المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الاستعارة والاستعارة قد تقيد بالتحقيقيّة؛ لتحقق معناها (1) حسّا أو عقلا؛ - عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح - جـ ٢

[السبكي، بهاء الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الفنّ الثانى علم البيان

- ‌التشبيه

- ‌أركان التشبيه

- ‌(الغرض من التشبيه)

- ‌وقد يعود إلى المشبّه به، وهو ضربان:

- ‌وهو باعتبار طرفيه:

- ‌وباعتبار وجهه:

- ‌وباعتبار الغرض:

- ‌خاتمة

- ‌الحقيقة والمجاز

- ‌الحقيقة:

- ‌والمجاز: مفرد، ومركّب:

- ‌المجاز والمرسل

- ‌الاستعارة

- ‌وباعتبار آخر ثلاثة أقسام:

- ‌المجاز المركّب

- ‌[فصل [إخماد التشبيه في النفس]

- ‌فصل [تعريف السكاكي للحقيقة اللغوية]

- ‌فصل [حسن كل من التحقيقية والتمثيل]

- ‌فصل [قد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها بحذف لفظ أو زيادة لفظ]

- ‌(الكناية)

- ‌وهى ثلاثة أقسام:

- ‌الأولى: المطلوب بها غير صفة ولا نسبة:

- ‌والثانية: المطلوب بها صفة:

- ‌الثالثة: المطلوب بها نسبة؛ كقولهم [من الكامل]:

- ‌فصل [المجاز والكناية افضل من الحقيقة والتصريح]

- ‌الفنّ الثالث علم البديع

- ‌وهى ضربان: معنوىّ، ولفظى:

- ‌المحسّنات المعنويّة

- ‌الطباق ضربان:

- ‌المقابلة

- ‌مراعاة النظير

- ‌الإرصاد

- ‌المشاكلة

- ‌المزاوجة

- ‌العكس

- ‌الرجوع

- ‌التورية

- ‌الاستخدام

- ‌اللف والنشر

- ‌الجمع

- ‌التفريق

- ‌التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌التجريد

- ‌المبالغة

- ‌المذهب الكلامى

- ‌حسن التعليل

- ‌تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌الإدماج

- ‌الهزل يراد به الجد

- ‌تجاهل العارف

- ‌القول بالموجب

- ‌الاطراد

- ‌المحسنات اللفظية

- ‌[الجناس]

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌السجع

- ‌الموازنة

- ‌القلب

- ‌التشريع

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌خاتمة: فى السّرقات الشّعريّة

- ‌الاقتباس

- ‌التضمين

- ‌العقد

- ‌الحلّ

- ‌التلميح

- ‌فصل [ما ينبغى للمتكلم المتأنق فيه]

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌ ‌الاستعارة والاستعارة قد تقيد بالتحقيقيّة؛ لتحقق معناها (1) حسّا أو عقلا؛

‌الاستعارة

والاستعارة قد تقيد بالتحقيقيّة؛ لتحقق معناها (1) حسّا أو عقلا؛

ــ

ونحوه مصرحا بأن الشفة والأنف موضوعان للعضو من الإنسان، وإن قصد التشبيه صار اللفظ استعارة كقولهم فى موضع الذم: غليظ المشفر، فإنه بمنزلة أن يقال: كأن شفتيه فى الغلظ مشفر البعير.

(تنبيه): إذا كان للمجاز علاقتان أو أكثر واحتمل التجوز عن كل، فمقتضى كلام الأصوليين أن أقوى العلاقات اعتبار الجزئية بأن يطلق الكل ويراد البعض. ألا ترى أنهم جعلوا التخصيص خيرا من المجاز، والتخصيص من إطلاق الكل وإرادة البعض، على ما ذكره الإمام فخر الدين وإن كان فيه خدش فإن دلالة العموم كلية لا كل، ومرادنا بالتخصيص إطلاق العام وإرادة الخاص، ولا إشكال فى أن إطلاق الكل على الجزء أولى من عكسه لاشتمال الكل على الجزء، فإن إطلاق السبب على المسبب أولى من عكسه؛ لاقتضاء السبب مسببا معينا بخلاف العكس، وأن أقوى الأسباب السبب الغائى لاجتماع السببية والمسببية فيه، وأن إطلاق الملزوم على اللازم أولى من العكس؛ لعدم اقتضاء الثانى الأول، إلا أن يكون لازما مساويا، وأن إطلاق الحال على المحل أولى من عكسه؛ لاستحالة وجود الحال دون محل.

واعلم أن للحقيقة والمجاز مباحث شريفة وتحقيقات لطيفة، ذكرتها فى شرح المختصر فعليك بمراجعتها.

الاستعارة: ص: (والاستعارة قد تقيد بالتحقيقية إلخ).

(ش): هذا هو القسم الثانى من قسمى المجاز وهو ما كانت علاقته تشبيه معناه بموضوعه كما قال المصنف، وعلى ما حققناه ما كانت علاقته التشبيه بشرط قصد المبالغة، ومن الناس من يطلق الكلام على الاستعارة ومنهم من يقيدها بالتحقيقية وإنما كان كذلك لأن الاستعارة تنقسم إلى: استعارة بالكناية وغيرها، والاستعارة بالكناية

تنقسم إلى: مصرح بها وغيره، فالمصرح بها تنقسم إلى تحقيقية وتخييلية، فالاستعارة ثلاثة أقسام: مصرح بها تحقيقية وهى أن يذكر المشبه به مرادا به المشبه ويكون المشبه

(1) أى المشبه.

ص: 142

كقوله [من الطويل]:

لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف

أى: رجل شجاع،

ــ

أمرا تحقيقيا إما حسا أو عقلا، ومصرح بها خيالية وهى أن يكون المشبه المتروك أمرا وهميا لا تحقق له فى الخارج، واستعارة غير مصرح بها وهى الاستعارة بالكناية وهو ذكر المشبه مرادا به المشبه به مثل:

وإذا المنيّة أنشبت أظفارها (1)

هذه طريق السكاكى، فالاستعارة عنده حينئذ ثلاثة أقسام كلها مجاز، والمصنف يرى أن الاستعارة على التحقيق مع التحقيقية. أما الاستعارة بالكناية: فليست عنده استعارة فى الحقيقة؛ لأن المنية عنده مستعملة فى موضوعها كما سيأتى. وأما التخييلية: وهو ما إذا كان المشبه وهميا؛ فلأنها عنده لا تستعمل إلا تبعا للاستعارة بالكناية وسيأتى إفرادها بالذكر فلذلك أطلق هذا الفصل، ثم قال:" وقد تقيد بالتحقيقية" أى بناء على انقسامها إلى النوعين فيفيد حينئذ التخصيص؛ لإفراد تلك بفصل، أو بقيد للإيضاح، إن مشينا على رأيه وعلى القولين فنجعل هذا الباب مقصورا على الاستعارة التحقيقية، وإنما تقيد بالتحقيقية لتحقق معنى الاستعارة فيها؛ لأن المشبه فى غيرها ليس محققا، وما ليس محققا ليس جديرا بأن يستعار له لفظ موضوع لغيره، ويحتمل أن يكون التقدير سميت تحقيقية لتحقق معناها، أى معنى الاستعارة وهو المشبه، وتحقق ذلك المعنى تارة يكون حسا وتارة يكون عقلا، فالحسى كإطلاق الأسد على الرجل الشجاع فى نحو قول زهير:

لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم (2)

(1) فى الإيضاح بتحقيقى ص: 277: والبيت من الكامل، وهو لأبى ذؤيب فى شرح أشعار الهذليين/ 8، وتهذيب اللغة 11/ 380، 14/ 260 وفى سمط اللآلئ ص 888، وأمانى القالى 2/ 255، وكتاب الصناعتين ص 284، وللهذلى فى لسان العرب 12/ 70 (تمم)، وبلا نسبة فى لسان العرب 1/ 757 (منشب)، وتاج العروس 4/ 268 (نشب)، (تمم).

(2)

البيت لزهير فى ديوانه ص 23، من معلقته المشهورة التى يمتدح فيها الحارث بن عوف، وهرم بن سنان. انظر الإيضاح بتحقيقى ص 254،

والطراز ج 1 ص 232.

ص: 143

وقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (1) أى: الدّين الحقّ.

ــ

فإن أسدا هنا استعارة تحقيقية؛ لأن معناه وهو الرجل الشجاع أمر محقق حسى، وتارة يكون عقليا كقولك:" أبديت نورا" تريد حجة فإن الحجة عقلية لا حسية، فإنها تدرك بالعقل، وليست الألفاظ هى الحجة، فتكون حسية، بل الألفاظ دالة على الحجة، وكذلك قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ أى الدين الحق، فإن الصراط حقيقة فى الطريق الجادة. واختلفوا فى قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (2) فظاهر كلام الزمخشرى أنها عقلية؛ لأنه قال: شبه ما غشى الإنسان من بعض الحوادث باللباس؛ لاشتماله على اللابس. وظاهر كلام السكاكى أنها حسية؛ لأنه جعل اللباس استعارة لما يلبس الإنسان عند جوعه وخوفه من انتقاع اللون ورثاثة الهيئة.

قلت: وليس كلام الزمخشرى واضحا فى أن المشبه عقلى؛ لأنه جعل المشبه ما غشى الإنسان من بعض الحوادث، فقد يريد به ما يحصل من الجوع والخوف من انتقاع اللون كما قال السكاكى.

واعلم أن قولنا: إن المشبه هنا عقلى أو حسى إنما نريد بالحسى فيه الحس الحقيقى لا الخيالى، فإن الخيالى داخل هنا فى حكم الوهمى فيكون من قسم الاستعارة التخييلية، ونريد بالعقلى أعم من الوجدانى، ألا ترى أن الجوع والخوف وجدانيان وقد سموهما عقليين، ونريد بالوهمى أعم من الخيالى، وهذا كله على خلاف الاصطلاح السابق فى أركان التشبيه، فإنا ألحقنا الخيالى بالحسى، والوهمى بالعقلى، ثم اعلم أن هذه الآية سيأتى ذكرها عند الكلام على تحقيق معنى الاستعارة التخييلية، وسيأتى على كون المشبه هنا عقليا إشكال، وعلى جعل هذا استعارة إشكال، وكلاهما يناقض هذا فليطلب من موضعه.

واعلم أن ما جزم به المصنف من كون الاستعارة فى اللباس تحقيقية إما عقلية أو حسية، مخالف لما قاله السكاكى من أنها تخييلية، والحق أنها عقلية، لأن الضرر الحاصل بالجوع والخوف محقق. قال فى الإيضاح: ومن لطيف هذا الضرب ما يقع التشبيه فيه فى الحركات كقول أبى دلامة يصف بغلته

أرى الشّهباء تعجن إن غدونا

برجليها وتخبز باليدين (3)

(1) سورة الفاتحة: 5.

(2)

سورة النحل: 112.

(3)

أبو دلامة هو زيد بن الجوات، شاعر من رجال السفاح، والمنصور، والمهدى. الإيضاح بتحقيقى ص 254. ب (إذ عذونا) بدلا من (إن غدونا).

ص: 144

ودليل أنها مجاز لغوىّ: كونها موضوعة للمشبّه به، لا للمشبّه، ولا للأعمّ منهما.

ــ

ص: (ودليل أنها مجاز لغوى إلخ).

