المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل 15 - عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ: - فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب - جـ ١

[حسن بن علي الفيومي]

فهرس الكتاب

- ‌أهمية هذا الكتاب:

- ‌القسم الأول ترجمة الحافظ المنذري

- ‌ولادته ونشأته:

- ‌نشأته وتعلمه:

- ‌شيوخه:

- ‌ومن أهم شيوخه:

- ‌تلاميذه:

- ‌مؤلفاته:

- ‌ثناء العلماء عليه:

- ‌أهم مؤلفاته:

- ‌وفاته:

- ‌القسم الثاني دراسة موجزة لكتاب الترغيب والترهيب للمنذري

- ‌الباعث على تأليفه:

- ‌موضوعه:

- ‌مصادره وكيفية عزوه إليها:

- ‌اصطلاحه في الكتاب:

- ‌حكمه على الحديث:

- ‌القيمة العلمية للكتاب:

- ‌تعقبات على الترغيب والترهيب:

- ‌مختصرات الترغيب والترهيب:

- ‌القسم الثالث ترجمة الشارح

- ‌اسمه، ونسبه، ونسبته:

- ‌شيوخه:

- ‌وأما أقرانه:

- ‌تلاميذه:

- ‌مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه وبعضر الانتقادات التي وجِّهت إليه:

- ‌عقيدته:

- ‌آثاره العلمية:

- ‌القسم الرابع: التعريف بكتاب فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب

- ‌نسبة الكتاب إليه وسبب تأليفه:

- ‌سبب تأليفه:

- ‌موضوع الكتاب:

- ‌موارد المؤلف في الكتاب، وطريقته في النقل منها:

- ‌أولًا: موارد المؤلف في الكتاب:

- ‌ثانيًا: منهجه وطريقته في النقل

- ‌المطلب الرابع: القيمة العلمية للكتاب، والمآخذ عليه

- ‌أولًا: القيمة العلمية للكتاب

- ‌ثانيًا: أهم المآخذ عليه:

- ‌وَصْفُ النُّسَخ الخَطِّيَّة المُعْتَمَدَةِ في التَّحقِيق، وصورٌ منها:

- ‌عملي في الكتاب:

- ‌أولًا: تحقيق النص:

- ‌منهجي في التحقيق:

- ‌توثيق النص:

- ‌نماذج من النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق

- ‌فصل فيما يتعلق بما [يخصه] قوله: "الحمد للّه

- ‌فصل في ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم

- ‌الترغيب في الإخلاص والصدق والنية

- ‌خاتمة في المدح والذم

- ‌فصل

- ‌المعصية بأحد الحرمين

- ‌الترهيب من الرياء، وما يقوله من خاف شيئا منه

- ‌[من صلى فطولها من أجل الناس]

- ‌[سيدنا عوف بن مالك الأشجعي الصحابي]:

- ‌ عبد الملك بن مروان

- ‌[المعصية بأحد الحرمين]:

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌[الترغيب في إتباع الكتاب والسنة]

- ‌الترهيب من ترك السنة وارتكاب البدع والأهواء

- ‌خاتمة الباب

- ‌[التَّرْغِيب فِي الْبدَاءَة بِالْخَيرِ ليستن بِهِ والترهيب من الْبدَاءَة بِالشَّرِّ خوف أَن يستن بِهِ]

- ‌كتاب العلم

- ‌الترغيب في العلم وطلبه وتعلمه وتعليمه وما جاء في فضل العلماء والمتعلمين

- ‌فصل

- ‌فصلٌ

- ‌فصل

- ‌الترغيب في الرحلة في طلب العلم

- ‌الترغيب بها سماع الحديث وتبليغه ونسخه والترهيب من الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌ ‌فصل 15 - عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ:

‌فصل

15 -

عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: "إِنَّمَا الأعْمَال بِالنِّيَّةِ" وَفِي رِوَايَة "بِالنِّيَّاتِ""وَإِنَّمَا لكل امرئ مَا نوى، فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو امْرَأَة ينكحهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ"

(1)

. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي قال الحافظ وزعم بعض المتأخرين أن هذا الحديث بلغ مبلغ التواتر وليس كذلك فإنه انفرد به يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي ثم رواه عن الأنصاري خلق كثير نحو مائتي راو وقيل سبعمائة راو وقيل أكثر من ذلك وقد روي من طرق كثيرة غير طريق الأنصاري ولا يصح منها شيء كذا قاله الحافظ علي بن المديني وغيره من الأئمة.

وقال الخطابي: لا أعلم في ذلك خلافا بين أهل الحديث والله أعلم. أهـ

قوله: عن عمر بن الخطاب، هو: أمير المؤمنين أبو حفص وأول من كناه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن الجوزي عنه

(2)

، والحفص في اللغة الأسد

(3)

عمر بن الخطاب بن نفيل بضم النون وفتح الفاء ابن عبد العزى بن

(1)

أخرجه البخاري رقم (1، 54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953)، ومسلم رقم (1907)، وأبو داود رقم (2201)، والترمذي رقم (1647)، والنسائي (1/ 58).

(2)

التوضيح (2/ 135).

(3)

المصدر السابق.

ص: 262

رياح بكسر الراء ثم مثناة تحت وأبعد من قال بباء موحدة ابن عبد الله بن قرط بضم القاف ثم راء ثم طاء مهملتين بن رزاح بفتح الراء والزاي بن عدي بن كعب بن لؤي بالهمز وتركه، بن غالب بن فهر العدوي القرشي المدني، ويجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي، وأم عمر رضي الله عنه اسمها: حنتمة، بالحاء المهملة ثم نون ثم مثناة فوق، بنت هاشم، ويعرف بذي الرمحين، ويقال: هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب المخزومي، ولد رضي الله عنه بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان من أشراف قريش وإليه كانت السفارة في الجاهلية، ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمر شديدًا عليه وعلى المسلمين ثم لطف الله تعالى به فأسلم قديما وأسلم بعد ست من النبوة، وقيل: خمس فأسلم بعد أربعين رجلا وإحدى عشر امرأة وقيل: بعد تسعة وثلاثين رجلا وعنترين امرأة، وقيل: بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى عشرة امرأة وقيل: غير ذلك، وذكر ابن الجوزي

(1)

أن عمر لما أسلم نزل جبريل عليه السلام فقال: استبشر أهل السماء بإسلامه وكان إسلامه عزا أظهر به الإسلام بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي صحيح البخاري

(2)

: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، وخبر إسلامه مشهور وأن سببه أن أخته فاطمة بنت الخطاب، كانت زوجة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة وكانت أسلمت هي وزوجها فسمع عمر بذلك فقصدهما ليعاقبهما

(1)

صفة الصفوة (1/ 103).

(2)

هذا قول عبد الله بن مسعود في صحيح البخاري (5/ 11).

ص: 263

فقرئ عليه القرآن فأوقع الله تعالى في قلبه الإسلام فأسلم ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجتمعون به في دار الصفا فأظهر إسلامه فكبر المسلمون فرحا بإسلامه، ورووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"

(1)

واتفقوا على تسميته بالفاروق لفرقانه بين الحق والباطل بإسلامه وظهور ذلك فقيل: سماه الله بذلك وروت عائشة رضي الله عنها: بويع له بالخلافة يوم موت الصديق وهو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة بوصاية الصديق إليه فسار بأحسن سيرة وزين الإسلام بعدله وفتح الله به الفتوح الكثيرة كبيت المقدس وجميع الشام، دون الدواوين في العطاء ورتب الناس فيه، وكان لا يخاف في الله لومة لائم وهو أول من ضرب بالدرة وحملها ومصر الأمصار وكسر الأكاسرة وقصر القياصرة ونور المساجد بصلاة التراوريح وأول من أرخ التاريخ من الهجرة، وأول قاض في الإسلام ولاه الصديق القضاء وأول من جمع القرآن في المصحف، وحج بالناس عشر سنين متوالية، وكان آدم أو أبيض قولان والجمهور على الثاني كما قال النووي

(2)

، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين الصديق انتهى.

(1)

أخرجه الترمذي رقم (3682).

