المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والنظر - ههنا - فى أركانه - وهى: طرفاه، ووجهه، - عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح - جـ ٢

[السبكي، بهاء الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الفنّ الثانى علم البيان

- ‌التشبيه

- ‌أركان التشبيه

- ‌(الغرض من التشبيه)

- ‌وقد يعود إلى المشبّه به، وهو ضربان:

- ‌وهو باعتبار طرفيه:

- ‌وباعتبار وجهه:

- ‌وباعتبار الغرض:

- ‌خاتمة

- ‌الحقيقة والمجاز

- ‌الحقيقة:

- ‌والمجاز: مفرد، ومركّب:

- ‌المجاز والمرسل

- ‌الاستعارة

- ‌وباعتبار آخر ثلاثة أقسام:

- ‌المجاز المركّب

- ‌[فصل [إخماد التشبيه في النفس]

- ‌فصل [تعريف السكاكي للحقيقة اللغوية]

- ‌فصل [حسن كل من التحقيقية والتمثيل]

- ‌فصل [قد يطلق المجاز على كلمة تغيّر حكم إعرابها بحذف لفظ أو زيادة لفظ]

- ‌(الكناية)

- ‌وهى ثلاثة أقسام:

- ‌الأولى: المطلوب بها غير صفة ولا نسبة:

- ‌والثانية: المطلوب بها صفة:

- ‌الثالثة: المطلوب بها نسبة؛ كقولهم [من الكامل]:

- ‌فصل [المجاز والكناية افضل من الحقيقة والتصريح]

- ‌الفنّ الثالث علم البديع

- ‌وهى ضربان: معنوىّ، ولفظى:

- ‌المحسّنات المعنويّة

- ‌الطباق ضربان:

- ‌المقابلة

- ‌مراعاة النظير

- ‌الإرصاد

- ‌المشاكلة

- ‌المزاوجة

- ‌العكس

- ‌الرجوع

- ‌التورية

- ‌الاستخدام

- ‌اللف والنشر

- ‌الجمع

- ‌التفريق

- ‌التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق

- ‌الجمع مع التقسيم

- ‌الجمع مع التفريق والتقسيم

- ‌التجريد

- ‌المبالغة

- ‌المذهب الكلامى

- ‌حسن التعليل

- ‌تأكيد المدح بما يشبه الذم

- ‌الإدماج

- ‌الهزل يراد به الجد

- ‌تجاهل العارف

- ‌القول بالموجب

- ‌الاطراد

- ‌المحسنات اللفظية

- ‌[الجناس]

- ‌رد العجز على الصدر

- ‌السجع

- ‌الموازنة

- ‌القلب

- ‌التشريع

- ‌لزوم ما لا يلزم

- ‌خاتمة: فى السّرقات الشّعريّة

- ‌الاقتباس

- ‌التضمين

- ‌العقد

- ‌الحلّ

- ‌التلميح

- ‌فصل [ما ينبغى للمتكلم المتأنق فيه]

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: والنظر - ههنا - فى أركانه - وهى: طرفاه، ووجهه،

والنظر - ههنا - فى أركانه - وهى: طرفاه، ووجهه، وأداته - وفى الغرض منه، وفى أقسامه:

‌أركان التشبيه

طرفاه: إما حسّيان؛

ــ

ص: (والنظر فى أركانه: وهى طرفاه، ووجهه، وأداته، وفى الغرض منه وأقسامه).

(ش): طرفاه المشبه والمشبه به ووجهه المعنى الجامع، وهو بهذه الأركان شبيه بالقياس وأداته ما سيأتى، فهذه أربعة أركان.

(قلت): ويرد عليه ما لا أداة له، كقولنا: زيد أسد، وهو تشبيه على المختار عنده فهذا الكلام لا يلائم ما سبق؛ لأن الركن لا توجد الحقيقة دونه. فإن أجيب عن ذلك بأن أداة التشبيه مقدرة مع اللفظ، فالوجه كيف يدعى أنه ركن، وهو غير مذكور ولا مقدر مع اللفظ؟!

ص: (طرفاه إما حسيان إلى آخره).

(ش): اعلم أن التشبيه لا يمكن أن يكون حسيا؛ لأنه تصديق على الصحيح خلافا لمن قال: هو إنشاء، والتصديقات ليس شئ منها بحسى، فإن الحس إنما يدرك المفردات، فليتنبه لذلك. إنما طرفاه على أقسام، جملتها مائتان وتسعة وثمانون سأذكرها إن شاء الله.

الأول: الحسيان ولا بد لك من تحقيق قواعد هاهنا فنقول:

الحواس الخمس لا تدرك إلا الصور الجزئية الحقيقية فالحسى بالحقيقة ما أدرك بإحدى الحواس الخمس، وذلك لا يكون إلا جزئيا، وقد يطلق الحسى على المادة التى تدرك الحاسة أفرادها، وذلك على قسمين:

تارة تكون تلك الأفراد خارجية، وتارة تكون ذهنية فقط، فلا يكون شئ من أفرادها موجودا فى الخارج. فالقسم الأول المدرك بالحس كقولك فى المبصرات: خد زيد كهذا الورد، وفى المسموعات: سمعت كلاما مثل هذا الكلام، وفى المشمومات: هذا الفم كهذا العنبر، وفى المذوقات: شربت ماء كهذا العسل، وفى الملموسات: جلد زيد كثوب الحرير.

ص: 34

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والقسم الثانى نوعان: الأول أن تكون تلك المادة كلية وجدت أفراد لها، كقولك:

يعجبنى خد كالورد؛ فإن الطرفين كليان وليسا محسوسين؛ لأن الكلى لا يحس إنما المحسوس كثير من أفرادهما.

وقد يكون هذا القسم لم يوجد منه إلا فرد واحد كقولك: زيد قمر، فإن الثانى أن تكون المادة كلية لم يوجد شئ من أفرادها، كالمشبه به فى قولك: شقيق كأعلام الياقوت فإن أعلام الياقوت كلية غير موجودة، لكنها تسمى حسية باعتبارين:

أحدهما: أنه لو أدرك جزئى من جزئياتها لأدرك بالحاسة.

والثانى: أن أجزاء كل فرد من مفرديها وهما العلم والياقوت إذا أريد به معين، كان حسيا. وتسمية هذا حسيا أبعد مما قبله؛ لأنه لم يوجد منه فى الخارج فرد. وبهذا تعلم أن كل حكم علقته بمشبه ومشبه به باعتبار المستقبل، وكانا غير موجودين، فإن تسميته حسيا على نحو ما سبق كقولك: اللهم ارزقنى ولدا كالبدر، وأعطنى فى الجنة

حورا كالياقوت والمرجان، فكل ذلك يسمى حسيا. إذا تقرر ذلك، فاعلم أن المصنف أطلق الحسى على أمرين: أحدهما ما أدرك بالحس، والثانى ما أدركت مادته لا هو، وأراد به القسم الأخير، واقتضى كلامه أن القسم الأول من أول نوعى الثانى حسى حقيقى، وليس كما قال فليتأمل.

وإذا تأملت ما ذكرته، علمت أنه لا تكاد تجد تشبيها فيه الطرفان حسيان حقيقيان إلا قليلا.

الثانى: اعلم أن الذى تدركه الحواس هى الأعراض، فالبصر يدرك اللون، والسمع يدرك الصوت، والشم يدرك الرائحة، والذوق يدرك الطعم، واللمس يدرك الحرارة واللين مثلا. فإن أطلقت المحسوس على ذات لا تريد لونها مثلا، بل تريد معناها العقلى، كان ذلك حينئذ عقليا لا حسيا، وإن أطلقته على ذات تريد عرضها المدرك بالحاسة كان فيه توسع. فإذا قلت: لون زيد كلون عمرو، كانا محسوسين قطعا، وإذا قلت: زيد كعمرو، كان معناه تشبيه حقيقة بحقيقة فيكونان عقليين، وإذا قلت: زيد كعمرو مريدا تشبيه لونه بلونه، ساغ ذلك بقرينة تصرف إليه كقولك: زيد كعمرو بياضا، والإطلاق حينئذ مجاز كما صرح به الإمام فخر الدين فى المحصول. والظاهر أنه صار حقيقة عرفية لاشتهاره. وهذا التفصيل الذى ذكرناه هو التحقيق، وإن كان

ص: 35

كالخدّ والورد، والصوت الضعيف والهمس، والنّكهة والعنبر، والرّيق والخمر، والجلد الناعم والحرير، أو عقليّان؛ كالعلم والحياة، أو مختلفان؛ كالمنية والسّبع، والعطر وخلق كريم

ــ

مخالفا لكلامهم؛ لأنهم جعلوا الطرفين حسيين، وإن كان وجه الشبه بينهما عقليا كما ستراه، وهذا اصطلاح لهم لا مشاحة فيه. فنحن نتبعهم فيه على اصطلاحهم، والتحقيق ما سبق.

وهذا البحث لم يزل يدور فى خلدى إلى أن جزمت به، وكتبته ثم بعد مدة، رأيت ابن الأثير قد وقع عليه، فقال فى كنز البلاغة: قولنا: زيد أسد، تشبيه معنى بمعنى؛ لأن المقصود الشجاعة. ثم رأيت ابن رشيق فى العمدة أشار إليه فقال: إن التشبيه إنما هو أبدا على الأعراض لا على الجواهر.

(الثالث): حيث قلنا فى هذا الباب: حسى، أو خيالى، أو عقلى، أو وهمى، أو وجدانى، فالمراد أن يكون إدراك السامع له بإحدى هذه الطرق، أو نقول: المراد أن يكون الإنسان يدرك ذلك بأحدها. وإنما قلت ذلك احترازا من التشبيهات الواردة فى كلام الله تعالى، فإن علمه عز وجل ليس بشئ من هذه الطرق. إذا تقرر ذلك فلنرجع لكلام المصنف.

فقوله: (كالخد والورد) مثال للمبصرات، فالخد مشبه والورد مشبه به، والواجب أن يقال: كلون الخد ولون الورد وأن يذكر معه ما يصرفه لخد معين وورد معين، وإلا فيكون غير مدرك بالحاسة كما سبق.

وقوله: (والنكهة والعنبر) مثال للمشمومات، وينبغى أيضا أن يقال: وريح العنبر، والإيراد عليه هنا أشد؛ لأنه

جعل المشبه به فى اللفظ العنبر، والمشبه فى اللفظ النكهة، وهى رائحة الفم فإما أن يقول: كالنكهة ورائحة العنبر، أو يقول: كالفم والعنبر كما قال فى الخد والورد، ثم عليه السؤال السابق.

وقوله: (والريق والخمر) مثال للمذوقات. وفيه نظر؛ لأن الريق لا يشبه بالخمر فى الطعم، وإنما يشبه بها إذا أريد تشبيه الطرب الحاصل بالريق بنشوة الخمر، وهو فيهما حينئذ يكون عقليا وجدانيا لا حسيا، فكان الأحسن أن يمثل بالريق والشهد، ثم عليه السؤالان السابقان.

وقوله: (والجلد الناعم والحرير) مثال للملموسات، وعليه السؤالان السابقان.

وقوله: (والصوت الضعيف والهمس) مثال للمسموعات. قال الخطيبى:

والصوت الضعيف ما كان ضعيفا فى نفسه، والهمس ما أسر من ذلك الكلام وأخفى،

ص: 36

والمراد بالحسى: المدرك هو أو مادّته - بإحدى الحواسّ الخمس الظاهرة؛ فدخل فيه الخيالىّ؛ كما فى قوله (1)[من مجزوء الكامل]:

وكأنّ محمرّ الشّقي

ق إذا تصوّب أو تصعّد

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد

ــ

ولا أدرى من أين له هذا، وأكثر أهل اللغة قالوا: الهمس الصوت الضعيف. لكن قال الثعالبى فى فقه اللغة: الهمس صوت حركة الإنسان، وقال ابن سيده فى المحكم:

الهمس الخفى من الأكل، والضرب، والوطء، وهو قريب من كلام الثعالبى. والآية ترشد إليه فى قوله تعالى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (2) معناه أن الأصوات سكنت فلا تسمع إلا حركة الأعضاء. وبذلك يعلم أن قول المصنف: الصوت الخفى - أى من الكلام ونحوه - يشبه بصوت الحركة، فقوله:(المراد بالحسى ما أدرك هو أو مادته فدخل فيه الخيالى) يرد عليه ما سبق فينبغى أن يقيد الخيالى بأعم مما ذكره، ومثل له بقوله:

كأنّ محمر الشّقي

ق إذا تصوّب أو تصعّد

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد

يعنى بما لا يدرك هو ولكن أدركت مادته ما أدركت أفراده بالحس - أى أجزاء كل جزئى منه، ولم يدرك هو أى هيئته الاجتماعية فيكون ملحقا بالحسى؛ لاشتراك الحس والخيال فى أن المدرك بهما صورة لا معنى، ويتميز عن الوهمى بأن أجزاء كل فرد منه موجودة فى الخارج بخلاف الوهمى، وهنا قد شبه الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من زبرجد. فأفراد المشبه به من العلم والياقوت والرماح والزبرجد حسية، والهيئة

الاجتماعية الحاصلة منها خيالية، فالمشبه مفرد حسى، والمشبه به مركب خيالى كذا قاله الخطيبى.

(قلت): قوله: إن أفراد المشبه به العلم والياقوت والرماح والزبرجد مدركة بالحس ليس بجيد؛ لأن الأفراد إنما هى أعلام من ياقوت ورماح من زبرجد، وهما خياليان.

(1) البيت للصنوبرى، المصباح ص 116، أسرار البلاغة ص 158، والطراز 1/ 275.

(2)

سورة طه: 108.

ص: 37

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فليس له إلا مفردان. ثم أقول: كأن الشارح فهم أن المشبه الأعلام والرماح هو المتبادر إلى الذهن، وفيه نظر؛ لأنه يلزم تشبيه محمر الشقيق بالرماح الأخضر، وهو فاسد، بل إنما شبه محمر الشقيق بأعلام من ياقوت، وهى تمام المشبه به. ولصحة هذا التشبيه شرط وهو كون الأعلام من الياقوت معها رماح الزبرجد، ولا يصح فهم البيتين إلا بهذا الوجه، وإلا فسد. وعلى هذا فسد قول الخطيبى والمصنف فيما سيأتى: إنه تشبيه مفرد بمركب. بل هو تشبيه مفرد بمفرد على ما سيأتى تحقيقه فى تشبيه المفرد والمركب إن شاء الله تعالى.

وإن جعل المشبه به مجموع ما ذكر فليجعل المشبه أيضا مجموع الشقيق وساعده، ويكون التقدير: وكأن محمر الشقيق وساعده، إلا أن يقال: اسم الشقيق يشمل الورق والسواعد.

وقول الشاعر: (تصوب) أى مال إلى جهة الهبوط (وتصعد) أى مال إلى الصعود بجهة العلو (وإذا) متعلق بما فى (كأن) من معنى التشبيه. وقوله: (أعلام) كأنه يوهم أن العلم هو المنشور فوق الرماح، وظاهر كلام المحكم خلافه فإنه قال: العلم الراية. وقيل:

هو الذى يعقد على الرمح، وهذا يقتضى ترجيح أنه الرمح نفسه، ويشهد له قولهم: نار على علم فليحرر موضوع العلم.