(ش): قد علمت أن هذا الباب معقود للاستعارة التحقيقية، والاستعارة لفظ تضمن تشبيه معناه بما وضع له، والمراد بمعناه ما عنى به، أى ما استعمل فيه، وبهذا علم أن الاستعارة لا بد لها من الاستعمال فى غير موضوع اللفظ، فخرج بهذا نحو:" زيد أسد" فإنه تشبيه على رأى المصنف، ونحوه:" رأيته أسدا" فكل منهما تشبيه كما سبق، وخرج به نحو:" رأيت به أسدا" فليس استعارة ولا تشبيها، بل هو تجريد، وسيأتى الكلام عليه إن شاء الله - تعالى - وحاصله أن الكلام إذا اشتمل على المشبه به، فالمشبه إما أن يكون - أيضا - مذكورا لفظا أو تقديرا أو لا، فإن لم يكن الكلام استعارة - وليس تشبيها بلا خلاف - مثل:" لقيت أسدا" تريد شجاعا، كذا قال المصنف، وليس كما قال، فالخلاف فيه موجود. قال أبو الحسن حازم بن محمد بن حازم فى كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء: التشبيه بغير حرف شبيه بالاستعارة فى بعض المواضع، والفرق بينهما أن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه فتقدير حرف التشبيه لا يسوغ فيها، والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه ألا ترى إلى قول الوأواء الدمشقى:

فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت

وردا وعضّت على العنّاب بالبرد (1)

يسوغ لك أن تقدره:" وعضت على مثل العناب بمثل البرد"، وكذلك سائر ما فى البيت، ولا يسوغ ذلك فى الاستعارة نحو قول ابن نباتة

حتى إذا بهر الأباطح والربا

نظرت إليك بأعين النوار

لأنه لا يصح أن تقدر:" نظرت إليك بمثل أعين النوار" اه والتحقيق أنه إن لم يصح تقدير أداة التشبيه فهو استعارة، وإن صح فيحتمل أن يكون استعارة وأن يكون تشبيها، فإذا قلت:" رأيت أسدا" جاز أن يكون تشبيها، والمشبه به باق على حقيقته على تقدير الحذف، وأن يكون استعارة ولا تقدير، وعليه أنشد الأدباء بيت الوأواء لأنه مقصود الشاعر، وذلك يفهم من كل مكان على حسبه، والغالب عند قصد

(1) ديوان الوأواء الدمشقى ص 74، دلائل الإعجاز، وصدر البيت فيه:" فأسبلت" ص 449، والمصباح ص 120.

ص: 145

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

المبالغة إرادة الاستعارة، كقوله تعالى: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً (1) وقوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ (2) وإن كان المشبه مذكورا، فالمشبه به إن كان خبر مبتدأ أو نحوه مثل:" كان"،" وإن" أو المفعول الثانى من باب علمت، فقد تقدم الكلام عليه، وإن رأى المصنف أنه تشبيه، والمختار جواز الأمرين فيه، فنحن ننازعه فى تعين" زيد أسد" للتشبيه، كما ذكرناه فيما سبق، وننازعه فى تعين" رأيت أسدا" للاستعارة، كما ذكرناه الآن، وإن لم يكن المشبه به كذلك فهو تجريد، وسيأتى الكلام عليه إذا تقرر هذا، فالاستعارة اختلف فيها، هل هى مجاز لغوى أو عقلى؟ والشيخ عبد القاهر يردد القول بينهما، فالجمهور على أنها مجاز لغوى، وإليه ذهب المصنف، والحاتمى شيخ السكاكى، بمعنى أن" أسدا" من قولك:" رأيت أسدا" مستعمل فى غير موضوعه، واستدلّ عليه بأن القرينة منصوبة معه، ولو كان حقيقة لما احتاج إلى القرينة، وهو ضعيف، فإن القرينة قد تكون لإرادة الأسد الذى هو إنسان بالدعاء، واستدل المصنف عليه بأنها، أى:

بأن لفظها أى اللفظ المستعمل فيها موضوع للمشبه به فإن لفظ" الأسد" موضوع للحيوان المفترس لا للمشبه، وهو الرجل الشجاع، ولا لشئ له الشجاعة أعم من أن يكون الرجل الشجاع، أو الحيوان المفترس، وإذا لم يكن موضوعا للرجل الشجاع ولا لأعم منه ومن غيره كان مستعملا فى غير ما وضع له وهو شأن المجاز، وإنما قال: ولا لأعم منه؛ لأن اللفظ لو كان موضوعا لأعم منهما لكان متواطئا، أو مشككا، فيكون حقيقة بالنسبة إليهما.

وقد يعترض على هذا بأن يقال: إطلاق المتواطئ على أحد نوعيه مجاز على قول مشهور، لكن ليس هذا موضع تحقيق هذا البحث، وقد حققناه فى شرح مختصر ابن الحاجب، وأيضا فالمصنف قال فى الإيضاح: لو كان موضوعا لأحدهما لكان استعماله فى الرجل الشجاع من جهة التحقيق لا من جهة التشبيه، وهذا المعنى، وهو لزوم عدم التشبيه لازم للتواطؤ سواء أكان استعماله فى أحدهما حقيقة أم مجازا؛ لأن التجوز فى إطلاق الأعم على الأخص باعتبار زيادة قيد الشخص لا باعتبار تشبيه معناه بأصله، فهو للتحقيق، أى ليس للتشبيه سواء أكان حقيقة أم مجازا، وبهذا ظهر الجواب عن قول الخطيبى: لا نسلم أنه

(1) سورة فصلت: 13.

(2)

سورة النحل: 112.

ص: 146

وقيل: إنها مجاز عقلى بمعنى: أن التصرّف فى أمر عقلىّ لا لغوى؛ لأنها لما لم تطلق على المشبّه، إلا بعد ادّعاء

دخوله فى جنس المشبّه به. كان استعمالها فيما وضعت له؛ ولهذا صحّ التعجّب فى قوله [من الكامل]:

قامت تظلّلنى من الشّمس

نفس أعزّ علىّ من نفسى

قامت تظلّلنى ومن عجب

شمس تظلّلنى من الشّمس

ــ

للتحقيق إذ الوضع لأعم منهما. واستدل المصنف فى الإيضاح بأنه لو كان موضوعا للشجاع مطلقا لكان وصفا لا اسم جنس وفيه نظر؛ لأن الخصم يقول: اسم الجنس موضوعه حيوان شجاع، ولعمرى لقد كان المصنف مستغنيا عن الاستدلال على هذا فإنه لا ينازع أحد أن الاستعارة موضوعة فى الأصل لمعناها الأصلى، وأنها ليست موضوعة للأعم، إنما النزاع فى شئ وراء ذلك، كما سنبينه، وإن كان المصنف قصد أن يستوعب الأقسام الممكنة فبقى عليه أن يكون اللفظ موضوعا لكل منهما بالاشتراك وقيل:

الاستعارة مجاز عقلى، بمعنى أن التصرف فيها فى أمر عقلى لا لغوى، لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به، فلما لم تطلق الاستعارة على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به، كان استعمالها فيما وضعت له فيكون حقيقة لغوية ليس فيها غير نقل الاسم وحده، وليس نقل الاسم المجرد استعارة؛ لأنه لا بلاغة فى مجرد نقل الاسم؛ لأن الأعلام المنقولة نحو:" يزيد، ويشكر" ليست استعارة، فلم يبق إلا أن يكون مجازا عقليا، بمعنى أن العقل جعل حقيقة الأسد أعم من الرجل الشجاع، وأطلقه عليه، فنقل الاسم تبع لنقل المعنى، قالوا: ولذلك صح التعجب فى قول ابن العميد: (1)

قامت تظلّلنى من الشمس

نفس أعزّ علىّ من نفسى

قامت تظلّلنى ومن عجب

شمس تظللنى من الشمس

وصح النهى عنه أى عن التعجب فى قوله:

(1) الإيضاح بتحقيقى ص 259، المفتاح ص 371، أسرار البلاغة ج 2/ 165، نهاية الإيجاز ص 253.

ص: 147

والنهى عنه قوله [من المنسرح]:

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر

وردّ: بأن الادعاء لا يقتضى كونها مستعملة فيما وضعت له، وأمّا التعجّب، والنهى عنه: فللبناء على تناسى التشبيه؛ قضاء لحقّ المبالغة.

ــ

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر (1)

ومنه قوله:

ترى الثياب من الكتّان يلمحها

نور من البدر أحيانا فيبليها

فكيف تنكر أن تبلى معاجرها

والبدر فى كلّ وقت طالع فيها (2)

وتسميتهم هذا تعجبا نظرا إلى اللغة، فإن قوله:" من عجب" ليس تعجبا اصطلاحيا، وهذان البيتان أحسن مما قبلهما، فإن الذى يقال: إنه يبلى بنور القمر: هو الكتان، لا مطلق الغلالة. ووجه التعجب أن الشمس الحقيقية لا تظلل من الشمس؛ لأنها تحتاج إلى ما يظلل منها لنورها، والبدر الحقيقى يتعجب من عدم تأثيره فى بلى الكتان، فلو لم يكن حقيقة لما تعجب، ورد على هذا القائل فيما احتج به. أما قوله:

إنها لم تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله فى جنس المشبه به، فذلك لا يخرج اللفظ عن كونه مستعملا فى غير ما وضع له، فإن قلت: كيف لا يخرجه (3) وادعاء أنه أسد حقيقى كقوله: هذا أسد حقيقى وذلك يصيره حقيقة. قلت: لأن ادعاء ذلك ليس حقيقيا، بل ادعاء مجازيا. وفيه نظر، فإن الادعاء المجازى مضمون الجملة لا مضمون الاستعارة فقط، وأما التعجب والنهى فللبناء على تناسى التشبيه قضاء لحق المبالغة، وفيهما أيضا نوع تجوز، ويحتمل أن يقال: الاستعارة هنا أصلها التشبيه من كل وجه مبالغة، فهو كالتشبيه المشروط فى نحو قوله:

(1) البيت لابن طباطبا العلوى، وهو الحسن محمد بن أحمد المتوفى سنة 322 هـ، الطراز 2/ 203، نهاية الإيجاز ص 253 والمصباح ص 129، انظر الإيضاح بتحقيقى ص 259.

(2)

البيتان لأبى المطاع ناصر الدولة بن حمدان، أسرار البلاغة ج 2 ص 168، المفتاح ص 371، الإشارات ص 210، الطراز ج 1 ص 213، والمصباح ص 130، والإيضاح بتحقيقى ص 259.

(3)

قوله: وادعاء أنه أسد إلخ هكذا فى الأصل وفى الكلام سقم ظاهر فحرره كتبه مصححه.

ص: 148

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

آراؤه مثل النّجوم ثواقبا

لو لم يكن للثاقبات أفول (1)

فإن المراد أنها مثل النجوم من كل وجه، فلذلك شرط عدم الأفول فتقدير الكلام هنا فى التعجب: كيف لا تبلى غلالته، وهو كالبدر من كل وجه، وحينئذ فالتعجب لا ينافى المجاز، وإذا كان قولنا:" كالبدر من كل وجه" لا ينكر التعجب بما ذكر، فالاستعارة التى هى أبلغ منه أولى، إلا أن يقال: بلى الغلالة ليس من الأوجه التى يقصد أن يشبه

بها المستعار له، لأنه ليس وصفا مقصودا، ومعنى قولنا:" هو كالبدر من كل وجه" أى كل وجه حسن مقصود. ثم أورد السكاكى أن الإصرار على ادعاء الأسدية للرجل الشجاع ينافى نصب القرينة المانعة من إرادة السبع المخصوص، كقولك: جاء أسد يرمى بالنشاب، وأجاب بمنع المنافاة، لأن مبنى دعوى الأسدية لزيد على ادعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان: قسم متعارف، وهو الحيوان المعروف، وغير متعارف، وهو الذى له تلك القوة والجراءة، لا مع تلك الصورة، بل مع صورة أخرى على نحو ما ارتكب المتنبى فى عد نفسه وجماعته من جنس الجن، وعد جماله من جنس الطير حيث قال:

نحن قوم ملجنّ فى زىّ ناس

فوق طير لها شخوص الجمال (2)

ومنه قولهم:

تحية بينهم ضرب وجيع

وقوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (3)، وقول الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس (4)

(1) البيت لرشيد الدين الوطواط محمد بن محمد بن عبد الجليل بن عبد الملك المتوفى سنة 573 هـ الإشارات ص 198، والإيضاح ص 239، لكن صدر البيت بلفظ" عزماته".

(2)

الإيضاح بتحقيقى ص 260.

(3)

سورة الشعراء: الآيتان (88، 89).

(4)

لجران العود النميرى، ديوانه ص 97 ويروى:

بساسا ليس بها أنيس *

إلا اليعافير وإلا العيس

المصباح ص 127، المفتاح ص 372، الإشارات ص 211 والإيضاح بتحقيقى ص 260.