(2)

تهذيب الأسماء واللغات (2/ 13)، وانظر عيون المعارف (ص 289 - 296) للقضاعي، وتاريخ عمر لابن الجوزي (ص 57 - 60)، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 139 - 144)، والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (2/ 135 - 142).

ص: 264

تتمة: المؤاخاة كانت في أول سنة من سني الهجرة وعامتها بين المهاجرين والأنصار ولها سببان، أحدهما: أنه أجرأهم على ما كانوا ألفوا في الجاهلية من الحلف فإنهم كانوا يتوارثون بالحلف فنفاه صلى الله عليه وسلم وأثبت من جنسه المؤاخاة لأن الإنسان إذا فطم عما يألفه علل بجنسه.

والثاني: أن المهاجرين قدموا محتاجين إلى المال والمنازل فنزلوا على الإحسان فأكد هذه المخالطة بالمؤاخاة ولم يكن بعد غزوة بدر مواخاة لأن الغنائم وقعت بالقتال فاستغني المهاجرون بما كسبوا رضي الله تعالى عنهم أجمعين

(1)

، انتهى قاله في الديباجة حج بالناس عشر سنين متوالية، وقد كان آدم أو أبيض قولان والجمهور على الثاني كما قاله النووي، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قاله له:"والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان أن سالكا فجا إلا سلك فجا [غير فجك"

(2)

].

ومن كرامات عمر المشهورة أنه قال في خطبة الجمعة: يا سارية الجبل الجبل فالتفت الناس بعضهم لبعض فلم يفهموا مراده فلما قضى الصلاة قال له على ما هذا الذي قلته: قال وسمعته قال نعم، وكل أهل المسجد قال: وقع في خلدى أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتفاهم وهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوا وظفروا وأن جاوزوا هلكوا فخرج منه هذا الكلام فجاء البشير بعد شهر فذكروا أنهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة

(1)

كشف المشكل (1/ 220).

(2)

زيادة من الإعلام (1/ 141).

ص: 265

حين جاوزوا الجبل صوتا بشبه صوت عمر قال: فعدلنا إليه ففتح الله، رواه ابن عساكر

(1)

بسند كل رواته ثقات

(2)

.

واتفقوا على أنه أول من سمي أمير المؤمنين وإنما كان يقال لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة فتقدم قدامه في جماعة وشهد عمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق وبيعة الرضوان وخيبر والفتح وحنينا والطائف وتبوك وسائر المشاهد كلها، وكان رضي الله عنه شديدا على الكفار والمنافقين، روي له عن رسول الله خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثا، اتفق البخاري ومسلم منها على ستة وعشرين حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين حديثا ومسلم بأحد وعشرين حديثا، وختم الله لعمر رضي الله عنه بالشهادة وكان يسألها، وتوفي رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور، ثبت ذلك في الصحيح عن معاوية بن أبي سفيان، وقال الجمهور واستشهد يوم الأربعاء لأربع أو لثلاث أو لتسع من ذي الحجة سنة تلاث وعشرين من الهجرة، وقال الفلاش: سنة أربع، وحمل إلى منزله وبقي ثلاثة أيام وقيل سبعة أيام ومات، وقال عمرو

(1)

أخرجه في تاريخ دمشق (20/ 25) والبيهقي في الدلائل (6/ 370)، وأبو نعيم في الدلائل (رقم 525 - 528)، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة (رقم 2537)، وكرامات الأولياء (رقم (67) وقال ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 131): وهذا إسناد جيد حسن، وقال بعد أن أورده من طرق: فهذه طرق يشد بعضها بعضًا، وصححه الألباني في الصحيحة (3/ 101) رقم (1110).

(2)

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 143 - 144).

ص: 266

بن علي: مات يوم السبت عشية المحرم، وروي عنه أنه قال حين احتضر ورأسه في حجر ابنه عبد الله:

ظَلُومٌ لِنَفْسِي غَيْرَ أنِّي مُسْلِمٌ

أُصَلِّي الصَّلاةَ كلَّهَا وَأَصُومُ

وكراماته كثيرة مشهورة رضي الله تعالى عنه

(1)

.

ولنذكر نبذة مختصرة في قتل أمير المؤمنين من كتاب الشيخ الإمام العالم العلامة صدر المدرسين ومعيد الطالبين الشريف النسابة الذي ألف في ذلك وقرأته عليه بمنزله بطيبة الحينية، وأجازني به - نفع الله به وبعلومه -؛ قال - عفا الله عنه -: روى مسلم

(2)

وغيره أن عمر رضي الله عنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني رأيت رؤيا لا أراها إلا عند حضور أجلي أن ديكا نقرني نقرة أو نقرتين فحدثتهما أسماء بنت عميس فحدثتني أسماء أنه يقتلني رجل من الأعاجم، انتهى، وكان هذا القول منه رضي الله عنه يوم الجمعة فطعن يوم الأربعاء، ورواه الحاكم

(3)

عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر: رأيت في المنام كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات، فقلت: أعجمي يقتلني، انتهى، وقال رجل لابن سيرين: رأيت أن ديكا يصيح بباب إنسان، وينشد:

قَدْ كَانَ مِنْ رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ مَا

كَانَا هَيئُوا لِصَاحبهِ يَا قَوْمِ أَكْفَانَا

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (2/ 4 - 5 و 13)، والإعلام (1/ 143).

(2)

أخرجه مسلم رقم (567).

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 97).

ص: 267

فقال ابن سيرين: يموت صاحب هذه الدار بعد أربعة وثلاثين يوما، انتهى، وهو عدد حروف الديك بالجمل لأن الدال بأربعة والياء بعشرة والكاف بعشرين، وجاء آخر إلى ابن سيرين فقال: إني رأيت كأن ديكا يقول: الله الله الله، فقال: بقى من أجلك ثلاثة أيام فكان ذلك، لأن الديك قد أعلن أنه لا يبقى إلا الله تعالى، وتكرر اسم الله تعالى وهي الثلاثة أيام التي بقيت من عمره، وكان لرقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان بن عفان ولد اسمه عبد الله، وبه كان يكنى بلغ ست سنين، نقره ديك في وجهه فمات بعد أمه في جمادي سنة أربع، ولم تلد له غيره

(1)

.

[مباحث تتعلق بالرؤية][التعبير] قول عمر رضي الله عنه في الرؤيا: نقرني ديك ثلاثا، فيه إشارة إلى قوله تعالي:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}

(2)

وبالنقر إلى قوله تبارك وتعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)}

(3)

قال المفسرون: الصور ينقر فيه مع النفخ وعبر بالثلاث إلى بقية عمر الرائي، ولهذا قيل: إنه لم يمض عليه أربع ليال من الرؤية حتى طعن رضي الله عنه كما ورد في الحديث، ورد أن الرؤيا كانت يوم الجمعة فطعن يوم الأربعاء.

(1)

نزهة المجالس ومنتخب النفائس (1/ 64) وهذا نقل عن كتاب نبذة من الخبر في تعبير رؤيا أمير المؤمنين عمر للشريف النسابة نقله البقاعي في عنوان الزمان (2/ 163).

(2)

سورة طه، الآية:55.

(3)

سورة المدثر، الآية:8.

ص: 268

وقوله في الرواية الثانية: نقرني نقرتين إشارة إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)}

(1)

(2)

.

وقوله: ثلاثًا استنادًا إلى تأويل نبي الله يوسف عليه السلام حين قص عليه ساقي الملك رؤياه فقال: إني رأيت كأني دخلت كرما فجثيت ثلاثة عناقيد فعصرتهن في الكأس ثم أتيت به الملك فشربه فقال له: ما أحسن ما رأيت أما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام يبعث إليك الملك عند انقضائها فيردك إلى عملك فتعود كأحسن ما كنت فيه، وكان كذلك فعبر له بإخراجه من السجن إلى حال سبيله بعد ثلاث، وقال له الخباز: رأيت كأني خرجت من مطبخ الملك احمل فوق رأسي ثلاث سلال من خبز فوقع على أعلاهن طيرًا فأكل منها فقال له: بئس ما رأيت فعبر له السلال الثلاث ثلاثة أيام، ثم يبعث إليك الملك عند انقضائها فيقتلك ويصلبك وتأكل الطير من رأسك، فقالا: ما رأينا شيئًا، فقال: قضى الأمر الذي فيه تستفتيان فعبر له الثلاث سلال بخروجه من السجن إلى القتل فعد ثلاثة أيام فناسب تعبير خروج الرائي من سجن الدنيا إلى بعد ثلاثة أيام إلى الآخرة، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"الدنيا سجن المؤمن"

(3)

فإذا مات خرج من السجن، والحكمة في نقر الديك دون التخميش بالرجل إكرامًا لعمر رضي الله عنه فإن الفم أشر الأعضاء في الحيوان ولهذا

(1)

سورة البقرة، الآية:156.

