الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من المَال لم يُغير الْمَسْجِد عَن بُنْيَانه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي عهد النَّبِي، ثمَّ جَاءَ الْأَمر إِلَى عُثْمَان وَالْمَال فِي زَمَانه أَكثر وَلم يزدْ على أَن يَجْعَل مَكَان اللَّبن حِجَارَة وقصة وسقفه بالساج مَكَان الجريد، فَلم يقصر هُوَ وَعمر رَضِي اعنهما، عَن الْبلُوغ فِي تشييده إِلَى أبلغ الغايات، إلَاّ عَن علمهما بِكَرَاهَة النَّبِي ذَلِك، وليقتدي بهما فِي الْأَخْذ من الدُّنْيَا بِالْقَصْدِ والزهد والكفاية فِي معالي أمورها وإيثار الْبلْغَة مِنْهَا.
قلت: أول من زخرف الْمَسَاجِد الْوَلِيد بن عبد الْملك بن مَرْوَان، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر عصر الصَّحَابَة رَضِي اتعالى عَنْهُم، وَسكت كثير من أهل الْعلم عَن إِنْكَار ذَلِك خوفًا من الْفِتْنَة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: لما شيد النَّاس بُيُوتهم وزخرفوها فَانْتدبَ أَن يصنع ذَلِك بالمساجد صونا لَهَا عَن الاستهانة. وَقَالَ بَعضهم: وَرخّص فِي ذَلِك بَعضهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة إِذا وَقع ذَلِك على سَبِيل التَّعْظِيم للمساجد، وَلم يَقع الصّرْف على ذَلِك من بَيت المَال. قلت: مَذْهَب أَصْحَابنَا أَن ذَلِك مَكْرُوه، وَقَول بعض أَصْحَابنَا: وَلَا بَأْس بنقش الْمَسْجِد، مَعْنَاهُ: تَركه أولى، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
36 -
(بابُ التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تعاون النَّاس بَعضهم بَعْضًا فِي بِنَاء الْمَسْجِد، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن فِي ذَلِك أجرا، وَمن زَاد فِي عمله فِي ذَلِك زَاد فِي أجره، وَفِي بعض النّسخ: فِي بَاء الْمَسَاجِد، بِلَفْظ الْجمع.
وَقَوْلُ اللَّهِ {مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلَى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ وفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ. إِنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَى إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أولَئِكَ أنْ يَكونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} (التَّوْبَة: 71 81) .
13
- 50 كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر:( {مَا كَانَ للْمُشْرِكين إِن يعمروا مَسَاجِد ا} ) إِلَى قَوْله: {المهتدين} (التَّوْبَة: 71 81) وَلم يَقع فِي رِوَايَته لفظ: وَقَول اعز وَجل.
وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة أَنه لما أسر الْعَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنهُ، يَوْم بدر، أقبل عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ فعيرونه بالْكفْر وَأَغْلظ لَهُ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، فَقَالَ الْعَبَّاس: مَا لكم تذكرُونَ مساوينا دون محاسننا؟ فَقَالَ لَهُ لي ألكم محَاسِن؟ قَالَ؛ نعم إِنَّا لنعمر الْمَسْجِد الْحَرَام ونحجب الْكَعْبَة ونسقي الْحَاج ونفك العاني، فَأنْزل اتعالى هَذِه الْآيَة. وَقَالَ بَعضهم فِي تَوْجِيه ذكر البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة هَهُنَا وَذكره هَذِه الْآيَة مصير مِنْهُ إِلَى تَرْجِيح أحد الِاحْتِمَالَيْنِ من أحد الِاحْتِمَالَيْنِ، وَذَلِكَ أَن قَوْله تَعَالَى:{مَسَاجِد ا} (التَّوْبَة: 71 81) يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مَوَاضِع السُّجُود، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهَا الْأَمَاكِن المتخذة لإِقَامَة الصَّلَاة، وعَلى الثَّانِي يحْتَمل أَن يُرَاد بعمارتها بنيانها، وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْإِقَامَة فِيهَا لذكر اتعالى قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل لَا يُنَاسب معنى هَذِه الْآيَة أصلا، وَإِنَّمَا يُنَاسب معنى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با وَالْيَوْم الآخر
…
} (التَّوْبَة: 81) الْآيَة، على أَن أحدا من الْمُفَسّرين لم يذكر هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا هَذَا تصرف مِنْهُ بِالرَّأْيِ فِي الْقُرْآن فَلَا يجوز ذَلِك، وَيجب الْإِعْرَاض عَن هَذَا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معنى هَذِه الْآيَة: مَا يَنْبَغِي للْمُشْرِكين با أَن يعمروا مَسَاجِد االتي بنيت على اسْمه وَحده لَا شريك لَهُ، وَمن قَرَأَ مَسْجِد اأراد بِهِ الْمَسْجِد الْحَرَام، أشرف الْمَسَاجِد فِي الأَرْض الَّتِي بنى من أول يَوْم على عبَادَة اتعالى وَحده لَا شريك لَهُ، وأسسه خَلِيل الرَّحْمَن عليه الصلاة والسلام، هَذَا وهم شاهدون على أنفسهم بالْكفْر. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أما الْقِرَاءَة بِالْجمعِ فَفِيهَا وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يُرَاد بِهِ الْمَسْجِد الْحَرَام؟ وَإِنَّمَا قيل: مَسَاجِد الأنه قبْلَة الْمَسَاجِد كلهَا، وإمامها، فعامره كعامر جَمِيع الْمَسَاجِد، وَلِأَن كل بقْعَة مِنْهُ مَسْجِد.