ص: 149

والاستعارة: تفارق الكذب: بالبناء على التأويل، ونصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر.

ولا تكون علما؛ لمنافاته الجنسيّة؛ إلا إذا تضمّن نوع وصفيّة؛ كحاتم.

ــ

كذا قال السكاكى، وفيه نظر؛ لأن البيت والآية على أحد القولين الاستثناء فيهما منقطع، وإذا كان منقطعا فلا نقدر أن المستثنى فرد من أفراد المستثنى منه، إذ لو قدرناه وأطلقنا المستثنى منه على أعم من المستثنى لكان الاستثناء متصلا؛ ولذلك كان الاستثناء المنقطع بتقدير لكن، وما بعده جملة، كما صرح به الأكثرون فلو قدرنا

المستثنى داخلا فى المستثنى منه مجازا لكان متصلا. وقول النحاة: إن الاستثناء المنقطع لا بد فيه من المناسبة، لا يعنون به أنا نطلق المستثنى منه على أعم منه مجازا قبل الاستثناء، بل يعنون أن المناسبة شرط لصحة استعمال" إلا" بمعنى" لكن"، فالتجوز فى المنقطع إنما هو فى استعمال إلا بمعنى لكن لا فى المستثنى منه، وإن كان قد وقع فى كلام بعض النحاة ما يوافق كلام السكاكى، والتحقيق ما قلناه، ويدل لصحة ما قلناه أن الزمخشرى ذكر هذا الوجه ثم قال:" ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا، فدل على تغايرهما.

الاستعارة تفارق الكذب: ص: (والاستعارة تفارق الكذب إلخ).

(ش): شرع فى أحكام الاستعارة فالأول منها أنها ليست بكذب لأمرين: أحدهما خفى معنوى، وهو البناء على التأويل؛ لأن الكاذب غير متأوّل، والمستعير متأول ناظر إلى العلاقة الجامعة وقد التبس ذلك على الظاهرية، فادعوا أن المجاز كذب، ونفوا وقوعه فى كلام المعصوم، وهو وهم منهم، الثانى: أمر ظاهر لفظى، أو غير لفظى، وهو كالفرع عن الأول أن المجاز ينصب قائله قرينة تصرف اللفظ عن حقيقته، وتبين أنه أراد ظاهره الموضوع له.

ص: (ولا تكون علما إلخ).

(ش): لما قرر المصنف أن الاستعارة لا بد لها من ادعاء دخول المشبه فى جنس المشبه به، علم أن المشبه به لا بد أن يكون جنسا، فاستحال أن يكون اللفظ المستعار علما، لأنه ليس موضوعا لجنس يمكن أن يدعى دخول المشبه فيه ويرد على المصنف أمران:

ص: 150

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أحدهما: أن هذه علة تستلزم أحد نوعى المدعى، وهو علم الشخص أما علم الجنس، فما ذكره لا يقتضى أن يمتنع التجوز به إلى غيره فيقال:" رأيت أسامة" يعنى" زيدا الشجاع" والظاهر أن ذلك جائز، وقد قررت فى شرح المختصر أن علم الجنس كلى، وأن ما أطلقوه من أن الأعلام جزئية محمول على أعلام الأشخاص.

الثانى: أنه لو كانت العلة فى امتناع أن تكون الاستعارة علما ما ذكره لجاز التجوز فى الأعلام بالمجاز المرسل؛ لأنه ليس فيه مشبه ولا مشبه به، ولا ادعاء، والظاهر أن ذلك لا يجوز فلا نقول:" جاء زيد" تعنى" رأسه"، وقد صرح بذلك الإمام فخر الدين فى المحصول، حيث قال: إن نحو: رأيت زيدا، وضربت زيدا مجاز عقلى، لأن الأعلام لا يتجوز عنها، ويشهد لذلك أيضا أن المجاز فرع الحقيقة، والعلم ليس حقيقة ولا مجازا، فكيف يتجوز عنه. واستدل المصنف فى الإيضاح على أن الاستعارة لا تدخل فى الأعلام بأن العلم لا يدل إلا على تعيين شئ من غير

إشعار بأنه إنسان أو غيره فلا اشتراك بين معناه وغيره إلا فى مجرد التعيين.

ونحوه من العوارض العامة التى لا يكفى شئ منها جامعا فى الاستعارة (قوله:

إلا إذا تضمن نوع وصفية كحاتم) يشير إلى أن العلم إذا تضمن وصفا كما أن اسم حاتم تضمن وصف الجود لشهرته به ومادر تضمن وصف البخل وما أشبههما، فيجوز أن يقال:" جاء حاتم" تعنى" زيد"(قلت): ولا حاجة لهذا الاستثناء بل هو منقطع؛ لأن ذلك إنما يفعل بعد تنكير العلم وتنكير العلم قد يكون تقديرا، وهذا منه، ومنه قول أبى سفيان: لا قريش بعد اليوم. فالاستعارة حينئذ لم تلاق العلم، بل لاقت النكرة، ويسمى هذا حينئذ استعارة تبعية، كما سيأتى. وقد قيل: إنها تتحمل الضمير وأما قوله: إن نحو:" حاتم" تضمن وصفا، فليس كذلك، فإن لفظ" حاتم" لم يتضمن الجود، ولم يدل عليه لا قبل العلمية، ولا معها، ولا بعدها، وإنما مسمى العلم موصوف يوصف اشتهر عنه وعبارته توهم أن المراد الأعلام المنقولة من الصفات، كالفضل مثلا، فإنه لو اشتهر شخص سمى بالفضل بفضل، جاز أن تقول: مررت بالفضل، مريدا شخصا يشبهه فى الفضل، فذلك واضح، ويمكن ادعاء دخول الاستعارة فيه، كما قيل: إنه يتحمل ضميرا، لكن ليس هذا المراد بدليل التمثيل بحاتم ومادر، وقوله: تضمن الوصفية يوهم هذا. وحاتم الطائى

ص: 151

وقرينتها: إما أمر واحد؛ كما فى قولك: رأيت أسدا يرمى خ خ، أو أكثر؛ كقوله (1) [من الرجز]:

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإنّ فى أيماننا نيرانا

ــ

خبره فى الجود مشهور، ومادر رجل من هلال بن عامر بن صعصعة، يضرب به المثل فى البخل، تقول العرب:" أبخل من مادر" لأنه سقى إبله فبقى فى أسفل الحوض ماء قليل، فسلح فيه ومدر به حوضه بخلا أن يشرب من فضله.

القرينة قد تكون أمرا واحدا: ص: (وقرينتها إما أمر واحد إلخ).

(ش): لما قدم أن الاستعارة تفارق الكذب بنصب القرينة علم أنها لازمة لها، فتلك القرينة قد تكون أمرا واحدا، وقد تكون أكثر، والمراد بالقرينة ما يمتنع معه صرف الكلام إلى حقيقته. فالأمر الواحد مثل:" رأيت أسدا يرمى" فإن وصفه بالرمى بالنشاب قرينة أنه ليس الحيوان المفترس، والأكثر مثله المصنف يقول بعض العرب:

فإن تعافوا العدل والإيمانا

فإنّ فى أيماننا نيرانا (2)

أى سيوفا تلمع كأنها نيران، فقوله: تعافوا باعتبار كل واحد من تعلقه بالعدل وتعلقه بالإيمان قرينة لذلك، لدلالته على أن جوابه تحاربون وتقهرون بالسيف، كذا قال المصنف. وفيه نظر؛ لأن تعافوا العدل والإيمان إذا كان قرينة

فى حصول القهر، فالقهر لا يستلزم السيف، بل يستلزم مطلق العقوبة، فقد تكون بالنيران؛ لأن النار أحد أنواع القتال، فإن قيل: الغالب القتال بالسلاح قلنا: فالقرينة حينئذ ليست ما ذكر فقط، بل هى منضمة إلى هذا. وقول الطيبى: لأن العذاب بالنار لا يكون إلا للواحد القهار، كلام صحيح، إلا أنه استدلال عجيب؛ لأن قائل هذا البيت إن لزم كونه مؤمنا لذكره الإيمان فمن أين لنا أنه لم يتوعد بالنار، وقد يقع من المؤمن عصيانا أو تخويفا سلمناه أليس التوصل إلى الكفار بالتحريق جائزا عند الحاجة إليه بلا إشكال؟ ولو لم يكن جاز أن يراد نار الآخرة ولفظ الإيمان لا ينفى ذلك، على معنى أن أيدى المؤمنين كان فيها نار الآخرة مرسلة على الكفار - سلمنا أنه قرينة تصرفه إلى

(1) تعافوا: تكرهوا. نيرانا: أى سيوفنا تلمع كأنها النيران.

(2)

الإيضاح بتحقيقى ص 260، والتلخيص فى علوم البلاغة ص 75.

ص: 152

أو معان ملتئمة، كقوله [من الطويل]:

وصاعقة من نصله تنكفى بها

على أرؤس الأقران خمس سحائب

ــ

السلاح، فمن أين له أن المراد السيوف جاز أن يراد أسنة الرماح؟ بل أسنة الرماح هى المشبهة فى الغالب بالنار، لأنها أشبه بالشعلة من النار لارتفاعها وسرعة حركتها ولمعانها، وليس مجموع ذلك فى السيف. ثم قد يقال: القرينة هنا أمر واحد له متعلقان لا أمور متعددة، ولو كانت القرينة أمورا متعددة لكانت قرائن لا قرينة هى أكثر من واحد فإن ذلك إنما يتأتى فى الشئ الملتئم من عدة أمور، وذلك قسم سيأتى، والذى يظهر فى البيت أن القرينة مجموع:" فإن تعافوا" مع قوله:" أيماننا" جمع يمين لأن الأول دل على العقوبة، والثانى دل على عدم إرادة النار الحقيقية، فإن الذى هو فى الإيمان السلاح لا النار، فإن الغالب أنه تأجج ولا يطول مكثها فى الأيدى. وقول المصنف: أو أكثر ينبغى أن يكون معطوفا على أمر؛ ليكون تقديره:" إما أكثر من أمر واحد"، فيكون أمور متعددة، ولا يكون معطوفا على قوله:" واحد" فإنه يلزم أن يكون التقدير: أو أمر أكثر من واحد؛ فإن ذلك لا يصح إلا بأن يكون الأكثر من أمر واحد يصدق عليه أمر. وفيه بعد، فإن الأمر ظاهره الوحدة، وإنما يقال:" أمر واحد"؛ لزيادة إيضاح، أو للاحتراز عن الهيئة الاجتماعية (قوله: أو معان ملتئمة) أى معان مرتبط بعضها ببعض، يريد أن تكون القرينة أمرا مركبا، ومثله بقول البحترى:

وصاعقة من نصله تنكفى بها

على أرؤس الأقران خمس سحائب (1)

أراد أنامل الممدوح فذكر أن هناك صاعقة، ثم قال: من نصله فبين أنها من نصل سيفه ثم قال: على أرؤس الأقران،

ثم قال:" خمس" فذكر عدد أصابع اليد فبان من مجموع ذلك غرضه كذا قال المصنف، وفيه نظر، أما قوله: أراد أنامل الممدوح، فالأحسن أن يقال: الأصابع كما ذكره هو آخرا والسكاكى ذكر الأنامل أولا، وآخرا، وكان مقصودهما أن تشبيه الأنامل بالسحائب أبلغ من تشبيه الأصابع، لكن قد يعكس؛ لأن الأنامل على الإطلاق أكثر من خمس، وإرادة الأنملة العليا من كل

(1) البيت للبحترى ديوانه 1/ 179، الطراز 13/ 1 / 231، والإيضاح بتحقيقى ص: 261، ورواية الديوان:

وصاعقة من كفه ينكفى بها

على أرؤس الأعداء خمس كتائب

والتلخيص فى علوم البلاغة بتحقيق ص: 75.