(2)

عنوان الزمان (2/ 164).

(3)

أخرجه مسلم رقم (2956).

ص: 269

قدم بالتطهير على غيره ولم يوقظه برجله تشريفًا له فإن الرجل تلامس القاذورات والنجاسات غالبًا فناسب إيقاظه بالعضو الشريف [من العضو الشريف]

(1)

دون غيره وكونه نقرًا إشارة إلى الطعن دون غيره لأن النقر له نكاية في العضو كالطعن ولأن سلاح الطير منقاره

(2)

.

فإن قيل: قد فسر الرؤيا لنفسه بقوله: يقتلني رجل من الأعاجم، ثم قصها على أسماء بنت عميس ففسرتها له بمثل ما فسرها لنفسه ولم تزد على ذلك وقد قيل إن الرؤية على جناح طائر أو رجل طائر فيقع بأول تعبير، فالجمع بينهما أنه لم يقنع بتفسيره لنفسه لأن التأويل محتمل وليس مقطوعًا به لقول نبي الله يوسف عليه السلام لساقي الملك وصاحب طعامه:{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}

(3)

فلم يقنع رضي الله عنه بتأويل نفسه فوكل الأمر إلى غيره ليستثبت ذلك ويسمعه من غيره ويقوي عنده ما فسره لنفسه.

فإن قيل: ورد في الصحيح عن أبي قتادة من قوله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا: "إذا رأى أحدكم ما يسوءه فليتفل عن يساره ثلاثًا وليتعوذ بالله من شرها"

(4)

وفي رواية: "من الشيطان فإنها لا تضره"، وفي رواية:"فلا يحدث بها أحدًا" ولم ينقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الرؤيا أنه تفل ولا تعوذ ولا سأل ولا

(1)

كذا في النسختين ولا توجد تلك العبارة في عنوان الزمان (2/ 164).

(2)

عنوان الزمان (2/ 164).

(3)

سورة يوسف، الآية:41.

(4)

أخرجه البخاري رقم (6995، 3292، 7044)، ومسلم رقم (2261).

ص: 270

كتم فلعله فعل ذلك عمدًا لما قوي عنده من دنو أجله وعلمه أن الحذر لا يدفع القدر وما قدر فهو كائن {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}

(1)

ولهذا قال وهو مطعون: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}

(2)

ولعله اختار لقاء ربه وآثر الآخرة على الدنيا، ومال إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه"

(3)

وكقول عائشة قالت: كنت أعوذ النبي صلى الله عليه وسلم وأنفث في مرضه فلما كان في المرض الذي قبض فيه فعلت. ذلك فرفع يده وقال: "في الرفيق الأعلى"، وذلك لما خير بين الآخرة والأولى.

ولعله نسى التعوذ للأمر المحتوم قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}

(4)

؛ وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إذا تعوذ لم يضره" فلعل معناه في عقله كما قيل فيمن "أتى أهله إذا سمى الله تعالى وقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان" أي في عقله وكما فسر وإلا فالشيطان مسلط على الآدمي إلا أنْ يكون معصومًا كالنبي أو محفوظًا كالولي لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: "ما سلكت فجًّا إلا سلك الشيطان فجًّا غير فجك"، وفي البخاري

(5)

من حديث عائشة أم المؤمنين قالت: وكانت إحدانا تعوذه

(1)

سورة الأعراف، الآية:34.

(2)

سورة الأحزاب، الآية:38.

(3)

أخرجه البخاري رقم (6507)، ومسلم رقم (2684).

(4)

سورة النحل، الآية:40.

(5)

رقم (4451).

ص: 271

- صلى الله عليه وسلم بدعاء إذا مرض فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال: "في الرفيق الأعلى" مرتين لا أنها تدفع المقدور من الموت، ويحتمل أن المراد بالتعوذ على حالتين أن فعل المأثور دفع عنه المقدور وإلا فلا كما قيل في صلة الرحم أنه إن وصل رحمه زيد في عمره وإلا فلا يزاد على الأجل المسمى والله أعلم.

ولعل تفسيره لنفسه أنه ألهم إجابة دعوته لنفسه أخذًا من قوله في الحديث: "اللهم ارزقني شهادة في بلد رسولك" ولعل النقرات الثلاث فيها إشارة إلى قتل الخلفاء الثلاث على التوالي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ورضي عنا بهم، والحكمة في قصة الرؤيا على أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنها لعله من علمه بتكرار دخول النبي صلى الله عليه وسلم بيت أبي بكر كل يوم طرفي النهار كما ورد في الصحيح عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: فلم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيًّا فلعل قوله: "الله الله الله" يذكر بها الرائي ليكون ذاكرًا للشهادة عند الموت، ولأن الديك من دواب الأرض، ففي التعبير أنه من رأى في منامه أن دابة تكلمه فقد اقترب أجله ففي التنزيل {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ}

(1)

ولأن الديك يسرع في مشيه ودابة الأرض إذا خرجت تسرع في مشيها فلا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ولأن الديك مكسو

(1)

سورة النمل، الآية:82.

ص: 272

بالريش والدابة ذات وبروريش، وقال أهل التعبير: جميع الحيوان الذي ليس بناطق كالبهائم والطير إذا نطق بشيء في المنام فإن كلامه حق والرؤيا صحيحة، ورواه حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الصرخات الثلاث بثلاثة أيام لأن الدابة إذا خرجت تصرخ ثلاث صرخات والثلاث صرخات إشارة إلى قرب النفخات الثلاث في الصور ولأن من علامات دنو الساعة خروج الدابة وخروج يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها فناسب هذا التفسير بذلك لهذه المعاني

(1)

.

واسم القاتل لعمر رضي الله عنه فيروز، وكنيته: أبو لؤلؤة، وكان مجوسيًا لعنه الله، وهو عبد المغيرة بن شعبة، وهذا بخلاف فيروز اليماني التابعي المختلف في صحبته قاتل الكذاب العنسي مدعي النبوة صاحب صنعاء، ولم يبلغ الصحابة رضي الله عنهم قتل فيروز العنسي إلا بعد وفاته، ومنهم: فيروز الديلمي الصحابي أسلم وتحته أختان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر إحداهما وفارق الأخرى"

(2)

، وأما سبب قتله لعمر رضي الله عنه فيما روي عن ابن سعد

(3)

بإسناد صحيح إلى الزهري قال: كان عمر رضي الله عنه لا يأذن لسبي قد احتلم أن يدخل

(1)

عنوان الزمان (2/ 165 - 167).

(2)

فرق بينهما خليفة بن خياط والواقدي وانتصر لذلك أبي أحمد الحاكم ولم يفرق بينهما النووي والمزي اتظر تهذيب الأسماء واللغات (2/ 52 - 53)، وتهذيب الأسماء واللغات (23/ ترجمة 4776). وأما خبر زواج الأختين: أخرجه ابن ماجه (1950 و 1951) والطبراني في الكبير (18/ 328 - 329 رقم 843 و 844 و 845). وحسنه الألباني.

(3)

في الطبقات الكبرى (3/ 345) وانظر فتح الباري (7/ 63) وعمدة القارى (16/ 210).