وقالوا: إن قوله: (محمر الشقيق) من إضافة الصفة إلى موصوفها، وأنه أبلغ من قولنا: الشقيق المحمر.

(قلت): لا حاجة لذلك بل فيه نظر؛ لأن فى الشقيق المحمر والمسود والمبيض، فيكون شبه أحمره بأعلام الياقوت مقيدة بتلك القيود.

واعلم أن الخيالى هنا إنما هو المشبه به والمشبه حسى، فليس التشبيه هنا خياليا فقط، بل يصدق عليه الخيالى

باعتبار المشبه به، والحسى باعتبار المشبه، فينشأ من الحسى والخيالى أربعة أقسام، وأنشد فى الإيضاح للخيالى أيضا قول الشاعر:

كلّنا باسط اليد

نحو نيلوفر ندى

كدبابيس عسجد

قضبها من زبرجد

ص: 38

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

كذا هو فى الإيضاح، ويروى نصبها بالنون والصاد، وهذا المقطوع أحسن من الأول، إلا أن النيلوفر فى بلادنا لا يشبه العسجد.

أخو العلم حىّ خالد بعد موته

وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت، وهو ماش على الثّرى

يظنّ من الأحياء وهو عديم

وقوله: (أو عقليان) أخرته، وإن كان المصنف قدمه؛ ليستوفى ما يتعلق بالحسى، وقد مثل العقليين بالعلم والحياة، فإن أراد نفس المصدرين فصحيح، كقولك: علم زيد كالحياة، وإن أراد المشتق منهما وهو الظاهر؛ لأن جماعة مثلوا للعقليين بقول العفيف البصرى.

وكذلك الإمام فخر الدين مثل لهما بالموجود والمعدوم، فصحيح أيضا لا يقال: إن العالم والحى ذاتان مبصرتان؛ لأن المقصود حقيقة العالم والحى العقليين، لا لونهما كما سبق تقريره، ويوضحه قولهم: الأسود ونحوه من المشتق يدل على شئ له السواد، لا على جسم فإذا لم يدل على جسم، لم يكن حسيا غير أنه سيأتى فى كلام المصنف ما يرد عليه هذا قريبا، وسيأتى فى المفتاح فى باب الاستعارة عند الكلام على الريح العقيم ما يقتضى خلاف هذا. وقد يقال عليه أيضا: إن الحى ليس مشبها به، بل صفة لموصوف محذوف تقديره: رجل حى ورجل حسى، ولذلك صرح عبد اللطيف البغدادى بأن هذا كله من مجاز الحذف.

وقوله: (أو مختلفان) أى أحدهما حسى، والآخر عقلى (كالمنية والسبع) مثال لمشبه عقلى، وهو المنية، وهذا صحيح، ومشبه محسوس وهو السبع، وهذا حسى على اصطلاحهم، وفيه البحث السابق؛ لأن تشبيه المنية بالسبع من جهة الافتراس، والسبع لم يقصد لونه، بل قصد حقيقته العقلية، لا يقال: فهو حينئذ على ما ذكرناه فى الحى والعالم فإن السبع ليس مشتقا، والجامد لا شك أنه دال على الجسم فيكون حسيا كالعلم، ونظيره تشبيه العدل بالميزان، وتشبيه القرينة الدالة بالشخص الناطق، كما مثل بالثلاثة السكاكى. والجميع قالوا: إن القسطاس

إنما قصد حقيقته العقلية، وهو عدم الجور، والناطق إنما قصد به ذات لها النطق، والأحسن تمثيله بقولنا سنة: كالنجم.

وقد يعترض على جعل الناطق حسيا؛ بأنه لا يجامع جعل الحى عقليا. ويجاب عنه بأن مراد السكاكى: أن يكون المشبه جامدا ناطقا، لا لفظ الناطق. كقولك: قرينة

ص: 39

وبالعقلىّ: ما عدا ذلك؛

ــ

كلسان ناطق، وقد يمثل أيضا بقوله تعالى: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ (1) وتشبيه الحجة بالنور، وبه مثل الإمام قال: ولا يقال: الحجة مسموعة، بل المعتبر هو المعانى العقلية، وهو شبيه بما قلناه فى الحى، والعالم أنهما عقليان.

وقوله: (والعطر وخلق كريم) مثال لعكسه، فإن العطر المشبه حسى والخلق عقلى، وقد يعترض عليه بأمرين:

أحدهما: أن العطر لا يشبه بالخلق إنما تشبه رائحته بالخلق، وأن العطر نفس الطيب لا رائحته.

الثانى: أن هذا من قلب التشبيه؛ فإنه إنما يشبه خلق الكريم بالعطر.

(تنبيه): لا يجوز عند بعضهم تشبيه المحسوس بالمعقول، وبه جزم الزنجانى فى معيار النظر، والإمام فخر الدين؛ إذ المشبه به يجب أن يكون أظهر من المشبه ولكون المعقول فرع المحسوس، لأنه مستفاد منه، وحيث جاء فى الأشعار يؤول على أنه جعل المعقول محسوسا على سبيل المبالغة، وهذا يستدرجك إلى أن تجعل جميع هذا النوع من باب قلب التشبيه، ولا يجوز عند بعضهم تشبيه واحد منهما بالآخر. قال التنوخى فى الأقصى القريب: تشبيه المعنى بالصورة والصورة بالمعنى لا بد فيه من تجوز، ومن عد تشبيه المعنى بالصورة، ولم يعد تشبيه الصورة بالمعنى لا معنى لترجيحه أحد الأمرين على الآخر، بل إما أن يعدا معا أو لا يعدا معا. انتهى.

وهذا قول ثالث يقتضى نفى تشبيه المعقول بالمحسوس أيضا على سبيل الحقيقة.

(تنبيه): إدراك الحواس علم عند الأشعرى وطائفة، والعلم عقلى فيلزم أن يكون الحسى عقليا، وجوابه: أن المراد بالحسى المدرك لا الإدراك، ألا ترى إلى قولهم:

الحسى ما أدرك.

ص: (والعقلى ما عدا ذلك).

(ش): أى ما عدا الحسى والخيالى، فدخل فيه الوهمى وهو ما ليس بمدرك بها، ولو أدرك لما أدرك إلا بالحواس، وينبغى أن يقال: ما لا يدرك؛ لأن قولنا: ما ليس بمدرك يدخل فيه كل ما يتعلق بالمستقبل، كقولك: إن يأتنى ولد كالبدر أحببته، وعليه قوله

(1) سورة إبراهيم: 18.

ص: 40

فدخل فيه الوهمى، أى: ما هو غير مدرك بها (1)، ولو أدرك لكان مدركا بها؛ كما فى قوله (2) [من الطويل]:

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

ــ

تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (3) قاله المصنف وغيره: وقد يقال: إنه خيالى؛ لأن الرءوس والشياطين مدركة بالحس؛ لأن الجن يرون، أما الممتنع فالمركب بالإضافة.

على أنه قيل فى الآية: إن رءوس الشياطين ثمرة قبيحة لشجر منكر الصورة، وقيل:

الشياطين الحيات حكاهما ابن رشيق وغيره. وأورد على المصنف أنه حكم بأن الوهمى ما ليس مدركا بالحواس الظاهرة، ولو أدرك لكان مدركا بها، وعبارته فى الإيضاح: لما كان مدركا إلا بها فيلزم أن لا يكون الوهمى مدركا أصلا، والفرض أنه مدرك قطعا.

وأجيب عنه بأن مراده لو أدرك فى الخارج، لكان مدركا بالحواس لا أنه لا يدرك ابتداء إلا بها، وأورد عليه أنه ممنوع لأنا إذا قدرنا مثلا للمنية شيئا كالأظفار، فهذا لو وجد فى الخارج لما كان مدركا بالحواس الظاهرة؛ لأنه صفة المنية، وصفة العقلى لا يكون محسوسا إذا وجد، ومن الوهمى قول امرئ القيس:

أيقتلنى والمشرفىّ مضاجعى

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

والمشرفى: صفة السيف نسبة إلى مشرف مفرد مشارف، وهى قرى من أراضى العرب، وإنما جعل ذلك من الوهميات؛ لأن الغول لا وجود له، كما ثبت فى الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم:

" ولا غول"(4) وما فى الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم لأبى هريرة - رضى الله عنه -:" إنك تكلم الغول منذ ثلاث"(5) فهو الشيطان، وجعل رءوس الشياطين من الوهمى إشارة إلى أن الشيطان لا رأس له، وأصحابنا ذكروا فى الطلاق لو قال لزوجته: إن لم تكونى أطول شعرا من إبليس، فأنت طالق، قالوا: لا يقع الطلاق للشك.

(1) أى بإحدى الحواس الخمس الظاهرة المذكورة.

(2)

شطر بيت لامرئ القيس ديوانه ص 150، والإيضاح ص 336 صدره:

أيقتلنى والمشرفى مضاجعى

(3)

سورة الصافات: 65.

(4)

أخرجه مسلم فى" السّلام"، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة .... (ح 2222)، عن جابر رضى الله عنه ولفظه:" لا عدوى ولا طيرة ولا غول".

(5)

أخرجه البخارى فى" الوكالة"، باب: إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا .... (4/ 568)، (ح 2311)، وفى" التفسير"، وهو حديث أبى هريرة عند ما وكله النبى صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة.

ص: 41

وما يدرك بالوجدان؛ كاللذة والألم.

ــ

ويتميز الوهمى عن الخيالى بأن المادة فى الخيالى مدركة أى أجزاء كل فرد منه، والوهمى ليس مدركا لا هو ولا مادته.

(قلت): التحرير أن يقال: أجزاء الخيالى (قوله: وما يدرك بالوجدان) أى دخل فى العقلى؛ لأنه يدرك بالقوة الباطنة (كاللذة) وهى إدراك الملائم (والألم) وهو إدراك المنافر، وفى إطلاق ذلك نظر. قال فى شرح التجريد: كل من اللذة والألم حسى وعقلى فإنا نلتذ بالمعارف، وهى عقلية لا تعلق لها بالحس، ونلتذ بمطعوم ومشروب ونتألم بفقدهما فعلى هذا لا يصح تعميم أن كل لذة وألم عقلى، ثم سيأتى فى كلام المصنف فى الوجه ما يخالف هذا. وإنما أدخل الوهمى فى العقلى، والخيالى فى الحسى؛ تقليلا لوجوه التشبيه ما أمكن.

واعلم أن الوجه الخيالى عبارة عن كون الجامع لا يكون موجودا فى المشبه به إلا بتأويل، كما صرح به فى الإيضاح وغيره، والكلام فى ذلك يحتاج إلى تحقيق، فنقول:

قدمنا الخلاف فى جواز تشبيه المحسوس بالمعقول، وأن الجمهور على جوازه، فالوجه إن كان خياليا فى المشبه حقيقيا فى المشبه به فلا وجه لمنعه، فإنه يضاهى تشبيه الخيالى بالحسى، أو العقلى، وإن كان خياليا فيهما، فالظاهر أنه كذلك؛ لأنه تشبيه حسى بحسى أو عقلى بعقلى، وإن كان حسيا فى المشبه خياليا فى المشبه به، فقد قدمنا الخلاف فى تشبيه الحسى بالعقلى، وأن المصنف والأكثرين على جوازه. فإن قلنا به فلا بدع فى أن يكون الوجه خياليا فى المشبه به حسيا فى المشبه وإن منعناه وجعلنا ما ورد منه من قلب التشبيه امتنع فإن عليه أن المشبه به لا بد أن يكون أوضح من المشبه والمعنى فيه أتم؛ لأنه كالأصل المستلحق والمشبه كالفرع الملحق.

إذا تقرر هذا، فاعلم أن المصنف يرى جواز تشبيه الحسى بالخيالى، وأنه ليس من القلب فيلزمه أن يجوز كون الوجه خياليا فى المشبه فقط، أو فى المشبه به فقط، أو فيهما فتفسيره الخيالى بأن يكون الوجه بالتأويل فى المشبه به فيه نظر؛ لأنه ينفى بالمفهوم أن يكون خياليا فيهما أو خياليا فى المشبه فقط، ولعله خلاف الإجماع إلا أن يؤول على أنه نص على هذا، ليفهم منه جواز الآخرين من باب الأولى، والذى يظهر - والله أعلم - أن المصنف أراد المشبه به فى اللفظ فيما ذكره من الأمثلة، فإنه يرى أنها من باب قلب التشبيه كما صرح به فى الإيضاح، وكذلك

السكاكى، ويكون مراده

ص: 42

ووجهه: ما يشتركان فيه تحقيقا أو تخييلا؛ والمراد بالتخييل: نحو ما فى قوله [من الخفيف](1):

وكأنّ النّجوم بين دجاها

سنن لاح بينهنّ ابتداع

ــ

بالحقيقة أن يكون الوجه بالتأويل فى المشبه، ثم يقلب التشبيه غير أنه يقع النزاع معه فى أن ذلك من قلب التشبيه على ما سيأتى.

وقول المصنف: (تحقيقيا أو تخييليا) يبعد أن يكونا منصوبين على المفعول من أجله؛ لأنهما لم يشتركا من أجل ذلك، ولا حالا؛ لأن مجئ الحال مصدرا لا ينقاس على الصحيح، ولا تمييزا؛ لأن الاشتراك ليس من تحقيق ولا تخييل، والأظهر أنهما مصدران مؤكدان.

بقى النظر فى أن قولنا: اشتراكا تخييلا هل حقيقته أن يحصل التخييل فى الطرفين، أو يكفى أن يكون التخييل فى أحدهما، وفيه بحث شريف ذكرناه فى شرح المختصر.

ص: (ووجهه ما يشتركان فيه تحقيقا أو تخييلا إلى قوله الشديد الخضرة).

(ش): وجه الاستعارة هو العلاقة، وهو المعنى الجامع بين المستعار له والمستعار منه واشتراكهما فيه تارة يكون تحقيقا كمشاركة زيد الشجاع للأسد فى معنى الشجاعة كذا قالوه، وهو غير صحيح فإن الشجاعة وصف مركب من العقل والجراءة.

قال الإمام فخر الدين فى المباحث المشرقية فى آخر الفصل السابع من الباب السابع:

الشجاعة مركبة من الإقدام والعقل. انتهى. وعلى هذا ليس فى الأسد شجاعة كما اشتهر على الألسنة فإذا شبه الإنسان بالأسد فالوجه إنما هو الإقدام لا الشجاعة، ونحن وإن أطلقنا ذلك فهو تبع للجمهور، وتارة يكون تخييلا، ولو سمى تخيليا لكان أحسن؛ لأن المستعير متخيل لا مخيل لكنه سمى تخييلا باعتبار تخييله لغيره، وما حيث وقعت فى الحدود نكرة موصوفة بمعنى شئ؛ لكنها فى هذا المحل لا تكون بمعنى شئ لأن الشئ الموجود على مذهب أهل السنة فيلزم أن يكون وجه الشبه وجوديا. لكنه قد يكون عدميا كما سيأتى فى تشبيه الموجود الذى لا ينفع بالمعدوم، والوجه عدم الفائدة.