ص: 153

وهى (1) باعتبار الطرفين قسمان؛ لأنّ اجتماعهما فى شئ: إمّا ممكن؛ نحو:

(أحييناه) فى قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ (2) أى: ضالّا فهديناه، ولتسمّ وفاقيّة

ــ

أصبع تكلف لا حاجة له، وأما القرائن، فإن كان المراد استعارة الصاعقة للسيف، فالقرينة لذلك هى قوله:" من نصله" وذكر" السحائب" فإن السحائب ليس من شأنها أن تأتى بالصاعقة، ويكونان قرينتين متفاصلتين لا حقيقة ملتئمة منهما، وأما على أرؤس الأقران فليس قرينة لأن الصاعقة الحقيقية تنكفى على الرؤوس إلا أن يقال: معناه على رؤوسهم دون غيرهم، والصاعقة من شأنها أنها تقصم من واجهته، فإن سلمنا هذا فهى قرينة ثالثة منفصلة، وأما قوله:" ثم قال خمس" فظاهره أن ذكر هذا العدد قرينة، وليس كذلك؛ لأن هذا العدد ليس مصروفا أن ينسب إلى السحائب والخمس، وإن لم يكن لها خصوصية بالسحائب، وليس لها خصوصية فالمصروف معناها، بل القرينة ذكر السحائب، فينبغى أن يقال: ثم قال:" خمس سحائب" وحاصله أن القرينة هنا ليست حقيقة ملتئمة، وإن كان المراد استعارة السحائب للأصابع كما ذكره الطيبى، فالقرينة له ذكر الصاعقة، لأن السحائب الحقيقية لا تنكفى بها الصاعقة، وكذلك قوله:" من سيفه" فإن السحائب لا تنكفى بها السيوف، فهما قرينتان متفاصلتان.

الاستعارة باعتبار طرفيها قسمان: ص: (وهى باعتبار الطرفين قسمان إلخ).

(ش): الاستعارة تنقسم إلى أقسام، وانقسامها تارة يكون: بحسب اعتبار الطرفين أى طرفى التشبيه المضمر فى النفس، وهما المشبه والمشبه به وتارة باعتبار الجامع، وتارة باعتبار الثلاثة جميعا أى الطرفين، والجامع، وتارة باعتبار اللفظ، وتارة باعتبار أمر خارج عن جميع ذلك.

التقسيم الأول باعتبار الطرفين، فهى تنقسم باعتبارهما قسمين: أحدهما أن يكون اجتماعهما أى الطرفين فى شئ ممكنا كقوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ أى ضالا فهديناه فالإحياء والهداية يمكن أن يجتمعا فى شئ (ولتسم وفاقية) أى تسمى الاستعارة إذا كان طرفاها يمكن اجتماعهما وفاقية؛ لتوافق طرفيها.

(1) أى الاستعارة.

(2)

سورة الأنعام: 122.

ص: 154

وإما ممتنع؛ كاستعارة اسم المعدوم للموجود؛ لعدم غنائه، ولتسمّ عناديّة، ومنها (1) التهكمية والتمليحيّة، وهما ما استعمل فى ضدّه أو نقيضه؛ لما مر؛ نحو: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (2).

ــ

الثانى أن يكون اجتماعهما فى شئ ممتنعا، والمراد به ما كان وضع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة، وان كانت موجودة؛ لخلوها مما هو ثمرتها، كاستعارة اسم المعدوم للموجود بواسطة عدم غنائه، أى نفعه فإن الموجود والمعدوم لا يجتمعان، وتسمى هذه الاستعارة عنادية، لتعاند طرفيها فى الاجتماع، وكان المصنف مستغنيا عن هذا المثال بأن يجعل: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ مثالا للوفاقية والعنادية، فإن" ميتا" الاستعارة فيه عنادية؛ لأنه شبه فيه الموجود الضال بالميت، والضلال والموت لا يجتمعان، لأن الضلال هو الكفر الذى شرطه الحياة؛ ولهذا مثل فى الإيضاح للعنادية بإطلاق الميت على الحى الجاهل (قوله:" ومنها") أى من العنادية التهكمية والتمليحية، وهما لفظ مستعمل فى ضده، أى ضد موضوعه، أو نقيضه كما مر فى التشبيه أن التشبيه قد ينتزع من نفس التضاد لاشتراك الضدين فيه، ثم ينزل منزلة التناسب بواسطة تمليح أو تهكم، فيقال للجبان:" ما أشبهه بالأسد" وللبخيل:" هو كحاتم" ونحو قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فالبشارة والإنذار لا يجتمعان فالاستعارة عنادية، ولك أن تقول: استعارة أحد النقيضين للآخر، لم يمثل له المصنف، وقد عطفه على استعارة اسم المعدوم للموجود، واستعارة المعدوم للموجود هو استعارة الوجود والعدم؛ لأن الاستعارة فيهما تبعية وهما نقيضان، إلا أن يقال: النقيضان هما الوجود وأن لا وجود، لا الوجود والعدم، فنقول حينئذ: إن ثبت ذلك، فليكن الوجود والعدم ضدين، وحاصله أن التهكمية والتمليحية إذا فسرنا بما ذكره لزم أن يكون كل استعارة عنادية كذلك، فينبغى أن يفسر التهكمية والتمليحية بما لا يجتمع طرفاه، ولم يقصد فيه تهكم ولا تمليح، وليعم أن إطلاق البشارة لا يكون إلا فى الخير عند الإطلاق، وإن كانت فى أصل اللغة لكل خبر تتغير له البشرة من خير وشر، فتكون حقيقة لغوية، ثم غلب استعمالها فى الخبر السار الصادق بالأول حتى صار استعمالها فى غيره مجازا، وما ذكره المصنف هو المشهور.

وقد أغرب الخفاجى، فقال فى سر الفصاحة: إن فبشرهم بعذاب أليم من مجاز المقابلة، لأنه لما ذكرت بالبشارة فى أهل الجنة ذكرت فى أهل النار، وقد تقدم النزاع معه فى ذلك عند الكلام فى مجاز المقابلة.

(1) أى من العنادية.

(2)

سورة التوبة: 34.

ص: 155

وباعتبار الجامع قسمان؛ لأنه: إما داخل فى مفهوم الطرفين؛ نحو: (كلّما سمع هيعة، طار إليها)(1)؛ فإن الجامع بين العدو والطيران: هو قطع المسافة بسرعة، وهو داخل فيهما؛ وإما غير داخل، كما مر (2).

ــ

الاستعارة باعتبار الجامع قسمان: ص: (وباعتبار الجامع إلخ).

(ش): هذا هو التقسيم الثانى، وهو باعتبار الجامع بين المشبه، والمشبه به فقط، وذكر له بذلك الاعتبار تقسيمين وإليهما أشار بقوله: وهما قسمان وأشار إلى الأول بقوله:

لأنه أى لأن الجامع بين الشيئين لما داخل فى مفهوم الطرفين، يريد أن يكون الجامع أمرا أعم مما فى كل من الطرفين، فهو داخل فى مفهومهما، كتشبيه ثوب بآخر فى نوعهما، أو فى جنسهما، كما سبق قال: نحو:" كلما سمع هيعة طار إليها"، والذى فى صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم فى الغازى:" كلما سمع هيعة أو قرعة طار عليه"(3) هذا لفظه، وعليه أى على الفرس فإن الجامع بين طار وعدا هو قطع المسافة بسرعة، وهو أمر موجود فى الطرفين اللذين هما العدو والطيران، لأنه أعم منهما. قال الجوهرى:

" والهيعة كل ما أفزعك من صوت أو فاحشة تشاع" قال الشاعر:

إن يسمعوا هيعة طاروا بها فرحا

منّى وما سمعوا من صالح دفنوا (4)

كذا فى الصحاح، والبيت لمعتب ورأيته فى شعره: إن يسمعوا ريبة.

(قوله:" أو غير داخل") عطفه على قوله:" داخل" يعنى أو لا يكون الجامع داخلا فى مفهوم الطرفين، بأن يكون وجه الشبه صفة على ما سبق، كتشبيه" زيد بالأسد" فى الشجاعة، والوجه المنير والوجه المتهلل بالشمس، فى قولك:" رأيت أسدا وشمسا" وقوله:" وأيضا" إشارة إلى التقسيم الثانى من نوعى تقسيم الاستعارة بحسب الجامع، وإنما لم يجعله من الأصل أربعة أقسام، لأن كلا من القسمين السابقين ينقسم

(1) جزء من حديث أخرجه مسلم فى صحيحه كتاب الإمارة باب: فضل الجهاد والرباط (4/ 553)، ط. الشعب، وأوله: من خير معاش

الناس لهم رجل .... خ خ.

(2)

من استعارة الأسد للرجل الشجاع.

(3)

أخرجه مسلم فى الإمارة (4/ 553) ط. الشعب.

(4)

اللسان مادة هيع ص: 4737.

ص: 156

وأيضا: إمّا عاميّة، وهى المبتذلة؛ لظهور الجامع فيها؛ نحو: رأيت أسدا يرمى.

أو خاصّيّة، وهى الغريبة، والغرابة قد تكون فى نفس المشبّه؛ كقوله [من الكامل]:

وإذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشّكيم إلى انصراف الزّائر

وقد تحصل بتصرف فى العامّيّة؛ كما فى قوله [من الطويل]:

وسالت بأعناق المطىّ الأباطح (1)

إذ أسند الفعل إلى الأباطح دون المطى أو أعناقها، وأدخل الأعناق فى السير.

ــ

لكل من القسمين اللاحقين وعكسه (قوله:" إما عامية") أى الاستعارة تارة تكون عامية، أى منسوبة إلى العوام وهى المبتذلة، لكون الجامع فيها ظاهرا، نحو:" رأيت أسدا يرمى وبحرا يتكلم" وقد تقدم ذكر هذا فى التشبيه، ولعمرى لقد كان المصنف مستغنيا بذكر كثير مما هنالك عن كثير مما ههنا، وعكسه، فإن الاستعارة تشبيه فى المعنى وتارة تكون خاصة، أى لا تستعملها إلا جماعة خواص الناس، وهم أصحاب الأذهان السليمة، وهى الغريبة، لأنها لا يدركها إلا من ارتفع عن درجة العوام.

ثم الغرابة قد تكون من نفس الشبه، أى يكون التشبيه غريبا كما فى تشبيه هيئة العنان فى موقعة من قربوس بهيئة الثوب فى موقعة من ركبة المحتبى، كقول زيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا بأنه مؤدب:

وإذا احتبى قربوسه بعنانه

علك الشّكيم إلى انصراف الزّائر (2)

والقربوس: بفتح القاف والراء، ولا يجوز تسكين الراء إلا ضرورة؛ لأن فعلولا ليس موجودا (وقد تحصل) أى الغرابة (بتصرف فى العامية) بأن يكون التشبيه مشهورا، ولكنه يذكر على وجه غير مشهور، كما فى قوله:

ولما قضينا من منى كلّ حاجة

ومسّح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطىّ الأباطح

فإنه استعمل:" سالت" بمعنى سارت بسرعة وسلاسة ولين، حتى كأنها سيل، وأصل تشبيه السير السريع بالسيل معروف، وإنما حسن التصرف فيه أفاد الغرابة، فإنه

(1) البيت لكثير عزة الإشارات ص 217، وصدره: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، الإيضاح ص: 175، 176.

(2)

الإيضاح بتحقيقى، والبيت لمحمد بن يزيد بن مسلمة. فى الإشارات ص:216. القربوس: مقدم السرج. علك: مضغ. الشكيم: الحديدة المعترضة فى فم الفرس.

ص: 157

وباعتبار الثلاثة (1) ستة أقسام؛ لأن الطرفين إن كانا حسيّين، فالجامع إمّا حسىّ؛ نحو: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا (2)؛ فإنّ المستعار منه ولد البقرة؛ والمستعار له الحيوان الذى خلقه الله تعالى من حلى القبط، والجامع لها الشكل؛ والجميع حسىّ.

