الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترغيب في الإخلاص والصدق والنية
1 -
عَن ابْن عمر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: "انْطلق ثَلَاثَة نفر مِمَّن كَانَ قبلكُمْ حَتَّى آواهم الْمبيت إِلَى غَار فَدَخَلُوا فانحدرت صَخْرَة من الْجَبَل فَسدتْ عَلَيْهِم الْغَار، فَقَالُوا: إِنَّه لا ينجيكم من هَذِه الصَّخْرَة إِلَا أَن تدعوا الله بِصَالح أَعمالكُم، فَقَالَ رجل مِنْهُم: اللَّهُمَّ كَانَ لي أبَوَانِ شَيْخَانِ كبيران وَكنت لا أغبق قبلهمَا أَهلا وَلا مَالا فنأى بِي طلب شجر يَوْمًا فَلم أرح عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا فحلبت لَهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فَكرِهت أَن أغبق قبلهمَا أَهلا أَو مَالا فَلَبثت والقدح على يَدي أنْتَظر استيقاظهما حَتَّى برق الْفجْر (زَاد بعض الروَاة والصبية يتضاغون عِنْد قدمي فَاسْتَيْقَظَا فشربا غبوقهما) اللَّهُمَّ إِن كنت فعلت ذَلِك ابْتِغَاء وَجهك فَفرج عَنَّا مَا نَحن فِيهِ من هَذِه الصَّخْرَة فانفرجت شَيْئا لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوج مِنْهَا، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: قَالَ الآخر: اللَّهُمَّ كَانَت لي ابْنة عَم كَانَت أحب النَّاس إِلَيّ فأردتها عَن نَفسهَا فامتنعت مني حَتَّى ألمت بهَا سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشْرين وَمِائَة دِينَار على أَن تخلي بيني وَبَين نَفسهَا فَفعلت حَتَّى إِذا قدرت عَلَيْهَا قَالَت لا يحل لَك أَن تفض الْخَاتم إِلَا بِحقِّهِ فتحرجت من الْوُقُوع عَلَيْهَا فَانْصَرَفت عَنْهَا وَهِي أحب النَّاس إِلَيّ وَتركت الذَّهَب الَّذِي أعطيتهَا اللَّهُمَّ إِن كنت فعلت ذَلِك ابْتِغَاء وَجهك فافرج عَنَّا مَا نَحن فِيهِ، فانفرجت الصَّخْرَة غير أَنهم لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوج مِنْهَا، قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الثَّالِث: اللَّهُمَّ إِنِّي
اسْتَأْجَرت أجراء وأعطيتهم أجرتهم غير رجل وَاحِد ترك الَّذِي لَهُ وَذهب فثمرت أجره حَتَّى كثرت مِنْهُ الأمْوَال فَجَاءَنِي بعد حِين فَقَالَ لي: يَا عبد الله أد إِلَيّ أجري فَقلت كل مَا ترى من أجرك من الإبل وَالْبَقر وَالْغنم وَالرَّقِيق، فَقَالَ يَا عبد الله: لا تستهزئ بِي فَقلت: إِنِّي لا أستهزئ بك فَأَخذه كله فساقه فَلم يتْرك مِنْهُ شَيْئا اللَّهُمَّ إِن كنت فعلت ذَلِك ابْتِغَاء وَجهك فافرج عَنَّا مَا نَحن فِيهِ، فانفرجت الصَّخْرَة فَخَرجُوا يَمْشُونَ"
(1)
.
وَفِي رِوَايَة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلَاثَة نفر مِمَّن كَانَ قبلكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُم مطر فأووا إِلَى غَار فانطبق عَلَيْهِم فَقَالَ بَعضهم لبَعض إِنَّه وَالله يَا هَؤُلاءِ لا ينجيكم إِلَا الصدْق فَليدع كلل رجل مِنْكُم بِمَا يعلم أَنه قد صدق فِيهِ فَقَالَ أحدهم اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنه كَانَ لي أجِير عمل لي على فرق من أرز فَذهب وَتَركه وَإِنِّي عَمَدت إِلَى ذَلِك الْفرق فزرعته فَصَارَ من أمره إِلَى أَن اشْتريت مِنْهُ بقرًا وَإنَّهُ أَتَانِي يطْلب أجره فَقلت لَهُ اعمد إِلَى تِلْكَ الْبَقر فَإِنَّهَا من ذَلِك الْفرق، فساقها فَإِن كنت تعلم أنَي فعلت ذَلِك من خشيتك فَفرج عَنَّا فانساحت عَنْهُم الصَّخْرَة
…
" فَذكر الحَدِيث قَرِيبًا من الأول. رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه. بِاخْتِصَار وَيَأْتِي لَفظه فِي بر الْوَالِدين إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
(1)
أخرجه البخاري (2272، 2333، 3465، 5974)، ومسلم (2743)، وأبو داود (3387)، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (8461)، وأحمد (10/ 180)، وابن حبان (897) من حديث ابن عمر. وأخرجه ابن حبان (971) من حديث أبي هريرة.
قَوْله: (وَكنت لا أغبق قبلهمَا أَهلا وَلا مَالا) الغبوق: بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة هُوَ الَّذِي يشرب بالْعَشي وَمَعْنَاهُ كنت لَا أقدم عَلَيْهِمَا فِي شرب اللَّبن أَهلا وَلَا غَيرهم، يتضاغون بالضاد والغين المعجمتين أَي يصيحون من الْجُوع، السّنة: الْعَام المقحط الَّذِي لم تنْبت الأَرْض فِيهِ شيْئا سَوَاء نزل غيث أم لم ينزل تفض الْخَاتم هُوَ بتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة وَهُوَ كِنَايَة عَن الْوَطْء الْفرق بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء مكيال مَعْرُوف فانساحت هُوَ بِالسِّين والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ أَي تنحت الصَّخْرَة وزالت عَن الْغَار.
قوله: (وعن ابن عمر)، المراد به عبد الله بن عُمر بن الخطاب - وهو أحد العبادلة الأربعة، وهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص، هكذا قال الإمام أحمد بن حنبل وسائر المحدثين قبل الإمام أحمد بن حنبل، فابن مسعود قال: ليس هو منهم
(1)
، وقد نظم بعض الفضلاء ذلك في بيتين فقال - عفا الله عنه -
(2)
:
إنَّ الْعَبَادِلَةَ الأخْيَارَ أَرْبَعَة
…
سُبَلُ الْعِلْمِ لِلإِسْلامِ فِي النَّاسِ
ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ الْعَاصِ وَابْنُ أَبِي
…
حَفْصِ الْخَلِيفَةِ وَالْحَبْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ
ولا يطلق العبادلة اصطلاحًا على غيرهم وإن أطلقه الجوهري في صحاحه
(3)
(1)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 267).
(2)
هو محمد بن عبد المحسن بن الحسن شرف الدين الأرمنتي، قاضي البهنسا انظر أعوان النصر (4/ 545 - 547) والوافى بالوفيات (4/ 24 - 25) وطبقات الشافعية (9/ 166).
(3)
الصحاح (2/ 505) و (6/ 2560) وليس فيهم عنده ابن مسعود كما ذكر المصنف تبعا للنووي في تهذيب الأسماء واللغات (1/ 267).
على ابن مسعود لتقدم وفاته، وإنما خص هؤلاء من العبادلة بالذكر لكونهم من أصاغر الصحابة وفقهائهم وتأخروا وأخذ عنهم العلم والرواية
(1)
، وأولاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عبد الله هذا، وحفصة، أمهما بنت مظعون الجمحية وعبيد الله أمه مليكة الخزاعية
(2)
، وعاصم أمه جميلة بنت عاصم
(3)
وعبد الله بن عمر هو القرشي العدوي المدني الصحابي الزاهد ابن الصحابي الزاهد، أسلم مع أبيه قبل بلوغه، وهاجر قبل أبيه، وأجمعوا على أنه لم يشهد بدرًا لصغره، وقيل: شهد أحدًا، وقيل: لم يشهدهما، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف حديث وستمائة حديث، وثلاثون حديثا اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأحد وثمانين حديثا، ومسلم بأحد وثلاثين حديثًا، روى عنه: أولاده الأربعة: سالم وحمزة وعبد الله وبلال وخلائق لا يحصون من كبار التابعين
(4)
.