ثم اعلم أن المراد بالوجه ههنا ما هو أعم من الواحد والمتعدد فإنه سيقسمه إليهما، وقد مثل المصنف للخيالى بقول القاضى التنوخى:

وكأنّ النّجوم بين دجاها

سنن لاح بينهنّ ابتداع

(1) البيت للقاضى التنوخى، المصباح ص 110، والإيضاح ص 343، ونهاية الإيجاز ص 190.

ص: 43

فإنّ وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض فى جوانب شئ مظلم أسود، فهى غير موجودة فى المشبّه به إلا على طريق التخييل، وذلك أنه لما كانت البدعة - وكل ما هو جهل - تجعل صاحبها كمن يمشى فى الظلمة، فلا يهتدى للطريق، ولا يأمن أن ينال مكروها شبّهت بها، ولزم بطريق العكس: أن تشبه السنة - وكل ما هو علم - بالنور، وشاع ذلك حتى تخيّل أن الثانى مما له بياض وإشراق؛ نحو:(أتيتكم بالحنيفيّة البيضاء)(1).

ــ

فإن الجامع بينهما الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بيض فى جوانب شئ مظلم، وليس ذلك فى السنن والابتداع إلا على وجه التخييل، هذا معنى عبارة الإيضاح.

(قلت): وتحرير العبارة أنه شبه النجوم بالسنن، والجامع حصول النور، وهو خيالى فى السنن، وشبه الدجى بالابتداع وهو خيالى فى الابتداع، وحصل فى ضمن ذلك تشبيه الهيئة بالهيئة، والتشبيه الصريح إنما هو الأول، والثانى قيد فيه، ثم ذكر المصنف أن كون البدعة تجعل صاحبها فى حكم من يمشى فى الظلمة جعلها مشبهة بالظلمة، ولزم من ذلك تشبيه الهدى بالنور، وأصل ذلك قوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (2) وشاع ذلك حتى وصف الأول بالسواد فى قولهم: شاهدت من جبينه سواد الكفر، والثانى بالبياض كقوله صلى الله عليه وسلم:" أتيتكم بالحنيفية البيضاء"(3) وليس منه:

" الظلم ظلمات يوم القيامة"(4) لجواز أن يترتب على الظلم نفس الظلمة حقيقة قال:

فصار تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع، كتشبيه النجوم فى الظلام ببياض

(1) أخرجه أحمد بنحوه فى المسند 5/ 266 / ولفظه إنى لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكننى بعثت بالحنيفية السمحة وأورد الشيخ الألبانى نحوه فى الصحيحة ح (1782).

(2)

سورة البقرة: 257.

(3)

أخرجه البخارى فى صحيحه معلقا، بلفظ: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة"،" كتاب الإيمان"، (1/ 116) وورد بلفظ آخر عند ابن سعد فى" الطبقات"، وقال الشيخ الألبانى:" وهذا إسناد مرسل لا بأس به فى الشواهد ورجاله ثقات .... " انظر الصحيحة (4/ 386)، تحت حديث (1782).

ولم أجده بهذا اللفظ الذى أورده المصنف.

(4)

أخرجه البخارى فى" المظالم"، باب: الظلم ظلمات يوم القيامة، (5/ 120)، (ح 2447)، ومسلم فى" البر والصلة"، (ح 2579)، من حديث ابن عمر.

ص: 44

والأول على خلاف ذلك؛ كقولك: شاهدت سواد الكفر من جبين فلان؛ فصار تشبيه النجوم بين الدجى بالسنن بين الابتداع، كتشبيهها ببياض الشّيب فى سواد الشباب، أو بالأنوار مؤتلفة بين النبات الشديد الخضرة؛

ــ

الشيب فى سواد الشباب، أو بالأنوار جمع نور بالفتح (بين النبات الشديد الخضرة) ووجهه أنه تخيل ما ليس بمتلون متلونا.

(قلت): يريد أنه صار متخيلا، كما أن اللون تحقق فى بياض الشيب، وكونه جعل التشبيه أولا بين الابتداع والظلمة، وأنه لزم عنه تشبيه الهدى بالنور فيه نظر، والأولى العكس، كما هو نص البيت، فإن الذى دخلت عليه أداة التشبيه هو الأجدر بأن يجعل المقصود وغيره لازم عنه، إلا أن يكون لاحظ فى ذلك تقدم الظلمة فى الخلق على النور، أو لقوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (1) ثم يقال: كيف لزم عن تشبيه البدعة بالظلمة تشبيه الهدى بالنور، ومن شبه أحد الضدين بأمر لا يلزمه تشبيه ضده بضده، وليس كل ما ثبت لأحد الضدين ثبت ضده لضده، ولعله يريد انحدار الذهن من تشبيه البدعة بالظلمة إلى تشبيه السنة بالنور.

وقوله: (فصار تشبيه النجوم إلى آخره) هو الموافق لنظم البيت، ولكنه ليس موافقا لما سبق من قوله: شبهت البدعة بالظلم والهدى بالنور فإن مقتضى ذلك أن يقول: فصار تشبيه الهدى بين الابتداع بالنجوم بين الظلام، ولعل الجمع بين كلاميه وأنه أراد أولا التشبيه الأصلى، ثم أراد هنا التشبيه المقلوب.

بقى هنا أمور منها: أن هذا المثال وغيره من أمثلة التخييل، وما تقدم فى حد التخييل يقتضى أن التخييل كله من باب قلب التشبيه، وكلام السكاكى يصرح به البيت السابق ونظائره، والمصنف صرح به فى الإيضاح فى بعض الأمثلة، وعليه شيئان:

أحدهما: أن هذا يخالف قول المصنف شبه أولا كان كذلك ثم قلب.

الثانى: أنا لا نسلم القلب، فإن قال: لأن الخيالى أضعف من الحسى، فلا يجعل أصلا لزمه منع تشبيه الحسى بالخيالى والعقلى، نعم يحتاج إلى دعوى قلب التشبيه إذا علمنا من سياق كلام الشاعر أنه إنما قصد تشبيه السنن والابتداع بالنجوم والظلام ولا نسلم ذلك، بل سيأتى ما يدل على خلافه - إن شاء الله تعالى - ومنها: أن فى البيت

تقديرين:

(1) سورة البقرة: 257.

ص: 45

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أحدهما: أن النجوم هى التى تلوح بين الدجى، وهو قد جعل الابتداع يلوح بين السنن، فالتشبيه غير تام.

الثانى: أن لاح لا يستعمل إلا فيما له إشراق وظهور، وذلك مناسب لأن تجعل فاعله السنن لا الابتداع.

الثالث: وأورده الزنجانى أن الأشياء البيض فى المشبه به ظرف، والسواد مظروف، وفى المشبه بالعكس فكيف يصح أن يكون المشبه الهيئة الاجتماعية؟ وهو قريب من الأول، ولا يصح الجواب بأن لاح مسند إلى ضمير السنن؛ لأن قوله: بينهن ابتداع صريح فى الظرفية؛ ولأن لاح فيه ضمير المؤنث الغائب فلا يصح تذكيره، وإن كان مجازيا على المشهور. وقوله:(ولا أرض أبقل إبقالها) شاذ ولو جوزناه فنهاية ما يحصل به الجواب عن السؤال الثانى ولا يصح الجواب عن هذا والذى قبله بأنه من باب القلب مثل: عرضت الناقة على الحوض، ويكون التقدير: لاحت بين الابتداع؛ لأن القلب لا ينقاس لغة، وهذا الشاعر ليس ممن يحتج بقوله، وأجيب عنه بأن المراد تشبيه النجوم بالسنن، والدجى بالبدع سواء أكان الدجى ظرفا، أم مظروفا ولا يصح؛ لأن رعاية الظرفية هنا مقصودة. نعم قد خطر فى هذا البيت شئ حسن، لا يخلو عن تكلف لكنه ينحل به الإشكال، ويعلم به أنه ليس من قلب التشبيه وأقدم عليه أن قبل هذا البيت:

ربّ ليل قطعته كصدود

وفراق ما كان فيه وداع

موحش كالثقيل يقذى به العي

ن وتأبى حديثه الأسماع

وكأنّ النجوم بين دجاها

سنن لاح بينهنّ ابتداع (1)

فهذا الرجل يذكر ليلا مضى له مدلهما شديد السواد، استولت ظلمته على نجومه فسترتها، وتخللت وسطها، فلم يبق فيه شئ من النور. ألا ترى قوله:(كصدود وفراق ما كان فيه وداع) أى ليس فيه شئ من النور، فلو أن نجومه باقية لكان فيه مثل الوداع الذى يتعلل به، فلما وصفه بأنه ظلمة فقط ليس فيه شئ من النور، قال:

(1) البيت للقاضى التنوخى، فى المصباح ص 110، ونهاية الإيجاز ص 190.

ص: 46

فعلم فساد جعله فى قول القائل: النّحو فى الكلام كالملح فى الطعام كون القليل مصلحا والكثير مفسدا؛ لأن النحو لا يحتمل القلة والكثرة؛ بخلاف الملح ....

ــ

وكأن النجوم بين دجاه سنن - أى كأن نجومه الكائنة بين الدجى أى التى استولى الدجى عليها وسترها - لاح الابتداع بينها أى بين أجزاء كل نجم من نجومها فصارت السنن ظرفا، والبدعة مظروفا لها ساترا لها كما أن الظلمة سترت النجوم واستولت عليها استيلاء المظروف، وبهذا ظهر أنه ليس من قلب التشبيه؛ لأن المقصود تشبيه ليلته لا تشبيه بدعته، ولا يقدح فى هذا قوله بعد:

مشرقات كأنهنّ حجاج

تقطع الخصم والظّلام انقطاع

لأنه يريد أنهن مع كونهن مشرقات غلبت عليها الظلمة فسترتها، وقد ذكر المصنف فى الإيضاح أمثلة كثيرة للوجه الخيالى لم أر الإطالة بذكرها.

ص: (فعلم فساد جعله فى قول القائل: النحو فى الكلام كالملح فى الطعام كون القليل مصلحا، والكثير مفسدا؛ لأن النحو لا يحتمل القلة والكثرة بخلاف الملح).

(ش): أى لكون وجه الشبه ما يشتركان فيه علم فساد جعل الوجه كون القليل مصلحا والكثير مفسدا فى قولهم: النحو فى الكلام كالملح فى الطعام إذ القلة والكثرة إنما يتصور جريانهما فى الملح؛ لأن قليله ينفع وكثيره يضر بالطعام دون النحو، فإنه إن وجد انتفع به كرفع الفاعل ونصب المفعول، وإن لم يوجد لم يوجد النحو فهذا حينئذ ليس بوجه؛ لعدم الاشتراك، وتقريره على هذا الوجه، يقتضى أن المانع فى المشابهة كون النحو لا يتفاوت بالقلة والكثرة، ولكن يمنع ذلك لأن النحو متفاوت قطعا، وقد يعرف النحوى تراكيب كثيرة لا يعرفها نحوى آخر. ويحتمل أن يراد أن التشبيه فاسد؛ لأن النحو كثيره وقليله يصلح بخلاف الملح ولفساد القلة والكثرة وجها، قيل:

الوجه فى هذا التشبيه كون الاستعمال مصلحا والترك مفسدا، ليكون مشتركا بينهما وإليه ذهب عبد القاهر، وقد تكلف للأول بأن كثرة النحو توجب الإقدام على ما لا يتوهم قليل النحو جوازه من تقديم وتأخير وإضمار، فيبقى كبيت الفرزدق السابق، ولعل هذا المراد من قول السكاكى: وربما أمكن تصحيح هذا، ولكن ليس ما يهمنا الآن. وقيل المراد: أن البيت قد يكون له أعاريب، فحمله على المعنى المراد تقليل للنحو وإصلاح، وحمله على تلك الأعاريب، الكثيرة كثرة مضرة، وقيل: لأن النحو مقصود

ص: 47

وهو إما غير خارج عن حقيقتهما؛ كما فى تشبيه ثوب بآخر فى نوعهما، أو جنسهما أو فصلهما. أو خارج صفة؛

إما حقيقية، وهى إما حسية كالكيفيات الجسمية مما يدرك بالبصر: من الألوان، والأشكال، والمقادير، والحركات، وما يتصل بها، أو بالسمع من الأصوات الضعيفة، والقوية، والتى بين بين، أو بالذّوق من الطعوم، أو بالشمّ من الروائح، أو باللمس من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والخشونة والملاسة، واللّين والصلابة، والخفة والثقل، وما يتصل بها، أو عقلية، كالكيفيات النفسانية: من الذكاء والعلم، والغضب والحلم، وسائر الغرائز. وإما إضافية؛ كإزالة الحجاب فى تشبيه الحجة بالشمس.

ــ

لغيره من العلوم، فكثرة النحو المستغرقة للعمر مفسدة لمنعها من العلوم المقصودة بالذات، وقيل: ليس المراد العلم بل استعمال أحكامه فى الكلام وفى الإيضاح، ومما يتصل بهذا قول القيروانى:

غيرى جنى وأنا المعاقب فيكم

فكأنّنى سبّابة المتدّم

فإنه أخذه من النابغة فى قوله:

لكلفتنى ذنب امرئ وتركته

كذى العر يكوى غيره وهو راتع

وأفسده؛ لأن سبابة المتندم أول ما يتألم منه فلا يكون المعاقب غير الجانى.

(قلت): وقوله: (أول ما يتألم منه) يريد أن سبابة المتندم تتألم وهى جانية، وفيه نظر؛ لأن سبابة المتندم قد لا تكون جانية بأن يكون الندم وقع على فعل قلبى، أو فعل عضو آخر، وإنما اتصال الأعضاء وجعلها كالشئ الواحد سهل ذلك، ثم يقع النزاع مع المصنف فى جعله هذا مما يتصل بما قبله، وليس منه؛ لأن المصنف يدعى فساد التشبيه هنا لعدم الجامع، والذى قبله التشبيه فيه صحيح وإنما بين له وجها لغير ما يتوهم.

ص: (وهو إما غير خارج

إلخ).

(ش): هذا تقسيم ثان لوجه الشبه، وهو أن وجه الشبه إما أن يكون غير خارج عن حقيقتهما أو لا، والأولى أن يقال: حقيقتيهما؛ فإنه ليس لهما حقيقة واحدة، فلا يصح أن يقال: حقيقتهما إلا بتأويل أنه اسم جنس يعمهما بالإضافة، وغير الخارج إما تمام حقيقتهما النوعية كما فى تشبيه ثوب بثوب فى الثوبية وإنسان بإنسان فى

ص: 48

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الإنسانية، ولهذا القسم قال المصنف: غير خارج عن حقيقتيهما، ولم يقل: داخل؛ لأن الكل لا يقال: إنه داخل فى الكل، وإليه أشار بقوله:(فى نوعهما) وأما جزء الحقيقة الذى هو المشترك كتشبيه الفرس بالإنسان، وهو المراد بقوله: أو جنسهما أو جزؤها المميز، كتشبيه زيد بعمرو فى كونه ناطقا، وهذا لم يتعرض له المصنف، وكأنه تركه؛ لأن الاشتراك فى النوع يلزمه الاشتراك فى الفصل، لكنه قد يكون المرعى فى وجه الشبه هو المميز فقط،

وإن كان المتشابهان متحدين بالنوع تقول: زيد كعمرو نطقا، وتقول: إنسانية، وتقول: حيوانية. فإن قلت: كيف يشبه زيد بعمرو فى الإنسانية، والتشبيه إنما هو الدلالة على مشاركة أمر لآخر، والإخبار عن إنسان بأنه مشارك لآخر فى الإنسانية لا فائدة فيه، وأيضا فوجه الشبه من شأنه أن يكون فى المشبه به أتم منه فى المشبه، والإنسانية ونحوها يستحيل فيها التفاوت؛ لأن أشخاص النوع الواحد لا تفاوت فيها، لا يقال: يصح أن يقال: إنسانية زيد أكثر من إنسانية عمرو؛ لأن المعنى بذلك ما يتفاوت فيه من الصفات الخارجية، وليس الكلام إلا فى وجه غير خارج عن الحقيقة.