وَالثَّانِي: أَن يُرَاد بِهِ جنس الْمَسَاجِد، فَإِذا لم يصلحوا أَن يعمروا جِنْسهَا دخل تَحت ذَلِك أَن لَا يعمروا الْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي هُوَ صدر الْجِنْس ومقدمته، وَهُوَ آكِد، لِأَن طَرِيقه طَرِيق الْكِنَايَة، كَمَا لَو قلت: فلَان لَا يقْرَأ كتب ا، كنت أنفى لقِرَاءَة الْقُرْآن من تصريحك بذلك، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر هَذِه الْآيَة من جملَة التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبَاب لَا يطابقها، وَلَو ذكر قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با
…
} (التَّوْبَة: 81) الْآيَة لَكَانَ أَجْدَر وَأقرب للمطابقة وَلَكِن يُمكن أَن يُوَجه ذَلِك وَإِن كَانَ فِيهِ بعض تعسف، وَهُوَ أَن يُقَال: إِنَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن التعاون فِي بِنَاء الْمَسَاجِد الْمُعْتَبر الَّذِي فِيهِ الْأجر إِنَّمَا كَانَ للْمُؤْمِنين، وَلم يكن ذَلِك للْكَافِرِينَ، وَإِن كَانُوا بنوا
مَسَاجِد ليتعبدوا فِيهَا بعبدتهم الْبَاطِلَة، أَلا ترى أَن الْعَبَّاس رَضِي اتعالى عَنهُ، لما أسر يَوْم بدر وعير بِكُفْرِهِ وَأَغْلظ لَهُ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، ادّعى أَنهم كَانُوا يعمرون الْمَسْجِد الْحَرَام، فَبين الْهم ذَلِك أَنه غير مَقْبُول مِنْهُم لكفرهم حَيْثُ أنزل على نبيه الْكَرِيم:{مَا كَانَ للْمُشْرِكين أَن يعمروا مَسَاجِد ا} (التَّوْبَة: 71) كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، ثمَّ أنزل فِي حق الْمُسلمين الَّذين يتعاونون فِي بِنَاء الْمَسَاجِد قَوْله: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با
…
} (التَّوْبَة: 81) الْآيَة، وَالْمعْنَى: إِنَّمَا الْعِمَارَة المعتد بهَا عمَارَة من آمن با، فَجعل عمَارَة غَيرهم كلا عمَارَة حَيْثُ ذكرهَا بِكَلِمَة الْحصْر، وروى عبد بن حميد فِي مُسْنده: حدّثنا يُونُس بن مُحَمَّد حدّثنا صَالح الْمزي عَن ثَابت الْبنانِيّ وَمَيْمُون بن سياه وجعفر بن زيد عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِن عمار الْمَسْجِد هم أهل ا) ، وَرَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَزَّار أَيْضا، وَلَا شكّ أَن أهل اهم الْمُؤْمِنُونَ.