واعلم أن ابن عمر أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: أبو هريرة ثم ابن عمر ثم أنس بن مالك ثم ابن عباس ثم جابر بن عبد الله ثم عائشة رضي الله عنهم
(5)
، وكان ابن عمر رضي الله عنهما شديد
(1)
العدة في شرح العمدة (1/ 123 - 124)، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 461).
(2)
هي مليكة بنت جرول.
(3)
تهذيب الأسماء واللغات (2/ 15) في ترجمة عمر وزاد: وفاطمة وزيد أمهما أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة، رضى الله عنهم، ومجبر واسمه عبد الرحمن، وأبو شمحة واسمه أيضا عبد الرحمن، وفاطمة، وبنات أخر.
(4)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 278 - 279).
(5)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 280).
الاتباع لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان ينزل منازله، ويصلي في كل مكان صلى فيه رسول الله، وفي كل شيء من الأقوال والأفعال وفي الزهادة في الدنيا وغير ذلك، وسيأتي الكلام على شدة اتباعه لآثار الرسول صلى الله عليه وسلم قريبا إن شاء الله تعالى، توفي ابن عمر رضي الله عنه: بمكة سنة ثلاث وسبعين بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر وقيل بستة أشهر، وقال يحيى بن بكير: توفي ابن عمر بمكة بعد الحج، ودفن بالمحصب، قال: وبعض الناس يقول توفي بفخ: وفخ بالخاء المعجمة موضع بقرب مكة ومناقبه كثيرة مشهورة قاله النووي في تهذيب الأسماء واللغات
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم" الحديث، قال أهل اللغة: النفر من الثلاثة إلى العشرة
(2)
لا واحد له من لفظه، وكذلك الزود والرهط والقوم والنساء وأشباه هذا من الألفاظ لا واحد لها من لفظها
(3)
، وعن أبي عثمان المازري
(4)
أن البصريين أضافوا إلى رهط ونفر ولم يضيفوا إلى قوم وبشر، فقالوا: إن ثلاثة نفر وتسعة رهط، ولم يقولوا: تلاثة بشر وثلاثة قوم، لأن بشرًا يكون للكثير وقومًا يكون للقليل والكثير، ورهطًا ونفرًا لا يكونان
(1)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 278 - 281).
(2)
العين (8/ 267)، الصحاح (2/ 833)، وجامع الأصول (11/ 334).
(3)
شرح النووى على مسلم (7/ 50)، وكفاية النبيه (8/ 221)، والعدة (2/ 854).
(4)
كذا في الأصل وإنما هو المازني أبو عثمان (247 هـ) بكر بن محمد بن حبيب المازني النحوي إمام العربية صاحب التصريف. انظر وفيات الأعيان 1: 92 ومعجم الأدباء 2: 280 والسيرافي 74 وأنباه الرواة 1: 246.
إلا للقليل فلذلك أضافوا إليه ما بين الثلاثة إلى العشرة؛ لأن ذلك في معنى ما كان في العدد
(1)
، كذا في الباب، والرهط جمعه أرهط وأرهاط وأراهيط
(2)
.
قوله: "حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوا" الحديث، يقال: آوى إليه إذا رجع إليه، ويجوز فيه المد والقصر، والمد أكثر
(3)
، وسيأتي الكلام على ذلك في باب أذكار اليوم حين يأوي إلى فراشه؛ والغار بالغين المعجمة والمغار بزيادة ميم في أوله والمغارة بزيادة ميم في أوله وتاء في آخره، قاله في شرح الأحكام
(4)
؛ قال النووي في شرح مسلم: الغار هو النقب في الجبل
(5)
، وهو قريب من معنى الكهف، وقال الجوهري: الغار كالكهف في الجبل
(6)
، قال: والكهف كالبيت المنقوب في الجبل
(7)
، وقال ثعلب: هو المنخفض في الجبل، وكل مطمئن من الأرض غار
(8)
، وقال ابن الأثير في النهاية
(9)
: هو الكهف، وتصغير الغار: غُوَير، وجمعه: غِيران
(10)
، والله أعلم.
(1)
الفائق (3/ 243).
(2)
الصحاح (3/ 1128)، وشرح النووى على مسلم (2/ 7).
(3)
انظر السير الغريب (1/ 403)، وكشف المشكل (4/ 70)، والنهاية (1/ 82) والاقتضاب (2/ 225)، وشرح النووى على مسلم (9/ 140) والكواكب الدرارى (9/ 62).
(4)
طرح التثريب (4/ 187).
(5)
شرح النووي على مسلم (2/ 198).
(6)
الصحاح (2/ 773).
(7)
الصحاح (4/ 1425).
(8)
المحكم (6/ 51).
(9)
النهاية (3/ 395).
(10)
شرح النووي على مسلم (2/ 198).
قوله: "فانحدرت صخرة من الجبل" انحدرت: بالدال المهملة.
قوله: "فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم" الحديث، تدعوا: بسكون الواو لأنه لفظ الجمع.
قوله: "قال رجل منهم: اللهم" أصل اللهم: يا الله أمنِّا بخير، على الأصح، فحذف حرف النداء وعوض عنه الميم في آخره
(1)
.
قوله: "كان لي أبوان شيخان كبيران"، هو من باب التغليب إذ المقصود الأب والأم
(2)
.
قوله: "وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا" لا أغبق: بفتح الهمزة وضم الباء، يقال فيه: غبقت الرجل بفتح الباء أغبقه بضمها مع فتح الهمزة غبقا فاغتبق، وهذا الذي ذكرته من ضبطه، متفق عليه في كتب اللغة وكتب غريب الحديث والشروح، وقد يصحفه بعض من لا أنس له فيقول: أُغْبِقُ بضم الهمزة وكسر الباء، وهذا غلط، انتهى، قاله النووي في شرح مسلم
(3)
؛ وقد ضبطه الأصيلي رباعيا بضم الهمزة وكسر الباء الموحدة وكذلك هو كذلك في أواخر الأذكار أو الرياض، وكذا رأيته في نسخة منه، والصواب: بفتح الهمزة لأنه ثلاثي
(4)
، والله أعلم.
(1)
قاله الفراء كما في الزاهر (ص 62)، ومعالم السنن (1/ 279) وتحرير ألفاظ التنبيه (ص 140).
(2)
الكواكب الدرارى (10/ 66).
(3)
شرح النووى على مسلم (17/ 58).
(4)
انظر: مشارق الأنوار (2/ 128)، ومطالع الأنوار (5/ 126)، والأذكار (ص 398).
والغبوق: بفتح الغين المعجمة هو الذي يشرب بالعشي، قاله الحافظ
(1)
.
قوله: "فنأى بي طلب شجر يومًا"؛ نأى ينأى مثل: سعى يسعى، ويقال مقلوبا ناء يناء
(2)
، فالأول بجعل الهمزة قبل الألف، وبه قرأ أكثر القراء السبعة في قوله تعالى:{أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ}
(3)
، والثاني: عكسه كما تقدم وهما لغتان، وقراءتان ومعناهما بعد
(4)
، والنأي البعد أي بعد بي طلب المرعى في الشجر والرجوع عنه
(5)
.
قوله: "فلم أرح عليها حتى ناما" قال القاضي عياض في المشارق
(6)
: أرح بضم الهمزة وكسر الراء للأصيلي، والإراحة رد الماشية بالعشي، ولغير الأصيلي: فلم أرح أي: بفتح الهمزة وضم الراء أي لم أرجع بالماشية، قال القاضي: هما سواء يقال: راح إبله وأراحها.
قوله: "فحلبت لهما غبوقهما" الحديث، وغبوقهما ما كان معدًّا للغبوق وهو ما يشرب بالعشي، وتقدم ضبطه، والصبوح بالفتح لأنه يشرب في وقت الصباح
(7)
.
(1)
أى المنذرى.
(2)
فتح البارى (1/ 192).
(3)
سورة الإسراء، الآية:83.
(4)
شرح النووى على مسلم (17/ 56).
(5)
إكمال المعلم (8/ 236)، ومطالع الأنوار (4/ 115)، وفتح البارى (1/ 192).
(6)
مشارق الأنوار (1/ 301).
