الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أول الْوَقْت رضوَان اوآخره عَفْو ا) ، وَهُوَ لَا يُؤثر على رضوَان اشيئاً، وَالْعَفو لَا يكون عَن تَقْصِير. قلت: المُرَاد من الْعَفو الْفضل كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ قل الْعَفو} (الْبَقَرَة: 912) أَي: الْفضل، فَكَانَ معنى الحَدِيث، وَا أعلم، أَن من أدّى الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت، فقد نَالَ رضوَان ا، وَأمن من سخطه وعذابه لامتثال أمره، وأدائه مَا وَجب عَلَيْهِ، وَمن أدّى فِي آخر الْوَقْت فقد نَالَ فضل ا، ونيل فضل الا يكون بِدُونِ الرضْوَان، فَكَانَت هَذِه الدرجَة أفضل من تِلْكَ. فَإِن قلت: جَاءَ فِي الحَدِيث: (وَسُئِلَ: أَي الْأَعْمَال أفضل؟ فَقَالَ: الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا) . وَهُوَ لَا يدع مَوضِع الْفضل وَلَا يَأْمر النَّاس إلَاّ بِهِ.
قلت: ذكر الأول للحث والتحضيض والتأكيد على إِقَامَة الصَّلَوَات فِي أَوْقَاتهَا، وإلَاّ فَالَّذِي يُؤَدِّي فِي ثَانِي الْوَقْت أَو فِي ثَالِثَة أَو رَابِعَة كَالَّذي يُؤَدِّيهَا فِي أَوله لَا أَن الْجُزْء الأول لَهُ مزية على الْجُزْء الثَّانِي أَو الثَّالِث أَو الرَّابِع، فحاصل الْمَعْنى: الصَّلَاة فِي وَقتهَا أفضل الْأَعْمَال، ثمَّ يتَمَيَّز الْجُزْء الثَّانِي فِي صَلَاة الصُّبْح عَن الْجُزْء الأول بِالْأَمر الَّذِي فِيهِ الْإِسْفَار الَّذِي يَقْتَضِي التَّأْخِير عَن الْجُزْء الأول. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ الشَّافِعِي فِي حَدِيث رَافع: لَهُ وَجه لَا يُوَافق حَدِيث عَائِشَة وَلَا يُخَالِفهُ، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله لما حض النَّاس على تَقْدِيم الصَّلَاة، وَأخْبر بِالْفَضْلِ فِيهِ، احْتمل أَن يكون من الراغبين من يقدمهَا قبل الْفجْر الآخر، فَقَالَ: أسفروا بِالْفَجْرِ حَتَّى يتَبَيَّن الْفجْر الآخر، مُعْتَرضًا، فَأَرَادَ عليه الصلاة والسلام، فِيمَا يرى الْخُرُوج من الشَّك حَتَّى يُصَلِّي الْمُصَلِّي بعد تبين الْفجْر، فَأَمرهمْ بالإسفار أَي: بالتبيين. قلت: يرد هَذَا التَّأْوِيل ويبطله مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن رَافع، قَالَ: قَالَ رَسُول الله لِبلَال: (يَا بِلَال نوِّر صَلَاة الصُّبْح حَتَّى تبصر الْقَوْم مَوَاضِع نبلهم من الْإِسْفَار) . وَقد مر هَذَا عَن قريب. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حَازِم فِي كتاب (النَّاسِخ والمنسوخ) : قد اخْتلف أهل الْعلم فِي الْإِسْفَار بِصَلَاة الصُّبْح والتغليس بهَا، فَرَأى بَعضهم الْإِسْفَار هُوَ الْأَفْضَل، وَذهب إِلَى قَوْله:(أَصْبحُوا بالصبح) ، وَرَوَاهُ محكماً، وَزعم الطَّحَاوِيّ أَن حَدِيث الْإِسْفَار نَاسخ لحَدِيث التغليس، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يدْخلُونَ مغلسين وَيخرجُونَ مسفرين، وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا ذهب إِلَيْهِ، لِأَن حَدِيث التغليس ثَابت، وَأَن النَّبِي داوم عَلَيْهِ حَتَّى فَارق الدُّنْيَا.