ص: 273

المدينة حتى كتب المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يذكر غلاما عنده صنعا ويستأذنه أن يدخل المدينة ويقول: إن عنده أعمالا ينفع الناس بها أنجح من حذاء نقاس نجار، فأذن له فضرب عليه المغيرة كل شهر مائة فشكى إلى عمر شدة الخراج، فقال له: ما خراجك بكثير في جنب ما تعمل فانصرف ساخطًا فلبث عمر ليالي فمر به العبد، فقال: ألم أحدث أنك تقول لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح فالتفت إليه عابسا فقال: لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد، وهذا القول فراسة غيبية من عمر رضي الله عنه فلبث ليالي ثم اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه وينظفه فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس حتى خرج ليوقظ الناس: الصلاة الصلاة، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك، فلما دنا منه وثب عليه وطعنه ثلاث طعنات، إحداهما: تحت السرة قد خرقت الصفاق

(1)

وهي التي قتلته؛ وفي حديث أبي رافع

(2)

: كان أبو لؤلؤة عبد المغيرة وكان يستغله أربعة دراهم أي كل يوم، فلقي عمر فقال: إن المغيرة أثقل علي، فقال: اتق الله وأحسن إليه، وفي نية عمر أنه يلقى المغيرة فيكلمه فيخفف عنه، فقال العبد: وسع الناس عدله غيري، فأضمر على قتله، واصطنع خنجرًا له رأسان وشحذه، أي: سنَّه وسمَّه فتحين صلاة الغداة حتى قام عمر فقال: أقيموا صفوفكم

(1)

الصفاق: الجلد الأسفل تحت الجلد الذي عليه الشعر أو ما بين الجلد والمصران أو جلد البطن كله تاج العروس (26/ 29).

(2)

أخرجه أبو يعلى (2731).

ص: 274

فكبر فلما كبر طعنه في كتفه وفي خاصرته فسقط، وفي رواية

(1)

: أن عمر دخل بأبي لؤلؤة البيت ليصلح له ضبة، فقال له: مر المغيرة أن يضع عني من خراجه، قال: إنك لتكسب كسبا كثيرًا فاصبر، انتهى

(2)

.

والحكمة في قصة الرؤيا على أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنها لعله من علمه بتكرار دخول النبي صلى الله عليه وسلم بيت أبي بكر كل يوم طرفي النهار كما ورد في الصحيح عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: فلم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا فلعلها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا يدل على قتله ولم يذكره لعمر ولا لغيره وأيضا فإن أسماء كان عندها علم من تعبير الرؤيا وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من علماء التعبير.

والحكمة في كون الديك أحمر إشارة إلى لون الدم الذي يخرج منه بالطعن فإن الحمرة من ألوان الدماء ولهذا يقال في المبالغة موت أحمر، قال شيخ الإسلام العسقلاني المشهور بابن حجر

(3)

لما وقف على ذلك ما نصه:

(1)

أخرجه ابن شبة في أخبار المدينة (3/ 109). وتمام الخبر: فاصبر واتق الله هل أنت صانع لى رحى؟ قال: نعم والله لأصنعن لك رحى تتحدث بها العرب، فقال عمر: أوعدنى الخبيث، وخرج إلينا فقال: لو قتلت أحدا بسوء الظن لتلت هذا العلج، إنه نظر إلى نظرة لم أشك أنه أرد قتلى فقل ما مكث حتى طعنه. وحسنه الحافظ في الفتح (7/ 63).

(2)

راجع ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في: الاستيعاب (3/ 1144)، وأسد الغابة (3/ 642)، والرياض النضرة في مناقب العشرة (2/ 271)، وصفة الصفوة (1/ 101).

(3)

عنوان الزمان (2/ 166).

ص: 275

أو لأن منقار الديك مجاور لعرفه وهو أحمر والأعجمي أحمر كما جاء رجل أحمر كأنه من الموالي، وحديث:"بعثت إلى الأسود والأحمر" وفسر بالعرب والعجم، انتهى، والحكمة في كون النقرات ثلاثًا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم سلم ثلاثًا وإذا تكلم بأمر أعاده ثلاثًا ليحفط عنه كما رواه البخاري

(1)

عن أنس، والمراد بالسلام الاستئذان، وقد ورد التصريح به في الحديث، ولعل الديك فعل ذلك لعمر رضي الله عنه فالأولى لينتبه والثانية ليستيقظ والثالثة ليستعد لأمر الله تعالى، واقتصر على الثلات لأنها أقل مدة معتبرة في الشرع غالبا فلم يزد عليها، قال الله تعالى:{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)}

(2)

، وتنبني على الثلاث مسائل كتيرة لا تنحصر ليس هنا محل ذكرها، وقوله:"ثلاثا" إشارة إلى عدد الطعنات فإنه ورد أنه طعنه بالخنجر ثلاثا كما سنذكره في صفة قتله رضي الله عنه، وقول أسماء في التعبير: يقتلك أعجمي لأن الديك فيها ما أصله متوحش كاليمني والحبشي ويلزم المحرم الضمان بإتلافه وفرخه وبيضه وغير المتوحش وهو الأهلي فلا ضمان فيه ولأن الديك يعبر عنه بالرجل المملوك لأن نوحا عليه السلام أرسله ليسلك له الطريق ويعرفه عنها فلما أنقذه غدر فصار مكسوفا في البيوت كالمملوك ومنع من الطيران دون غيره من الطيور ويعبر عنه بالمحارب من قبل المماليك لأن من

(1)

رقم (94).

(2)

سورة هود، الآيتان: 64 - 65.

ص: 276

شأنه محاربة جنسه من الديكة والإقبال على قتالهم ولا يفر عنه ولم يذكر في الرؤيا محل النقر، وقد ورد أنها كانت في الجوف والسر في وقوع الرؤيا ليلة الجمعة لأنه قريب من آخر الأسبوع إشارة إلى آخر عمر الرائي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب"

(1)

فتخصيص الديك بالرؤية تفاؤلا بكنيته فإن من جملتها أبو نبهان إشارة إلى إيقاظه وانتباهه وأبو المنذر إشارة إلى إنذاره هاعلامه وأبو اليقظان إشارة إلى يقظته واعتداده للأمر الذي ينزل به، وقوله في الحديث:"إذا سمعتم صياح الديكة فسألوا الله من فضله فإنه رأت ملكًا"

(2)

ولعل هذا الديك الذي نقر عمر رضي الله عنه: أن الملك الذي رأه في تلك الحالة [حالة صياحه وحالة نقره وفى كل بقول إذ لم يثبت في الرؤية صياحه كما لم يثبت في الحديث رؤية الملك ينقره قاله كاتبه، ملك الموت وتخصيص ليلة الجمعة بالرؤية لأن في صباحيتها تقوم الساعة، فقد روي أبو هريرة في حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة

(3)

أي مصغية مستمعة يتوقع قيام الساعة من حين يطلع الفجر إلى أن تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا الثقلان الجن والإنس ومن مات قامت قيامته، وأما

(1)

أخرجه البزار البحر الزخار (17/ 288)، والدولابي في الكنى والأسماء رقم (948).

(2)

أخرجه البخاري رقم (3303)، ومسلم رقم (2729).

(3)

أخرجه أبو داود (1046)، والنسائي في المجتبى 3/ 212 (1446) والكبرى (1766).

وصححه الألباني في المشكاة (1359) وصحيح أبي داود (961).

ص: 277

تفسير ابن سيرين للذي رأى الديك يقول الله الله الله ثلاثًا أنه بقي من عمره ثلاثة أيام استنادًا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"

(1)

ولعل هذا الديك قال ذلك تعجبًا من الرائي حيث بقي من أجله ثلاثة أيام وهو غافل عما يراد به وهو منزول به.

ولعل قوله: "الله الله الله" يذكر بها الرائى ليكون ذاكرا للشهادة عند الموت، ولأن الديك من دواب الأرض ففى التعبير أن من رأى في منامه أن دابة تكلمه فقد اقترب أجله ففي التنزيل {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ}

(2)

، ولأن الديك يسرع في مشيه ودابة الأرض إذا خرجت تسرع في مشيها فلا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، ولأن الديك مكسوا بالريش والدابة ذات وبر وريش، وقال أهل التعبير جميع الحيوان الذي ليس بناطق كالبهائم والطير إذا نطق بشئ في المنام فإن كلامه حق والرؤيا صحيحة.

وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الصرخات الثلاثة بثلاثة أيام؛ لأن الدابة إذا خرجت تصرخ ثلاث صرخات والثارث صرخات إشارة إلى قرب النفخات الثلاث في الصور، ولأن من علامات دنو الساعة خروج الدابة وخروج يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها؛ فناسب هذا التعبير بذلك لهذه المعاني.

(1)

أخرجه ابن حبان (169) عن أبي ذر. وصححه الألباني في الصحيحة (826).

(2)

سورة النمل، الآية:82.

ص: 278

وأما تفصيل قتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فروي البخاري في صحيحه

(1)

عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف قال: كيف فعلتما أتخافان أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق قالا حملناها أمرًا هي له مطيقة ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، قال: قالا لا، فقال عمر رضي الله عنه: إن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي فما أتت عليه أربعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهن خللًا فكبروا وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حتى طعنه فصار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينًا وشمالًا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا مات منهم تسعة، وفي رواية سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا.

قوله: قتلني أو أكلني الكلب، عبر بالأكل عن القتل، لأن الأكل يذهب الشيء المأكول من الوجود إلى البطون، فالقاتل يذيب المقتول من الوجود إلى القبور، ويسكنه القبور. والله أعلم.

قوله: الكلب، أي: العقور، لأنه مقتول مأمور بقتله في الحل والحرم، مناسب تسميته بذلك لكفره وإباحة دمه، وقد مثل الله تعالى الكافر بالكلب فقال:

(1)

رقم (3700).

ص: 279

{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}

(1)

فالكلب إن دعوته جاءك يلهث وإن زجرته ذهب وهو يلهث، فالكافر إن أمرته لم يأتمر وإن زجرته لم ينزجر، ففي التنزيل من قصة هود {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)}

(2)

.

قوله: حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا، وفي رواية أبي إسحاق اثنا عشر رجلًا معه، وهو ثالث عشر، زاد ابن سعد من رواية إبراهيم التيمي عن عمرو بن ميمون: وعلى عمر إزار أصفر، قد رفعه على صدره، فلما طعن قال:{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}

(3)

.

قوله: طرح عليه برنسًا، وفي (ذيل الاستيعاب) لابن فتحون أن: طارح البرنس على فيروز رجل من المهاجرين يقال له: حطان التميمي اليربوعي، وقيل: عبد الله بن عوف

(4)

، والأول: أصح، فإن صح الثاني حمل على الاشتراك، وجاء أن عبد الله بن عوف المذكور احتز رأس أبي لؤلؤة، وفيه إشارة إلى جواز المثلة بأهل الفساد كما يفعل بقطاع الطريق إذا قطعوا وأخذوا الأموال، قال الله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}

(5)

، انتهى.

(1)

سورة الأعراف، الآية:176.

(2)

سورة الشعراء، الآية:136.

(3)

سورة الأحزاب، الآية:38.

(4)

في النسخة المغربية عبد الرحمن بن عوف والذي في الفتح عبد الله بن عوف فتح الباري (7/ 63).

(5)

سورة المائدة، الآية:33.

ص: 280

فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي رأى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله، وفي البخاري: قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف فقرأ: إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال يا ابن عباس: انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء: فقال غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفا، فالحمد لله الذي لم يجعل موتي على يد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر العلوج بالمدينة.

قوله: فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، اعلم أنه لم يذكر في الحديث قضية إتمام صلاة عمر، فلعله لما طعن قدم عبد الرحمن لأمور، إما لكون صلاته بطلت باعتبار ما خرج من الدم بالطعن الذي لا يعفى عنه في الصلاة، وتقديم عبد الرحمن لإتمام الصلاة فيه دليل على جواز الاستخلاف إذا أحدث الإمام، وجواز الإقتداء بإمام بعد إمام على التعاقب ويدل لذلك قصة الصديق رضي الله عنه حين أم الناس في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: أنه غلب عن إتمام فعل الصلاة فقدم غيره ليتمها، لأن القيام ركن في فرض الصلاة فإن عجز عن القيام صلى قاعدا فإن عجز فعلى جنب (فإن عجز فعلى) اليمين فإن عجز فمستلقيا فإن عجز أومأ بالأفعال وتلفظ بالأقوال، ويكون سجوده أخفض من ركوعه فإن عجز عن الإيماء أجرى الأفعال على قلبه والترتيب

ص: 281

فيما ذكرنا واجب ولا يترك الصلاة ما دام عقله ثابتا ولهذا قالوا لا يتصور الإكراه على ترك الصلاة فإن أكره على ترك أفعال الصلاة على حسب حاله، لزمه الإعادة فإن الإكراه ممنوع

(1)

نادر وإذا وقع لا يدوم غالبًا، وأما بقية صلاة نفسه فلعله أتمها بالإيماء، وأجرى الأفعال على قلبه

(2)

؛ فقال أبو صالح لابنه: وأخبرني أنه دخل على عمر رضي الله عنه في الليلة التي طعن فيها فأيقظ عمر لصلاة (الصبح فقال:)، نعم ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، قال: وجرحه يثعب دما، أي: يجري، والله أعلم؛ وجميع ما في هذا الحديث من التفسير للشيخ العلامة الإمام الشريف النسابة

(3)

.

قوله: قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ العُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ إلى

(4)

وهو الانتفاع، أو بما يحصل منهم من

(5)

عليهم من كل يوم.

قوله: العلوج؛ والعلج: هو الكافر الغليظ الشديد، وقد يكون من الموالي

(6)

، والله أعلم.

[وكان العباس (أكثرهم رقيقا) فقال: إن شئت فعلت، أو إن شئت قتلته،

(1)

بياض بمقدار كلمة واحدة.

(2)

انظر تحفة المحتاج (2/ 26 - 27) ونهاية المحتاج (1/ 469 - 470) وحواشيه.

(3)

بياض بمقدار 6 كلمات.

(4)

بياض بمقدار 3 كلمات.

(5)

بياض بمقدار 4 كلمات وهو رسالته المسماة نبذة من الخبر في تعبير رؤيا أمير المؤمنين عمر للشريف النسابة الحسن بن محمد بن أيوب الحسنى.

(6)

روضة الطالبين (10/ 285) والنجم الوهاج (9/ 377).

ص: 282

فقال: كذبت بعدما تكلموا بلسانك وصلوا قبلتكم وحجوا حجتكم.

قوله: إن شئت فعلت؛ أي: قتلت، هذا يحتمل أمرين، أقلهما: أنه استفتى أو تطييبا لقلبه رضي الله عنه، فقال له عمر: كذبت هو من باب التدريب كفعل الوالد لولده لأنك قلت غير ما تعتقده من قتل المسلم بغير حق لأنك تعتقد أن المسلم لا يجوز قتله إلا بإحدى ثلاث الثجب الزاني والثفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة؛ ويحتمل قوله: (كذبت) أي: أخطأ فإن العرب تعبر عن الخطأ بالكذب

(1)

.

قوله: بعدما تكلموا بلسانكم، أي: أقروا بالشهادة، وهي تعظم الدم والمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس"

(2)

الحديث.

قوله: وصلوا قبلتكم، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل المصلين

(3)

.

قوله: وحجوا حجتكم، أي: أتوا بجملة من شرائع الإسلام، وفيه: إشارة إلى أنه شرط لصحة الإسلام التزام الأحكام، وبه قال مالك خلافًا للشافعي رضي الله عنهما؛ فإن قيل: لم يذكر له الزكاة، وهي من شرائع الإسلام؟ فالجواب: أن المتحدث عنهم السبي وهم أرقاء، والرقيق: لا زكاة عليه لأنه لا يملك مالا، ولو ملكه السيد على الأخص، بخلاف الحج، فإنه يصح من

(1)

انظر فتح الباري (7/ 64)، وعمدة القارى (16/ 211).

(2)

أخرجه البخاري (25)، ومسلم (36 - 22) عن ابن عمر. وأخرجه البخاري (2946) ومسلم (33 و 34 - 21) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه أبو داود (4928) عن أبي هريرة. وقال الألباني: صحيح، المشكاة (4481/ التحقيق الثاني).