ــ

أسند الفعل إلى الأباطح دون المطى وأعناقها والأنصار، أو وجوههم، حتى أفاد أن الأباطح امتلأت من الإبل. كذا قاله المصنف، وقد يقال: الكلام فى استعارة" سالت"" لسارت" وأما إسناد السيل إلى الأباطح فذلك مجاز آخر إسنادى، لا يتصل بتلك الاستعارة السابقة، وقول المصنف:" وأدخل الأعناق فى السير" يشير إلى أن الباء فى قوله:" بأعناق المطى" للتعدية، نعم قد تحصل الغرابة لإدخال الأعناق فى السير، لأن سرعة سير الإبل أكثر ما تظهر فى أعناقها. وقال فى الإيضاح: قد تحصل الغرابة بالجمع بين عدة استعارات؛ لإلحاق الشكل، بالشكل كقول امرئ القيس:

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل (3)

أراد وصف الليل بالطول، فاستعار له صلبا يتمطى به، إذ كان كل صلب يطول عند التمطى، وبالغ بأن جعل له أعجازا يردف بعضها بعضا، ثم أراد أن يصفه بالثقل على كل قلب ساهر لمكابدته، فاستعار له كلكلا ينوء به أى يثقل. قال عبد اللطيف البغدادى: ينبغى أن لا تبعد الاستعارة جدا، فتعزب عن الفهم، ولا تقرب جدا فتستبرد، وخير الأمور أوسطها. ص:(وباعتبار الثلاثة إلخ)(ش): أى الاستعارة باعتبار الثلاثة، وهى الطرفان والجامع ستة أقسام، وإنما كان باعتبارها، وإن كان التقسيم بالحقيقة للجامع، لأن اختلاف الجامع كان باعتبار ما للطرفين من حسى وغيره، والستة تشبيه محس شئ بمحس شئ بوجه حسى، أو عقلى، أو مختلف، أو عقلى بعقلى، أو مختلفان، والحسى المستعار منه أو عكسه، والثلاثة لا تكون إلا بوجه عقلى، لما سبق فى التشبيه، وعلل كونها ستة بما يتضمن ذكر التشبيه، فقال: لأن الطرفين إن كانا حسيين، فالجامع على أقسام.

الأول يكون حسيا مثاله قوله تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فإن المستعار منه حقيقة العجل، وهو ولد

البقرة، والمستعار له الحيوان الذى خلقه الله - تعالى - من حلى القبط، والجامع الشكل، والجميع حسى. كذا قالوه، وفيه نظر؛ لأن

(1) أى المستعار منه والمستعار والجامع.

(2)

سورة طه: 88.

(3)

الإيضاح، ص 265.

ص: 158

وإما عقلىّ؛ نحو: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ (1)؛ فإنّ المستعار منه كشط الجلد عن نحو الشاة، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل، وهما حسّيّان، والجامع ما يعقل من ترتّب أمر على آخر.

ــ

الجامع ليس مجرد الشكل بل الشكل والخوار إما كل منهما على انفراده أو مجموع الأمرين، ومثله قوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ (2) فإن المستعار منه حركة الماء على الوجه المسمى موجا، والمستعار له حركة الإنس والجن أو يأجوج ومأجوج وهما حسيان والجامع ما يشاهد من شدة الحركة والاضطراب قال السكاكى:

ومنه قوله عز اسمه: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً فالمستعار منه النار، والمستعار له الشيب، والجامع بينهما هو الانبساط، والثلاثة حسية (قلت): مراد السكاكى: أن الشيب هنا استعارة بالكناية، استعير لفظ الشيب، والمراد النار، بعد ادعاء أن الشيب فرد من أفراد النار، ثم ذكر اشتعل استعارة تخييلية؛ لأن الاستعارة التخييلية، تقترن بالاستعارة بالكناية، وقد اعترض عليه المصنف بأن قال:" ليس ذلك مما نحن فيه؛ لأن فيه تشبيهين: تشبيه الشيب بشواظ النار فى بياضه وإنارته، وتشبيه انتشاره فى الشعر باشتعاله فى سرعة الانبساط مع تعذر تلافيه، والأول استعارة بالكناية، والجامع فى الثانى عقلى، وكلامنا فى غيرهما.

قلت: فيما قاله نظر، أما قوله:" ليس كلامنا فى الاستعارة بالكناية" فصحيح بالنسبة إلى المصنف، فإنه لم يتكلم فى الاستعارة بالكناية فى هذا الباب. أما السكاكى، فإنه ذكر جميع أقسام الاستعارة، ثم عقبها بتقسيم الاستعارة على الإطلاق إلى هذا التقسيم، فكلامه أعم من ذلك، نعم المصنف لا يصح منه هذا المثال؛ لأن الاستعارة بالكناية عنده مستعملة فى موضوعها حقيقة، فلا مدخل له فى هذا القسم، إذ الحقيقة ليس فيها مستعار ومستعار منه، وجامع، وأما قوله:" الجامع فى الثانى عقلى" فليس كذلك لأن الجامع فى الثانى مركب من عقلى وحسى، لأن الانبساط حسى، وتعذر التلافى عقلى، لا يقال: هذا لا ينجى السكاكى من الاعتراض، لأنه جعل الجامع حسيا، لأنا نقول: السكاكى لم يجعل تعذر التلافى جزءا من الجامع، بل قال: الجامع هو الانبساط. ورأى الطيبى (3) فى الجواب عن

هذا السؤال أن التشبيه

(1) سورة يس: 37.

(2)

سورة الكهف: 99.

(3)

انظر كلام الطيبى فى التبيان بتحقيقى 1/ 311 - 312 ط المكتبة التجارية - مكة.

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هنا على سبيل التمثيل، وليس من شرط التمثيل رعاية جميع الألفاظ، بل أن يكون التشبيه منتزعا من عدة أمور متوهمة، سواء حصل ذلك من كلمة واحدة أم من كلمات، وقال: إنه على رأى الزمخشرى لا يكون فيه تشبيهان كما فى الإيضاح، بل ثلاثة:

تشبيه الشيب بالكناية، واشتعل بالتخييل والرأس - أيضا - فإنها كالحطب بالنسبة إلى النار وأشار إلى القسم الثانى بقوله:(وإما عقلى) أى تشبيه محسوس بوجه عقلى نحو قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ (1) فالمستعار منه كشط الجلد عن لحم الشاة، والمستعار له كشف الضوء عن مكان اللّيل، وهما حسيان، والجامع بينهما ما يعقل من ترتيب أمر على آخر، أى على آخر يضاده ويعقبه، وقد يقال: الجامع خروج شئ من شئ. قال المصنف: وقيل: المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل، وليس بسديد، لأنه لو كان كذلك لقال: فإذا هم مبصرون، ولما قال: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (2) أى داخلون فى الظلام.

قلت: عبارة السكاكى هى عبارة الإمام فخر الدين والزنجانى، وليس ما ذكره مراد السكاكى، بل مراده بظهور النهار من ظلمة الليل زوال النهار وبقاء الظلمة، غير أنه تجوز فى إطلاق ظهور النهار على زواله، وهذا يستعمل كثيرا، كما تقول: ظهر فلان من هذا المكان أى خرج منه وكتب عمر إلى أبى عبيدة رضى الله عنهما: أظهر من معك من المسلمين إلى الأرض أى اخرج بهم إلى ظاهرها والتحقيق أن ما أراده المصنف وما أراده السكاكى متعاكسان إلا أنهما راجعان لمعنى واحد فإن المصنف بنى على أن النهار والجلد ظرفان للظلمة ولحم الشاة فتقول: سلخت النهار عن الليل كما تقول: سلخت الجلد عن الشاة والسكاكى نبه على أن الظلمة ظرف للنور ألا ترى أنه قال: المستعار له ظهور النهار وظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلدته فلا بد أن تعتقد أنه أراد الظلمة ظرف للنور ليكون المسلوخ منه مشبها بالمسلوخ منه والمسلوخ مشبها بالمسلوخ ولكل من القولين مرجح أما كلام المصنف فيشهد له أمر أن أحدهما لفظى وهو أن كلام اللغويين يشهد أن المسلوخ هو الجلد

والمسلوخ عنه الشاة ونحوها والشاة وإن سميت مسلوخة فلاعتبار أنها مسلوخ عنها الجلد كذا

(1) سورة يس: 37.

(2)

سورة يس: 37.

ص: 160

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يقتضيه كلام جماعة من اللغويين فلا يشك أن النهار هو المسلوخ لأنه مفعول نسلخ فليكن هو الظرف والثانى معنوى وهو أن الظلمة سابقة على النور لسبق الليل على النهار والطارئ على الشئ المستولى عليه هو الجدير بالظرف وأيضا فإن النور هو المنكشف قال الفراء: الأصل الظلمة والنهار طار عليها وهو الذى يشهد له أصول علم الهيئة من أن مخروط النور الحاصل من وقوع شعاع الشمس على وجه الأرض وانعكاسه محيط بمخروط ظل الأرض إحاطة الجلد الأسود بالمسلوخ، فإذا زال ضوء الشمس عن وجه الأفق بواسطة (1) مخروط الظل إليه فهو زمان الليل، وأما كلام السكاكى فيرجحه قوله تعالى:

" منه" فإن الجلد وإن كان مسلوخا، والشاة مسلوخ عنها إلا أن الشاة مسلوخة من الجلد فحينئذ إن حملناه على الأول لزم تأويل" من" فيه بمعنى عن وتكون للمجاوزة كما قيل فى قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ (2) أى" عن" تأويل" نسلخ"" ينخرج" ويشهد له قول الواحدى فى الآية:" نسلخ" نخرج منه النهار إخراجا، وكذلك قال الرمانى، وبالجملة ما ذكره المصنف أقرب، والقولان مجتمعان على أن المراد زوال النور ووجود الظلمة بغروب الشمس. قال السكاكى: إنما أراد بظهور النور خروجه وزواله بالكلية بالغروب، فلا يبقى سوى الظلمة قال الشيرازى:" السلخ" يستعمل بمعنى النزع، تقول: سلخت الإهاب عن الشاة، أى نزعته عنها، ويستعمل بمعنى الإخراج تقول: سلخت الشاة من الإهاب، فهما صحيحان، وتقدير الآية على الأول نزعنا النهار، وكان كاللباس فصار ليلا، فإذا هم داخلون فى الظلام على الفور، كما هو موضوع الفاء، وتقديرها على الثانى أخرجنا النهار من الليل فلم يبق شئ من الليل، وذلك بطلوع الشمس، ثم أورد على نفسه أنه لو كان كذلك لما قال - تعالى -: فإذا هم مظلمون، والفاء للتعقيب، وأجاب بأن الفاء قد تستعمل لمجرد الترتيب، فالمراد فإذا هم مظلمون بعد انقضاء النهار، ولما كان النهار المتوسط بينهما يزول قطعا جعل كالزائل واستعملت" الفاء" و" إذا" الفجائية. قال: ولا تستقيم إذا الفجائية إلا إذا كان السلخ بمعنى الإخراج، إذ لا

(1) قوله: بواسطة مخروط كذا فى الأصل ولعل فى الكلام سقطا والأصل بواسطة ميل مخروط إلخ كتبه مصححه.

(2)

سورة الزمر: 22.

ص: 161

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

يستقيم أن تقول:" نزعت ضوء الشمس ففاجأ الظلام" كما لا يقال:" كسرت الكوز ففاجأ الانكسار" بخلاف قولك:" أخرجت النهار من الليل ففاجأ الليل" قلت: ما ذكره من أنه لا يقال:" غابت الشمس فإذا الظلام ممنوع" وقد قال - تعالى -: حَتَّى إِذا جاؤُها (1) بعد قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً (2) وإن كان مجيئهم عقب سوقها إليها، والذى ألجأ الشيرازى إلى هذا التكلف أنه ظن أن ظهور النور من الظلمة لا يكون إلا ببقاء النور ظاهرا وطلوع الشمس. وليس كذلك فإنما يريد السكاكى بخروج النور وظهوره خروجه عن الأفق، فلا يبقى منه شئ عند غروب الشمس وزوال الشعاع والله أعلم.

بقى على الجميع اعتراض، وهو أن قولهم: إن الطرفين حسيان والجامع عقلى ممنوع، يحتمل أن يقال: إن ترتيب أمر من هذين على الآخر حسى، فإن خروج الجلد وانصراف النهار وظهور الظلمة والشاة كله محسوس مشاهد فهو حسى، ويمكن أن يقال: كشف الضوء وهو إزالته غير محسوس بل متعقل وإنما المحسوس الضوء نفسه.