(7)
الكواكب الدرارى (10/ 105)، والكوثر الجارى (4/ 506).
قوله: "فكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا" الحديث، قال الأهل هنا محمول على الأقرباء نحو الأخ والأخت.
قوله: "أو مالا" أي: لا مملوكا ولا مملوكة، قاله الكرماني
(1)
. قوله: "فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما"، قرأ ابن محيصن والأعمش وأبو عمرو والكسائي وحمزة: لبثت ولبثتم بالإدغام في جميع القراءات، والباقون بالإظهار، فمن أدغم فللمجاورة في المخرج والمشاكلة في الهمس، ومن أظهر فلزيادة التاء بالتفشي وكلاهما عربيان صحيحان فصيحان، ومعناه: مكثت وأقمت
(2)
يقال: لبث يلبث لبثا ولباثا، واللبث واللباث المكث
(3)
.
قوله: "والقدح على يدي" والقدح هو: الإناء المعد للحلاب.
قوله: "حتى برق الفجر"، بفتح الراء بمعنى: لمع وتلألأ
(4)
، وأما {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)}
(5)
، فهو بالكسر فمعناه: تحير
(6)
، ومن قرأ {بَرِقَ الْبَصَرُ} بالفتح فإنما عنى بريقه إذا شخص وهو من المعنى الأول
(7)
.
(1)
الكواكب الدرارى (10/ 105).
(2)
تفسير الثعلبى (2/ 246)، والتفسير البسيط (4/ 385)، وزاد المسير (1/ 234)
(3)
الصحاح (1/ 291).
(4)
شرح مسند الشافعي (4/ 291)، ولسان العرب (10/ 15).
(5)
سورة القيامة، الآية:7.
(6)
معانى القراءات (3/ 106)، التفسير البسيط (22/ 483)
(7)
الصحاح (4/ 1449)، واللباب (19/ 550)، والتبيان (ص 328 - 329)، ومعترك الأقران (2/ 87).
قوله: "والصبية" الصبية جمع صبي وهو الغلام
(1)
.
قوله: "يتضاغون" بالضاد والغين المعجمتين، أي يضجون من الجوع، قاله الحافظ
(2)
، وقال الكرماني
(3)
: هو من الضغاء وهو الصياح، وكذلك كل صوت دليل مغمور، انتهى.
تنبيه: فإن قلت: نفقة الفروع - يعني الأولاد - مقدمة على نفقة الأصول، فلم تركهم جائعين؟
قلت: لعل في دينهم نفقة الأصل مقدمة، أو كانوا يطلبون الزائد على سد الرمق، أو كان صياحهم لم يكن من الجوع، والله أعلم، قاله الكرماني
(4)
.
قوله: "اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة"؛ أي: أرحنا وأزلها عنا.
قوله: "فانفرجت حيث لا يستطيعون الخروج" الحديث، انفرجت: أي اتسعت وانفتحت
(5)
.
قوله: "قال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ، فأردتها على نفسها" أي: مستعلية عليها، وفي بعض النسخ:(فأردتها عن نفسها) أي:
(1)
الصحاح (6/ 2398)، والعدة (1/ 313)، والمفاتيح (6/ 128)، الكواكب الدرارى (21/ 149)، واللامع الصبيح (15/ 18)، وشرح المصابيح (6/ 220).
(2)
أى المنذرى.
(3)
في الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (10/ 66).
(4)
في الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (10/ 66).
(5)
السير الغريب (ص 180).
بسبب نفسها ومن جهتها
(1)
.
قوله: "حتى ألمت بها سنة من السنين" ألمت: بتشديد الميم بعدها علامة التأنيث، أي: نزلت بها سنة من سني القحط
(2)
، معناه: حلت بها وغشيتها
(3)
، قال الحافظ
(4)
: والسنة: العام المقحط الذي لا تنبت الأرض فيه شيئا سواء نزل غيث أو لم ينزل، انتهى.
قوله: "فجائتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها" الحديث، كذا هنا ووقع في البخاري في باب ما إذا اشترى شيئا لغيره "فأعطيتها مائة دينار" وظاهر الحديثين التعارض وجواب ما قاله الكرماني
(5)
إلى التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد إذ المائة كانت بالتماسها والعشرين تبرع منه كرامة لها.
قوله: "حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك، لا تفض الخاتم إلا بحقه"، وفي رواية ذكرها النووي في الرياض
(6)
: "فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه" تفض [بضم الفاء] وتشديد الضاد
(1)
الكواكب الدرارى (10/ 105).
(2)
الكواكب الدرارى (10/ 105).
(3)
مشارق الأنوار (1/ 359).
(4)
أى المنذرى.
(5)
الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (10/ 105).
(6)
رياض الصالحين صـ 33، تحقيق شعيب الأرناؤوط.
وهو كناية عن الوطء، قاله الحافظ
(1)
، ولم يذكر ضم الفاء، وزاد غيره: أي لا تكسره؛ والافتضاض بالفاء والاقتضاض بالقاف والافتراع بالتاء أيضًا كله بمعنى، يقال: اقتض الجارية بالقاف أي افتضها بالفاء ومعناه: لا تكسره، وهو عبارة عن إزالة عذرتها وكسر خاتم الله الذي جعله عليها
(2)
؛ والخاتم فيه لغتان: كسر التاء وفتحها
(3)
وهما قراءتان في السبع
(4)
.
قوله: "إلا بحقه"، أي بواجبه في الشرع الذي كانوا عليه، قاله في المشارق
(5)
، وقال غيره: والمراد بالحق هنا الوجه الجائز من النكاح لا بالباطل من الفاحشة
(6)
، أي: لا أجوز لك إزالة البكارة إلا بالحلال
(7)
، والله أعلم.
قوله: "فتحرجت من الوقوع عليها" أي تجنبت عن الحرج واحترزت منه
(8)
، والحرج: الإثم كما يقال: تأثم: خرج عن الإثم، وتحنث: خرج عن
(1)
أى المنذرى.
(2)
مشارق الأنوار (2/ 160)، ومطالع الأنوار (5/ 255).
(3)
السبعة في القراءات (ص 522)، وشرح المشكاة (9/ 2912)، وطرح التثريب (4/ 40)، والكوثر الجارى (1/ 155).
(4)
السبعة في القراءات (ص 522)، والحجة للقراء السبعة (5/ 476).
(5)
قاله في مطالع الأنوار (2/ 346)، وانظر مشارق الأنوار على صحاح الآثار (1/ 210) وفيه: ولا يفض الخاتم إلا بحقه أي بالوجه المباح الجائز وقال في (1/ 230): تريد عذرتها لا تستبحها إلا بالنكاح الجائز.
(6)
إكمال المعلم (8/ 237).
(7)
الكواكب الدرارى (10/ 105).
(8)
الكواكب الدرارى (10/ 105 - 106).
الحنث
(1)
، والتحرج والتأثم: أن يفعل ما ينفي به عن نفسه الحرج والإثم
(2)
.
قوله: "وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال" الحديث؛ فثمرت أجره بالثاء المثلثة، أي: نميته
(3)
، والنماء: هو الزيادة
(4)
، أى أكثرت في أجره
(5)
، قال الجوهري في صحاحه
(6)
: يقال: ثمر الله ماله أي: كثره.
قوله: في الرواية الأخرى "فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز" الحديث؛ الفرق: بفتح الفاء والراء مكيال معروف، انتهى، قاله الحافظ
(7)
.
وهذا الذي قاله الحافظ هو اللغة الفصحى الشهيرة، وزعم الباجي أنه الصواب، وليس كما قال، بل فيه لغة أخرى بإسكان الراء، حكاه ابن دريد
(8)
وجماعة غيره
(9)
، فهما لغتان
(10)
، واختلف في مقدار الفرق، ففي صحيح
(1)
سلاح المؤمن (ص 180).
(2)
شرح السنة (1/ 58).
(3)
إكمال المعلم (8/ 238)، ومطالع الأنوار (2/ 58).
(4)
التقفية (ص 60).
(5)
الكواكب الدرارى (10/ 106).
(6)
الصحاح (2/ 606).
(7)
أى المنذرى.
(8)
جمهرة اللغة (2/ 785).
(9)
انظر المطلع على ألفاظ المقنع (ص 168).