قلت: لعل المراد أن يكون المشبه مجهول الإنسانية للسامع فيقول: هذا كزيد فى الإنسانية - أى هو إنسان، وإذا اتضح لك الجواب فى هذا فهو بالنسبة إلى المشابهة فى الجنس، أو الفصل أوضح. على أن السكاكى لم يصرح بذلك، إنما قال ما نصه: لما انحصر التشبيه بين أن يكون الاشتراك بالحقيقة، والافتراق بالصفة مثل جسمين أبيض وأسود، وبين أن يكون الاشتراك بالصفة والافتراق بالحقيقة، مثل طولين جسم وخط، والوصف بين أن يكون حسيا وغيره ظهر أن وجه التشبيه يحتمل التفاوت. اهـ ملخصا.

وهذه العبارة وإن كان ظاهرها أن ما به الاتفاق بالحقيقة يكون وجه التشبيه، فهى غير صريحة؛ لاحتمال أن يريد أن من شأن طرفى التشبيه أن يتفقا بالحقيقة ويختلفا بالصفة، لا أن الاتفاق بالحقيقة يكون هو وجه الشبه. ومن تأمل كلامه، وتقسيمه الوصف بعد ذلك جوز هذا الاحتمال فليراجع. ومما يوضح أنه لا يصح تشبيه شخص بشخص فى النوعية أن عبد اللطيف البغدادى قال فى قوانين البلاغة: تشبيه نوع بنوع ونوع بجنس وجنس بنوع، ولا يشبه شخص بشخص من جهة ما هما تحت نوع واحد قريب يعمهما، بل من جهة حالة يشتركان فيها هى فى أحدهما أبين اه.

ص: 49

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وهو صريح فيما قلناه غير أنه قد يرد عليه أنه إذا امتنع تشبيه الشخص بالشخص فى النوعية. امتنع تشبيه النوع بالنوع فى الجنسية فكيف يقول: تشبيه نوع بنوع؟ وقد يجاب: بأن مراده أنه يشبه به بجامع غير النوعية، وأما تشبيه النوع بالجنس فقد يستشكل؛ لأن النوع مشتمل على الجنس، فكيف يشبه الكل بجزئه؟ وقد يجاب بأنه قد يشبه الكل بالجزء؛ لعدم الاعتداد بالجزء الزائد، فتقول: الحيوان الناهق كالحيوان - أى قيد النهيق فيه كالعدم. لا يقال: فقد شبهته بحيوان غير ناهق، وهو تشبيه نوع بنوع؛ لأنا نقول: بل هو مشبه بالحيوان لا بقيد النهيق، ولا عدمه، وكذلك تشبيه الجنس بالنوع فتشبيه الحيوان المطلق بالإنسان باعتبار أن الحيوانية لشرفها كأنها مقيدة

بالنطق.

وإما أن يكون خارجا عن حقيقتهما وهو صفة فهى إما حقيقية، أو إضافية.

فالحقيقية إما حسية وهى الكيفيات الجسمية المدركة بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات ونحوها، ومما يتصل بها من حسن وقبح، أو بالسمع من الأصوات الضعيفة والقوية، والتى بين بين أى بين القوة والضعف، أو بالذوق من الطعوم، أو بالشم من الروائح، أو باللمس من الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة، والخشونة، والملاسة، واللين، والصلابة، والخفة، والثقل، وما يتصل بالمذكور من حسن وقبح وتوسط فيهما، وصفات تشبهها. والضمير فى قوله: بها فى الأول والثانى للأمثلة لا للكيفيات، وإلا لزم التكرار أو يريد غير ذلك من الكيفيات الجسمية؛ لأنها لا تنحصر فيما ذكره، أو تكون عقلية كالكيفيات النفسية من الذكاء والعلم والغضب والحلم وسائر الغرائز، والإضافية كإزالة الحجاب فى تشبيه الحجة بالشمس فإنها إضافية لا تتعقل إلا بالإضافة إلى ما يزال بها، ومن الإضافى اعتبار الشئ فى محل دون محل ككون الكلام مقبولا عند شخص متروكا عند آخر.

(تنبيه): نشير فيه إلى شئ من معانى هذه الألفاظ السابقة على اصطلاح القوم.

الجنس: كلى مقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة فى جواب ما هو، والنوع: كلى مقول على واحد أو كثيرين متفقين بالحقيقة فى جواب ما هو، والصفة الحقيقية: ما لها تقرر فى ذات الموصوف، والصفة الإضافية: ما ليس لها تقرر فى ذات الموصوف، واعتبرها العقل فى شئ بالنسبة لغيره، والحسية: ما كانت مدركة بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، والأشكال: جمع شكل وهى هيئة تعرض للشئ بواسطة إحاطة حد

ص: 50

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

واحد كالكرة، أو حدود كالمثلث والمربع، والمقادير: جمع مقدار، وهو الكم المتصل كالخط والسطح والجسم التعليمى.

والحركة: هى عند المتكلمين حصول الجوهر فى حيز بعد أن كان فى حيز آخر.

وعند الحكماء: الخروج من القوة إلى الفعل على التدريج.

والرطوبة: كيفية يكون الجسم بسببها سهل الاتصال والانفصال؛ واليبوسة: كيفية يكون الجسم بسببها غير متساوى الأجزاء فى الوضع والملاسة استواء الأجزاء فى الوضع.

واللين: كيفية يكون الجسم بسببها ضعيف المعاوقة لملاقيه.

والصلابة: كيفية يكون الجسم بها قوى المعاوقة لملاقيه.

والخفة: هى المعاونة التى تحس فى الجسم عند قصد حركته إلى فوق.

والثقل: المعاونة التى تحس فى الجسم عند قصد حركته إلى أسفل.

والذكاء: كيفية نفسانية يتنبه الإنسان بها على الإدراك بسرعة.

والعلم: حصول صورة الشئ فى الذهن وإن أردت التصديق فهو اعتقاد جازم مطابق لموجب.

والحلم: كيفية نفسانية تقتضى العفو عن الذنب مع القدرة.

والغضب: كيفية نفسانية تقتضى إرادة الانتقام. وقيل: تغير يحصل عند غليان دم القلب لقصد الانتقام.

والغرائز: جمع غريزة وهى صفة طبيعية خلقت النفس عليها بخلاف الأخلاق، فإنها: ملكة نفسانية حصلت بحسب العادة، والشيرازى قال: الذكاء حدة القلب، والغضب: تغير يحصل عند غليان دم القلب لإرادة الانتقام، وقيل: الخفة: قوة يحصل من محلها بواسطتها مدافعة صاعدة، والثقل: قوة يحصل من محلها بواسطة مدافعة هابطة، وفى هذه الحدود مناقشات ومباحث ليس هذا العلم محلها.

واعلم أن اللين والصلابة قال فى شرح التجريد: إنهما من الكيفيات الاستعدادية فاللين يكون الجسم به مستعدا للانغماز، ويكون له به قوام غير سيال فينتقل من موضعه، ولا يمتد كثيرا ولا يتفرق بسهولة، وإنما قبول الغمز من الرطوبة وتماسكه من اليبوسة، والصلابة كيفية تقتضى مقابل ذلك، ولما كان استعداد الجسم للانغماز من الرطوبة، وتماسكه إلى حد الصلابة من اليبوسة، والرطوبة واليبوسة من الملموسات عد اللين والصلابة منها.

ص: 51

وأيضا (1): إما واحد، أو بمنزلة الواحد؛ لكونه مركّبا من متعدد، وكلّ منهما حسى، أو عقلى، وإما متعدد كذلك، أو مختلف:

والحسى طرفاه حسيان لا غير؛ لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسى شئ.

والعقلى أعم؛ لجواز أن يدرك بالعقل من الحسى شئ؛ ولذلك يقال: التشبيه بالوجه العقلى أعم.

فإن قيل: هو مشترك فيه؛ فهو كلىّ، والحسى ليس بكلىّ خ خ:

قلنا: المراد أنّ أفراده مدركة بالحسّ.

ــ

ص: (وأيضا إما واحد إلى قوله مدركة بالحس).

(ش): هذا تقسيم ثالث لوجه الشبه فهو إما أن يكون واحدا، أو بمنزلة الواحد لكونه مركبا من متعدد، وكل منهما أى من الواحد ومن المركب الذى هو بمنزلة الواحد حسى، أو عقلى، وإما متعدد كذلك، أى حسى، أو عقلى، أو مختلف

بأن يكون مركبا من حسى وعقلى، واقتضى كلامه أن الاختلاف لا يأتى فى القسمين السابقين، وأورد عليه الخطيبى أنه قد يأتى فى الثانى باعتبار الأجزاء لا بطرفها. فالنظر إلى المركب إنما هو للهيئة الاجتماعية، وهى إما حسية فقط، أو عقلية فقط، والحسى لا يكون طرفاه إلا حسيين لاستحالة أن يدرك بالحس شئ من غير الحسى، والعقلى طرفاه: إما عقليان، أو حسيان، أو مختلفان. فالعقلى أعم. فمتى كان واحد من الطرفين عقليا، كان الوجه عقليا، لجواز أن يدرك بالعقل شئ من الحسى. ولذلك يقال: التشبيه بالوجه العقلى أعم منه بالوجه الحسى، وإنما قلنا لجواز ولم نقل لوجوب؛ لأن الحسى قد يدرك حيث لا عقل كإدراك الحيوان. معنى ذلك أن من شبه بوجه حسى، فقد شبه بوجه عقلى، لا لأن كل وجه حسى عقلى، بل لأن من ضرورة التشبيه أن يكون ذلك الحسى قد علم وتعقل، وإن كان الجامع فى نفسه قد يكون حسيا لا عقليا كإدراك الحيوانات غير الإنسان فقول المصنف:(العقلى أعم) فيه نظر إلا باعتبار الصدق فى الواقع على ما ذكرناه (قوله: فإن قيل) إشارة إلى سؤال ذكره فى المفتاح، فقال: وهاهنا نكتة لا بد من التنبيه عليها، وهو أن التحقيق فى وجه الشبه يأبى أن يكون غير عقلى، وذكر ما أشرنا إليه فيما سبق، من أن المحسوس

(1) أى وجه التشبيه.

ص: 52

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

متشخص فلا بد أن يكون جزئيا، ووجه الشبه لا بد أن يكون أمرا يشترك الطرفان فيه، فلو كان حسيا والحسى موجود متعين، فى محل لزم أن يكون لكل من الطرفين صفة يختص بها فلا اشتراك حينئذ؛ لاستحالة وجود شئ واحد فى محلين فلا يوجد فى الطرف الآخر إلا مثله، والمثلان ليسا شيئا واحدا، ووجه الشبه لا بد أن يكون واحدا، يحصل الاشتراك فيه كليا مأخوذا من المثلين بتجردهما عن التعيين.

ثم قال: يمتنع أن يقال: وجه الشبه حصول المثلين فى الطرفين؛ لأن المثلين متشابهان، ولا بد للتشابه من وجه فإن كان عقليا صح ما قلناه، وإن كان حسيا لزم أن يكون منقسما فيهما، فيستدعى أن يكون من المثلين مثلان آخران، ويتسلسل وهو محال، وفيه نظر؛ لأن الكلى وإن وجد فى الخارج فليس حسيا.

وقال المصنف فى الإيضاح: المراد بكونه حسيا أن تكون أفراده مدركة بالحس، وهذا فى الحقيقة تسليم لكلام السكاكى، واعتراف بأن وجه الشبه عقلى، غير أنه يسمى حسيا، ثم يرد عليه أن هذا فى الاصطلاح لا يسمى حسيا، ألا ترى ما تقدم من المصنف فى الخيالى، وأنه ملحق بالحسى لا حسى، وإن كانت أفراده مدركة بالحس

فالسكاكى يقول: كما سلبتم اسم الحسى عن الخيالى، وإنما ألحقتموه به، فعليكم أن تسلبوا اسم الحسى عن الوجه أبدا وتصرحوا بإرادة ذلك منه، وقد أورد على قولهم أن وجه الشبه لا بد أن يكون واحدا كليا موجودا فيهما أنه يستلزم حصول العرض الواحد فى وقت واحد بمحلين، وأجيب بأنا لا نعتبر مع وجه الشبه تعينا وتشخصا، بل نأخذه مجردا، واعترض بأنه إذا أخذ مجردا امتنع أن يكون موجودا فيهما؛ إذ الوجود فيهما، يلزمه تعينه فى كل منهما، فالموجود فيهما غير كلى، فليس وجه الشبه، ووجه الشبه غير موجود فيهما فليس وجها. وأجيب بأن التعيين غير مانع من فرض العقل إياه مشتركا بين كثيرين، بمعنى أنه يتمكن من مطابقته لما يشتمل عليه كل واحد منهما، وأورد على السكاكى أن هذا تسلسل اعتبارى فلا إحالة فيه، وأنا أقول: أصل الاعتراض الذى أورده السكاكى على نفسه وأجاب عنه فاسد الوضع؛ لأن القول بأن وجه الشبه حصول المثلين؛ يقضى بأنه عقلى؛ لأن حصول المثلين أيضا عقلى لا حسى فإن عنى به أن الوجه لا يشترط أن يكون واحدا مشتركا بينهما، فلا حاجة إلى العدول عن الحسى.

ص: 53

فالواحد الحسىّ: كالحمرة، والخفاء، وطيب الرائحة، ولذّة الطّعم، ولين الملمس فيما مرّ.

والعقلىّ: كالعراء عن الفائدة، والجرأة، والهداية، واستطابة النفس فى تشبيه وجود الشئ العديم النفع بعدمه، والرجل الشجاع بالأسد، والعلم بالنور، والعطر بخلق كريم.

ــ

واعلم أن أقسام وجه الشبه على ما ذكره المصنف سبعة: واحد حسى، وواحد عقلى، ومركب حسى، ومركب عقلى، ومتعدد حسى، ومتعدد عقلى، ومتعدد مختلف - أى بعضه حسى وبعضه عقلى، ولك أن تقول: المتعدد وجهان لا وجه واحد مختلف، فهذا التقسيم ليس بصحيح، ولا يخفى أن الخيالى أهمل فى هذا الباب؛ لدخوله فى الحسى؛ والوهمى والوجدانى أهملا؛ لدخولهما فى العقلى على ما سبق، والسكاكى قسم المركب إلى ما هو حقيقة ملتئمة، وإلى ما هو أوصاف قصد من مجموعها هيئة واحدة وسيأتى مثالهما.