ص: 283

المسلم الحر ومن الرقيق بإذن سيده، والله أعلم؛ فاحتُمل رضي الله عنه إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: إلا بأس)، وقائل يقول:(أخاف عليه) فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه.

قوله: فأتي بنبيذ فشربه، أي: ماء زبيب أو تمر منقوع، وهو النقاع، والله أعلم، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه فعلموا أنه ميت إلى أن قالوا:[أوصى] يا أمير المؤمنين استخلف، فقال: ما أجد أحدا لهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى عليًا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف، وقال: يَشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذاك وغلا فليستعن له إليكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، إلى آخر الحديث؛ وفي البخاري أيضا من قوله رضي الله عنه:(فمن استخلفوا بعدي فهو الخليفة، فاسمعوا له وأطيعوا) وفي رواية في غير الصحيح: (أن ولده عبد الله دخل عليه حين آيس منه، فقال: يا أمير المؤمنين، استخلف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لو جاءك راعي إبلك أو غنمك وترك إبله وغنمه لا راعي لها لَلُمْتَه، وقلت: تركت أمانتك ضائعة، فكيف بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر، وإن أترك فقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال رضي الله عنه: إذا أنا قبضت فتربصوا ثلاث ليال وليصل بكم صهيب وانتظروا أخاكم طلحة، وكان بالشام، فإن قدم فتشاوروا أيها النفر فإنما أنتم ستة ثم يتبع الأقلون الأكثرون، فمن خالفكم فاضربوا عنقه، فلم يقدم طلحة فتشاور الخمسة فأسلموا أمرهم إلى عبد الرحمن بن عوف فبايع عثمان بن عفان أمير

ص: 284

المؤمنين، واستفاض الإسلام في خلافة عمر بن الخطاب، وعظم حتى كان أعظم من أن يعد أو يحصى وأعز الله بالإسلام فلم يزل كذلك حتى قتل رضي الله عنه)، وفي الحديث عن بلال صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله عز وجل باهى ملائكته بأهل عرفة وباهى بعمر خاصة" خرجه تمام الرازى في فوائده

(1)

، فلما قبض رضي الله عنه غسل وكفن وصلى عليه ودفن بالروضة الشريفة إلى جانب أبي بكر رضي الله عنهما وعلى ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وكان مدة خلافته عشر سنين ونصف سنة وأياما، لكن سفينة جبر الكسر فرواها عشر سنين لما روى سفينة [الحذاء]رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك الملك" قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتان وخلافة عمر عشر سنين وخلافة عثمان اثنا عشر سنة وخلافة علي ست سنين رضي الله عنهم أجمعين]

(2)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية" وفي رواية: "بالنيات" أخرجه الأئمة الستة وغيرهم، وهذا الحديث قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة غير عمر بن الخطاب نحو عشرين صحابيًّا، وإن كان البزار

(3)

قال: لا نعلم هذا الكلام إلا عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، وقال ابن منده الحافظ: في جمعه لطرق هذا الحديث: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري وعبد

(1)

رقم (331).

(2)

جميع ما بين المعكوفتين زيادة من المخطوطة المغربية فقط.

(3)

مسند البزار البحر الزخار (1/ 380).

ص: 285

الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وابن عباس ومعاوية وأبو هريرة وعبادة بن الصامت. وعتبة بن عبد السلمي وهلال بن سويد وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله وأبو ذر وعتبة بن المنذر وعقبة بن مسلم

(1)

، انتهى، قاله في شرح الإلمام، وقد روي عن جماعة عن الصحابة ذكرهم ابن منده، ولكن لم يثبت من حديث أحد منهم، قال النووي

(2)

: وقد أجمع العلماء رضي الله عنهم على عظيم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده وصحته، وأنه أصل من أصول الدين، وقد خطب به النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أيها الناس، إنما الأعمال بالنية" كما رواه البخاري في أحد المواضع السبعة كما سيأتي، وخطب به عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أيضًا وقال أبو داود: إنه نصف الفقه.

وقال الإمام الشافعي رحمه الله: يدخل في هذا الحديث ثلث العلم، وكذا قال الإمام أحمد بن حنبل وغيره أنه ثلث العلم، وسببه كما قال البيهقي وغيره أن كسب العبد بقلبه ولسانه وجوارحه فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها لأنها تكون عبادة بانفرادها بخلاف القسمين الآخرين ولهذا كانت نية المؤمن خير من عمله، ولأن القول والعمل يدخلهما الفساد بالرياء ونحوه بخلاف النية

(3)

.

(1)

انظر التوضيح (2/ 160 - 161)، وعمدة القارى (1/ 20).

(2)

في شرح النووي على مسلم (13/ 53).

(3)

بستان العارفين (ص 14)، والكواكب الدراري (1/ 22)، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 158 - 159).

ص: 286

قال الشيخ سراج الدين بن الملقن رحمه الله

(1)

: قول إمامنا الشافعي يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه مراده الأبواب الكلية من الطهارة بأنواعها والصلاة بأقسامها والزكاة والصيام والاعتكاف والحج والعمرة والأيمان والنذور والأضحية والكفارة والجهاد والطلاق والخلع والظهار والعتق والكناية والتدبير ونحوها والبيع والإجارة وسائر المعاملات والرجعة والوقف والهبة وكناية الطلاق ونحوها عند من يقول كنايتها مع النية كالصريح وهو الصحيح وكذا إن كان عليه ألفان بأحدهما رهن دون الآخر فأوفاه ألفا صرفه إلى ما سواه منهما وشبه ذلك والله أعلم، وقال آخرون: هو ربع الإسلام وقال عبد الرحمن بن مهدي وغيره من العلماء ينبعي لمن صنف كتابا أن يبدأ فيه بهذا الحديث تنبيها للطالب على النية.

وقال الكرماني

(2)

: وكان السلف رضي الله عنهم يستحبون افتتاح كلامهم بحديث النية بيانا لإخلاصهم فيه، ونقل الخطابي هذا عن الأئمة

(3)

، وبه صدر البخاري كتابه الصحيح وأقامه مقام الخطبة له إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا والآخرة

(4)

وقد

(1)

الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 160).

(2)

بستان العارفين (ص 14)، والكواكب الدراري (1/ 15).

(3)

شرح النووي على مسلم (13/ 54).

(4)

جامع العلوم والحكم (1/ 56)

ص: 287

فعل ذلك البخاري وغيره فابتدؤوا به قبل كل شيء، وقد ذكره البخاري في سبعة مواضع من كتابه

(1)

في أول كتابه في بدء الوحي ثم في الإيمان ثم في العتق ثم في الهجرة ثم في ترك الحبل في النذور

(2)

، وأخرجه مسلم في الجهاد وهو متواتر من آخره وآحاد من أوله.

فقوله: "إنما الأعمال بالنية" الحديث، قال جماهير العلماء من أهل اللغة والعربية والأصول والفقه:"إنما" لفظة موضوعة للحصر تفيد تثبت تحصيل المذكور وتنفي ما سواه وهذا التركيب مفيد للحصر اتفاقا من المحققين إذ لا عمل إلا بالنية فتقدير هذا الحديث أن الأعمال تحسب إذا كانت بنية ولا تحسب إذا كانت بلا نية

(3)

، والمراد بالأعمال أعمال الطاعات وهي حركات البدن دون الأعمال المباحات

(4)

، ويحتمل أنها صحة الأعمال، ويحتمل أنها كمال الأعمال

(5)

ويحتمل أنها حصول الأعمال ويحتمل أنها قبول الأعمال

(6)

والأول أولى التقادير كلها لأنه الأقرب إلى الحقيقة

(7)

، وأبو

(1)

شرح النووي على مسلم (13/ 54).

(2)

بستان العارفين (ص 13)، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 138).

(3)

شرح النووي على مسلم (13/ 54).

(4)

شرح الأربعين للنووي (ص 9)، والتعيين (ص 28).

(5)

إحكام الأحكام (1/ 61)، وطرح التثريب (2/ 7).

(6)

شرح الأربعين (ص 10)، وجامع العلوم والحكم (1/ 60 - 61).

(7)

إحكام الأحكام (1/ 61).