(10)
شرح النووى على مسلم (4/ 3).
البخاري
(1)
عن عائشة رضي الله عنها: "أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يقال له الفرق"، وهو إناء يسع ستة عشر رطلًا
(2)
، وفي صحيح مسلم
(3)
عن سفيان بن عيينة أنه ثلاثة آصع، فيكون ستة عشر رطلًا أيضًا
(4)
، والآصع جمع صاع وفيه التذكير والتأنيث
(5)
وهو مكيال يسع خمسة أرطال وثلثًا بالبغدادي
(6)
، هذا مذهب مالك والشافعي، وأحمد وأبي عبيد وجماهير العلماء
(7)
، وذلك معتبر على التقريب لا على التحديد وهذا هو الصواب المشهور
(8)
؛ وقال أبو حنيفة: الصاع يسع ثمانية أرطال، وأجمعوا على أن الصاع أربعة أمداد
(9)
، وقال في النهاية
(10)
: والمد مختلف فيه أيضا، فقيل: هو رطل وثلث بالعراقي، وبه يقول الشافعي وفقهاء الحجاز، وقيل: هو رطلان وبه أخذ أبو حنيفة وفقهاء العراق، ويكون الصاع خمسة أرطال
(1)
فتح الباري (1/ 167).
(2)
أعلام الحديث (1/ 301)، وغريب الحديث (1/ 674) وعالم السنن (4/ 267) للخطابى، والغريبين (5/ 1441)، وطرح التثريب (2/ 88).
(3)
رقم (319).
(4)
طرح التثريب (2/ 88).
(5)
شرح النووي على مسلم (4/ 3) و (8/ 122).
(6)
شرح النووي على مسلم (4/ 2) و (8/ 122).
(7)
شرح النووي على مسلم (8/ 122).
(8)
شرح النووي على مسلم (4/ 2).
(9)
شرح النووي على مسلم (8/ 122).
(10)
النهاية (4/ 308).
وثلثا أو ثمانية أرطال، انتهى.
وقيل: الفَرَقُ صاعان ونصف حكاه صاحب النهاية
(1)
أيضًا ولكنه فرق بين المفتوح الراء والساكن الراء في المقدار، فقال في المفتوح الراء: ما تقدم من كونه ثلاثة آصع على الصحيح أو صاعين ونصفًا؛ وقال في الساكن الراء: إنه مائة وعشرون رطلا، وكذا نقله ابن الصباغ عن الشافعي، وقيل الفرق: إناء ضخم من مكاييل العراق، وحكاه صاحب المفهم، وقيل: هو مكيال أهل المدينة حكاه أيضا ولم يذكر تحريره على هذين القولين، انتهى، قاله في شرح الأحكام
(2)
.
تنبيه
(3)
: المد مذكور وجمعه: أمداد، وقال بعضهم جمعه: مداد وتأول عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله مداد كلماته"
(4)
انتهى قاله في الديباجة.
تنبيه أيضًا: في ذكر الصاع عن إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، كم وزن صاع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي، أنا حزرته، قلت: يا أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال: من هو؟ قلت: هو فلان يقول: ثمانية أرطال، فغضب غضبا شديدا ثم قال لبعض جلسائه يا فلان: هات صاع عمك، ويا فلان: هات صاع جدتك، قال إسحاق:
(1)
النهاية (3/ 437).
(2)
طرح التثريب (2/ 88).
(3)
هذه زيادة في المخطوطة المغربية فقط، وليست في المصرية.
(4)
النجم الوهاج (1/ 296).
فاجتمعت آصع، فقال مالك: ما تحفظون في هذا؟ فقال: حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثًا، وذكر القصة بطولها
(1)
، انتهى، قاله في شرح الإلمام.
قوله: "من أرز" والأرز: الحب المعروف، وفيه ست لغات مشهورات، بفتح الهمزة وضمها وضم الراء، وأرز بضم الهمزة وسكون الراء، وأرز بضم الهمزة والراء وتخفيف الزاي كرسل ورُنُز بحذف الهمزة وبنون وهي لغة عبد القيس، ورز بحذف الهمزة والنون، انتهى، قاله القاضي عياض وغيره
(2)
.
تنبيه: فإن قلت: في البخاري باب من اشترى شيئا لغيره
(3)
، إن الفرق كان في الذرة.
قلت: ذلك إما باعتباره أنهما حبان متقاربان فأطلق أحدهما على الآخر أو أن بعضه كان من هذا وبعضه من ذلك، أو كانا أجيرين؛ قال شارح تراجم البخاري: وجه الدلالة على جوازه أن المستأجر عيّن للأجير أجرة فبعد إعراضه عنه تصرف فيه، فلو لم يكن التصرف جائزًا لكان معصية فلا يتوسل بها إلى الله تعالى؛ وقد يجاب: بأن التوسل إنما كان برد الحق إلى مستحقه
(1)
أخرجه الدارقطنى في السنن (2124)، وانظر مختصر الخلافيات (2/ 499).
(2)
الصحاح (3/ 863)، ومشارق الأنوار (1/ 27)، ومطالع الأنوار (1/ 238)، وكشف المشكل (2/ 486)، ومختار الصحاح ص 17، تحرير ألفاظ التنبيه ص 108، وعمدة القارى (12/ 25).
(3)
صحيح البخاري باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي (3/ 79).
بزيادته النامية لا بتصرفه، كما أن الجلوس مع المرأة كان معصية، والتوسل لم يكن إلا بترك الزنا والمسامحة بالجعل ونحوه، والله أعلم
(1)
.
تنبيه: يحتمل أنه استأجره بفرق في الذمة ولم يسلمه إليه بل عرض عليه فلم يقبضه لرداءته فبقى على ملك المستأجر؛ لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح، ثم إن المستأجر تصرف فيه وهو ملكه فصح تصرفه سواء اعتده لنفسه أو للأجير، ثم تبرع بما اجتمع منه على الأجير بتراضيهما، قال الخطابي: إنما تطوع به صاحبه وتقرب به إلى الله تعالى، ولذلك توسل به للخلاص ولم يكن يلزمه في الحكم أن يعطيه أكثر من الفرق الذي استأجره عليه، فلذلك حُمِدَ فعله، انتهى قاله الكرماني
(2)
.
وقال في الديباجة: قال الخطابي: قال قد احتج به أحمد بن حنبل وإسحاق في قولهما: إن من استودع مالا فاتجر فيه بغير إذن صاحبه إن الربح لرب المال، وقال أصحاب الرأي: الربح للمضارب، ويتصدق به وهو ضامن لرأس المال
(3)
، قال الخطابي: ويشبه على قول أحمد أن يكون هذا الرجل إنما استأجر على فرق أرز معلوم بعينه حتى تكون التجارة وقعت بمال الأجير، وإما إذا كانت الأجرة غير معينة، فإنما وقعت التجارة في مال
(1)
زيادة في المخطوطة المغربية: قاله الكرماني في شرح البخاري انظر الكواكب الدرارى (10/ 157 - 158).
(2)
في الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (10/ 68).
(3)
معالم السنن (3/ 91).
المستأجر لأنها من ضمانه فالربح له لأنه المالك والعامل والمتصرف فيه، وأنه لا حجة له في واحد من الأمرين أيهما كان لأن هذا قول ثناء ومدح استحقه هذا الرجل في أمر تبرع به لم يكن يلزمه من جهة الحكم فحُمد عليه، وإنما هو للترغيب في الإحسان والندب إليه، وليس من باب ما يجب ويلزم
(1)
، انتهى.
قوله: "وإني عَمَدت إِلَى ذَلِك الْفرق فزرعته" الحديث؛ يقال: عمدت للشيء بالفتح في الماضي أعمد بكسر الميم في المضارع عمدا، أي: قصدت له أي: تعمدت، وهو نقيض الخطأ
(2)
، والله أعلم.
قوله: "فقلت له: اعمد على تلك البقر فإنها من ذلك الفرق، فساقها"؛ اعمد بكسر الميم، لأن الأمر مقتطع من المضارع.