وقد يجاب عنه بأن إزالة النور هو إغابة الشمس وهو مشاهد وبروز الظلمة مشاهد، وذلك ترتيب لا ترتب، والجامع ليس ذلك بل هو الترتب، فالترتيب حسى والترتب الذى هو أثره عقلى، وكذلك كشف النور عن الظلمة حسى، وانكشافه المرتب على الكشف عقلى، لكن هذا التحقيق يجر إلى فساد أن يكون الترتيب وهو الجامع، ويقتضى أن يكون الجامع هو ترتب شئ على آخر فحينئذ يصح الاعتراض، ويرجع حاصله إلى أن الجامع ليس الترتيب بل الترتب والترتب حسى، ومثل السكاكى استعارة ما طرفاه حسيان ووجه عقلى بقوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (3) فالمستعار له الريح، والمستعار منه المرأة، والجامع المنع عن ظهور النتيجة والأثر، فالطرفان حسيان والجامع عقلى. قال المصنف: فيه نظر، لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها، ولذلك جعله صفة للريح لا اسما، كأنه يريد أن العقيم هو المستعار منه، وهو صفة فهو عقلى، وقد تقدم لنا فى باب التشبيه الكلام على المستعار من اسم الفاعل ونحوه وأنهم عدوها عقلية، وإن كانت واقعة على ذات كقوله:

(1) سورة الزمر: 71.

(2)

سورة الزمر: 71.

(3)

سورة الذاريات: 41.

ص: 162

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أخو العلم حىّ خالد بعد موته (1)

وكلام المصنف واعتراضه ماش على هذا لأن العقيم صفة لا ذات وقد تقدم منا الاعتراض على ذلك بأن قولنا:" أخو العلم حى" معناه رجل حى فى صفة جارية على ذات محسوسة وتلك الذات هى المشبه به، فيكون المشبه به محسوسا، وهذا السؤال جار بعينه هنا، وفيه تأييد لما يقوله السكاكى، بل عقيم أقرب إلى أن يكون محسوسا من نحو الحى والعالم، لأن الحى مدلوله شئ له الحياة لا يدل على خصوص جسم أو غيره، وعقيم ليس مدلوله على ما ذكروه شيئا له العقم بل هو خاص بالعقيم عن الولادة، فمدلوله إنسان له العقم، فقد يقال: إنه من هذه الحيثية أقرب للدلالة على الذات، فيصح ما زعمه السكاكى ويصح بذلك قوله: المستعار له المرء، إما لأن العقيم يفيد ذلك، وإما لأنه ليس المشبه به على التحقيق، بل المشبه به المرء العقيم، والمعنى: إذ أرسلنا عليهم الريح المشبه للمرء العقيم.

واعلم أن هذا المكان أشكل على الشيرازى فمن بعده حتى قالوا: إن هذا عند السكاكى استعارة له بالكناية، فإنه ذكر المشبه وهو الريح، ولم يذكر المشبه به وهو المرء، بل ذكرت صفته وهو العقيم، وهو غلط، فإن الاستعارة بالكناية أن يراد بالمشبه المشبه به لادعاء أنه فرد من أفراد المشبه به كما تريد بالمنية السبع لادعاء أن المنية فرد من أفراد السباع، تثبت بذلك اغتيالها الذى هو صفة جنس السباع، وهذا المعنى لا يتأتى هنا لأنه ليس الغرض إثبات أن الريح فرد من جنس النساء فإن ثبوت ذلك للريح لا يفيد أنها عقيم لأن العقيم ليست صفة ثابتة للنساء مطلقا، ولا غالبا والذى أوقعهم فى ذلك قول السكاكى: إن المشبه به المرء، وهو لا يريد أن المشبه غير مذكور، بل يريد أن المشبه به المرء المستعار من لفظ العقيم على ما سبق فليتأمل، ثم قال المصنف: الحق أن المستعار منه ما فى المرأة من الصفة التى تمنع الحمل، المستعار له ما فى الريح من الصفة المانعة من إنشاء المطر وإلقاح الشجر والجامع لهما ما ذكر وهو المنع من ظهور الشجر اه. وفيه نظر؛ لأن المستعار منه وهو اللفظ المجازى المسمى بالاستعارة وهو هنا لفظ عقيم فكيف يجعل المستعار له الصفة وهى لم تذكر، والاستعارة عبارة

(1) شطر البيت بلا نسبة فى عقود الجمان 2/ 8 وتمام البيت:

أخو العلم حى خالد بعد موته

وأوصاله تحت التراب رميم

ص: 163

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

عن ذكر أحد طرفى التشبيه، وقال بعضهم: المشبه والمشبه به ههنا الريح، والمرأة وهما حسيان، والاستعارة هنا مكنية لكون المذكور هو المشبه، وهو الريح دون المشبه به، وهو المرأة، والعقيم استعارة تخييلية.

واعلم أن جميع ما تقدم هو مبنى على أن استعمال عقيم فى الريح مجاز، وقد قال الجوهرى: يقال:" رجل عقيم وريح عقيم لا تلقح سحابا ولا شجرا فيحتمل أن يكون العقم للريح حقيقة وقال الراغب: أصل العقم اليبس المانع من قبول الأثر، يقال:" ريح عقيم" يصح أن يكون بمعنى فاعل، وهى التى لا تلقح سحابا ولا شجرا، ويصح أن تكون بمعنى المفعول، كالعجوز العقيم وهى التى لا تقبل أثر الخير، وإذا لم تقبل ولم تتأثر لم تعط ولم تؤثر، ومثل السكاكى أيضا لما نحن فيه بقوله تعالى: فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (1) قال: فالمستعار له الأرض المزخرفة والمستعار منه النبات وهما حسيان، والجامع الهلاك وهو أمر عقلى قال الشيرازى: وغيره يريد أن الاستعارة هنا بالكناية لكون المشبه مذكورا دون المشبه به بقرينة، وهو الحصد. وفيه نظر، لجواز أن يكون استعارة تحقيقية مصرحا بها بأن يراد بالأرض حقيقتها، وقوله:

" حصيدا" أى نباتا حصيدا فالمشبه به فى الحكم المذكور لأن حصيدا صفته التقدير:

فجعلناها نباتا وقوله: حصيدا ولا شك أنك إذا قلت: زيد كالراقم على الماء وطرفا التشبيه مذكوران لأن تقديره: كالشخص الراقم، لا يرتاب فى ذلك، ثم إن الزمخشرى قال: التقدير: فجعلنا زرعها حصيدا، مشبه بما يحصد من الزرع، وكأن لم يغن زرعها، على حذف المضاف فى هذه المواضع لا بد منه، وإلا لم يستقم المعنى اه. وهذا يقتضى أنه لا يرى أن هذا استعارة بالكلية، ثم قول السكاكى: إن الهلاك عقلى. فيه نظر، لأن المراد به فى جانب النبات الحصد هو حسى وفى جانب الأرض زوالها وهو حسى، وإلا فأى فرق بين ذاك وبين كشف الضوء عن الظلمة، وكشف الجلد عن الشاة، وكل منهما زوال شئ، وقد جعلهما حسيين، وإن قال: إن الحسى إنما هو الإهلاك لا الهلاك، كما أن الكشف والانكشاف عقلى. قلنا: مسلم، ولكن لا تسلم أن الجامع الهلاك بل هو الإهلاك، لأنه مدلول فجعلناها حصيدا.

(1) سورة يونس: 24.

ص: 164

وإما مختلف؛ كقولك: رأيت شمسا وأنت تريد إنسانا كالشمس فى حسن الطلعة، ونباهة الشأن.

وإلا (1) فهما إمّا عقليان؛ نحو: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا (2)؛ فإنّ المستعار منه الرقاد، والمستعار له الموت، والجامع عدم ظهور الفعل؛ والجميع عقلىّ.

ــ

(مجئ الجامع مختلفا): ص: (وإما مختلف إلخ).

(ش): هذا هو القسم الثالث، وهو أن يكون الطرفان حسيين والجامع مختلف فبعضه حسى وبعضه عقلى، كقولك:" رأيت شمسا" نريد إنسانا كالشمس فى حسن الطلعة ونباهة الشأن، والإنسان والشمس وحسن الطلعة حسيات، ونباهة الشأن عقلى.

قال المصنف: وأهمل السكاكى هذا القسم، وأجاب عنه بعض الشارحين: بأنه لم يهمله لأن التقسيم إلى حسى وعقلى منفصلة مانعة الخلو فهى تصدق بكل منهما وبمجموعهما فإنها ليست مانعة الجمع. (قلت): والتحقيق أنه إن أريد بالجامع المختلف، أنهما جامعان مستقلان، فهذا القسم داخل فى كلام السكاكى، وأدل دليل على المصنف أنه صنع ما صنع السكاكى فيما سيأتى، فإنه قسم الاستعارة إلى ثلاثة أقسام: مطلقة، ومرشحة، ومجردة، ولم يجعل منها رابعا، وهو مجردة مرشحة، لكن قال: بعد الثلاثة قد يجتمع الترشيح والتجريد فهذا نظير ما صنعه السكاكى فى كونه لم يجعل القسمة رباعية، فإما أن يفسد المصنف الآتى، أو يكون السكاكى لا حاجة به إلى ذكر هذا القسم وإن أريد أنه جامع واحد مركب من أمرين حسى وعقلى فلم يدخل، إذ لا يصدق عليه أنه حسى، ولا أنه عقلى، والظاهر أن المراد الأول؛ لأن حسن الطلعة، ونباهة الشأن جامعان لم يقصد منهما التئام حقيقة واحدة (قوله: و" إلا") إشارة إلى القسم الرابع، أى وإن لم يكن الطرفان حسيين فهما عقليان نحو قوله تعالى: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا فإن المستعار منه الرقاد، والمستعار له الموت، والجامع عدم ظهور الفعل، والثلاثة عقلية، وقد يقال: المرقد اسم مكان الرقاد كالمضجع فيكون مستعارا للممات موضع الموت إن كان يطلق عليه، أو للمصدر، فعلى الأول يكون استعارة محسوس لمحسوس بجامع عقلى، ومثل السكاكى لهذا القسم بقوله تعالى:

(1) أى: وإن لم يكن الطرفان حسيين.

(2)

سورة يس: 52.

ص: 165

وإمّا مختلفان، والحسى هو المستعار منه، نحو: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ (1)؛ فإنّ المستعار منه كسر الزجاجة، وهو حسىّ، والمستعار له التبليغ، والجامع التأثير؛ وهما عقليان،

ــ

وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (2) فالمستعار منه القدوم، والمستعار له الأخذ فى الجزاء بعد

الإمهال، والجامع وقوع المدة فى البين. وفيه نظر، لأن قدوم المسافر حسى، وكون قدومه بعد مدة لا ينفى أن يكون حسيا بقيد عقلى، وكذلك مثل بقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (3) استعير نفرغ لنجازى، وهما عقليان، وقد يقال: الفراغ من شغل البدن حسى (قوله: وإما مختلفان) إشارة إلى القسم الخامس، وهو استعارة محسوس لمعقول، كقوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فإن المستعار منه كسر الزجاجة وهو حسى. كذا قال المصنف، وفى قوله: إن الصدع كسر الزجاجة نظر، فإن الصدع فى اللغة هو الشق، سواء أكان للزجاجة أم غيرها، والمستعار له التبليغ، والجامع التأثير وهما عقليان، كأنه قال: أبن الأمر إبانة لا تنمحى، كما لا يلتئم صدع الزجاجة، كذا قالوه، وفيه نظر، لأن التبليغ حسى يدرك بحاسة السمع فهما على هذه حسيان، ولو أن المصنف قال: المستعار له إظهار الدين لكان أقرب، فإن الإظهار قد يكون بطريق حسى، أو بطريق عقلى. قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر أى أظهر دينك، ثم إن الآية لم يرد بها مطلق التبليغ، بل التبليغ جهارا، ومطلق التبليغ كان واقعا قبل نزول الآية، والتأثير فى الزجاجة حسى، وفى التبليغ عقلى، فالجامع بعضه حسى، وبعضه عقلى. والسكاكى أخذ فى التبليغ قيد بذل الإمكان وهو قيد عقلى، فهو أقرب من كلام المصنف.