744701 -
ح دّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا عَبْدُ العَزيزِ بنُ مُخْتَارٍ قَالَ حدّثنا خالِدٌ الحَذَّاءُ عنْ عِكْرِمَةَ قَالَ لِيَ ابنُ عَبَّاس وَلاِبْنِهِ عَلِيّ إنْطَلِقَا إِلى أبي سَعِيدٍ فاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فاحْتَبَي ثُمَّ أنْشَأَ يُحَدِّثُنا حَتَّى أتَى ذِكْرُ بِنَاءِ المسْجِدِ فَقَالَ كُنَّا نَحْملُ لَبنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتْينِ لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِي فَنَفَضَ الترَابَ عَنْهُ وقالَ وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ. (الحَدِيث 744 طرفه فِي: 2182) .
مطابقته للتَّرْجَمَة الأولى ظَاهِرَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن مُخْتَار أَبُو إِسْحَاق الدّباغ الْبَصْرِيّ الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث: خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الذَّال الْمُعْجَمَة، وَقد تقدم. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عَليّ بن عبد ابْن عَبَّاس بن عبد الْمطلب الْقرشِي الْهَاشِمِي أَبُو الْحسن، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد، كَانَ مولده لَيْلَة قتل عَليّ بن أبي طَالب فَسمى باسمه وكنى بكنيته، وَكَانَ غَايَة فِي الْعِبَادَة والزهد وَالْعلم وَالْعَمَل وَحسن الشكل والفقهه، وَكَانَ يُصَلِّي كل يَوْم ألف رَكْعَة، هُوَ جد السفاح والمنصور الخليفتين، وَكَانَ يدعى: السَّجَّاد، لذَلِك. وَكَانَ لَهُ خَمْسمِائَة أصل زيتون يُصَلِّي كل يَوْم عِنْد أصل كل شَجَرَة رَكْعَتَيْنِ، مَاتَ بعد الْعشْرين وَمِائَة، إِمَّا سنة أَربع عشرَة أَو سبع عشرَة أَو عشر، عَن ثَمَان أَو تسع وَسبعين سنة. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي اعنه.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن إِسْنَاده كُله بَصرِي لِأَن ابْن عَبَّاس أَقَامَ أَمِيرا على الْبَصْرَة مُدَّة، وَعِكْرِمَة مَوْلَاهُ مَعَه.
ذكر تعدد مَوْضِعه: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (ولابنه)، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى ابْن عَبَّاس. قَوْله:(فَإِذا هُوَ)، كلمة: إِذا، هَهُنَا للمفاجأة، أَي: فَإِذا أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ فِي حَائِط، أَي: بُسْتَان. وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ لَا سقف لَهُ. قَوْله: (يصلحه) جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر لقَوْله: هُوَ، وَلَفظ البُخَارِيّ فِي بَاب الْجِهَاد:(فأتيناه وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِط لَهما يسقيانه) قيل: أَخُوهُ هَذَا لأمه، وَهُوَ قَتَادَة بن النُّعْمَان، ورد بِأَن هَذَا لَا يَصح، لِأَن عَليّ بن عبد ابْن عَبَّاس ولد فِي آخر خلَافَة عَليّ بن أبي طَالب، وَمَات قَتَادَة بن النُّعْمَان قبل ذَلِك فِي أَوَاخِر خلَافَة عمر بن الْخطاب رَضِي اتعالى عَنهُ، وَلَيْسَ لأبي سعيد أَخ شَقِيق وَلَا أَخ من أَبِيه وَلَا من أمه إلَاّ قَتَادَة، فَيحْتَمل أَن يكون الْمَذْكُور أَخَاهُ من الرضَاعَة، وَا تَعَالَى أعلم. قَوْله:(فاحتبى) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة بعد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، يُقَال؛ احتبى الرجل إِذا جمع ظَهره وساقيه بعمامته، وَقد يحتبي بيدَيْهِ. قَوْله:(أنشأ) بِمَعْنى: طفق، وهما من أَفعَال المقاربة وضعا للدلالة على الشُّرُوع فِي الْخَبَر، ويعملان عمل: كَانَ إلَاّ أَن خبرهما يجب أَن يكون جملَة، ويشاركهما فِي هَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ: جعل وعلق وَأخذ.