قوله: "إن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا"، فإن قلت: هم كانوا جازمين بأن الله عالم بذلك؟ فلم قالوا: (إن كنت) وهي كلمة الشك، قلت: على خلاف مقتضى الظاهر، أو يقال: إنهم لم يكونوا عالمين بأن لأعمالهم اعتبارًا عند الله تعالى ولا جازمين به، فقالوا: إن كنت تعلم أن لها اعتبارًا ففرج عنا، انتهى، قاله الكرماني
(3)
.
(1)
معالم السنن (3/ 92).
(2)
الصحاح (2/ 511)، ومجمل اللغة (ص 628 - 629)، وكشف المناهج (3/ 73 و 3/ 408).
(3)
في الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (14/ 97).
لطيفة لها تعلق بالحديث: اعلم أن هؤلاء الثلاثة لم يذكروا طاعاتهم إلا وقد شهدوها فضلًا من الله عليهم فتوسلوا إلى نعمه بنعمه، كما أخبر الله تعالى عن زكريا {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)}
(1)
فتوسل إلى الله تعالى بسابق حسن عوائده فيه؛ وسألت امرأة بعض الملوك فقالت: إنك قد أحسنت لنا عام أول، ونحن محتاجون لإحسانك إلينا هذا العام، فقال: أهلًا وسهلًا بمن توسل لإحساننا بإحساننا وأعطاها وأجزل لها العطاء، ومن فتح له هذا الباب جاز له الإخبار بطاعته، ووجود معاملته لأنه حينئذ يتحدث بنعم الله سبحانه وتعالى، وقد كان بعض السلف يصبح فيقول: صليت البارحة كذا وكذا ركعة، تلوت كذا وكذا سورة، فيقال له: أما تخشى من الرياء، فيقول: ويحكم: وهل رأيت من يرائي بفعل غيره، وكان آخر يفعل مثل ذلك فيقال له: لم لا تكتم ذلك؟ فيقول: ألم يقل الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}
(2)
أنتم تقولون: لا نحدث، انتهى، قاله ابن عطاء الله في لطائف المنن
(3)
.
قوله: "انساحت عنهم الصخرة"، انساحت هو بالسين والحاء المهملتين أي: تنحت الصخرة وزالت عن فم الغار انتهى، قاله الحافظ
(4)
.
(1)
سورة مريم، الآية:4.
(2)
سورة الضحى، الآية:11.
(3)
لطائف المنن صـ 160. دار المعارف.
(4)
أى المنذرى.
وقال صاحب النهاية
(1)
: أي، اندفعت واتسعت، ومنه ساحة الدار، قال الخطابي: روي بالحاء المهملة وبالخاء المعجمة
(2)
، ويروى بالخاء وبالصاد، ولو قيل: إن الصاد فيها مبدلة من السين لم يكن غلطًا، يقال: ساخ في الأرض ويسوخ ويسيخ إذا دخل فيها، انتهى.
ففي هذا الحديث جواز التقرب إلى الله تعالى بما علم العبد أنه أخلصه له من عمل صالح ومناجاته تعالى بذلك، فهو دال على أن من أخلص لله تعالى ولو عملا واحدا أجيب دعاؤه حتى في المهمات، ويكون من عباده المخلصين، ففعل الطاعات يكون موجبا لاستجابة الدعاء.
قال النووي: استدل أصحاب هذا الحديث على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وفي حال الاستسقاء وغيره بصالح عمله، ويتوسل إلى الله تعالى به، لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم، وقد يقال: في هذا شيء لأن فيه نوعا من ترك الافتقار المطلق إلى الله تعالى، ومطلوب الدعاء الافتقار، ولكن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا في معرض الثناء عليهم، وجميل فضائلهم، فهو دليل على تصويبه صلى الله عليه وسلم فعلهم، وبالله التوفيق، انتهى، قاله النووي في الرياض
(3)
.
وفي هذا الحديث فضل بر الوالدين وفضل خدمتهما وإيثارهما على من سواهما من الأولاد والزوجة وغيرهم، وفيه: فضل العفاف والانكفاف عن
(1)
النهاية (2/ 433) و (3/ 64 - 65).
(2)
الكواكب الدراري (14/ 98).
(3)
قاله النووي في شرح مسلم (17/ 56) وانظر الأذكار صـ 398.
المحرمات لا سيما بعد القدرة عليها والهم بفعلها، وبترك ذلك لله تعالى خالصًا، وفيه: جواز الإجارة وفضل حسن العهد وأداء الأمانة والنماء في المعاملة، وفيه: إثبات كرامة الأولياء، وهو مذهب أهل الحق
(1)
والله تعالى أعلم.
قوله: (رواه البخاري ومسلم والنسائي) سيأتي الكلام على الثلاثة ومولدهم ووفاتهم.
2 -
وَعَن أنس بن مَالك عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "من فَارق الدُّنْيَا على الْإِخْلَاص لله وَحده لَا شريك لَهُ وَأقَام الصَّلاة وَآتى الزَّكَاة فَارقهَا وَالله عَنهُ رَاض"
(2)
. رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ.
قوله: عن أنس بن مالك، كنيته: أبو حمزة أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بفتح الضادين المعجمتين [ابن زيد بن حرام، بالراء، ابن جندب، بضم الدال وفتحها، ابن عامر بن غنم، بفتح الغين المعجمة وإسكان النون، ابن عدى بن النجار بن ثعلبة]
(3)
بن عمرو بن الخزرج بن حارثة الأنصاري الخزرجي النجاري النضري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم سليم امرأة أبي طلحة، خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين وهي مدة إقامته بالمدينة، ثبت ذلك
(1)
شرح النووي على مسلم (17/ 56).
(2)
أخرجه ابن ماجه رقم (70)، والحاكم في المستدرك (2/ 362)، والبزار في مسنده (6524)، والحارث بن أبي أسامة في مسنده رقم (7)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم (5719).
(3)
من تهذيب الأسماء واللغات (1/ 127).
في الصحيح
(1)
وروى عنه حديثًا كثيرًا، فروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفي حديث ومائتي حديث وستة وثمانين حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على مائة وثمانية وستين حديثا، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين حديثا ومسلم بأحد وسبعين حديثا، وكان رضي الله عنه أكثر الصحابة أولادا لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق العلماء على مجاوزة عمره مائة سنة والذي عليه الجمهور أنه توفي سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة تسعين وقيل غير ذلك وثبت في الصحيح أنه كان له قبل الهجرة عشر سنين فعمره فوق المائة كما ترى ودفن رضي الله عنه في البصرة خارجا على نحو فرسخ ونصف ودفن هناك في موضع يعرف بقصر أنس وكان له بستان يحمل في السنة مرتين وكان فيه ريحان يجيء منه ريح المسك وكان رضي الله عنه أحد الرماة المصيبين، ومناقبه كثيرة مشهورة
(2)
. والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض"، فيجب على المؤمن أن يكون مخلصا في إيمانه مخلصًا في توباته، مخلصًا في تعلم ما يجب عليه من العلم مخلصًا في تعليم من يعلم، مخلصا في القول والفعل والحركة والسكون والأخذ والعطاء في الظاهر والسرائر، يريد بهذا كله وجه الله والدار الآخرة، سواء قل أو كثر.
واعلم أن الأعمال كلها أجساد والإخلاص هو الروح ولا ينفع جسد بلا
(1)
أخرجه البخاري (6038) ومسلم (51 - 2309) عن أنس.
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 127 - 128).
روح انتهى، قاله في عمدة السالك
(1)
.
فائدة تتعلق بالإخلاص: قال الحافظ شرف الدين الدمياطي تلميذ الحافظ المنذري في كتابه المتجر الرابح في العمل الصالح: اعلم وفقنا الله وإياك أن الشرط العام في قبول جميع أنواع الطاعات والفوز بأجرها وثوابها هو الإخلاص، وكل عمل لا يصدر عن إخلاص فهو إلى الهلاك أقرب
(2)
.