ومنه قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ (4) أى جعلت كالقبة المضروبة عليهم، أو ملصقة بهم، حتى أنها صارت منهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه، فالمستعار منه: إما ضرب القبة على الشخص، أو ضرب الطين على الحائط، والمستعار له حالهم مع الذلة، والجامع الإحاطة أو اللزوم، وهما عقليان، وقد يعترض على هذا بأن بعض أهل اللغة وهو صاحب إيراد المقاييس ذكر أن الصدع الإظهار فعلى هذا يكون" اصدع" فى الآية الكريمة حقيقة.

(1) سورة الحجر: 94.

(2)

سورة الفرقان: 23.

(3)

سورة الرحمن: 31.

(4)

سورة البقرة: 61.

ص: 166

وإمّا عكس ذلك؛ نحو: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (1)؛ فإن المستعار له كثرة الماء؛ وهو حسىّ، والمستعار منه التكبّر، والجامع الاستعلاء المفرط؛ وهما عقليان.

وباعتبار اللفظ قسمان؛ لأنه إن كان اسم جنس فأصليّة؛ كأسد وقتل، وإلا فتبعيّة (2)؛ كالفعل، وما اشتقّ منه،

والحرف:

ــ

(قوله: وإما عكس ذلك) إشارة إلى القسم السادس، وهو أن يكونا مختلفين، والحسى مستعار له، والعقلى مستعار منه، كقوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ فالمستعار له كثرة الماء، وهو حسى، والمستعار منه التكبر، فإن الطغيان حقيقة فى التكبر، والجامع الاستعلاء المفرط، وهما عقليان، وفى إطلاق أن الجامع عقلى نظر، لأن استعلاء الماء حسى، واستعلاء التكبر عقلى، وقد مثل السكاكى وابن مالك فى المصباح لهذا القسم بقوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ (3) وهو وهم، لأنه استعارة محسوس لمعقول على العكس مما ذكروه، فإن النبذ حسى والتعرض للغفلة عقلى.

الاستعارة باعتبار اللفظ قسمان: ص: (وباعتبار اللفظ قسمان إلخ).

(ش): الاستعارة تنقسم باعتبار اللفظ قسمين: أصلية، وتبعية. فالأصلية ما كان التجوز به بطريق الأصالة، والتبعية ما كان التجوز به تبعا. وضابطه أن لفظ الاستعارة إن كان اسم جنس فهى أصلية وإلا فتبعية، والمراد باسم الجنس ما وضع للذات إما للأعيان" كأسد، ورجل" أو للمعانى" كالقيام والقعود" وإنما كانت الاستعارة أصلية لأسماء الأجناس لأنها تعتمد التشبيه، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا بمشاركته للمشبه به فى وجه، فلا بد أن يكون المشبه به أيضا موصوفا، لأن المشاركة تستدعى شيئا من الطرفين. قال المصنف: وإنما يصلح للموصوفية الحقائق، كقولك:" جسم أبيض" و" بياض صاف" دون معانى الأفعال والصفات المشتقة منها والحروف. فإن قلت: فقد قيل فى نحو:" شجاع باسل"، و" جواد فياض"، و" عالم نحرير" أن باسلا وصف لشجاع، وفياضا وصف لجواد، ونحريرا وصف لعالم. قلت: ذلك متأول بأن

(1) سورة الحاقة: 11.

(2)

أى: وإن لم يكن اللفظ المستعار اسم جنس فالاستعارة تبعية.

(3)

سورة آل عمران: 187.

ص: 167

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الثوانى لا تقع صفات إلا لما يكون موصوفا بالأول انتهى كلام المصنف وهو معنى كلام المفتاح، إلا أنه لم يقل: إنما يصلح للموصوفية الحقائق، بل قال: الأصل فى الموصوفية هى الحقائق، وإنما قلنا: الأصل ولم نقل: لا يعقل الوصف إلا للحقيقة قصرا للمسافة حيث يقولون فى نحو: شجاع باسل، وذكر السؤال والجواب، ووافقهما

الخطيبى وزاد أن قال: لأن معنى الموصوفية كون الشئ قائما به غيره، ومعنى الوصفية كون الشئ قائما بغيره، فالأصل فى الموصوف أن يكون جوهرا، وفى الصفة أن تكون عرضا (قلت):

قولهم: إن الاستعارة تعتمد التشبيه والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا، مسلم، لكن ليس من شرط التشبيه أن يكون المشبه موصوفا بوصف قائم به، بل أن يصح وصفه بأمر داخل فيه أو خارج عنه حقيقى أو إضافى. وقوله: إنما يصلح للوصفية الحقائق إن أراد قيام الصفة بالموصوف، فمسلم، بل لا يكون ذلك إلا للجواهر، فيلزم أن لا يتجوز بأسماء الأجناس الموضوعة للمعانى، كالعلم والجهل، لأنها لا تقوم بها الصفات، فإن العرض لا يقوم بالعرض عند الجمهور، وإن أراد الصفة المحتاج لها فى التشبيه فتلك لا يشترط فيها ما ذكره. ثم قوله:" إن الوصف إنما يكون للحقائق" يقال عليه: مسلم ذلك، ولكن ما الذى صرف الصفات المشتقة عن أن تكون حقائق، ومدلولها ليس هو الصفة، بل الذات باعتبار الصفة؟ قال ابن الحاجب فى النحو: الصفة ما دل على ذات باعتبار معنى هو المقصود، وقال فى مختصره فى الأصول: الأسود ونحوه من المشتق يدل على ذات متصفة بسواد. وقال الإمام فى المحصول فى باب الاشتقاق: مدلول المشتق مركب، والمشتق منه مفرد. وقال البيضاوى: المشتق ما دل على صفة، فلا شك أن مدلول الضارب ذات متصفة بضرب، واعتبار الوصف فى مدلوله أو اعتبار الزمان لا ينفى كون مدلوله الذات، كما أن اعتبار الناطق فى مدلول الإنسان قيدا فى كونه حيوانا لا ينفى كونه اسما لذات، لا يقال: المراد بالحقائق الذوات المتقررة فيها غير ثابتة، لأنا نقول: الذات بقيد الضرب المسماة بالضارب حقيقة متقررة فى الذهن لا يقال فيها: غير ثابتة، إنما الضرب إذا أخذ صفة للإنسان هو الذى يقال فيه: صفة غير ثابتة فلقائل أن يقول: كل كلى يدخله المجاز، وأطبق الأصوليون على قولهم: اسم الجنس إذا دخلته الألف واللام هل يعم؟ واسم الجنس كلى وغير ذلك لا يريدون به اسم الجنس المصطلح عليه فى العربية بل

ص: 168

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الكلى مشتقا كان أم غيره، وليت شعرى إذا كان الرجل اسم جنس يصح أن يوصف، والضرب القائم به اسم جنس يصح أن يوصف، فالمتركب منهما وهو ضارب ما منعه من أن يوصف، فيستعار منه بحسب المعنى المتركب منهما، أو بحسب أحدهما.

واعلم أن الصفة فى المعنى غير الصفة فى اللفظ فأنت إذا قلت: مررت بزيد القائم، فصفة زيد التى تضمنها كلامك فى المعنى هى القيام، وصفته فى اللفظ هى لفظ قائم، وإنما أتينا باسم الفاعل؛ لعدم إمكان وصف الذات بالمصدر، إذ لا يصح أن تقول: مررت بزيد القيام، فاحتجنا إلى الإتيان بالاسم الدال على الذات باعتبار الصفة، وكما أن الصفة

لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بموصوفها، كذلك الصفة فى اللفظ لا يمكن إجراؤها على موصوفها إلا بذكر ما يدل على ذاتها، وإذا تقرر هذا فالحقيقة والمجاز قد علمت أنهما لفظان، فالمحكوم بكونه مجازا إنما هو اللفظ، وكون المقصود إنما هو الصفة لا يقضى بأن اللفظ لم يستعمل مدلوله أصالة لغيره، فقد وضح بذلك استشكال ما ذكروه من أن المشتق ليس مجازا بالأصالة، ولم يبق إلا أن يقال:" الناطق" مثلا إذا كان مشتقا من النطق فلا بد أن يكون فرعا له؛ لأن المشتق فرع المشتق منه. ولا بد أن يكون مشتقا من النطق الحقيقى، لأن المشتق شرطه أن يوافق أصله بالمعنى والحروف، فتعين أن يكون مشتقا من نطق مجازى؛ لتكون استعارته تبعية بهذا الاعتبار، وقد يعترض على هذا بمنع اشتمال المشتق على جميع معنى المشتق منه، بل يكون فيه شئ من معناه، وقد يكون بين الضارب المجازى والضارب الحقيقى اشتقاق فى جزء المعنى بقى أن يقال:

إذا كان مدلول المشتق مركبا فالتجوز فيه يكون باعتبار الصفة فقط، كما إذا أردت أن تكون الصفة التى اشتق الاسم منها هى الجامع وهذا هو الذى يبتدر إليه الذهن، لأنك إذا شبهت" زيدا" بالقائم" فالظاهر أن تشبهه به فى القيام، لأن ترتب الحكم على الوصف يشعر بالعلية، فإن كان المصنف يعنى بكون الاستعارة فيه تبعية أن المقصود إنما هو الصفة فى الغالب، فنحن نسلم ذلك، وقد يكون التشبيه باعتبار الذات والصفة معا فيكونان مقصودين بأن يجعل الجامع تلك الصفة، وأمرا آخر يشتركان فيه من جنس، أو نوع، أو غير ذلك على ما سبق فى التشبيه، ويحتمل أن يكون الجامع هو أمر ذاتى فقط، ولا ينظر إلى الصفة وجواز هذا بعيد، ولا يكاد يقع وقد يكون التشبيه فى المشتقات، والاستعارة فيها بحسب الزمان،

ص: 169

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كإطلاق الضارب على من وقع منه ضرب ماض، لا باعتبار إطلاقه عليه لأنه كان عليه، فإن ذلك مجاز مرسل، بل باعتبار تشبيه حالته بعد الضرب بحالته ضاربا، فهو استعارة باعتبار الصفة. وأما قولهم فى:" جواد فياض" أن فياضا صفة لجواد، فالجواب عنه صحيح. إنما القول بأن فياضا صفة جواد، هو أحد القولين. وقيل: إنهما صفتان للجامد قبلهما. وعلى القولين فليس مما نحن فيه، لأن ذلك فى الصفة النحوية، وكلامنا فى الصفة المعنوية. وأما تقرير الخطيبى لما قاله المصنف وأتباعه بقوله: لأن الموصوفية للجوهر لا للعرض فكلام عجيب، لأنه يقتضى أن لا يتجوز بأسماء الأجناس الموضوعة للمعانى، وقد مثل هو بها قبل ذلك فى هذا الكلام، والمصنف والسكاكى لم يقولا: إنما تكون للجوهر، وإنما قالا: إنما تكون للحقائق، والحقائق أعم من الجواهر والأعراض.

وقول المصنف:" نحرير" و" باسل" لا يصح أن يكون مثالا للمشتق من الاستعارة؛ لأن باسلا معناه شجاع ليس

حقيقة فى" الأسد" حتى يستعار لغيره، والظاهر أن نحريرا حقيقة قال الجوهرى: النحرير، العالم، ثم يرد على الجميع علم الجنس، فإنه يتجوز به قطعا، وكذلك يرد عليهم الأسماء التى أصلها صفات، واستعملت استعمال الأسماء، فإنها لا إشكال أن الاستعارة فيها أصلية حتى إن منها ما لا يحتاج إلى تقدير موصوف قبله، بل يباشر العوامل بنفسه، كقوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (1) فإن الجوارى هنا لا تحتاج لموصوف قبلها، كما صرحوا به، فإذا سلمت ما ذكرناه فانقل منه إلى الأفعال والحروف ما يمكن نقله، وبالجملة نحن ماشون على ما ذكره الأئمة (قوله: وإلا) أى وإن لم يكن اسم جنس، يعنى والفرض أنها استعارة حتى لا يرد عليه الأعلام، فإنها ليست مجازات.