واعلم أن المراد بالتركيب تركيب الأجزاء غير المحمولة، وليس المراد به ما يحصل فى الأنواع من تركيب الفصول على الأجناس. فإن الحسى كالحمرة ونحوها مركبة ثم أخذ المصنف فى أمثلة ذلك فقال:

ص: (الواحد الحسى إلى قوله: والمركب).

(ش): مثال القسم الأول، وهو الوجه الواحد الحسى: الحمرة فى تشبيه الخد بالورد، والخفاء فى تشبيه الصوت الضعيف بالهمس، وطيب الرائحة فى تشبيه النكهة بالعنبر، وقد تقدم ما يرد عليه، ولذة الطعم فى تشبيه الريق بالخمر، كذا قال المصنف تبعا للسكاكى، وهو مخالف لما قاله المصنف فيما سبق من أن اللذة وجدانى عقلى لا

حسى، وموافق لاعتراضنا عليه، وقد تقدم ما يرد عليه أيضا، ولين الملمس فى تشبيه الخد الناعم بالحرير، وهذه أمثلة للواحد الحسى الذى طرفاه معقولان.

وأما الواحد العقلى الذى طرفاه معقولان، فالعراء عن الفائدة فى تشبيه وجود الشئ العديم النفع بعدمه، وجهة الإدراك فى تشبيه العلم بالحياة. فإن قلت: الإدراك هو العلم، فكيف يكون جهة مشتركة بين العلم والحياة؟ قلت: المقصود هنا بالعلم هو الصفة الموجبة للتمييز الذى لا يحتمل النقيض، وأما العقلى الذى طرفاه محسوسان فكالجراءة فى تشبيه الرجل الشجاع بالأسد، ومطلق الاهتداء فى تشبيه أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم

ص: 54

والمركّب الحسى فيما طرفاه مفردان:

ــ

بالنجوم (1). هذه عبارة الإيضاح، والأحسن أن يقال فى الهداية، لأن الهداية وصف دائر بينهما يشتركان فيه، والاهتداء وصف قائم بالمهتدى بهما، والعقلى الذى المشبه فيه معقول، والمشبه به محسوس كمطلق الهداية فى تشبيه العقل بالنور، وإنما قلنا مطلق الهداية فى الأول؛ لأن هداية النجوم وهداية الصحابة - رضوان الله عليهم - مختلفا النوع، لدلالة الأول على الحسيات، والثانى على العقليات، والعقلى الذى المشبه فيه معقول، والمشبه به محسوس ما يحصل من الزيادة والنقصان فى تشبيه العدل بالقسطاس، والعقلى الذى المشبه فيه محسوس والمشبه به معقول كاستطابة النفس فى تشبيه العطر بخلق كريم، كذا قالوه. وهو مخالف لما سبق من المصنف من أن اللذة أمر وجدانى لا حسى، ومخالف للتفصيل الذى قدمناه فيها، فإنه يقضى بأن اللذة بالخلق عقلى؛ فإن الاستطابة استلذاذ فهذا كلام مخالف لما تقدم قريبا، ولما سبق قبله، وكل من الثلاثة لا يجتمع مع الآخر، وعدم الخفاء فى تشبيه النجوم بالسنن، قال فى المفتاح: وفى أكثر هذه الأمثلة فى معنى وحدتها تسامح، يريد أن فى أكثرها نوع تركيب إضافى، كخفاء الصوت، ولذة الطعم، واستطابة النفس، واعترض عليه فى قوله:(فى معنى وحدتها) بأن التسامح فى معنى وحدة وجه الشبه، لا فى الأمثلة.

قلت: وجوابه أن هذه الأمثلة المذكورة هى وجوه الشبه، فوحدتها وحدته.

ص: (والمركب الحسى).

(ش): لما فرغ من وجه الشبه إذا كان واحدا شرع فى القسم الثالث، وهو ما إذا كان مركبا فى حكم الواحد، وقد قسمه إلى أقسام، وكان ينبغى أن يقسم ما قبله أيضا إليها:

أحدها: أن يكون طرفاه مفردين، وعند التحقيق الإدراك واحد ليس مركبا، وإنما هذه الأجزاء التى يظن أنه تركب منها أطرافه التى نشأت عنها الهيئة المدركة، وهى شئ واحد، ومثله المصنف بالهيئة الحاصلة من تقارن الصور

البيض المستديرة الصغار المقادير فى المرأى على كيفية مخصوصة إلى أى مع، أو بمعنى المنتهية إلى مقدار مخصوص فى قوله:

(1) يشير إلى الحديث الضعيف، الذى رواه عبد بن حميد فى مسنده من طريق حمزة النصيبى عن نافع عن ابن عمر، وحمزة ضعيف جدّا، ولفظه:" أصحابى كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" انظر كلام الحافظ ابن حجر فى" التلخيص"، (4/ 190).

ص: 55

كما فى قوله (1)[من الطويل]:

وقد لاح فى الصّبح الثّريّا كما ترى

كعنقود ملّاحيّة حين نوّرا

من الهيئة الحاصلة من تقارن الصور البيض المستديرة الصغار المقادير فى المرأى، على الكيفية المخصوصة، إلى المقدار المخصوص.

ــ

وقد لاح فى الصّبح الثّريّا كما ترى

كعنقود ملاحية حين نوّرا

وطرفا التشبيه هما الهيئة الحاصلة لكل منهما ووجهه هيئة ثالثة فهنا ثلاث هيئات، والتركيب هنا من سبعة أشياء، صور متقارنة بيض مستديرة صغار بكيفية مخصوصة بمقدار مخصوص.

وقول المصنف: كما فى خبر قوله: والمركب الحسى، وقوله: من الهيئة الحاصلة، يتعلق بقوله كما على وجه التبيين، وقوله: من تقارن الصور من فيه ابتدائية، وقوله:

فى المرأى على الكيفية المخصوصة، يتعلق بالتقارن. وكذلك قوله: إلى المقدار المخصوص إلا أن يتعلق بمحذوف تقديره المنتهية، والصور البيض المستديرة الصغار المقادير هى الثريا، والحبات والكيفية المخصوصة تقارن أجزاء كل منها، والمقدار المخصوص هو قدر العنقود، وقدر الثريا، وهذا البيت أنشده الدينورى.

ولاح الثّريّا عند آخر ليلة.

ونسبه إلى أحيحة بن الجلاح، وأنشده المرزبانى لقيس بن الأسلت ويروى:

وقد لاح فى الغور الثّريّا لمن يرى

وقوله: ملاحية الملاحية بالتخفيف عنب طويل أبيض، وشدده وهو ضعيف، ومثل فى الإيضاح للهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكرى والمقدار المخصوص بقول ذى الرمة:

وسقط كعين الدّيك عاورت صاحبى

أباها وهيّأنا لموقعها وكرا

فالوجه هو الهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكرى والمقدار المخصوص، وهذا مثال لأحد قسمى المركب، وهو ما كان حقيقة ملتئمة فى الخارج، كما صرحوا به.

(1) البيت لأبى قيس بن الأسلت أورده محمد بن على الجرجانى فى الإشارات ص 180. والملاحية: عنب أبيض. ونور: تفتح.

ص: 56

وفيما طرفاه مركّبان؛ كما فى قول بشّار [من الطويل]:

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

من الهيئة الحاصلة من هوىّ أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرّقة، فى جوانب شئ مظلم.

ــ

(قلت): ولقائل أن يقول: ليس الوجه هنا هيئة حاصلة كما ذكر، بل هذه أوجه متعددة كل مستقل، والسقط ما سقط من النار عند القدح، وعاورت - أى جاذبت، وأبوها زندها - أى عالجنا الزند حتى ورى، واستدل الفراء بهذا البيت على أن سقط النار يذكر ويؤنث.

ص: (وفيما طرفاه مركبان كما فى قول بشار).

(ش): أى: والوجه المركب فيما طرفاه مركبان، والظاهر أنه يريد القسم الثانى من المركب، وهو ما كان أوصافا، يجتمع منها هيئة فى الذهن، كما فى قول بشار بن برد:

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (1)

قال عبد اللطيف البغدادى: قال بشار: مذ سمعت.

كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا

لم يقر لى قرار، حتى قلت هذا البيت، وذكر ابن جنى فى مجموعه عنه نحوه.

وأنشد ابن جنى فى مجموعه فوق رءوسهم وأسيافنا، وكذلك أنشده الخفاجى فى سر الفصاحة، وابن رشيق فى العمدة، وهو أحسن من جهة المعنى، بل متعين؛ لأن السيوف ساقطة على رءوسهم فلا بد أن يكون النقع على رءوسهم، ليحصل التشبيه.

وقوله: (من الهيئة) بيان لما - أى كالذى فى قوله: من الهيئة الحاصلة من هوى أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرقة فى جوانب شئ مظلم، مركب من سبعة:

هوى، وأجرام، ومشرقة، ومستطيلة، ومتناسبة، ومتفرقة، وفى ظلمة، والنقع التراب فجعل هيئة التراب الأسود، والسيوف البيض فيه كالكواكب فى الظلمة.

(1) البيت لبشار بن برد، فى ديوانه 1/ 318، والمصباح ص 106، ويروى (رءوسهم) بدل (رءوسنا)، تهاوى: تتساقط، خفف بحذف إحدى التاءين.

ص: 57

وفيما طرفاه مختلفان؛ كما مرّ فى تشبيه الشقيق (1).

ــ

وقوله: (تهاوى) أى تتهاوى فإن قلت: هلا قال: تهاوت، أو جعلت تهاوى ماضيا، ويصح إسقاط التاء حينئذ لا سيما والكواكب مضافة لمذكر؟ (قلت): لأنه لا يؤذن بانقضاء هويها فيفسد مقصوده؛ بل المعنى ليل كواكبه متهاوية، والليل الذى تهاوت كواكبه مظلم فقط ليس فيه شبه السيوف، وسيأتى الكلام على هذا البيت، وعلى تحقيق تشبيه المركب بالمركب فى موضعه إن شاء الله.

ص: (وفيما طرفاه مختلفان كما مر فى تشبيه الشقيق).

(ش): هذا القسم الثالث من أقسام الجامع المركب الحسى أن يكون طرفاه مختلفين، وهو قسمان:

أحدهما: أن يكون المشبه مفردا والمشبه به مركبا، قال: كما مر فى تشبيه الشقيق، يشير إلى قوله:

وكأن محمر الشّقي

ق إذا تصوّب أو تصعّد

أعلام ياقوت نشر

ن على رماح من زبرجد

فإن الشقيق مفرد، والمشبه به الهيئة الحاصلة المذكورة، ووجه الشبه مركب، وهو الهيئة الحاصلة من أجسام خضر مستطيلة، وعلى رءوسها أجرام مبسوطة.

(قلت): وفيه نظر: فإن المشبه الشقيق، والمشبه به أعلام ياقوت فقط، والجامع هو الحمرة المستعلية على الخضرة المستطيلة، ويكون قوله:(نشرن إلخ) مقيدا للمشبه به ومبينا؛ لأن مع المشبه قيدا لم ينطق به، وقد تقدم هذا، ولا أمنع أن يسمى الأعلام هنا مركبا بالمعنى السابق، وهو تركيبها مع الصفة بعدها. ثم إنى أقول: أى فرق بين تشبيه محمر الشقيق بأعلام الياقوت، وبين تشبيه أجرام النجوم بالدرر المنثورة، وقد جعلت الأول تشبيه مفرد بمركب، والثانى مركب بمركب كما سبق، ولوامع ليس قيدا حصل به تركيب فى التشبيه؛ بل هو إطناب مع أن زرقة السماء ليس لها ذكر فى أجرام النجوم، وخضرة أغصان الشقيق ليس لها ذكر. ويمكن الجواب بأن الشقيق اسم للورق والسواعد معا، فهو مفرد بخلاف أجرام النجوم، فإنها لا تصدق على الليل، فاحتجنا إلى تقدير، وكأن أجرام النجوم مع الليل.

(1) وكتشبيه نهار مشمس قد شابه زهر الربا بليل القمر.

ص: 58

ومن بديع المركّب الحسىّ: ما يجئ من الهيئات التى تقع عليها الحركة، ويكون على وجهين:

أحدهما: أن يقرن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم؛ كالشّكل واللون؛ كما فى قوله (1)[من الرجز]:

والشّمس كالمرآة فى كفّ الأشل.

من الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتّصلة مع تمّوج الإشراق، حتى يرى الشعاع كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة، ثم يبدو له، فيرجع إلى الانقباض.

ــ

(تنبيه): الاختلاف أعم من أن يكون المشبه هو المفرد كما سبق، أو يكون المشبه هو المركب، وسيأتى تمثيله بقول المتنبى:

يا صاحبىّ تقصّيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصوّر

تريا نهارا مشمسا قد شابه

زهر الرّبا فكأنّما هو مقمر

ص: (ومن بديع إلخ).

(ش): من بديع المركب الحسى ما يجئ فى الهيئات التى تقع عليها الحركة، ويكون على وجهين:

أحدهما: أن يقرن بالحركة غيرها - أى يكون الجامع هى وغيرها من أوصاف الجسم؛ لتكون محسوسة كالشكل واللون، كما فى قول أبى النجم، أو ابن المعتز:

والشمس كالمرآة فى كفّ الأشل

فإن الجامع هو الهيئة الحاصلة من الاستدارة فى المرآة، والشمس، وإشراقهما، وحركتهما السريعة المتصلة مع تموج إشراقهما، حتى يرى الشعاع كأنه يهم أن ينبسط، حتى يفيض من جوانب الدائرة، ثم بعد أن يهم بذلك، يبدو له فيرجع إلى الانقباض، وقد أطبق الناس على استحسان هذا التشبيه، إلا أن بعضهم اعترض عليه بأن الشلل فساد اليد فتمتنع عن الحركة، أو تتحرك بحركة غير متناسبة، وكلاهما لا يحصل به التشبيه، إنما كان يحصل بالارتعاش بأن يقول:

(1) من أرجوزة لجبار بن جزء بن ضرار ابن أخى الشماخ؛ وبعده:

لمّا رأيتها بدت فوق الجبل

أورده وهو فى الإشارات للجرجانى ص 180 والأسرار ص 207.

ص: 59

والثانى: أن تجرّد الحركة عن غيرها؛ فهناك - أيضا - لا بد من اختلاط حركات إلى جهات مختلفة الحركة له؛ فحركة الرحى والسهم لا تركيب فيها، بخلاف حركة المصحف فى قوله [من المديد]:

وكأنّ البرق مصحف قار

فانطباقا مرّة وانفتاحا (1)

ــ

والشمس مرآة بكفّ المرتعش

ثم قد يعترض بأن يقال: هذا تشبيه بأوجه متعددة، لا بوجه مركب، فإن كل واحد من هذه الأمور مستقل بنفسه، يمكن أن يجعل وجها، وقد يرد على هذا ما ورد على الذى قبله من أن يقال: هذه أوجه متعددة، لا وجه مركب، ومن هذا قول الوزير المهلبى:

والشمس من مشرقها قد بدت

مشرقة، ليس لها حاجب

كأنّها بوتقة أحميت

يجول فيها ذهب ذائب

فإن البوتقة إذا أحميت وذاب فيها الذهب استدارت، وتحركت بتلك الحركة السريعة العجيبة، والوجه الثانى: أن تجرد الحركة عن غيرها فتكون هى الوجه، فلا بد من اختلاط حركات إلى جهات؛ لأن الكلام فى الوجه المركب فعلم أن حركة الرحى والسهم، لا تركيب فيهما فلا بد من شئ يمكن تحرك بعضه إلى جهة اليمين، وبعضه إلى جهة اليسار، مثلا كحركة المصحف، فى قول ابن المعتز:

وكأنّ البرق مصحف قار

فانطباقا مرّة، وانفتاحا

لأنّه يتحرك فى الحالتين إلى جهتين، فى كل حالة إلى جهة، كذا قال المصنف.