قلت: يرد هَذَا مَا روينَاهُ من حَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَذكرنَا أَن فِيهِ دَلِيلا على أَنه، كَانَ يسفر بِالْفَجْرِ دَائِما، وَالْأَمر مثل مَا ذكره الطَّحَاوِيّ وَلَيْسَ مثل مَا ذكره ابْن حَازِم، بَيَان ذَلِك أَن اتِّفَاق الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، بعد النَّبِي، على الْإِسْفَار بالصبح، على مَا ذكره الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ:(مَا اجْتمع أَصْحَاب مُحَمَّد على شَيْء مَا اجْتَمعُوا على التَّنْوِير) دَلِيل وَاضح على نسخ حَدِيث التغليس، لِأَن إِبْرَاهِيم أخبر أَنهم كَانُوا اجْتَمعُوا على ذَلِك، فَلَا يجوز عندنَا، وَا أعلم، اجْتِمَاعهم على خلاف مَا قد فعله النَّبِي، إلَاّ بعد نسخ ذَلِك وَثُبُوت خِلَافه، وَالْعجب من بعض شرَّاح البُخَارِيّ أَنه يَقُول: وَوهم الطَّحَاوِيّ حَيْثُ ادّعى أَن حَدِيث: (أسفروا. .) نَاسخ لحَدِيث التغليس، وَلَيْسَ الواهم إلَاّ هُوَ، وَلَو كَانَ عِنْده إِدْرَاك مدارك الْمعَانِي لما اجترأ على مثل هَذَا الْكَلَام.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ دلَالَة على خُرُوج النِّسَاء، وَهُوَ جَائِز بِشَرْط أَمن الْفِتْنَة عَلَيْهِنَّ أَو بِهن، وَكَرِهَهُ بَعضهم للشواب، وَعند أبي حنيفَة تخرج الْعَجَائِز لغير الظّهْر وَالْعصر، وَعِنْدَهُمَا: يخْرجن للْجَمِيع، وَالْيَوْم يكره للْجَمِيع، للعجائز والشواب، لظُهُور الْفساد وَعُمُوم الْفِتْنَة. وَا أعلم.
41 -
(بابٌ إذَا صَلَّى فِي ثَوْب لهُ أعْلَامٌ وَنَظَر إِلَى عَلَمِها)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا صلى شخص وَهُوَ لابس ثوبا وَله أَعْلَام، وَنظر إِلَى أَعْلَامه، هَل يكره ذَلِك أم لَا؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَنظر إِلَى علمه، وَفِي بَعْضهَا: إِلَى علمهَا، والتأنيث فِيهِ بِاعْتِبَار الخميصة، وَنَقله بَعضهم عَنهُ بِالْعَكْسِ حَيْثُ قَالَ: قَالَ الْكرْمَانِي فِي رِوَايَة: وَنظر إِلَى علمه، والأعلام جمع علم، بِفَتْح اللَّام.
37393 -
ح دّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا إبْراهِيمُ بنُ سَعْدٍ قالَ حدّثنا ابنُ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ أنَّ النبيَّ صلَّى فِي خمِيصةٍ لَها أعْلَامٌ فَنَظَرَ إِلَى أعْلَامِها نَظْرَةً
فَلَمَّا انْصَرَف قالَ اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أبي جَهْمٍ وأتُونِي بأنْبِجانِيَّةِ أبي جَهْمٍ فإِنَّهَا ألْهَتْنِي آنِفاً عنْ صَلَاتي.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
(ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة ذكرُوا غير مرّة. وَأحمد بن عبد ابْن يُونُس وينسب إِلَى جده، وَإِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون ومدنيون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهِ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو النَّاقِد، وَزُهَيْر بن حَرْب، وَأبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان. وَأخرجه ابْن ماجة فِي اللبَاس عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر لغاته ومعانيه: قَوْله: (فِي خميصة)، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم وبالصاد الْمُهْملَة: وَهِي كسَاء أسود مربع لَهُ علمَان أَو أَعْلَام، وَيكون من خَز أَو صوف، وَلَا يُسمى خميصة إلَاّ أَن تكون سَوْدَاء معلمة، سميت بذلك للينها ورقتها وَصغر حجمها إِذا طويت، مَأْخُوذ من الخمص وَهُوَ: ضمور الْبَطن. وَقَالَ ابْن حبيب فِي (شرح الْمُوَطَّأ) : الخميصة كسَاء صوف أَو مَرْعَزِيٌّ معلم الصَّنْعَة. قَوْله: (لَهَا أَعْلَام) جملَة وَقعت صفة لخميصة، والأعلام جمع: علم، بِفتْحَتَيْنِ، وَقد فسرناه عَن قريب. قَوْله:(فَلَمَّا انْصَرف)، أَي: من صلَاته واستقبال الْقبْلَة. قَوْله: (إِلَى أبي جهم)، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْهَاء: واسْمه عَامر بن حُذَيْفَة الْعَدوي الْقرشِي الْمدنِي الصَّحَابِيّ. وَقيل: اسْمه عبيد، أسلم يَوْم الْفَتْح وَكَانَ مُعظما فِي قُرَيْش وعالماً بِالنّسَبِ، شهد بُنيان الْكَعْبَة مرَّتَيْنِ، مَاتَ فِي آخر خلَافَة مُعَاوِيَة، وَهُوَ غير أبي جهيم، المصغر الْمَذْكُور فِي الْمُرُور.
