادعاء دخول المشبه فى جنس المشبه به، فإن قلت: يلزم أن
وردّ: بأن لفظ المشبّه فيها مستعمل فيما وضع له تحقيقا، والاستعارة ليست كذلك، وإضافة نحو (الأظفار) قرينة التشبيه.
ــ
تكون المنية مثلا فى بيت الهذلى أريد بها" السبع"؛ لأنه المشبه به، فيكون استعارة تحقيقية، ولا يكون معنى المنية مقصودا، والقطع حاصل بخلافه، قلت: بل المنية يعبر بها عن" السبع" الذى هو الموت بعد ادعاء أن الموت فرد من أفراد السباع، فالمراد بالمنية السبع لكن ليس السبع الحقيقى، بل السبع المجازى، فالاستعارة فى الأصل للسبع كأنا عبرنا بالسبع عن المنية، ثم عبرنا بالمنية عن ذلك السبع، فيصح أن يقال حينئذ:
المراد بالمنية" السبع"، وأن يقال: المراد بها" الموت" وعلى التقديرين المراد المشبه به، ووضح بذلك أن المنية فى البيت مشبه أريد به المشبه به، فالمشبه المنية التى هى موت مطلق، والمشبه به المنية التى هى موت مقيد بكونه له صورة السبع، ولما كان المصنف مخالفا للسكاكى فى ذلك، ويرى أن المراد بالمشبه" الحقيقة المشبهة" اعترض عليه، فقال: وعنى بالمكنى عنها أن يكون المذكور هو المشبه على أن المراد بالمنية" السبع" أى السبع المجازى الذى ادعى دخوله فى أفراد السبع الحقيقى بادعاء السبعية، أى صفة السبع لها بقرينة إضافة الأظفار إليها، أى إضافتها لضميرها، أى بمعنى نسبتها لها، ورد المصنف هذا بأن لفظ المشبه فيها، أى فى" المنية" مثلا مستعمل فيما وضع له تحقيقا، وعبر المصنف هنا بلفظ المشبه؛ لأنه يرى أن ذلك تشبيه لا استعارة، وهذا استدلال بنفس الدعوى، قال فى الإيضاح: للقطع بأن المراد" بالمنية" فى البيت" الموت" لا الحيوان المفترس. قلت:
وهذا لا يدل؛ لأن السكاكى لا ينكر أن يكون المراد" بالمنية"" الموت"، ولك أن تقول: المراد بها الموت بقيد كونه على صورة السبع، كما حققناه آنفا، وهذا القدر هو الذى أوقع المصنف فى هذا الاعتراض، ولم يتأمل أن قول السكاكى: إن المراد" بالمنية"" السبع" لا ينفى ما هو مقطوع به من إرادة الموت، وقول المصنف: إن إدخال المنية فى جنس السبع للمبالغة، لا يقتضى كون اسم المنية يستعمل فيما لم يوضع له على التحقيق ليس صحيحا؛ لأن المنية التى وضع اللفظ لها" موت" هو معنى، والمنية المرادة فى المكنية موت له صورة السبع، وما ذكره السكاكى من كون الاستعارة بالكناية مجازا، عليه الأكثرون، وصرح به الزمخشرى عند قوله تعالى:
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ (1).
(1) سورة البقرة: 27.
واختار ردّ التبعيّة إلى المكنىّ عنها، بجعل قرينتها مكنيّا عنها، والتبعيّة قرينتها، على نحو قوله فى المنية وأظفارها.
وردّ: بأنه إن قدّر التبعية حقيقة، لم تكن تخييلية؛ لأنها مجاز عنده، فلم تكن المكنىّ عنها مستلزمة للتخييلية؛ وذلك باطل بالاتفاق؛ وإلّا فتكون استعارة، فلم يكن ما ذهب إليه مغنيا عما ذكره غيره.
ــ
رد الاستعارة التبعية إلى الاستعارة المكنية: ص: (واختار رد التبعية إلخ).
(ش): هذا اعتراض على السكاكى، وهو أنه اختار رد الاستعارة التبعية، أى الواقعة فى الحروف والمشتقات من المصادر إلى المكنى عنها، أى أن التبعية قسم من المكنية، أى بأن تجعل قرينتها، أى ما أسند إليه مثلا تلك التبعية مكنيا عنها، وتجعل التبعية قرينتها أى تخييلية على نحو ما قال فى" المنية" و" أظفارها" فى بيت الهذلى، فيكون معنى قولنا:" نطقت الحال" أن الحال عبر بها عن المتكلم بادعاء دخوله فى جنس المتكلمين، وقولنا:" نطقت" تخييلية، وقد رد المصنف عليه بأنه إن قدر التبعية حقيقة يلزم أن لا تكون تخييلية، لأن التخييلية عند السكاكى مجاز، وإذا كانت حقيقة لا تكون تخييلية، فيلزم أن لا تكون المكنى عنها مستلزمة للتخييلية، وذلك باطل بالاتفاق، يعنى أن وجود المكنية دون التخييلية باطل بالاتفاق، بخلاف وجود التخييلية دون المكنية فإنه جائز عند السكاكى ممتنع عند المصنف، كما سبق، وقد رد عليه الخطيبى: بأنا لا نسلم الاتفاق على أن المكنية تستلزم الخيالية؛ لأن المصنف يرى أن المجاز العقلى استعارة بالكناية، وليس مستلزما للخيالية. قلت: والجواب صحيح، وبرهانه أن السكاكى ذكره فى آخر الكلام على المجاز العقلى أنه عنده استعارة بالكناية، وأن المكنى عنها تنقسم إلى: ما
قرينتها أمر وهمى" كالأنياب" فى قولنا:
" أنياب المنية" أو أمر محقق" كالإنبات" فى قولنا:" أنبت الربيع البقل" لا يقال: فقد قال السكاكى: إن الاستعارة بالكناية لا تنفك عن التخييلية؛ لأنه قال على تفصيل سنذكره فى آخر الفصل، وهذا هو التفصيل الموعود به، وقال الخطيبى فى شرح المفتاح:
إنه يمكن أن تكون" التخييلية" موجودة فى" أنبت الربيع" فيكون تشبيه الإنبات على سبيل التخييل، وهو فاسد، فإن ذلك مجاز إسنادى، ونحن إنما نتكلم فى الاستعارة التخييلية التى هى قسم من مجاز الإفراد. قوله:(وإلا) أى وإن لم يقدر التبعية