والأحسن أن يقال: فى كل حالة إلى جهتين، ففى حالة الانفتاح يتحرك اليمين إلى اليمين، واليسار إلى اليسار، وفى حالة الانطباق يتحرك اليمين إلى اليسار وعكسه فشبه اختلاف (2) تعدد حركاته، باختلاف حركة البرق فتارة يظهر، وتارة يخفى بخلاف حركة الرحى مثلا فإنها لا تتغير عن جهة واحدة.

(1) البيت لابن المعتز.

(2)

قوله: فشبه اختلاف إلخ كذا فى الأصل ولعل فى العبارة قلبا إذ المشبه فى البيت البرق والمشبه به المصحف. كتبه مصححه.

ص: 60

وقد يقع التركيب فى هيئة السكون؛ كما فى قوله (1) فى صفة كلب [من الرجز]:

يقعى جلوس البدوىّ المصطلى

من الهيئة الحاصلة من موقع كلّ عضو منه فى إقعائه.

ــ

وقوله: قار أصله: قارئ بالهمزة، وإنما خففه ولم يصحح الياء؛ لأنه جعل الأصل نسيا منسيا بجعله كقاض. وقوله:(انطباقا) منصوب بفعل - أى فينطبق انطباقا وكذا انفتاحا - أى وانفتاحا مرة، وقيل: المراد: انفتاح السحاب عن البرق، وانطباقه عليه، وهو حسن، إلا أنه يلزم أن يكون المشبه بالمصحف هو السحاب، لا البرق.

(قلت): ولك أن تقول: الوجه هنا واحد، وهو اختلاف الحركة لا مجموع الحركات المتعددات، ومن ذلك أيضا قوله:

فكأنّها والريح جاء يميلها

تبغى التّعانق ثم يمنعها الخجل

قال المصنف: ومن السهل الممتنع قول امرئ القيس:

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل

يريد أن هذا الفرس لسرعة انحرافه يرى كفله فى الحال التى يرى فيها رأسه، فهو كصخر دفعه السيل من مكان عال، فهو يطلب جهة السفل، فكيف إذا أعانته قوة دفع السيل من عل؟ فهو بسرعة تقلبه، يرى أحد وجهيه حيث يرى الآخر. وقولنا: دفعه السيل، هى عبارة المصنف، والأحسن حطه كما فى البيت؛ لأن الدفع قد ينقطع، فلا يحصل معه الحط.

ص: (وقد يقع التركيب فى هيئة السكون إلخ).

(ش): يعنى أن الوجه قد يكون حسيا مركبا فى هيئة السكون، لا من الحركة ومنه قول أبى الطيب فى صفة الكلب:

يقعى جلوس البدوىّ المصطلى

ولطف ذلك؛ لأن لكل عضو من الكلب فى إقعائه موقعا خاصا، ولمجموع ذلك صورة خاصة مؤلفة من تلك المواقع، وقوله:(جلوس) منصوب على المصدر من يقعى، وإن كان بغير فعله، أو لفعل محذوف تقديره: يجلس، وخص البدوى بالذكر؛ لغلبة ذلك منه.

(1) البيت للمتنبى، وبعده: بأربع مجدولة لم تجدل.

ص: 61

والعقلىّ: كحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمّل التعب فى استصحابه، فى قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (1)

ــ

بقى أن يقال: كون الإقعاء هيئة سكون فيه نظر؛ لأن الجلوس حركة، لأن الحركة السكون فى حيز بعد السكون فى غيره، والجلوس كذلك نعم دوامه سكون، ومنه قوله فى صفة مصلوب:

كأنّه عاشق قد مد صفحته

يوم الوداع إلى توديع مرتحل

أو قائم من نعاس فيه لوثته

مواصل لتمطّيه من الكسل

ص: (والعقلى كالمنظر المطمع إلخ).

(ش): هذا هو القسم الثانى من القسم الثانى، وهو الوجه المركب الذى بمنزلة الواحد، وهو عقلى. ومثله المصنف بقوله: كالمنظر المطمع مع المخبر المؤيس على خلاف المقدر فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ (2) فإنه شبه عمل الكافر الذى يحسبه ينفعه فى الآخرة، ثم يخيب أمله، بشراب يراه الكافر، وقد غلبه العطش يوم القيامة، فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده، ويجد زبانية ربه يذهبون به إلى النار.

فالوجه هنا منتزع من أمور مجموع بعضها لبعض؛ لأنه روعى من الكافر توهمه نفع العمل، وأن يكون للعمل صورة مخصوصة، وهى صورة الصلاح وأنه لا يفيد فى العاقبة شيئا، ويلقون فيها عكس ما أملوه. وكذا فى المشبه فالجامع كون الشئ على صفة يتوهم نفعه، وهو فى الباطن غير نافع بل ضار، وهو وجه عقلى أحد طرفيه وهو السراب عقلى وهمى، والآخر وهو الأعمال منقسمة إلى حسى كالصلاة والصدقة، وعقلى كالاعتقاد، وكل ما كان فى أطرافه حسى وعقلى كان وجهه عقليا، كما سبق.

وقوله: (الجامع المنظر المطمع مع المخبر المؤيس) يريد الهيئة الحاصلة من المنظر والمخبر، لا نفس المخبر والمنظر، فإن المنظر إن أريد به المفعول، فهو حسى أو المصدر فقد ينازع فى كونه عقليا؛ لأنه توجيه الحدقة نحو المنظور، وهو يشاهد بالحاسة وقد مثل هذا النوع بقوله صلى الله عليه وسلم:" إياكم وخضراء الدمن" يريد: المرأة الحسناء فى المنبت

(1) سورة الجمعة: 5.

(2)

سورة النور: 39.

ص: 62

واعلم أنه قد ينتزع من متعدّد، فيقع الخطأ؛ لوجوب انتزاعه من أكثر؛ إذا انتزع من الشطر الأول من قوله [من

الطويل]:

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلمّا رأوها أقشعت وتجلّت (1)

ــ

السوء" (2) ومن يقول: إن هذا ليس تشبيها، بل استعارة يمثل به لما فيه من التشبيه المعنوى، لا اللفظى.

وقوله: (كالمنظر إلخ) لا يوجد فى كثير من نسخ التلخيص، ثم مثل المصنف أيضا بحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب فى استصحابه، كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً (3) فإنه روعى به مجموع أمور: وهو الحمل للأسفار التى هى أوعية العلوم، مع جهل الحامل بما فيها.

واعلم أن ظاهر كلام المصنف أن الطرفين هنا حسيان، وهما الكفار والحمار، وفى كتاب البلاغة لعبد اللطيف البغدادى أنه من تشبيه المعقول بالمحسوس؛ لأن حملهم التوراة ليس كالحمل على العاتق، إنما هو القيام بما فيها، ومثله بقوله تعالى: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (4).

ص: (واعلم أنه ينتزع من متعدد، فيقع الخطأ؛ لوجوب انتزاعه من أكثر).

(ش): المقصود أنه قد يقع التشبيه بوجه مركب من أمور كثيرة فيظن أنه من بعضها، فيقع فى الغلط، ومثله المصنف بقوله:

كما أبرقت قوما عطاشا غمامة

فلمّا رأوها أقشعت وتجلّت

فإنه قد يتوهم أن النصف الأول تشبيه تام، وليس كذلك، بل وجه الشبه وقوع ابتداء مطمع متصل بانتهاء مؤيس.

(قلت): وهذا يتوقف على الوقوف على ما قبل هذا البيت؛ ليعلم هذا المشبه به، أيلتقى فى المعنى بهذا النصف أو لا؟ والآية السابقة أحسن فى التمثيل بها، وهو قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ لا أن عبارة المصنف؛ قد ينتزع من متعدد فيقع الخطأ،

(1) أورده القزوينى فى الإيضاح ص 354، والطيبى فى شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقى 1/ 107.

(2)

" ضعيف جدّا" أخرجه القضاعى فى" مسند الشهاب"، من طريق الواقدى، وقد تفرد به وهو ضعيف كما قال الدارقطنى فى" الأفراد" وراجع الضعيفة (ح 14).

(3)

سورة الجمعة: 5.

(4)

سورة العنكبوت: 41.

ص: 63

لوجوب انتزاعه من الجميع؛ فإنّ المراد التشبيه باتصال ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس.

ــ

لوجوب انتزاعه من أكثر، وهذه العبارة لا يصلح تمثيلها بالآية الكريمة؛ لأنا إذا قصرنا المشبه به على الحمار، لم ننتزع من متعدد.

وعبارة الإيضاح: قد تقع بعد أداة التشبيه أمور، يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها، فيقع الخطأ؛ لكونه منتزعا من جميعها، وهو أحسن من عبارة التلخيص؛ لأن البعض أعم من المتعدد، ويحسن تمثيله بالآية الكريمة.

(تنبيه): قال فى الإيضاح: فإن قيل: هذا يقتضى أن يكون بعض التشبيهات المجتمعة، كقولنا: زيد يصفو ويكدر، تشبيها واحدا؛ لأن الاقتصار على أحد الخبرين، يبطل الغرض من الكلام؛ لأن الغرض منه وصف بأنه يجمع بين الصفتين، ولا يدوم على إحداهما. قلنا: الفرق أن الغرض فى البيت إثبات ابتداء مطمع متصل بانتهاء مؤيس، وكون الشئ ابتداء لآخر زائد على الجمع بينهما، وليس فى قولنا: يصفو ويكدر أكثر من الجمع بين الصفتين. ونظير البيت قولنا: يكدر ثم يصفو؛ لإفادة ثم الترتيب المقتضى للربط، وقد ظهر أن التشبيهات المجتمعة تقارن التشبيه المركب فى مثل ما ذكرنا بأمرين:

أحدهما: أنه لا يجب فيها الترتيب، والثانى: أنه إذا حذف بعضها، لا يتغير حال الباقى إفادة ما كان يفيده قبل الحذف.

قلت: فيما قاله نظر، أما قوله: أن يصفو ويكدر تشبيه، فلا نسلم، وقد تكلمنا عليه، وقلنا: إن" زيد أسد" ليس ملازما للتشبيه، ولو سلمناه، فلا نسلم أن" زيد يصفو ويكدر"، مثل:" زيد أسد". سلمنا أنه تشبيه، فمن أين لنا تشبيهات مجتمعة؟ بل هو تشبيه مركب، ونحن نلتزم أن الاختصار على أحد الخبرين يبطل الغرض، ونقول: لا ينبغى الاقتصار عليه، وهل ذلك إلا كقولك: عن المز هو حلو؟ وتطوى قولك: حامض.

وأما قوله: الغرض فى البيت إثبات ابتداء وانتهاء، وقولنا: يصفو ويكدر، ليس فيه غير الجمع بين الصفتين فمسلم، وغايته أن تركيب التشبيه فى البيت بزيادة ليست فى هذا المثال. وقوله:(إن التشبيهات إذا حذف أحدها لا يتغير المعنى) صحيح، ولكن قولنا:

يصفو ويكدر، يتغير معناه بحذف أحدهما؛ لأن المراد الإخبار بأن صفاءه ينتهى إلى كدر، وبالعكس فليس من التشبيهات المجتمعة.

ص: 64

والمتعدّد الحسىّ: كاللون، والطّعم، والرائحة، فى تشبيه فاكهة بأخرى.

والعقلىّ: كحدّة النظر، وكمال الحذر، وإخفاء السّفاد، فى تشبيه طائر بالغراب.

والمختلف: كحسن الطلعة، ونباهة الشأن، فى تشبيه إنسان بالشمس.

واعلم: أنه قد ينتزع الشبه من نفس التضادّ؛ لاشتراك الضدّين فيه (1)، ثم ينزّل منزلة التناسب بواسطة تمليح، أو

تهكّم؛ فيقال للجبان: ما أشبهه بالأسد، وللبخيل: هو حاتم.

ــ

ص: (والمتعدد الحسى إلى آخره).

(ش): هذا القسم الثالث، وهو ما كان وجه الشبه فيه متعددا حسيا، كتشبيه فاكهة بأخرى فى اللون والطعم والرائحة، وقد تقدم الاعتراض بأن المتعدد ليس وجها مختلفا، بل كل مستقل.

ص: (والعقلى).

(ش): أى: والمتعدد العقلى، كتشبيه طائر بالغراب فى حدة النظر، وكمال الحذر وإخفاء السفاد، وفيه نظر؛ لأن حدة النظر قد يقال: إنه حسى لا عقلى؛ لأن النظر، وهو تصويب الحدقة إلى المنظور يدرك بالنظر، وحدته متصل به، وكذلك إخفاء السفاد. قد يقال: إنه حسى، وأما الحذر فعقلى؛ لأن محله القلب، ويستدل عليه بأثره الظاهر.

ص: (والمختلف).

(ش): أى والوجه المتعدد الذى بعضه حسى وبعضه عقلى، كتشبيه إنسان بالشمس فى حسن الطلعة، وهو حسى، ونباهة الشأن، وهو عقلى.

ص: (واعلم أنه قد ينتزع الشبه من نفس التضاد؛ لاشتراك الضدين فيه، ثم ينزل منزلة التناسب).

(ش): لأن الضدين متناسبان مشتركان فى الضدية، لأن كلا منهما مساو للآخر فى مضادته له.

ص: (بواسطة تمليح، أو تهكم فيقال للجبان: ما أشبهه بالأسد، وللبخيل: هو حاتم).

(ش): وهذان يحتمل أن يكونا مثالين لكل من التمليح والتهكم، ويحتمل أن يكونا لفا ونشرا، والأول للأول، والثانى للثانى، لأنه أكثر أسلوبى اللف والنشر، وعلى

(1) أى فى التضاد.

ص: 65

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

هذين فالتمليح بمعنى الإتيان بشئ مليح لا المصطلح عليه، وأن يكون لفا ونشرا، والأول للثانى والثانى للأول وهو التمليح، المصطلح عليه، وهو الإشارة فى الكلام إلى قصة أو مثل، ونحو ذلك، وهذا هو المتعين، وبه يظهر أن كل مثال لواحد. فإنا إذا أخذنا قوله:

وللبخيل هو حاتم إلى التمليح فالقصة المشار إليها ما اشتهر من كرم حاتم وأخباره، ونعيد التهكم إلى قولنا للجبان: هو كالأسد؛ لأن التهكم موجود فيه - أى: الاستهزاء، وقد اعتبر عبد اللطيف البغدادى - فى كتابه فى البلاغة -

التضاد على وجه آخر، فقال: قد يشبه أحد الضدين بالآخر، إذا كان أحدهما أظهر، كما يقال: العسل فى حلاوته، كالصبر فى مرارته، وكقول الحكيم: الموت فى قلة الأمل مثل ساعة الإنزال فى شدة اللذة؛ إذ هذا بدء خلق، وهذا بدء هدم، وأنشد لابن المهدى يخاطب المأمون ويعتذر:

لئن جحدتك معروفا مننت به

إنّى لفى اللؤم أحصى منك فى الكرم

(قلت): إن وجه الشبه ليس هو التضاد، بل هو مطلق القوة، أو الشدة الموجودة فى كل من الضدين، كما نقول: السواد كالبياض فى أن كلا منهما لون، أو اللون كالشم فى أن كلا محسوس.