قَوْله: (بأنبجانية أبي جهم) ، قد اخْتلفُوا فِي ضبط هَذَا اللَّفْظ وَمَعْنَاهُ، فَقيل: بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْجِيم وَبعد النُّون يَاء النِّسْبَة. وَقَالَ ثَعْلَب: يُقَال كَبْش إنبجاني، بِكَسْر الْيَاء وَفتحهَا إِذا كَانَ ملتفاً كثير الصُّوف، وَكسَاء أنبجاني، كَذَلِك وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِذا نسبت إِلَى منبج فتحت الْبَاء فَقلت: كسَاء منبجاني، أَخْرجُوهُ مخرج: مخبراني ومنظراني، وَقَالَ أَبُو حَاتِم فِي (لحن الْعَامَّة) : لَا يُقَال: كسَاء أنبجاني، وَهَذَا مِمَّا تخطىء فِيهِ الْعَامَّة، وَإِنَّمَا يُقَال: منبجاني، بِفَتْح الْمِيم وَالْبَاء. قَالَ: وَقلت للأصمعي: لِمَ فتحت الْبَاء وَإِنَّمَا نسب إِلَى منبح بِالْكَسْرِ؟ قَالَ: خرج مخرج: منظراني ومخبراني. قَالَ: وَالنّسب مِمَّا يُغير الْبناء، وَقَالَ الْقَزاز فِي (الْجَامِع) : والنباج مَوضِع تنْسب إِلَيْهِ الثِّيَاب المنبجانية. وَفِي (الجمهرة) : ومنبج مَوضِع أعجمي، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب ونسبوا إِلَيْهِ الثِّيَاب المنبجانية. وَفِي (الْمُحكم) أَن منبج مَوضِع، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: الْمِيم، فِيهِ زَائِدَة بِمَنْزِلَة: الْألف، لِأَنَّهَا إِنَّمَا كثرت مزيدة أَولا، فموضوع زيادتها كموضع الْألف وَكَثْرَتهَا ككثرتها إِذا كَانَت أَولا فِي الِاسْم وَالصّفة، وَكَذَلِكَ النباج، وهما نباجان: نباج نَبْتَل ونباج بن عَامر، و: كسَاء منبجاني، مَنْسُوب إِلَيْهِ على غير قِيَاس. وَفِي (المغيث) : الْمَحْفُوظ كسر بَاء الأنبجانية، وَقَالَ ابْن الْحصار فِي (تقريب المدارك) : من زعم أَنه مَنْسُوب إِلَى منبج فقد وهم. قلت: منبج، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره جِيم: بَلْدَة من كور قنسرين بناها بعض الأكاسرة الَّذِي غلب على الشَّام، وسماها: مُنَبّه، وَبنى بهَا بَيت نَار ووكل بهَا رجلا، فعربت فَقيل: منبج، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: منبجي، على الأَصْل: ومنبجاني على غير قِيَاس، وَالْبَاء تفتح فِي النِّسْبَة كَمَا يُقَال فِي النِّسْبَة إِلَى: صدف، بِكَسْر الدَّال: صدفي بِفَتْحِهَا. وَمن هَذَا قَالَ ابْن قرقول: نِسْبَة إِلَى منبج، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْبَاء وَيُقَال: نِسْبَة إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ: أنبجان، وَعَن هَذَا قَالَ ثَعْلَب: يُقَال كسَاء أنبجاني، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَب إِلَى الصَّوَاب فِي لفظ الحَدِيث، وَأما تَفْسِيرهَا، فَقَالَ عبد الْملك بن حبيب فِي (شرح الْمُوَطَّأ) : هِيَ كسَاء غليظ تشبه الشملة يكون سداه قطناً غليظاً أَو كتاناً غليظاً، وَلحمَته صوف لَيْسَ بالمبرم، فِي فتله لين، غليظ يلتحف بِهِ فِي الْفراش، وَقد يشْتَمل بهَا فِي شدَّة الْبرد. وَقيل: هِيَ من أدوان الثِّيَاب الغليظة تتَّخذ من الصُّوف، وَيُقَال: هُوَ كسَاء غليظ لَا علم لَهُ، فَإِذا كَانَ للكساء علم فَهُوَ خميصة، وَإِن لم يكن فَهُوَ أنبجانية.