انتهى. وقال أنس رضي الله عنه: الإخلاص هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن رجهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء
(3)
، وقد قال سيدنا سهل بن عبد الله التستري رحمة الله عليه: العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به، والعمل كله هباء إلا بالإخلاص، وقال أيضا رضي الله عنه: الناس موتى إلا العلماء، والعلماء سكارى إلا العاملين والعاملون مغرورون إلا المخلصين والمخلصون على وجل حتى يعلم ما يختم لهم به فإن أردت إحراز الثواب وحسن المآب فاجتهد في الإخلاص، وقد اختلف أقوال المشايخ رحمهم الله تعالى اختلافا كثيرا، وقد عبر كل واحد منهم بحسب ذوقه ورتبته وشهرته والقصد واحد، وإذا أردت الوقوف فاطلبه من كتب التصوف كقوت القلوب وإحياء علوم الدين ونحوهما، وإن أخذ الله بيدك ووفقك للأعمال الصالحات ورقى همتك عن الالتفات إلى ثوابها وجعل قصدك بها وجهه
(1)
لم اهتد إلى المرجع المذكور وانظر نحو هذا الكلام لابن القيم في رسالته لأحد إخوانه (ص 34 - 35).
(2)
المتجر الرابح (ص 974).
(3)
سنن ابن ماجه (عقب حديث رقم 70).
الكريم لا خوفا من الجحيم ولا رجاء دار النعيم فقد وفقك لأعلى رتب الإخلاص وجعلك من عباده المقربين الخواص، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
(1)
.
وسُئل شقيق عن الإخلاص فقال: هو تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم سائغًا سهل المرور في الحلق، ويقال: لم يغص أحد باللبن قط
(2)
.
لطيفة: قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}
(3)
الآية، أي: يخلق الله اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله تعالى لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل خالص من ذلك كله، قيل: إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دمًا، والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضرع وتبقي الفرث في الكرش فسبحانه ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمل انتهى
(4)
.
فالإخلاص والصدق كل منهما يثمر الآخر ويقتضيه
(5)
فلا يتم الإخلاص
(1)
المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح ص 974 - 975.
(2)
الكشاف (2/ 616).
(3)
سورة النحل، الآية:66.
(4)
الكشاف (2/ 616).
(5)
مدارج السالكين (2/ 30).
إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص ولا يتمان إلا بالصبر
(1)
ولا يحصل الإخلاص إلا بالنية الخالصة
(2)
.
تتمة: ولنذكر نبذة في الإخلاص من أقوال السادة الصوفية: قال النووي في بستان العارفين في التصوف
(3)
: وأما حقيقة الإخلاص فهو روح العبادة ومعنى الإخلاص التصفية مما سوى الرب جل جلاله وشغل القلب به، قال الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
(4)
وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}
(5)
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)}
(6)
، وقال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}
(7)
، فإسلام الوجه لله تعالى إخلاص القصد والعمل له والإحسان فيه متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته، وقال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}
(8)
وهي الأعمال التي كانت على غير السنة أو أريد بها غير وجه الله تعالى
(9)
.
(1)
مدارج السالكين (2/ 91).
(2)
انظر الرسالة (2/ 360).
(3)
بستان العارفين (ص 27) وانظر الأذكار (ص 7).
(4)
سورة البينة، الآية:5.
(5)
سورة الزمر، الآيتان: 2 - 3.
(6)
سورة الزمر، الآية:14.
(7)
سورة النساء، الآية:125.
(8)
سورة الفرقان، الآية:23.
(9)
مدارج السالكين (2/ 89).
قال النووي
(1)
: وروينا عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإخلاص، ما هو؟ فقال:"سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص ما هو؟ " فقال: سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ قال: "سر من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي" رواه القزويني في مسلسلاته
(2)
، والقشيري في رسالته
(3)
بسند ضعيف، وأخبرنا الشيخ الإمام أبو الفتوح عن صفوان بن عسال المرادي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة يجيء الإخلاص والشرك فيجثوان بين يدي رب العزة فيقول الله عز وجل للإخلاص انطلق أنت وأهلك إلى الجنة ويقول للشرك انطلق أنت وأهلك إلى النار ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)}
(4)
(5)
. وقال الحارث المحاسبي في كتاب الرعاية: الإخلاص أن تريده بطاعته ولا تريد سواه
(6)
، وروينا عن الأستاذ أبي القاسم القشيري
(7)
قال: الإخلاص إفراد الحق سبحانه وتعالى
(1)
بستان العارفين (ص 26 - 27).
(2)
أخرجه الطريثيثي في الأحاديث المسلسلات (2) وابن الجوزى في المسلسلات (11).
(3)
الرسالة القشيرية (2/ 359).
(4)
سورة النمل، الآية:90.
(5)
أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكنى (5/ 274)، والسهروردى في عوارف المعارف (ص 230)، وابن فاخر في موجبات الجنة (43)، والديلمي كما في الغرائب الملتقطة (437).
قال الحاكم: حديث عاصم بهذا الإسناد حديث منكر.
(6)
مقاصد الرعاية (ص 54)، وشرح النووي على الأربعين (ص 8).
(7)
الرسالة القشيرية (2/ 359).
بالقصد في الطاعة وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى. وعن حذيفة المرعشي: قال الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن (1).
وقال الجنيد رحمة الله عليه: الإخلاص سر بين الله وبين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله؛ وقيل لسهل: أي شيء أشد على النفس فقال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب (2).
وقال بعضهم: الإخلاص: أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله تعالى ولا مجازيا سواه، وقال يوسف بن الحسين: أعز شيء في الدنيا الإخلاص. وكم اجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر.
وقال أبو سليمان الداراني: إذا أخلص العبد انقطع عنه كثرة الوساوس والرياء (3)، وعن أبي عثمان المغربي قال: إخلاص العوام ما لا يكون للنفس فيه حظ وإخلاص الخواص ما يجري عليهم لا بهم فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل ولا يقع لهم عليها رؤية ولا لهم عليها اعتداد (4).
وقال الفضيل بن عياض رحمة الله عليه: العمل لأجل الناس شرك وترك العمل لأجل الناس رياء
(1)
فالصدق والإخلاص فرضان سيما على أهل الاختصاص
(2)
، وقيل: الإخلاص إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، وقيل: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وقيل: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن والرياء أن يكون ظاهره خيرًا من باطنه والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره
(3)
، وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله
(4)
، وقال بعض العارفين: علامة الإخلاص نور يجده العبد في قلبه يعرفه النقص في طاعته ويكشف له عن علة إخلاصه إذ لا يتخلص الإنسان من حبائل الشيطان إلا بالإخلاص ولذلك كان معروف الكرخي يضرب نفسه ويقول يا نفس أخلصي تتخلصي
(5)
.
ثم قال الغزالي بعد هذا: فالعابد لأجل تنعم النفس بالشهوات في الجنة معلول العمل بل الحقيقة إن لا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى وهو إشارة إلى إخلاص الصديقين، فأما من يعمل لرجاء الجنة وخوف النار فهو مخلص بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج وإنما المطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط، وقال الخواص: من
(1)
مدارج السالكين (2/ 92).
(2)
الوصايا القدسية لأبي بكر الخافى (مخ لايبزك/ لوحة 177).
(3)
مدارج السالكين (2/ 91).
(4)
الغنية (2/ 112 - 113)، ومدارج السالكين (2/ 92).
(5)
الإحياء (4/ 378).
شرب من كأس الرياسة فقد خرج عن إخلاص العبودية، وقيل: الإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ
(1)
، والله تعالى أعلم.
لطيفة تتعلق بالإخلاص والصدق: قال الشيخ الإمام العارف بالله القدوة أبو بكر الخافى في وصيته التي صنفها لأصحابه وأولاده: سألني الشيخ الإمام العالم العلامة العارف بالله تعالى جلال الحق والملة والدين الخجندى المدني قدس الله سره بالمدينة يوما فقال إن عشت فرضًا ألف سنة أي شيء تعمل في هذا العمر؟ قلت: أفعل كذا وكذا وعددت مما بلغ عقلي إليه من القربات فقال رضي الله عنه أنا لا أفعل هكذا بل أصرف عمر تسعمائة وتسع وتسعين سنة إلى تحقيق مقامي الصدق والإخلاص ويكفيني معهما عمل سنة واحدة ما قال هذا إلا عن علم عميق ونظر دقيق روح الله روحه ونور ضريحه
(2)
.