(تنبيه): ما تقدم من الأمثلة لوجه الشبه كله من الوجه الحقيقى، وقد تقدم أن وجه الشبه قد يكون خياليا فى الطرفين، أو فى الأول، أو فى الثانى. فإذا كان وجه الشبه واحدا حسيا مثلا، فتارة يكون تحقيقيا فى الطرفين، كتشبيه خد بورد، وتارة يكون تخييليا فى أحدهما، كتشبيه الإيمان بالشمس، والسنن بالنجوم، والجامع النور الذى هو خيالى فى أحدهما كما سبق، ويصدق حينئذ على هذا الوجه أنه مختلف؛ لأنه خيالى بحسب أحد الطرفين، حقيقى بالنسبة إلى الآخر. وهذا ما تقدم الوعد به من أن وجه الشبه سواء أكان واحدا، أم مركبا، أم متعددا، قد يكون حسيا، أو عقليا، أو مختلفا، إلا أن اختلافه فى غير الأول على معنى أنه مجموع أمرين، أو أمور، وفى الأول على معنى أنه كلى صادق على أمرين بحسب نوعين. وإذا أردت تعداد وجوه الشبه على التفصيل، فقد علمت أن وجه الشبه، قد يكون واحدا، أو غيره، وأن أقسامه سبعة

ص: 66

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

بإدخال الوهمى والوجدانى فى العقلى، والخيالى فى الحسى، فإن لم يدخلها (1)، فالأقسام خمسة وثلاثون:

1 -

واحد حسى.

2 -

واحد خيالى.

3 -

واحد عقلى.

4 -

واحد وهمى.

5 -

واحد وجدانى.

6 -

مركب حسى.

7 -

مركب خيالى.

8 -

مركب عقلى.

9 -

مركب وهمى.

10 -

مركب وجدانى.

11 -

متعدد حسى.

12 -

متعدد خيالى.

13 -

متعدد عقلى.

14 -

متعدد وهمى.

15 -

متعدد وجدانى.

16 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه خيالى.

17 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه عقلى.

18 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه وجدانى.

19 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه وهمى.

20 -

متعدد بعضه خيالى، وبعضه عقلى.

21 -

متعدد بعضه خيالى، وبعضه وهمى.

22 -

متعدد بعضه خيالى، وبعضه وجدانى.

23 -

متعدد بعضه عقلى، وبعضه وهمى.

24 -

متعدد بعضه عقلى، وبعضه وجدانى.

25 -

متعدد بعضه وهمى، وبعضه وجدانى.

26 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه خيالى، وبعضه عقلى.

27 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه خيالى، وبعضه وهمى.

28 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه خيالى، وبعضه وجدانى.

29 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه عقلى، وبعضه وهمى.

30 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه عقلى، وبعضه وجدانى.

31 -

متعدد بعضه حسى، وبعضه وهمى، وبعضه وجدانى.

32 -

متعدد بعضه خيالى، وبعضه عقلى، وبعضه وهمى.

33 -

متعدد بعضه خيالى، وبعضه عقلى، وبعضه وجدانى.

34 -

متعدد بعضه عقلى، وبعضه وهمى، وبعضه خيالى.

وهذه الأقسام كل منها قد يكون وجه الشبه فيه تحقيقيا فى الطرفين، أو تخييليا فيهما، أو تخييليا فى المشبه فقط، أو فى المشبه به فقط.

أربعة أقسام تضرب فيما سبق، تبلغ مائة وأربعين.

وتضرب بحسب أقسام الطرفين مع ما سبق، وما سيأتى إلى شئ كثير، يعلم مما بعد عند استيفاء أقسام الطرفين إن شاء الله تعالى.

(1) قوله: فالأقسام خمسة وثلاثون إلخ أسقط من التفصيل صورة ولعلها عقلى ووهمى ووجدانى وكرر صورة فلتراجع النسخ الصحيحة.

كتبه مصححه.

ص: 67

وأداته: (الكاف)، و (كأنّ)، و (مثل) وما فى معناها. والأصل فى نحو (الكاف): أن يليه المشبّه به؛ وقد يليه غيره؛ نحو: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ (1)،

ــ

أداة التشبيه: ص: (وأداته الكاف، وكأن، ومثل، وما فى معناها إلى آخره).

(ش): هذا الركن الثالث، وهو أداة التشبيه، وعبر بالأداة لأنها تعم الاسم والفعل والحرف. فالكاف أداة تشبيه، كقولك: زيد كعمرو، وكأن كذلك، كقولك: كأن زيدا أسد، سواء أقلنا: إنها بسيطة أم مركبة، كما سيأتى تحقيقه إن شاء الله تعالى.

ومن أدوات التشبيه لفظ: مثل كقولك: زيد مثل عمرو على تفصيل سنذكره - إن شاء الله تعالى - وما فى معناه - أى: معنى" مثل" من شبه ونحو وغيرهما، وما اشتق من لفظة مثل وشبه ونحوهما، كما تقدم فى قولهم فى الجبان: ما أشبهه بالأسد، وكقولك: زيد يشبه أو يماثل عمرا، أو مشبه أو مماثل، ويرد عليهم التشابه، فإنه مشتق من هذه الأدوات، وليس تشبيها اصطلاحيا.

وقول المصنف: (وأداته الكاف وكأن إلى آخره) هو كقولهم: الكلمة: اسم، وفعل، وحرف. وقوله:(يشتق) لعله يريد الاشتقاق اللغوى لا النحوى، فإنه إنما يكون من المصادر.

وهذا الكلام من المصنف يقتضى أن قولك: زيد يشبه الأسد تشبيه، وفيه نظر. قال فى شرح ضوء المصباح: إنه ليس تشبيها؛ فإنه كلام يتضمن الوصف بالمماثلة بين زيد والأسد، لا بواسطة أداة تفيد ذلك الوصف، بل بوضع الجملة الخبرية دالة عليه.

انتهى، وهو حسن، ويلزمه إجراؤه فى مثل ونحو وغيرهما.

(قوله: والأصل فى نحو الكاف أن يليها المشبه به) قيل: لأن ما دخلت عليه الكاف مثلا، كالمضاف إليه، أى: الملحق به والمشبه كالمضاف. أى الملحق، فلو وليها غيره لالتبس، وفيه نظر. والأولى أن يقال: المشبه مخبر عنه بلحوق غيره، محكوم عليه، فلو دخلت الكاف عليه لامتنع الإخبار عنه.

(قوله: وقد يليه غير المشبه به) وذلك فيما إذا كان المشبه به مركبا، كقوله تعالى:

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فإن الماء ليس مشبها

(1) سورة الكهف: 45.

ص: 68

وقد يذكر فعل ينبئ عنه؛ كما فى: علمت زيدا أسدا إن قرب، و: حسبت

إن بعد.

ــ

به، بل المشبه به الهيئة الحاصلة. قال بعضهم: فالكاف هنا دخلت على بعض المشبه به، لا على كله. وفيه نظر، فإن الماء ليس بعض المشبه به، بل المشبه به الهيئة الحاصلة، أو النبات الناشئ عن الماء، ولو كان الماء بعض المشبه به لما صدق أنه فى هذه الآية الكريمة ولى الكاف غير المشبه به، فإن مجموع المشبه به وليها شيئا فشيئا، وهذا كما نقول: همزة الاستفهام يليها المستفهم عنه، وقد تليها الجملة، ومن المعلوم أنه يستحيل أن يليها الجملة، إنما يليها أحد طرفيها.

نعم لك أن تقول: المصنف قال فى الإيضاح: شبهت حال الدنيا بحال ماء إلى آخره، فيمكن أن يكون مضاف محذوف، التقدير: كحال ماء، فلم يل الكاف إلا المشبه به، وهو الحال.

قال فى الإيضاح: وليس منه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ (1) لأن المعنى: كونوا أنصارا، كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: من أنصارى إلى الله؟

(قوله: وقد يذكر فعل ينبئ عن التشبيه) كعلمت من قولك: علمت زيدا أسدا، ونحو هذا من صيغ القطع، وفيما قاله نظر، أما أولا: فلأنه يرى أن:" زيدا أسدا" تشبيه دون علمت، فالتشبيه إنما هو بالكاف إلا أنها لم تذكر، فلفظ علمت لم يفد تشبيها. وأما ثانيا:

فلأن لفظ علمت لا إشعار له بالتشبيه أصلا، وإنما الذى يحصل بعلمت قرب التشبيه وتقويته، لا لكونه تشبيها، بل لكونه مضمون الجملة المذكورة بعد علمت.

وقوله: (إن قرب) أى إن قرب التشبيه، وقوله:(وحسبت إن بعد) أى: إذا كان التشبيه بعيدا نقول: حسبت زيدا أسدا، وكذلك خلته ونحوهما. هذا فى حسبت إذا استعملت فى الظن الصحيح، والغالب استعمالها فى الظن المخطئ.

(تنبيهات): الأول: اعلم أن المصنف قال: الأصل فى الكاف ونحوها أن يليها المشبه به، واحترز بقوله: الأصل عن أن يليها بعض المشبه به على ما قالوه، أو متعلق به على ما حققناه كما سبق.

(1) سورة الصف: 14.

ص: 69

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قالوا: وأراد بقوله: ونحوها مثل وشبه ونحو فإن كلا منها يليه المشبه به، كقولك:

زيد مثل عمرو، أو شبهه، أو نحوه قالوا: واحترز أيضا عن المشتقات من شبه ومثل من فعل، وغيره.

(قلت): وفيما قالوه نظر؛ لأنك تقول: زيد مشابه الأسد فقد وليه المشبه به، والتحقيق أن يقال: أداة التشبيه إن كان لها معمولات، قدم ما تقتضى العربية تقديمه مشبها كان أو مشبها به فتقول: كأن زيدا أسد. فيليها المشبه لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه هو اسم كأن لا خبرها، فليس تقديمه لكونه مشبها، بل لكونه اسما لها ومخبرا عنه، وإن قلت: كأن فى الدار زيدا. كان على خلاف الأصل وجعلناه تشبيها لا تحقيقا، وتقول: شابه زيد الأسد وماثله. فوليها المشبه لأنه فاعل ووضعه التقدم على المفعول، وتقول: زيد يشبه الأسد. فوليها المشبه لأنه ضمير متصل وإن كان لها معمول واحد وليها فى اللفظ المشبه به تقول: زيد كعمرو أو مثل عمرو أو شبه عمرو.

الثانى: جعل المصنف كأن أداة غير الكاف فاحتمل أن تكون عنده بسيطة وليست الكاف أصلها وهو مذهب بعض البصريين واحتمل أن تكون عنده مركبة من كاف التشبيه وأن، وهو اختيار شيخنا أبى حيان ومذهب الخليل وسيبويه والجمهور، ولا بدع أن يقال: أداة التشبيه الكاف أى فقط، أو الكاف مع غيرها وهى كأن.

الثالث: ما قدمناه من أن المشبه يلى كأن هو جرى على كلامهم وفيه نظر يتوقف على تحقيق معناها ولفظها بعد القول بالتركيب، والذى يتلخص من كلامهم فى ذلك أن فيها قولين:

(أحدهما): أن الأصل إن زيدا كالأسد، فلما قدمت الكاف فتحت الهمزة لفظا، والمعنى على الكسر والفصل بينه وبين الأصل أنك هاهنا بأن كلامك على التشبيه من أول الأمر وثم بعده مضى صدره على الإثبات، هذه عبارة الزمخشرى فى المفصل، قيل: وتحريره أن قولك: إن زيدا كالأسد تحقيق لإثبات إلحاق الناقص بالكامل، وقولك: كأن زيدا أسد. إعلام بأن تحقيق الأسدية على زيد إنما هو بطريق التشبيه لا غيرها.

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقال ابن جنى فى سر الصناعة: أصل كأن زيدا عمرو: إن زيدا كعمرو فالكاف تشبيه صريح كأنك قلت: إن زيدا كائن كعمرو. ثم أرادوا الاهتمام بالتشبيه الذى عليه عقدوا الجملة فأزالوا الكاف من وسطها وقدموها إلى أولها لفرط عنايتهم بالتشبيه، فلما أدخلوها على إن وجب فتح إن، لأن المكسورة لا يتقدمها حرف الجر ولا تقع إلا أولا، وبقى معنى التشبيه الذى كان فيها وهى متوسطة بحالة فيها وهى متقدمة وذلك قولهم: كأن زيدا عمرو. إلا أن الكاف الآن لما تقدمت بطل أن تكون متعلقة بفعل ولا معنى الفعل؛ لأنها فارقت الموضع الذى يمكن أن تتعلق فيه بمحذوف وتقدمت إلى أول الجملة وزالت عن الموضع الذى كانت فيه متعلقة بخبر إن المحذوف، وزال ما كان لها من التعلق بمعانى الأفعال وليست زائدة، لأن معنى التشبيه موجود فيها، بقى النظر فى أن التى دخلت عليها هل هى مجرورة أو لا؟ وأقوى الأمرين عندى أن تكون أن فى كأنك زيد مجرورة بالكاف، فإن قلت: الكاف الآن ليست متعلقة بفعل فليس ذلك مانعا من الجر ألا ترى أن الكاف فى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (1) غير متعلقة بشئ وهى مع ذلك جارة ويؤكد أنها جارة فتحهم الهمزة بعدها كما يفتحونها بعد العوامل الجارة نحو:

عجبت من أنك قائم. فكذا فتحت أيضا فى كأنك قائم لأن قبلها عاملا قد جرها، فاعرف ذلك، انتهى.

(قلت): إذا تأملت كلام الزمخشرى وتدبرت عبارة ابن جنى علمت أن مقصودهما أن كأن مركبة من إن المكسورة والكاف، وأنها فتحت وصارت بعد الفتح على حالها من الدلالة على تأكيد الجملة غير منحلة مع ما بعدها إلى مصدر وأن هذه المفتوحة المتصلة بالكاف غير أن المفتوحة فى قولك: عجبت من أنك قائم، وقدمت ووضعت فى غير محلها مسارعة إلى تبادر ذهن السامع للتشبيه، ولعلها إنما فتحت لمشابهتها فى الصورة لعجبت من أنك قائم بجامع ما بينهما من اتصال كل منهما بحرف كراهية أن يقع فى الصورة اتصال إن المكسورة بحرف جر أو اتباعا لحركة الكاف، ألا ترى إلى قول الزمخشرى: فتحت لها الهمزة لفظا

(1) سورة الشورى: 11.