قَوْله: (ألهتني) أَي: أشغلتني، وَهُوَ من: الإلهاء، وثلاثيه: لهي الرجل عَن الشَّيْء يلهى عَنهُ إِذا غفل، وَهُوَ من بَاب: يعلم، وَأما: لَهَا يلهو إِذا لعب فَهُوَ من بَاب:
نصر ينصر. وَفِي (الموعب) : وَقد لهى يلهو والتهى وألهاني عَنهُ، كَذَا
…
أَي أنساني وشغلني. قَوْله: (آنِفا) أَي: قَرِيبا، واشتقاقه من الائتلاف بالشَّيْء أَي: الِابْتِدَاء بِهِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْنَاف، وَمِنْه أنف كل شَيْء وَهُوَ أَوله. وَيُقَال: قلت آنِفا وسالفاً، وانتصابه على الظَّرْفِيَّة، قَالَ ابْن الْأَثِير: قلت: الشَّيْء آنِفا فِي أول وَقت يقرب مني. قَوْله: (عَن صَلَاتي) أَي: عَن كَمَال الْحُضُور فِيهَا وتدبير أَرْكَانهَا وأذكارها، وَالِاسْتِقْصَاء فِي التَّوَجُّه إِلَى جناب الجبروت.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام فِيهِ: جَوَاز لبس الثَّوْب الْمعلم وَجَوَاز الصَّلَاة فِيهِ. وَفِيه: أَن اشْتِغَال الْفِكر الْيَسِير فِي الصَّلَاة غير قَادِح فِيهَا، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه أَن الصَّلَاة تصح وَإِن حصل فِيهَا فكر مِمَّا لَيْسَ مُتَعَلقا بِالصَّلَاةِ، وَالَّذِي حُكيَ عَن بعض السّلف أَنه مِمَّا يضر غير مُعْتَد بِهِ. وَفِيه: طلب الْخُشُوع فِي الصَّلَاة والإقبال عَلَيْهَا وَنفي كل مَا يشغل الْقلب ويلهي عَنهُ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا: الْمُسْتَحبّ أَن يكون نظره إِلَى مَوضِع سُجُوده، لِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّعْظِيم من إرْسَال الطّرف يَمِينا وَشمَالًا. وَفِيه: الْمُبَادرَة إِلَى ترك كل مَا يلهي ويشغل الْقلب عَن الطَّاعَة والإعراض عَن زِينَة الدُّنْيَا والفتنة بهَا. وَفِيه: منع النّظر وَجمعه عَمَّا لَا حَاجَة بالشخص إِلَيْهِ فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا، وَقد كَانَ السّلف لَا يخطىء أَحدهمَا مَوضِع قَدَمَيْهِ، إِذا مَشى. وَفِيه: تكنية الْعَالم لمن دونه، وَكَذَلِكَ الإِمَام. وَفِيه: كَرَاهَة تزويق الْمِحْرَاب فِي الْمَسْجِد وحائطه ونقشه وَغير ذَلِك من الشاغلات. وَفِيه: قبُول الْهَدِيَّة من الْأَصْحَاب والإرسال إِلَيْهِم، وَاسْتدلَّ بِهِ الْبَاجِيّ على صِحَة المعاطاة فِي الْعُقُود بِعَدَمِ ذكر الصِّيغَة، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: إِنَّمَا أرسل إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ أهداها إِيَّاه، فَلَمَّا ألهاه علمهَا أَي: شغله إِيَّاه عَن الصَّلَاة بِوُقُوع نظره على نقوش الْعلم، ردهَا، أَو تفكر فِي أَن مثل ذَلِك الرعونة الَّتِي لَا تلِيق بِهِ، ردهَا إِلَيْهِ واستبدل مِنْهُ أنبجانية كَيْلا يتَأَذَّى قلبه بردهَا إِلَيْهِ. وَفِيه: كَرَاهِيَة الْأَعْلَام الَّتِي يتعاطاه النَّاس على أردانهم. وَفِيه: أَن لصور الْأَشْيَاء الظَّاهِرَة تَأْثِيرا فِي النُّفُوس الطاهرة والقلوب الزكية.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: كَيفَ بعث بِشَيْء يكرههُ لنَفسِهِ إِلَى غَيره؟ وَأجِيب: بِأَن بعثها إِلَى أبي جهم لم يكن لما ذكر، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهَا كَانَت سَبَب غفلته وشغله عَن الْخُشُوع وَعَن ذكر ا، كَمَا قَالَ: أخرجُوا عَن هَذَا الْوَادي الَّذِي أَصَابَكُم فِيهِ الْغَفْلَة، فَإِنَّهُ وَاد بِهِ شَيْطَان، أَلا ترى إِلَى قَوْله لعَائِشَة فِي الضَّب:(إِنَّا لَا نتصدق بِمَا لَا نَأْكُل) وَهُوَ عليه الصلاة والسلام، أقوى خلق الرّفْع الوسوسة، وَلَكِن كرهها لدفع الوسوسة. وَقَالَ ابْن بطال: وَأما بَعثه بالخميصة إِلَى أبي جهم وَطلب أنبجانيته فَهُوَ من بَاب الإدلال عَلَيْهِ لعلمه بِأَنَّهُ يفرح بِهِ.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَا وَجه تعْيين أبي جهم فِي الْإِرْسَال إِلَيْهِ؟ وَأجِيب بِأَن أَبَا جهم هُوَ الَّذِي أهداها لَهُ، فَلذَلِك ردهَا عَلَيْهِ. وروى الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي قَالَ: حدّثنا مَالك عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه عَن عَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهَا، قَالَت:(أهْدى أَبُو جهم إِلَى النَّبِي خميصة شامية لَهَا علم، فَشهد فِيهَا النَّبِي الصَّلَاة، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: ردي هَذِه الخميصة إِلَى أبي جهم فَإِنَّهَا كَادَت تفتنني) .
وَمِنْهَا مَا قيل: أَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِير خاطره بِالرَّدِّ عَلَيْهِ؟ وَأجِيب: بِمَا ذَكرْنَاهُ الْآن عَن ابْن بطال، وَالْأولَى من هَذَا مَا دلّت عَلَيْهِ رِوَايَة أبي مُوسَى الْمدنِي: ردوهَا عَلَيْهِ وخذوا أنبجانيته، لِئَلَّا يُؤثر رد الْهَدِيَّة فِي قلبه. وَعند أبي دَاوُد. (شغلني أَعْلَام هَذِه، وَأخذ كرديا كَانَ لأبي جهم، فَقيل: يَا رَسُول االخميصة كَانَت خيرا من الْكرْدِي) .
وَمِنْهَا مَا قيل: أَلَيْسَ فِيهِ إِشَارَة إِلَى اسْتِعْمَال أبي جهم إِيَّاهَا فِي الصَّلَاة؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا يلْزم مِنْهُ ذَلِك، وَمثله قَوْله فِي حلَّة عُطَارِد، حَيْثُ بعث بهَا إِلَى عمر: إِنِّي لم أبْعث بهَا إِلَيْك لتلبسها، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ الِانْتِفَاع بهَا من جِهَة بيع أَو إكساء لغيره من النِّسَاء. فَإِن قلت: لَيست قَضِيَّة أبي جهم مثل قَضِيَّة عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، لِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَم أبْعث بهَا إِلَيْك لكذا وَكَذَا، وَهِي إِذا ألهت سيد الْخلق مَعَ عصمته فَكيف لَا تلهي أَبَا جهم، على أَنه قيل: إِنَّه كَانَ أعمى فالإلهاء مَفْقُود عَنهُ. قلت: لَعَلَّه علم أَنه لَا يُصَلِّي فِيهَا، وَيحْتَمل أَن يكون خَاصّا بالشارع، كَمَا قَالَ:(كل فإنني أُنَاجِي من لَا تناجي) .
وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ يخَاف الافتتان من لَا يلْتَفت إِلَى الأكوان {مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى} (النَّجْم: 71) وَأجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة خَارِجا عَن طباعه فَأشبه ذَلِك نظره من وَرَائه، فَأَما إِذا رد إِلَى طبعه البشري فَإِنَّهُ يُؤثر فِيهِ مَا يُؤثر فِي الْبشر.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن المراقبة شغلت خلقا من أَتْبَاعه حَتَّى إِنَّه وَقع السّقف إِلَى جَانب مُسلم بن يسَار وَلم يعلم. وَأجِيب: بِأَن أُولَئِكَ يؤخذون عَن طباعهم فيغيبون عَن وجودهم، وَكَانَ الشَّارِع يسْلك طَرِيق الْخَواص وَغَيرهم، فَإِذا سلك طَرِيق