قَوْله: (يحدّثنا) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر: أنشأ. قَوْله: (حَتَّى أَتَى) وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (حَتَّى إِذا أَتَى) . قَوْله: (بِنَاء الْمَسْجِد)، أَي: الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، فالألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد. قَوْله:(قَالَ) : أَي أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ. قَوْله: (لبنة)، بِفَتْح اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا النُّون: وَهِي الطوب النيء، وانتصابها على أَنَّهَا مفعول: نحمل، وانتصاب
الثَّانِيَة بِأَنَّهُ تَأْكِيد لَهَا. قَوْله: (وعمار) أَي: يحمل عمار بن يَاسر لبنتين لبنتين. زَاد معمر فِي رِوَايَته: (لبنة عَنهُ ولبنة عَن رَسُول ا) . وَفِيه زِيَادَة أَيْضا لم يذكرهَا البُخَارِيّ، وَوَقعت عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق خَالِد الوَاسِطِيّ: عَن خَالِد الْحذاء، وَهِي:(فَقَالَ النَّبِي: يَا عمار أَلَاّ تحمل كَمَا يحمل أَصْحَابك؟ قَالَ: إِنِّي أُرِيد من االأجر) .
قَوْله: (فَرَآهُ النَّبِي)، الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى عمار. قَوْله:(فنفض التُّرَاب عَنهُ)، ويروى:(فينفض التُّرَاب عَنهُ) ، وَفِيه التَّعْبِير بِصِيغَة الْمُضَارع فِي مَوضِع الْمَاضِي لاستحضار ذَلِك فِي نفس السَّامع كَأَنَّهُ شَاهده، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:(فَجعل ينفض التُّرَاب عَنهُ) . وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي بَاب الْجِهَاد: (عَن رَأسه)، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله:(وَيْح عمار)، كلمة: وَيْح، كلمة رَحْمَة كَمَا أَن كلمة: ويل، كلمة عَذَاب. تَقول: وَيْح لزيد وويل لَهُ، برفعهما على الِابْتِدَاء، وَلَك أَن تَقول: ويحاً لزيد وويلاً لَهُ، فتنصبهما بإضمار فعل، وَأَن تَقول: وَيحك وويح زيد، وويلك وويل زيد، بِالْإِضَافَة فتنصب أَيْضا بإضمار الْفِعْل، وَهَهُنَا بِنصب الْحَاء لَا غير. قَوْله:(الفئة) هِيَ الْجَمَاعَة: و: (الباغية) هم الَّذين خالفوا الإِمَام وَخَرجُوا عَن طَاعَته بِتَأْوِيل بَاطِل ظنا بمتبوع مُطَاع. قَوْله: (يَدعُوهُم) أَي: يَدْعُو عمار الفئة الباغية وهم الَّذين قَتَلُوهُ فِي وقْعَة صفّين، وأعيد الضَّمِير إِلَيْهِم، وهم غير مذكورين صَرِيحًا. قَوْله:(إِلَى الْجنَّة) أَي: إِلَى سَببهَا، وَهِي الطَّاعَة. كَمَا أَن سَبَب النَّار هُوَ الْمعْصِيَة. قَوْله:(ويدعونه إِلَى النَّار)، أَي: يَدْعُو هَؤُلَاءِ الفئة الباغية عمارًا إِلَى النَّار. فَإِن قيل: كَانَ قتل عمار بصفين، وَكَانَ مَعَ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، وَكَانَ الَّذين قَتَلُوهُ مَعَ مُعَاوِيَة، وَكَانَ مَعَه جمَاعَة من الصَّحَابَة فَكيف يجوز أَن يَدعُوهُ إِلَى النَّار؟ فَأجَاب ابْن بطال عَن ذَلِك فَقَالَ: إِنَّمَا يَصح هَذَا فِي الْخَوَارِج الَّذين بعث إِلَيْهِم عَليّ عماراً يَدعُوهُم إِلَى الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ يَصح فِي أحد من الصَّحَابَة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتَأَوَّل عَلَيْهِم إلَاّ أفضل التَّأْوِيل. قلت: تبع ابْن بطال فِي ذَلِك الْمُهلب، وَتَابعه على ذَلِك جمَاعَة فِي هَذَا الْجَواب، وَلَكِن لَا يَصح هَذَا، لِأَن الْخَوَارِج إِنَّمَا خَرجُوا على عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، بعد قتل عمار