ص: 71

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والمعنى على الكسر؟! وقول ابن جنى: إن الكاف ليست الآن متعلقة بشئ ولو كانت مصدرية لتعلقت بشئ سواء أكانت اسما أم فعلا، فإنها تكون مع ما بعدها فى تأويل المفرد، وهذا المفرد لا بد له أن يتعلق بشئ، ثم يلزم

أن يكون فى الكلام محذوف كما به الجملة، وابن جنى لا يقول: إن فى الكلام محذوفا كما سيأتى نقله عنه، وقول ابن جنى: إن المكسورة لا يتقدمها حرف الجر ثم قوله: إن الكاف هذه جارة لعل الجمع بينهما أن المكسورة لفظا ومعنى لا يتقدمها حرف الجر، أما المكسورة معنى فيتقدمها إذا كانت مفتوحة فى اللفظ، فإن قلت: الفتح اللفظى لا أثر له فى منع حرف الجر إذا كان المعنى على الكسر بل المانع معنى الكسر لما فيه من عدم الانحلال بمفرد.

قلت: معنى الكسر يمنع من أن يتصل بإن حرف حال فى موضعه، أما حرف على نية التأخير موضوع فى غير موضعه فلا مانع منه غير أنه باب سماع فلا يقاس عليه مثله.

وقول بعض البصريين: القول بالتركيب خطأ لأنه يلزم قائله أن يأتى بخبر الكاف ليس بصحيح، لأنه يوهم أن" أن" عنده مصدرية.

(القول الثانى): وإليه ذهب الزجاج، أن الكاف جارة فى موضع رفع فإذا قلت:

كأنى أخوك ففيه حذف التقدير: كأخوتى إياك موجود لأن أن وما علمت فيه بتقدير مصدر ولا تكون الكاف على هذا مقدمة من تأخير.

قال ابن عصفور: وما ذهب إليه أبو الفتح أظهر لأن العرب لم تذكر" موجود" مع هذا الكلام قط.

وهذا الكلام من ابن عصفور يقتضى أنه فهم عن ابن جنى ما فهمناه عنه من كون أن فى كأن غير منحلة لمفرد فإنه لو قال بذلك لاتحد مذهبه ومذهب الزجاج.

(قلت): فإذا علمت ذلك اتجه أمران: أحدهما: النزاع فى أن كأن يليها المشبه به.

الثانى: لك أن تقول: أى تركيب فى كأن حينئذ غايته أن الكاف إن كانت مقدمة من تأخير فهى حرف وضع فى غير موضعه جاور حرفا آخر، وكذلك إن كانت غير

ص: 72

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مقدمة وما بعدها مصدر فلا يصدق فى قولك: عجبت من أن زيدا قائم، أن يقال:

من أن مركبة، وشأن التركيب أن يجعل للكلمتين عند التركيب معنى ثالثا لم يكن قبل التركيب أو يحدث لهما أمرا لفظيا.

الرابع: ما تقدم من أن كأن للتشبيه على الإطلاق هو المشهور، وذهب الكوفيون والزجاج وابن الطراوة وابن السيد إلى أنها إن كان خبرها اسما جامدا فهى للتشبيه، وإن كان مشتقا فهى للشك بمنزلة ظننت وتوهمت، قال ابن السيد: إذا كان خبرها فعلا أو جملة أو صفة فهى فيهن للظن والحسبان، ولا تكون للتشبيه إلا إذا كان الخبر مما

يمثل به فإن قلت: كأن زيدا قائم، لا يكون تشبيها لأن الشئ لا يشبه نفسه، وأكثر الناس على الأول، فقيل: إن معنى: كأن زيدا قائم تشبيه حالته غير قائم بحالته قائما، وقال ابن ولاد: معناه تشبيه هيئة حال عدم القيام بهيئة حال القيام.

الخامس: إذا ثبت أنها للتشبيه فقد تخرج عنه فتستعمل فى غيره. قال ابن الأنبارى:

فى قولهم: كأنك بالشتاء مقبل. معناه: أظن، وجعل الكوفيون هذا، وقولهم: كأنك بالفرج آت. للتقريب، وكذا قول الحسن: كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل.

والجمهور يؤولون ذلك على تأويل يرجع إلى التشبيه لا نطيل بذكره، وزعم الكوفيون والزجاجى أن كأن للتحقيق فى قوله:

فأصبح بطن مكّة مقشعرّا

كأنّ الأرض ليس بها هشام (1)

وقال ابن أبى ربيعة:

كأنّنى حين أمسى لا تكلّمنى

متيّم يشتهى ما ليس موجودا (2)

والجمهور يؤولون ذلك.

(1) البيت من الوافر، وهو للحارث بن خالد فى ديوانه ص: 93، والاشتقاق ص: 101، ولسان العرب 12/ 461 (قثم).

(2)

البيت من البسيط، وهو لعمر بن أبى ربيعة فى ديوانه ص: 320، والجنى الدانى ص: 571، والخصائص 3/ 170.

ص: 73

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

السادس: فى تعداد صيغ التشبيه على ما ذكره المصنف من أن كل ما كان بمعنى مثل وشبه أداة تشبيه، فمن أدوات التشبيه: الكاف، وكأن، وياء النسب، ومثل، ومثيل، وشبه، وشبيه، ونحو، - ذكره جماعة منهم ابن النحاس النحوى الحلبى، وقل من صرح به من أهل اللغة وإن كان مشهورا فى الاستعمال - ومثيل، وضريب، وشكل، ومضاه، ومساو، ومحاك، وأخ، ونظير، وعدل، وعديل، وكفء، ومشاكل، وموازن، ومواز، ومضارع، وند، وصنو، وما كان بمعناها أو كان مشتقا منها من فعل أو اسم. وأشار الطيبى إلى أن من أدوات التشبيه أفعل التفضيل، مثل: زيد أفضل من عمرو، وفيه بعد وإن كان يشهد له ما سيأتى من كلام ابن الشجرى، ومن أدوات التشبيه: لعل، ففى البخارى فى قوله تعالى: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (1) عن ابن عباس: معناه كأنكم. وفى الكشاف معناه:

ترجون الخلود فى الدنيا، أو تشبه حالكم حال من يخلد، وفى مصحف أبى (كأنكم تخلدون) وقال الطيبى: لعل هذا وارد على الاستعارة التمثيلية، وجعل عبد اللطيف البغدادى من أدوات التشبيه كلمة سواء، كقولهم: رأيت رجلا سواء هو والعدم، ولا يخفى أن هذه الألفاظ بعضها يصلح للتشبيه وبعضها يصلح للمشابهة، لكن اسم التشبيه قد يطلق على الجميع.

السابع: لم يحرر البيانيون معنى هذه الأدوات فظاهر كلامهم أن معناها واحد وليس كذلك، فإن الكاف وكأن وكذلك مثل للتشبيه فى أى شئ كان لا تختص بنوع دون آخر كما صرح به الراغب فى مادة الند، وحيث وقع فى كلامه أو كلام غيره أنها عامة فى كل شئ فهو على إرادة العموم البدلى لا الاستغراقى، قال: والند المشارك فى الجوهرية فقط، وقال فى موضع آخر: فى الجنسية والشكل لما يشاركه فى القدر والمساحة، كذا ذكره فى مادة المثل، وقبل فى مادة شكل فى الهيئة والصورة وهو قريب من الأول، والضريب هو الشكل، والشبه المشارك فى الكيفية، كاللون والطعم وكالعدالة والظلم، كذا ذكره الراغب وفيه نظر لما سيأتى.

(1) سورة الشعراء: 129.

ص: 74

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والمساواة: المشاركة فى الكمية بالذرع والوزن والكيل وقد تعتبر بالكيفية، نحو: هذا السواد، مساو لهذا السواد وإن كان تحقيقه راجعا إلى اعتبار مكانه دون ذاته، والمضارعة المشابهة، والنظير المثل مطلقا، والأخ حقيقته المشارك لغيره فى أب أو أم، ثم أطلق على المشارك فى القبيلة، أو فى الدين، ثم استعمل فى كل مساو، ومنه قول ابن الزبير: كان عمر - رضى الله عنه - إذا حدث النبى صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخى السرار.

قال الزمخشرى فى الفائق: أى كلاما كمثل المساررة، والمحاكى المشابه مطلقا، وأما الصنو فتصاريفه تدل على أنه المشارك لغيره فى الأصل الذى خرجا منه فالإنسان صنو أخيه لاشتراكهما فى أب أو أم، وصنو عمه أو أبيه لاشتراكهما فى الجد، والغصنان الخارجان من شجرة صنوان، والكفؤ والنظير.

وقال عبد اللطيف البغدادى فى قوانين البلاغة: إن قولك: زيد كعمرو أو مثله أو شبهه أو نظيره موضعه الأمور العلمية والمعارف النظرية، وقد تستعمله الخطباء والبلغاء لاشتراكهم فى معناه، كما يقال: هذا المربع مثل ذلك المربع، وهذا نظير هذا، والأرز كالحنطة فى تحريم التفاضل، وأما ياء النسب فقاله عبد اللطيف أيضا، وعد من الشبيه بها قولهم: لون أحمرى ووردى.

الثامن: فى ذكر ما بين هذه الصيغ من التفاوت لم يتعرض المصنف ولا غيره للفرق بين ما ذكره من هذه الصيغ، بل يقتضى كلامهم أن معناها واحد وأن رتبتها متساوية، والتحقيق فى ذلك أن يقال: إن كان شئ من هذه الصيغ يدل على المشابهة من كل وجه فهو أبلغ الصيغ، والذى قد يتخيل فيه ذلك كلمات، إحداها كلمة المساواة، فإن الأصوليين اختلفوا فى أن فعل المساواة فى حال الإثبات للعموم أو الخصوص، والشافعية وأكثر الأصوليين على أنها للخصوص، ويشهد له كلام الراغب المنقول عن الحنفية أنها للعموم بالمادة بمعنى أنه لا تصدق حقيقة المساواة إلا من كل وجه غير ما يقع به الامتياز وعليه اصطلح المنطقيون وعلى ذلك تنبئ حالة النفى، فنحو: لا يستوى تقتضى العموم عندنا، ولا تقتضيه عندهم، والثانية كلمة مثل، فإن هذا الخلاف فى عموم المساواة لا شك أنه يجرى فى المماثلة، بل هو أدل على ذلك من لفظ المساواة. وقال الشيخ تقى الدين

ص: 75

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ابن دقيق العيد فى شرح العمدة عند الكلام على قوله:" رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئى هذا"، وفى شرح الإلمام أيضا لفظ النحو والمثل ليسا مترادفين، فلفظ المثل دال على المساواة بين الشيئين، إلا فيما لا يقع التعدد إلا به هذا حقيقته، ويستعمل مجازا فيما دون ذلك، ولفظ النحو يدل على المقاربة فى الفعل لا على المماثلة، وإن استعمل فى المثل فبملاحظة معنى آخر، هذه عبارته فى شرح الإلمام، فإن كان رحمه الله أخذ ذلك نقلا عن اللغة فلا كلام، وإن كان أخذ كون المثل كذلك من كلام المنطقيين ففيه نظر؛ لأن الظاهر أن ذلك اصطلاح لهم ويؤيده كثرة ما ورد من التشبيه بمثل ذلك فى شئ واحد لا من كل وجه، كقوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ (1)، وقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (2) وفَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ (3) ونَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها (4) وفَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ (5) ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ (6) وإِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا (7) ففى كل من هذه الآيات الكريمة قصد نوع من المماثلة لا كل نوع، قال ابن رشيق فى العمدة: التشبيه سواء كان بالكاف أو كأن أو غيرهما لا يكون من جميع الجهات، بل من جهة أو جهات، ومما يدل على أن كلمة مثل لمطلق المشابهة قول النحاة:

إنها لا تتعرف بالإضافة لتوغلها فى الإبهام، لأنك إذا قلت: زيد مثل عمرو.

احتمل أن يكون مثله فى جنسه أو صفته الظاهرة أو الباطنة فهى صادقة على كل مماثلة فى شئ ما فلا تكون معرفة.

نعم إذا أريد بكلمة مثل المشابهة من كل وجه ينبغى أن يقال: تتعرف بالإضافة الثالثة كلمة المشابهة، فإذا قلت: زيد شبيه عمرو. كان معناه أنه شابهه من كل وجه مبالغة؛ ولذلك تعرفت بالإضافة بخلاف مثل ذكره فى شرح

التسهيل.

(1) سورة النساء: 140.

(2)

سورة البقرة: 23.

(3)

سورة هود: 13.

(4)

سورة البقرة: 106.

(5)

سورة البقرة: 194.

(6)

سورة البقرة: 228.

(7)

سورة البقرة: 275.

ص: 76

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وينبغى أن يلحق بها مثيل إذا تقرر ذلك، فنقول: إما أن يثبت فى شئ من هذه الأدوات أنه يعم جميع أنواع الشبه أو لا - فإن ثبت فيه ذلك فلا إشكال أنه أبلغ فى التشبيه مما لم يثبت، وما لم يثبت فيه ذلك إن اختص شئ منه بنوع من أنواع الشبه - كما زعم الراغب - فلا فضل لصيغة على أخرى إلا أن ما دل على التشابه فى الجوهرية من جنس أو نوع أو فصل أقوى فى التشبيه مما دل على المشابهة فى صفة، والشبه فى الصفة الذاتية أقوى من الشبه فى الخارجية وإن لم يثبت ذلك فالذى يظهر أن الأدوات الاسمية كلها سواء، وإن اختلفت فاختلافها بشهرة استعمال البعض، وأنها مساوية للكاف الحرفية، وكأن لا يقال: دلالة مثل ونحوها على المشابهة أصرح فتكون أقوى؛ لأن قوة هذه الأسماء باعتبار الدلالة على التشبيه، لا أن التشبيه المستفاد بها أبلغ من التشبيه المستفاد من الحرف.

وأما الكاف وكأن فالمتبادر إلى الذهن أن كأن أبلغ. وكذلك صرح به الإمام فخر الدين فى نهاية الإيجاز، وكذلك حازم فى منهاج البلغاء، وقال: وهى إنما تستعمل حيث يقوى الشبه حتى يكاد الرائى يشك فى أن المشبه هو المشبه به أو غيره، ولذلك قالت بلقيس: كَأَنَّهُ هُوَ (1) وعندى فى ذلك تحقيق، وهو بناء هذا على أن كأن بسيطة أو مركبة، فإن قلنا: إنها بسيطة استقام هذا فإن كثرة الحروف غالبا دليل على المبالغة فى المعنى، كما سبق فى أول هذا الشرح، وإن قلنا: إنها مركبة فلا؛ لأنك إن فرعت على رأى ابن جنى فأداة التشبيه بالحقيقة إنما هى الكاف، وأن تأكيد للجملة، وتأكيد الجملة المخبر فيها بالتشبيه لا يدل على المبالغة فى التشبيه، والاعتناء بالتشبيه فى تقديم الكاف المشعرة بالتشبيه من أول وهلة ليس فيه ما يدل على أن المشابهة أبلغ، بل فيه تأكيد الدلالة على مطلق

التشبيه والاعتناء به سواء أكان هو أبلغ أو لم يكن، فيكون مساويا فهو كقولك: إن زيدا كأسد وزيادة، كأن زيدا أسد، على زيد كالأسد لا باعتبار مقدار الشبه بل باعتبار تأكيد مضمون الجملة، وهو الإخبار أو الحكم على ما سبق، وفرق بين تأكيد الحكم بالتشبيه وبين الإخبار بتشبيه مؤكد، وإن فرعت على رأى

(1) سورة النمل: 42.

ص: 77