لطيفة أخرى تتعلق بالإخلاص: قال الشيخ الإمام العلامة الكمال الدميري في كتابه حياة الحيوان
(3)
: رأيت في مختصر الإحياء للشيخ شرف الدين بن يونس شارح التنبيه في باب الإخلاص: أن من أخلص لله تعالى في العمل وإن لم ينو ظهرت آثار بركته عليه وعلى عقبه إلى يوم القيامة كما قيل إنه لما أهبط آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض جاءته وحوش الفلاة تزوره وتسلم عليه فكان آدم عليه الصلاة والسلام يدعو لكل
(1)
الإحياء (4/ 381).
(2)
الوصايا القدسية (مخ لايبزك/ لوحة 177).
(3)
حياة الحيوان الكبرى (2/ 147).
جنس بما يليق به فجاءته طائفة من الظباء فدعا لهن ومسح على ظهورهن فظهر فيهن نوافج المسك فلما رأى بواقيها ذلك قالوا من أين هذا لكن فقلن زرنا صفي الله آدم فدعا لنا ومسح على ظهورنا فمضى البواقي إليه فدعا لهن ومسح على ظهورهن فلم يظهر بهن من ذلك شيء فقالوا قد فعلنا كما فعلتم فلم نر شيئًا مما حصل لكم فقالوا: أنتم كان عملكم لتناولوا ما نال إخوانكم وأولئك كان عملهم لله من غير شوب فظهر ذلك في نسلهم وعقبهم إلى يوم القيامة انتهى وهذه من زياداته على الإحياء والله أعلم.
قوله في آخر حديث أنس: رواه ابن ماجه والحاكم، أما ابن ماجه فهو الإمام: أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني صاحب كتاب السنن، سمع بمكة من محمد بن يحيى بن أبي عُمر العدني وأبي مروان محمد بن عثمان وغيرهما، وبالمدينة من إبراهيم بن المنذر الحزامي وغيره، وبمصر من يونس بن عبد الأعلى وغيره، وبدمشق والكوفة والبصرة وبغداد جماعة يكثر تعدادهم؛ قال محمد بن طاهر المقدسي الحافظ: لعمرك إن كتاب أبي عبد الله بن ماجه من نظر فيه علم منزلة الرجل من حسن الترتيب وغزارة الأبواب وترك التكرار، ولا يوجد فيه من النوازل والمقاطيع والمراسيل والرواية عن المجروحين إلا قدر يسير، وهذا الكتاب، وإن لم يشتهر عند أكثر الفقهاء فإن له بالري وما والاها من قوهستان ومازندران وطبرستان قدر عظيم عليه اعتمادهم، وله عندهم طرق كثيرة
(1)
. انتهى.
(1)
التقييد لمعرفة السنن والمسانيد (1/ 119 - 120).
ومولده في سنة تسع ومائتين، وتوفي يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين ومائتين وله أربع وستون سنة، انتهى، قاله في شرح الإلمام
(1)
، قاله في الديباجة.
وأما الحاكم: فهو الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع، الحافظ المصنف في علم الحديث عدة تصانيف لم يسبق إليها، سمع بنيسابور أبا العباس محمد بن يعقوب الشيباني الأصم والشيباني الأخرم
(2)
، وبمرو أبا العباس محمد المحبوبي وغيره، وببغداد وبهمذان وبالعراق جماعة، وسمع منه المشايخ أحمد بن أبي عثمان الحيري الزاهد والقفال الشاشي والدارقطني وخلق، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وتوفي سنة خمس وأربعمائة، وقيل: ثلاث والأول أصح. وكان إمام أهل الحديث في عصره، وقع من تصانيفه في أيدي الناس ما يبلغ ألفا وخمسمائة جزء
(3)
انتهى.
(1)
شرح الإلمام (1/ 59 - 61).
(2)
كذا وقع في الأصل والصواب أنهما شيخان للحاكم الأول محمَّد بن يعقوب بن يوسف بن مَعْقِل بن سنان بن عبد الله، أبو العباس الأصم، السِّناني المعْقِلي، الوراق، الأموي مولاهم، والثاني محمَّد بن يعقوب بن يوسف بن يعقوب بن عبد الله، أبو عبد الله، العدل الحافظ، الشَّيْباني، النَّيْسابُوري، المعروف قديمًا بابن الكِرْماني، وأخيرًا بابن الأخْرم. انظر الروض الباسم (2/ 1270 - 1287).
(3)
طبقات الفقهاء الشافعية (1/ 198 - 202)، طبقات علماء الحديث (3/ 237 - 243).
3 -
وَعَن أبي فراس رجل من أسلم قَالَ: نَادَى رجل، فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَا الْإِيمَان؟ قَالَ: الْإِخْلَاص". وَفِي لفظ آخر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني عَمَّا شِئْتُم فَنَادَى رجل يَا رَسُول الله مَا الْإِسْلَام قَالَ إقَام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة. قَالَ: فَمَا الْإِيمَان قَالَ الْإِخْلَاص. قَالَ: فَمَا الْيَقِين قَالَ التَّصْدِيق"
(1)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَهُوَ مُرْسل.
قوله: وعن أبي فراس، رجل من أسلم هو بلفظ الماضي اسم قبيلة من قبائل العرب.
قوله: نادى رجل فقال يا رسول الله: ما الإيمان؟ قال: "الإخلاص"، وفي لفظ آخر قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني عما شئتم"، فنادى رجل فقال يا رسول الله ما الإسلام؟ فقال:"إقام الصلاة وإيتاء الزكاة" قال: فما الإيمان؟ قال: "الإخلاص" قال: فما اليقين؟ قال: "الصدق". وفي بعض النسخ: التصديق، وسيأتي الكلام على الإسلام وعلى إقام الصلاة وعلى الزكاة والإيمان في أماكن متفرقة من هذا التعليق.
واعلم أن معرفة الإخلاص في التوبة وفي سائر الطاعات أن يراد به الحق جل وعلا ويقصد فيه الصدق وتفسيره: قصد القلب بالعمل لله عز وجل وحده والنظر إلى ثواب الله عز وجل في غير حب محمدة ولا كراهة مذمة ولا إرادة رياء وعجب وأول الإخلاص في التوحيد هو توحيد ذات الله عز وجل بنفي الشركاء عنه وإثبات صفاته بنفي النقائص والتشبيه عنها وهو تفسير
(1)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان رقم (6441، 6442)، وابن بشران في أماليه رقم (308) وصححه الألباني في الترغيب والترهيب رقم (3).
سورة الإخلاص قال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}
(1)
فأمر بتوحيد ذات الله الصمد وفيه إثبات صفاته لم يلد ولم يولد، وفيه نفي النقائص عن ذاته ولم يكن له كفوا أحد، وفيه نفي لشبهه بالذوات في ذاته وصفاته بنية الإخلاص قال الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}
(2)
، وإنما سمي الإخلاص إخلاصا لأنه خلص من الآفات، تقول العرب: أخلص فلان لفلان المحبة أي لم يمازجها بشيء انتهى، قاله الهروي.
وأما الصدق فقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
(3)
وقال تعالى عز اسمه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
(4)
، فالصدق مقام القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلًا إلا أرداه وصرعه، ومن صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال وقد أمر
(1)
سورة الإخلاص، الآية:1.
(2)
سورة الكهف، الآية:110.
(3)
سورة التوبة، الآية:119.
(4)
سورة الأحزاب، الآية:23.
الله تعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}
(1)
(2)
.
واعلم أن حقيقة الصدق إسقاط ما سوى الحق سبحانه، وقيل حقيقة الوفاء مع وجود الصفا والصدق على ثلاثة أوجه: صدق النية أولا، ثم صدق اللسان، ثم صدق العمل، فأما صدق النية أن لا يريد بجميع أقواله وأفعاله غير الله تعالى، وأما صدق اللسان فأن لا يطلقه إلا إذا قام له شاهد من الحق، وأما صدق العمل فالجد فيه والحرص عليه من غير أن يقطعه عنه قاطع انتهى، قاله الهروي
(3)
.
واعلم أن الخير كله في بيت ومفتاحه الصدق، ومن أخذ المفتاح بيده فتح ودخل ومن فاته الصدق بقي على الباب.