بِلَا خلاف بَين أهل الْعلم بذلك، لِأَن ابْتِدَاء أَمرهم كَانَ عقيب التَّحْكِيم بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة، وَلم يكن التَّحْكِيم إلَاّ بعد انْتِهَاء الْقِتَال بصفين، وَكَانَ قتل عمار قبل ذَلِك قطعا، وَأجَاب بَعضهم بِأَن المُرَاد بالذين يَدعُونَهُ إِلَى النَّار كفار قُرَيْش، وَهَذَا أَيْضا لَا يَصح، لِأَنَّهُ وَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن وكريمة وَغَيرهمَا زِيَادَة توضيح بِأَن الضَّمِير يعود على قتلة عمار، وهم أهل الشَّام. وَقَالَ الْحميدِي: لَعَلَّ هَذِه الزِّيَادَة لم تقع للْبُخَارِيّ، أَو وَقعت فحذفها عمدا وَلم يذكرهَا فِي الْجمع. قَالَ: وَقد أخرجهَا الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبرْقَانِي فِي هَذَا الحَدِيث، وَالْجَوَاب الصَّحِيح فِي هَذَا أَنهم كَانُوا مجتهدين ظانين أَنهم يَدعُونَهُ إِلَى الْجنَّة، وَإِن كَانَ فِي نفس الْأَمر خلاف ذَلِك، فَلَا لوم عَلَيْهِم فِي اتِّبَاع ظنونهم، فَإِن قلت: الْمُجْتَهد إِذا أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا أَخطَأ فَلهُ أجر، فَكيف الْأَمر هَهُنَا. قلت: الَّذِي قُلْنَا جَوَاب إقناعي فَلَا يَلِيق أَن يُذكر فِي حق الصَّحَابَة خلاف ذَلِك، لِأَن اتعالى أثنى عَلَيْهِم وَشهد لَهُم بِالْفَضْلِ، بقوله:{كُنْتُم خير أمة أُخرجت للنَّاس} (آل عمرَان: 011)، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هم أَصْحَاب مُحَمَّد.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْفَوَائِد فِيهِ: أَن التعاون فِي بُنيان الْمَسْجِد من أفضل الْأَعْمَال لِأَنَّهُ مِمَّا يجْرِي للْإنْسَان أجره بعد مَوته، وَمثل ذَلِك حفر الْآبَار وَكري الْأَنْهَار وتحبيس الْأَمْوَال التييعم الْعَامَّة نَفعهَا. وَفِيه: الْحَث على أَخذ الْعلم من كل أحد وَإِن كَانَ الْآخِذ أفضل من الْمَأْخُوذ مِنْهُ، أَلا ترى أَن ابْن عَبَّاس مَعَ سَعَة علمه أَمر ابْنه عليا بِالْأَخْذِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ؟ قيل: يحْتَمل أَن يكون إرْسَال ابْن عَبَّاس إِلَيْهِ لطلب علو الْإِسْنَاد، لِأَن أَبَا سعيد أقدم صُحْبَة وَأكْثر سَمَاعا من النَّبِي. قلت: مَعَ هَذَا لَا يُنَافِي ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: أَن الْعَالم لَهُ أَن يتهيأ للْحَدِيث وَيجْلس لَهُ جلْسَة. وَفِيه: ترك التحديث فِي حَالَة المهنة إعظاماً للْحَدِيث وتوقيراً لصحابه. وَهَكَذَا كَانَ السّلف. وَفِيه: أَن للْإنْسَان أَن يَأْخُذ من أَفعَال الْبر مَا يشق عَلَيْهِ إِن شَاءَ كَمَا أَخذ عمار لبنتين. وَفِيه: إكرام الْعَامِل فِي سَبِيل اوالإحسان إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْل. وَفِيه: عَلامَة النُّبُوَّة لِأَنَّهُ أخبر بِمَا يكون فَكَانَ كَمَا قَالَ. وَفِيه: إصْلَاح الشَّخْص: بِمَا يتَعَلَّق بِأَمْر ديناه كإصلاح بستانه وَكَرمه بِنَفسِهِ وَكَانَ السّلف على ذَلِك لِأَن فِيهِ إِظْهَار التَّوَاضُع وَدفع الْكبر وهما من أفضل الْأَعْمَال الصَّالِحَة. وَفِيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لعَلي وعمار، ورد على النواصب الزاعمين أَن عليا لم يكن مصيباً فِي حروبه. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الِاسْتِعَاذَة من الْفِتَن لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أحد فِي الْفِتْنَة أمأجور هُوَ أم مأزور؟ إلَاّ بِغَلَبَة الظَّن، وَلَو كَانَ مأّوراً لما استعاذ عمار من الْأجر.