الاستعارات الواقعة ضمائر أو أسماء إشارات: واعلم أن الاستعارات الواقعة ضمائر، أو أسماء إشارات لها حكم ما يطابقه من مفسر إن كانت ضمائر ومشار إليه إن كانت أسماء إشارة، والظاهر أنها كلها داخلة فى التبعية، فإن الاستعارة فيها باعتبار الاستعارة فيما ترجع إليه، أو يقال: إنها لا يتجوز بها، فإن وضعها أن تعود على ما يراد بها من حقيقة ومجاز، فإذا قلت:" رأيت

(1) سورة الرحمن: 24.

ص: 170

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أسدا يرمى فأكرمته" فضمير المفعول حقيقة لعوده على مفسره، وذلك وضعه. وإذا قلت:

" يأيها الأسد الرامى بالنبل" مشيرا إلى الإنسان، فالضمير فى قولك: الرامى حقيقة (قوله: كالفعل) يشير إلى أن الأفعال استعارتها تبعية، فإنها إنما تستعار باعتبار استعارة المصدر، فإذا قلت:" نطق الحال" فقد استعرت أولا النطق للدلالة، ثم أطلقت نطقت، فالمشبه الدلالة، والمشبه به النطق، والجامع حصول الفائدة. ويرد عليه ما سبق من أن المجاز لفظ المصدر الذى هو النطق، ولم يلفظ به حتى يكون هو المستعار أولا، ثم اشتق منه النطق، وجوابه أنه المستعار أولا تقديرا لا تحقيقا، ثم يلزم أن يكون نطق الفعل الملفوظ به مستعارا من النطق المجازى. والغزالى فى طائفة من الأصوليين يقولون:

إن المجاز لا يشتق منه، ومراد المصنف استعارة الفعل بحسب مصدره، ولا شك أن الفعل يدل على حدث وزمان، ودلالته على كل منهما بالتضمن، وعلى مجموعهما بالمطابقة وقيل: يدل على الحدث بالمطابقة، وعلى الزمان بالالتزام وقيل: يدل على كل منهما بالمطابقة كالمشترك. وفيه مباحث ذكرناها فى شرح المختصر. فالفعل إذا

تجوز به تارة يتغير حدثه فقط مثل:" نطقت الحال" بمعنى دلت، وهو الذى ذكره المصنف، وليس اللفظ فيه مستعملا فى غير موضوع بالكلية (؟) فى بعض مدلوله وهو الزمان، وغير مدلوله وهو الحدث، وتارة يتغير زمانه فقط، كقولك:" أتى زيد" بمعنى أنه يأتى، فالمصدر لم يتجوز به، بل تجوز بالتعبير بالماضى عن المستقبل، وهذا أشبه بالمجاز المرسل، وقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ (1) يحتمل أن يكون المراد قارب الإتيان، أو أتت مقدماته، فيكون من تحويل المصدر. ويحتمل أن يكون المراد يأتى، فيكون من تحويل الزمان، وتارة يقصد تحويل مدلولى الفعل، فتقول:" نطقت الحال" بمعنى أنها ستدل، فهو دائر بين الاستعارة والمرسل بحسب مدلوليه. (قوله: ما يشتق منه) يشير إلى الصفات" كالناطق" فهو مستعار للدالّ، وكقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (2)، وقوله تعالى: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (3) فالمستعار فى الأصل هو المصدر. وما قاله ضعيف، فإن الصحيح أن الصفات مشتقة من المصدر لا من الفعل وقد تقدم الكلام على كون استعارة المشتقات تبعية وقوله: و" الحروف" يشير إلى أن

(1) سورة النحل: 1.

(2)

سورة الدخان: 49.

(3)

سورة هود: 87.

ص: 171

فالتشبيه فى الأولين (1) لمعنى المصدر، وفى الثالث (2) لمتعلّق معناه (3)؛ كالمجرور فى:

(زيد فى نعمة)؛ فيقدّر فى: (نطقت الحال) و: (الحال ناطقة بكذا): للدّلالة بالنّطق، وفى لام التعليل؛ نحو: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً (4): للعداوة والحزن بعد الالتقاط، بعلّته الغائية.

ــ

استعارة الحروف تبعية. قال السكاكى: الاستعارة تقع فى متعلقات معانيها ثم يسرى فيها، وأعنى بمتعلقات معانيها ما يعبر عنها عند تفسيرها، كقولنا:" من" لابتداء الغاية، فليس الابتداء معناها، إذ لو كان معناها لكانت اسما، وإنما هى متعلقات معانيها، فإذا أفادت هذه الحروف معانى رجعت إلى هذه بنوع استلزام، فإذا أردت استعمال" لعل" لغير معناها قدرت الاستعارة فى معنى الترجى، ثم استعملت هناك" لعل" وهذا معنى قول المصنف:(فالتشبيه فى الأولين) يعنى الفعل والصفات (لمعنى المصدر وفى الثالث) أى الحرف (لمتعلق معناه)، (قوله: كالمجرور فى: زيد فى نعمة) مثال للاستعارة فى الحرف. قال الخطيبى: وفيه نظر، لأن المجرور هو قولنا: نعمة، وليست متعلق معناه، وهو مطلق الظرفية، ومعناه هو ظرفية النعمة للاستقرار فيها. وقرره غير الخطيبى بأن المعنى أن" فى" معناها الظرفية، وللظرفية متعلق" بالفتح" قام ذلك المعنى به، وهو" الدار" مثلا فى الظرف

الحقيقى، فهنا وقع تشبيه النعمة المشتملة على زيد بالدار المشتملة عليه، واستعمل فى النعمة كلمة" فى" التى من حقها أن تستعمل فى" الدار" فالاستعارة فى الحرف استعماله فيما لا يكون متعلق معناه، بل هو شبيه بمتعلق معناه. (قوله: فيقدر) أى التشبيه فى قولنا:" نطقت الحال بكذا" وهو مثال للفعل وفى قولنا:" الحال ناطقة بكذا" وهو مثال للصفة للدلالة بالنطق بجامع ما بينهما من الإيضاح، ثم يعبر عن ذلك بالفعل، أو الوصف، فتقول: نطقت الحال وهى ناطقة بكذا. قلت: وقولنا: الحال ناطقة بكذا. كيف يصح عده من الاستعارة وهو عند المصنف تشبيه؟ فهذا مخالف لكلامه الماضى، وموافق لما حققناه:(قوله: وفى لام التعليل) أى ويقدر التشبيه فى لام التعليل فى نحو: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً للعداوة والحزن الحاصلين بعد الالتقاط على إرادة العلة الغائية للالتقاط لترتب وجودهما على وجود الالتقاط، وليست اللام هنا للغرض؛ لأن حقيقة الغرض ترتب أمر على أمر،

(1) أى: الفعل وما يشتق منه.

(2)

أى: الحرف.

(3)

وهو مثلا الابتداء فى من خ خ.

(4)

سورة القصص: 8.

ص: 172

ومدار قرينتها فى الأولين على الفاعل؛ نحو: نطقت الحال بكذا خ خ، أو المفعول؛ نحو:[من الرمل]:

قتل البخل وأحيا السّماحا

ــ

وهما مطلوبان، ولا شك أن العداوة والحزن لم يكونا مطلوبين بالالتقاط. وقول المصنف:

للدلالة: أى التشبيه للدلالة يعنى أن الدلالة هى المشبه، وكذلك قوله:" للعداوة" أى العداوة هى المجعولة كالعلة الغائية، فالتجوز وقع فى اللام هنا باعتبار أن ما استقرت عليه عاقبة الالتقاط من العداوة صير الالتقاط كأنه علته الغائية بجامع ما بين العلة الغائية والعداوة التى صار إليها الالتقاط من شئ مترتب على فعل كان غايته فى الواقع، وإن لم يكن غايته فى الذهن عند وجدان الالتقاط، والعداوة والحزن مشبهان، والعلة الغائية وهى الانتفاع مشبه به. وقال بعضهم: إن الاستعارة فى الآية ليست فى اللام، وأسند ذلك بأن ما تعلقت به هو الكون المستفاد من أن، ويكون، لا العداوة والحزن. قال: بل الاستعارة فى" عدوا وحزنا" وهى تهكمية أى ليكون لهم حبيبا وفرحا، وكذلك حالهم قرينة لهذا المعنى ولو أريد حقيقة العداوة لقيل عليهم.

ولما كانت التبعية لا بد لها من القرينة كسائر الاستعارات أخذ فى بيان قرينتها فقال: (ومدار قرينتها فى الأولين)

أى فى الفعل والصفة المشتقة منه (على الفاعل) أى بأن لا يكون صالحا لأن ينسب الفعل، أو الوصف إليه على سبيل الحقيقة نحو:

" نطقت الحال بكذا" فإن الحال ليست مما ينطق حقيقة وهذا مثال للفعل، ومثال الوصف:" رأيت رجلا ناطقا حاله بكذا" وكذلك قولك:" الحال ناطق بكذا" فإن الفاعل وهو الضمير، وهو قرينة على الاستعارة (أو) على (المفعول) بأن لا يكون الفعل، أو الوصف قابلا لأن ينسب إليه حقيقة كقول ابن المعتز:

جمع الحقّ لنا فى إمام

قتل البخل وأحيا السّماحا (1)

أى أزال البخل، وأظهر السماح، فالقرينة فى هاتين الاستعارتين جعل البخل والسماح مفعولين، وقد تكون القرينة كلا من الفاعل والمفعول، كقوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ (2) كذا قيل. وفيه نظر؛ لأن وقوع الخطف على الإبصار ليس

(1) ديوان ابن المعتز 1/ 468، والمصباح ص: 135، والإيضاح بتحقيقى ص:269.

(2)

سورة البقرة: 20.

ص: 173

ونحو [من البسيط]:

نقريهم لهذميّات نقدّ بها

أو المجرور؛ نحو: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (1).

ــ

هو متعذرا على سبيل الحقيقة، هذا فى المفعول الأول وتارة تكون القرينة المفعول الثانى نحو قوله:

نقريهم لهذميات نقدّ بها

ما كان خاط عليهم كلّ زرّاد (2)

قال فى الإيضاح: أو إلى المفعولين الأول والثانى كقول الحريرى (3):

وأقرى المسامع إما نطقت

بيانا يقود الحرون الشموسا

(قوله" أو المجرور") أى قد يكون المجرور قرينة فى صرف الفعل للاستعارة، نحو: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (4) فذكر العذاب قرينة فى صرف" فبشرهم بعذاب أليم" إلى الاستعارة التهكمية (5)، وكان المصنف مستغنيا عن ذكر هذا، فإن المجرور هنا مفعول فى المعنى. قال السكاكى: أو تكون القرينة الجميع. قال الشيرازى: يعنى الفاعل، والمفعول الأول والثانى، والمجرور كقوله:

تقرى الرّياح رياض الحزن مزهرة

إذا سرى النّوم فى الأجفان إيقاظا (6)

قال المصنف: وفيه نظر، قيل: وجه النظر أن مجموع ذلك ليس قرينة، بل كل واحد منهن قرينة مستقلة. ورد عليه بأن السكاكى: ما قصد إلا ذلك، ويحتمل أن يكون مراد المصنف بالنظر أنا لا نسلم أن" فى الأجفان" هو قرينة؛ لأنه ليس مجرورا معلوما للاستعارة التى هى تقرى، بل هو معمول لقوله:" تقرى" واعترض على المصنف

(1) سورة التوبة: 34.

(2)

البيت للقطامى. اللهذم: السنان القاطع. القد: القطع. سرد الدروع وزردها: نسجها. انظر الإيضاح بتحقيقى ص: 269

(3)

الحريرى: صاحب المقامات أبو محمد القاسم بن على بن محمد بن عثمان الكاتب الشاعر المتوفى سنة 516، الإيضاح بتحقيقى ص:269.

(4)

سورة الانشقاق: 24.

(5)

فى ط: التكهمية.

(6)

الإيضاح بتحقيقى ص: 269، والمصباح ص:136.

ص: 174