واعلم أن الصدق يجب عليك في الأقوال والأفعال، فعود لسانك يا أخي الصدق فإنك مسؤول عن أقوالك وأعمالك فعود لسانك الصدق في القليل والكثير والمزح والجد فإذا صار عادةً استرحت وقد مدح الحق سبحانه وتعالى الصادقين في غير موضع من كتابه العزيز، وقال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم:"أوصني" فقال: "لا تكذب" فلزم الصدق فخلص به من كل المعاصي وحث
(1)
سورة النساء، الآية:69.
(2)
مدارج السالكين (2/ 257).
(3)
انظر مدارج السالكين (2/ 267 - 269).
الصالحون عليه ويكفي الصادق شرفًا أن الخلق العام والخاص، والصالح والطالح مجمعون على مدحه وهو ثوبٌ شريف فلا يفوتك فمن لبسه مدح للعالم في أي عالم كان، قاله في كتاب عمدة السالك
(1)
.
ولنذكر نبذة تتعلق بالصدق من كلام القوم: ومن علامات الصدق طمأنينة القلب إليه ومن علامات الكذب حصول الريبة كما في الترمذي من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الصدق طمأنينة والكذب ريبة"
(2)
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا"
(3)
فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب البتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله تعالى في أسمائه وصفاته بنفي ما أثبته لنفسه أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدًا وسيأتي بابٌ في الصدق فيه جملة من الأحاديث وحديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك وفيه فوائد جمة، وقال الحارث المحاسبي: والصدق في وصف العبد هو استواء السر والعلانية والظاهر والباطن، وبالصدق يتحقق جميع المقامات والأحوال حتى إن الإخلاص يفتقر إلى الصدق وهو
(1)
لم أهتد لهذا المرجع.
(2)
أخرجه الترمذي رقم (2518)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3377).
(3)
أخرجه البخاري رقم (6094)، ومسلم رقم (2607).
لا يفتقر إلى شئ، لأن حقيقة الإخلاص هو إرادة الله تعالى بالطاعة، فقد يريد الله تعالى بالصلاة ولكنه غافل عن حضور القلب فيها، والصدق هو إرادة الله تعالى بالعبادة مع حضور القلب إليه تعالى فكل صادق مخلص وليس كل مخلص صادقًا وهذا معنى الاتصال والانفصال لأنه انفصل عن غير الله تعالى واتصل بالحضور بالله تعالى وهو معنى التخلي والتجلي، التخلي عما سواه والتجلي بالحضور بين يدي مولاه انتهى.
وقال عبد الواحد بن زيد: الصدقُ الوفاء لله تعالى بالعمل
(1)
.
وقيل موافقة السر النطق [وقيل استواء السر والعلانية] وقيل الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة وقيل كلمة. الحق عند من يخافه ويرجوه وقال الجنيد رحمة الله عليه حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب، وفي أثر إلهي: من صدقني في سريرته صدقته في علانيته عند خلقي
(2)
.
وقال سهل بن عبد الله رحمة الله عليه: أول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم، وقال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أن أضرب بسيفي في سبيل الله، وقال بعضهم: من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل الله منه الفرض المؤقت، قيل: وما الفرض الدائم؟ قال: الصدق، وقيل من طلب الله بالصدق أعطاه مزية يبصر فيها الحق والباطل، وقيل
(1)
الرسالة القشيرية (2/ 364).
(2)
مدارج السالكين (2/ 262 و 265).
عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك وقيل ما أملق تاجر صدوق أي ما افتقر
(1)
.
وقال النووي في بستان العارفين
(2)
: روينا عن الأستاذ القاسم القشيرى رحمه الله قال: الصدق عماد الأمر وبه تمامه وفيه نظامه وقال روينا عن ذي النون قال الصدق سيف الله تعالى ما وضعه على شئ إلا قطعه، وقال المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له من قلوب الناس من أجل صلاح قلبه، ولا يحب إطلاع الناس على الشئ من عمله، ومن علامة الصادق أن يختبر نفسه عند المدح والذم، فإنْ فرح بمدح ما ليس فيه أو حزن بذم ما فيه فهذا مراء كذاب، يقال في كتب الله المنزلة: عجبت لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح ولمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف يغضب؟ وأعجب من ذلك: من أحب نفسه على اليقين وأبغض الناس على الظن، وقال بعضهم لبعض: من أحب المدح وكره الذم فهو منافق، وفي الخبر: الفرح بالمدح فإنه الذبح.
وقال الثوري: إذا قيل لك بئس الرجل أنت تغضب وإذا قيل لك نعم الرجل أنت تفرح، فبئس الرجل أنت، وسئل بعض العلماء، ما علامة المنافق؟ فقال: إذا مدح بما ليس فيه ارتاح قلبه لذلك، وقال سفيان بن عيينة:
(1)
مدارج السالكين (2/ 265 - 266).
(2)
بستان العارفين صـ 28.
لا يضر المدح من عرف نفسه، وأثني على رجل من الصالحين فقال: اللهم إن هؤلاء لا يعرفونني وأنت تعرفني، وقال آخر لما أثني عليه: اللهم إن عبدك هذا تقرب إلي بمقتك وإني أشهدك على مقته، وقال علي لما أثني عليه: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرًا مما يظنون، وقال البيهقي في الشعب: قال بعض السلف: إذا مدح الرجل في وجهه فالتوبة منه أن يقول: اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيرًا مما يظنون، وكان سفيان رضي الله عنه يقول: إذا رأيت الرجل يحب أن يحبه الناس كلهم ويكره أن يذكره أحد بسوء فاعلم أنه منافق، فهذا دخل في وصف الله تعالى المنافقين بقوله تعالى:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ}
(1)
(2)
انتهى.
قوله في آخر حديث أبي فراس: رواه البيهقي، وهو مرسل، وأما البيهقي فهو الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى النيسابوري البيهقي الحافظ المصنف في علم الحديث والفقه والأصول والجامع بين المعقول والمنقول، سمع بنيسابور الحاكم وابن شاذان وابن محمش الزيادي وابن فورك وغيرهم، مولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ووفاته في جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، قال
(1)
سورة النساء، الآية:91.
(2)
قوت القلوب (1/ 293).
الجويني: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منّه إلا البيهقي، فإن له على الشافعي منة لتصانيفه في نصرة مذهبه وأقاويله، نقله ابن عساكر
(1)
، كتب الحديث وضبطه من صباه إلى أن نشأ وتفقه وبرع فيه وشرع في الأصول ورحل إلى العراق والحجاز والجبال ثم اشتغل بالتصنيف وألف من الكتب بما لعله يبلغ قريبا من ألف جزء مما لم يسبقه إليها أحد، جمع فيها بين علم الحديث والفقه وبيان علل الحديث والصحيح والسقيم وذكر وجوه الجمع بين الأحاديث ثم بيان الفقه والأصول وشرح ما يتعلق بالعربية وأخذ عنه العلم كبار نيسابور وأكثروا الثناء عليه والدعاء له حين قرؤوا كتاب المعرفة له، وكان قانعًا من الدنيا بالقليل متجملًا في زهده وورعه وبقي إلى أن توفي وحمل إلى خسروجرد رحمه الله تعالى
(2)
انتهى، قاله في شرح الإلمام.
وأما الحديث المرسل فهو ما أسنده التابعي أو تابع التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يذكر الصحابي الذي يروي الحديث وذهب جماهير المحدثين إلى أن المرسل لا يحتج به وقال الإمام مالك وأبو حنيفة والإمام أحمد وأكثر الفقهاء يحتج به، ومذهب الشافعي أنه إذا انضم إلى المرسل ما يعضده احتج به وبان بذلك صحته وذلك بأن يروى مسندًا ومرسلًا من جهة أخرى أو فعل به بعض الصحابة أو أكثر العلماء سواء في هذا مرسل سعيد بن المسيب
(1)
تبيين كذب المفترى (ص 266).
(2)
طبقات علماء الحديث (3/ 329 - 331)، وتاريخ الإسلام (10/ 95 - 96).
وغيره هذا هو الصحيح عنده، ولو روي الحديث متصلا ومرسلًا أو مرفوعًا وموقوفا فالذي عليه الفقهاء وأهل الأصول وجماعة من المحدثين أن الحكم للوصل والرفع، وقيل: الإرسال والوقف ونقله الخطيب عن أكثر المحدثين قاله في التنقيح على كتاب المصابيح
(1)
.
(1)
كشف المناهج (1/ 57).