ص: 288

حنيفة يقدر أنها كمال الأعمال فصحح الوضوء والغسل بغير نية ووافق على أنه لابد في التيمم من النية

(1)

، والنيات جمع نية بتشديد الياء ويقال بتخفيفها وهي القصد بالقلب إلى الفعل.

واعلم أن النية لغة هي القصد يقال: نواك الله بخير أي قصدك به

(2)

والنية شرعا: قصد الشيء مقترنا بفعله فإن قصد وتراخى عليه فهو عزم قاله الماوردي وعبارة بعضهم أنها تصميم القلب على الفعل

(3)

، وقال أبو سليمان الخطابي: معنى النية قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له، وقيل: عزيمة القلب أي عزم القلب

(4)

، وقال القاضي البيضاوي: النية انباعث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالًا ومآلًا

(5)

، وشرعت النية لتمييز العبادات عن العادات

(6)

كالجلوس في المسجد فإنه قد يكون للإعتكاف تارة وللإستراحة أخرى وله نظائر كالطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والعتق وغير ذلك من العبادات لا تصح إلا بالنية فالوضوء عمل فإذا غسل الإنسان أعضاءه فقد

(1)

المجموع (1/ 313)، والتعيين (ص 35).

(2)

البيان (1/ 101)، والتعيين (ص 28).

(3)

كفاية النبيه (1/ 266)، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام (1/ 178).

(4)

أعلام الحديث (1/ 112).

(5)

تحفة الأبرار (1/ 19 - 20)

(6)

شرح الأربعين (ص 11)، والفروق (2/ 64) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (1/ 176 - 178)، وشرح الإلمام (4/ 538).

ص: 289

يكون قصده التبرد وقد يكون قصده الوضوء فالمميز النية، والاعتكاف عمل فإذا جلس الإنسان في مسجد فقد يكون مقصوده الاستراحة وقد يكون مقصوده الاعتكاف، فالمميز النية كما تقدم، والصلاة عمل فإذا نوى أن يصلي أربع ركعات فقد يكون يقصد بها الظهر وقد يقصد إيقاعها عن العصر فالمميز هو النية، وكذلك العتق قد يقصد به عن كفارة الظهار وقد يقصد به لغيرها فالمميز هو النية وإلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"

(1)

وكلمة الله أي دعوته إلى الإسلام، وفي هذا الحديث دليل على أن العمل لا يصح إلا بالنية وأنه لا يصح في صورتين الأولى أن يكون بغير نية، والثانية أن يكون لا بنية التقرب فلا يصح، والنية محلها القلب فإن اقتصر على القلب ولم يلفظ بلسانه جاز. ويندب التلفظ بالمنوي، وقال الزبيري: يجب أن يساعد القلب اللسان ولو نوى التبرد ويغلبه رفع الحدث أو بالعكس فالاعتبار بما في القلب بلا خلاف، قاله الكمال الدميري

(2)

.

تنبيه: أما إزالة النجاسة فالمشهور عند الشافعية أنها لا تفتقر إلى نية لأنها من باب التروك والتروك لا يحتاج إلى نية، وقد نقلوا الإجماع فيها وشذ

(1)

انظر شرح النووي على الأربعين (ص 11 - 12)، والحديث أخرجه البخاري رقم (123)، ومسلم رقم (1904).

(2)

النجم الوهاج (1/ 313).

ص: 290

بعض الأصحاب فأوجبها وهو باطل، انتهى قاله النووي

(1)

.

فرع: تدخل النية في الطلاق والعتاق والقذف، ومعنى دخولها أنها إذا قارنت كناية صارت كالصريح وإن أتى بصريح طلاق ونوى طلقتين أو ثلاثا ما وقع ما نوى، وإن نوى بالصريح غير مقتضاه دين فيما بينه وبين الله ولا تقبل منه في الظاهر والله أعلم.

تنبيه: ومن مسائل النية أنه لو وطئ امرأة أجنبية يظنها زوجته أو أمته لا إثم عليه، وإن وطئها يعتقدها أحنبية فإذا هي مباحة له أثم، ولولا مصادفة المحل المباح لحد، وكذا لو شرب مباحا يعتقده حراما أثم وبالعكس لا يأثم ولو قال لامرأته أنت طالق يظنها أجنبية طلقت زوجته لمصادفة الطلاق محله ولو قال لأجنبية وظنها زوجته اختلف فيه، وإلا شبهه طلاق زوجته باعتبار نيته وقيل لا تطلق، لفوات المحل، ولو قال لرقيق له أنت حر يظنه أجنبيًّا عتق لمصادفة العتق محله قاله الطوفي في شرح الأربعين النواوية

(2)

.

فائدة: ينبغي للإنسان إذا أكل أو شرب أو نام أن يقصد بذلك التقوي على طاعة الله تعالى، أو راحة البدن للتنشيط للطاعة، وكذلك إذا أراد جماع زوجته يقصد بذلك أيضًا الحاجة وتحصيل ولد صالح يعبد الله تعالى أو إعفاف نفسه وصيانتها إلى التطلع إلى حرام أو الفكر فيه لأن العمل إذا كان خاليًا عن النية كان عادة لا عبادة أو كان واقعا على وجه اللهو واللعب، أو

(1)

المجموع (1/ 311)، وشرح النووي على مسلم (13/ 54).

(2)

التعيين في شرح الأربعين (ص 36 - 37).

ص: 291

على طريق الاتفاق كأفعال البهائم فلا يصله وسيلة ولا قربة قال العلماء من أهل اللغة والأصول والفقه: الأعمال البهيمية ما عملت بغير نية فالنية أبلغ من العمل فالمباحات تقلب بالنيات طاعات فالنية أساس العمل فإذا كان الأساس صحيحا صح البناء ولهذا المعنى تقبل النية بغير العمل، فإذا نوى حسنة فإنه يجزي عليها ولو عمل حسنة بغير نية لم يجاز بها، فمن حرم النية في هذه الأفعال فقد حرم خيرًا عظيمًا ومن وفق لها فقد أصاب فضلا جسيمًا قاله النووي في بستان العارفين

(1)

.

تنبيه: دل الحديث على أن النيات معيار للأعمال فحيث صلحت النية صلح العمل وحيث فسدت فسد العمل وحيث لا نية فالعمل كلا عمل، فالعمل إن خلا عن النية فلا ثواب فيه، وإن قارنت النية فله أحوال ثلاثة، أحدها: أن تقصد به الآخرة والناس فيه على ثلاث مراتب، الأولى: أن يفعل ذلك خوفا من الله تعالى، وهذه عبادة العبيد، الثانية: أن يفعل ذلك لطلب الجنة ونحو ذلك وهذه عبادة التجار

(2)

.

قال الغزالي: والعبادة مع الرجاء أفضل منها مع الخوف لأن العبادة مع الرجاء تورث المحبة

(3)

، الثالثة: أن يفعل ذلك حياء من الله تعالى وتأدية للشكر ويرى نفسه مع ذلك مقصرًا، وهذه عبادة الأحرار، وإليها الإشارة

(1)

بستان العارفين (ص 29).

(2)

شرح الأربعين النووية (ص 7) للنووي.

(3)

شرح النووي على الأربعين (ص 7).

ص: 292

بقوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"

(1)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"

(2)

.

الحال الثاني: أن يفعل ذلك لطلب الدنيا والآخرة جميعا، فذهب بعض العلماء إلى أن عمله مردود وإلى هذا ذهب الحارث المحاسبي في كتاب الرعاية فقال: الإخلاص أن تريد بطاعته ولا تريد سواه

(3)

، الحال الثالث: أن يفعل ذلك لمحض الدنيا حتى ينال بذلك ولاية أو منزلة ونحو ذلك فهذا محض النفاق ولأن المنافق يبطن خلاف ما يظهر

(4)

.

فائدة أخرى: وقال ابن الحاج في أول كتابه المدخل

(5)

: وبعد فإني كنت كثيرًا ما أسمع سيدي القدوة أبا محمد بن أبي جمرة رحمه الله تعالى يقول: وددت أنه لو كان في الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في علم النية ليس إلا أو كلاما هذا معناه، فإنه ما أتى على كثير من الناس إلا من تضييع النيات.

قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، من خير أو شر، فهو من باب حذف

(1)

أخرجه البخاري (1130) و (4836) و (6471) ومسلم (79 و 80 - 2819) عن المغيرة.

(2)

شرح النووي على الأربعين (ص 7) والحديث أخرجه مسلم (222 - 486) عن عائشة.

(3)

شرح النووي على الأربعين (ص 7 - 8).

(4)

شرح النووي على الأربعين (ص 8).

(5)

المدخل (1/ 6).

ص: 293

المضاف نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}

(1)

أي: أهل القرية، قال العلماء: فائدة ذكره بعد إنما الأعمال بالنيات بيان أن تعيين المنوي شرط، فلو كان على إنسان صلاة مقضية لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة بل يشترط أن ينوي كونها ظهرًا أو عصرًا أو غير ذلك من الصلوات، ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين لأوهم ذلك، وفي قوله صلى الله عليه وسلم:"وإنما لكل امرئ ما نوى" دليل على أنه لا تجوز النية نيابة في العبادات ولا التوكيل في النية، وقد استثنى من ذلك تفرقة الزكاة وذبح الأضحية فيجوز التوكيل في النية والتفرقة والذبح مع القدرة، وفي الحج يجوز ذلك مع عدم القدرة ودفع الدين إن كان ذلك عن جهة واحدة لم يحتج إلى نية، وإن كان عن جهتين كمن عليه ألفان بأحدهما رهن فأدى ألفا، وقال: جعلته عن ألف الرهن صُدّق، فإن لم ينو شيئا حالة الدفع نوى بعد ذلك وجعله عما شاء وليس لنا نية تتأخر عن العمل وتصح إلا في هذه المسألة، وتقدم الكلام على معنى ذلك، والله أعلم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" الحديث، وأصل الهجرة: المجافاة والترك

(2)

، والمراد هنا: ترك الوطن ومفارقة الأهل

(3)

وهي في الشريعة مفارقة بلد الشرك والانتقال منه إلى دار

(1)

سورة يوسف، الآية:82.

(2)

شرح النووي على الأربعين (ص 12).

(3)

الكواكب الدراري (1/ 18).

ص: 294

الإسلام خوف الفتنة وطلبا لإقامة الدين

(1)

، وسمي الذين تركوا توطن مكة وتحولوا إلى المدينة من الصحابة بالمهاجرين لذلك

(2)

، وفي الحقيقة مفارقة ما يكره اللّه عز وجل إلى ما يحبه وقد ثبت في الحديث: المجاهد من جاهد نفسه، والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه

(3)

كما كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون إلى المدينة وقد هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة جماعة

(4)

.

تنبيه: فتح مكة كان في السنة الثامنة من الهجرة وكان في رمضان

(5)

وكانت الهجرة في الإسلام مرتين إلى الحبشة كما سيأتي بيانه، وأن المسلمين أصحاب الهجرتين إلا ما خصه الدليل

(6)

وأنها فتح بعضها صلحًا وبعضها عنوة، وفيه خلاف واختار الشافعي قول الصلح والجمهور على قول العنوة، وقد أراد الشافعي أنه عليه الصلاة والسلام فعل فيها ما يفعله من صالح فملكهم أنفسهم وأموالهم وأراضيهم

(7)

، قال في المفهم

(8)

: وذلك متفق عليه

(1)

شرح النووي على الأربعين (ص 15)، والتعيين (ص 28).

(2)

الكواكب الدراري (1/ 18).

(3)

التعيين (ص 28) والحديث رواه أحمد 6/ 21 وابن حبان (الإحسان 11/ 204) والطبراني في المعجم الكبير 18/ 309 من حديث فضالة بن عبيد بنحوه.

(4)

التعيين (ص 28).

(5)

العدة في شرح العمدة (2/ 977).

(6)

التعيين (ص 28).

(7)

المفهم (11/ 131).

(8)

المفهم (11/ 131).

ص: 295

وأنه لم يجر عليها حكم الغنيمة ولا الفيء فكان ذلك أمرا خاصا بمكة لشرفها وحرمتها بخلاف غيرها، وينبني على ذلك بيع دورها وإجارتها، انتهى قاله في شرح الإلمام.

تنبيه آخر: قال العلماء: النجاشي لقب لكل من ملك الحبشة، والحبشة والحبش من السودان كما أن فرعون اسم لمن ملك مصر وتبع لمن ملك اليمن وقيصر لمن ملك الروم وكسرى لمن ملك الفرس، وتقدم شيء من ذلك في قصة هرقل في الخطبة، واسم هذا النجاشي الملك الصالح أصحمة بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الحاء المهملتين وميم وهاء وهذا هو الذي وقع في صحيح مسلم

(1)

، وهو الصواب المعروف فيه، وهكذا هو في كتب الحديث والمغازي وغيرها، وقيل: صحمة بفتح الصاد وإسكان الحاء المهملة، ورواه ابن شيبة في مسنده

(2)

، وحكى ابن المنذر وابن دحية: والحبشة يقولون أصخمة بالخاء المعجمة وذكرها مقاتل في التفسير وذكر أن اسمه مكحول بن صعصعة

(3)

، وقيل: مصحمة حكاه البيهقي في دلائل النبوة

(4)

، وقيل: غير ذلك، قال ابن قتيبة وابن عيينة: ومعناه بالعربية عطية وهو سيد التابعين، وقيل: أسلم قبل الفتح ومات قبله أيضًا ولم يهاجر وقد

(1)

رقم (952).

(2)

مشارق الأنوار (1/ 63)، وشرح النووي على مسلم (7/ 22)، ورياض الأفهام (3/ 189).

(3)

التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح (ص 805)، ونواهد الأبكار (3/ 111 - 112).

(4)

دلائل النبوة (2/ 310).

ص: 296

عده ابن منده في جملة الصحابة والأولى خلافه لأن الصحيح أن الصحابي من رآه النبي صلى الله عليه وسلم أو رأى النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وأسلم على يديه عمرو بن العاصي وغيره ثم هاجر من الحبشة فصحب النبي صلى الله عليه وسلم فصار لغزا، يقال: صحابي أسلم على يدي تابعي، وله مناقب كثيرة، ولهم أيضا [نجاشي] آخر جاء ذكره فيمن كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مثل كسرى وقيصر وغيرهما انتهى قاله في شرح الإلمام.

فائدة: في ذكر إسلام النجاشي أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه على عينيه ونزل عن سريره فجلس على الأرض ثم أسلم حين حضره جعفر بن أبي طالب وأصحابه وحسن إسلامه فكان هو السبب في إسلامه

(1)

، قال الحافظ أبو نعيم

(2)

عن أبي بردة عن أبيه قال: أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي فبلغ ذلك قريشا [فبعثوا] عمرو بن العاصي أو عمارة بن الوليد فجمعوا للنجاشي هدية، فقدمنا وقدما على النجاشي فأتيا بالهدية فقبلها وسجدا له، ثم قال عمرو بن العاصي أن أناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك، فقال النجاشي: في أرضنا؟ قالوا: نعم، فبعث إلينا فقال لنا جعفر لا يتكلم منكم أحد أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاصي عن يمينه وعمارة عن يساره

(1)

الطبقات الكبرى 1/ 258 - 259 عن عمرو بن أمية الضمري.

(2)

في حلية الأولياء (1/ 114).

ص: 297

والقسيسين والرهبان جلوس، فلما انتهينا قالوا لنا اسجدوا للملك فقال جعفر: ما نسجد إلا لله عز وجل، قال لهم النجاشي: وما ذاك، قال جعفر: إن اللّه عز وجل بعث فينا رسولًا وهو الرسول الذي بشر به عيسى عليه السلام، قال:{مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}

(1)

فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، قال: فأعجب النجاشي قوله، فلما رأى عمرو بن العاص: قال: أصلح اللّه حالك إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم، فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى بن مريم، قال جعفر يقول قول اللّه عز وجل: هو روح اللّه وكلمته أخرجه من البتول العذراء التي لم يقربها بشر، قال فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه وقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء فيما تقولون عن ابن مريم على ما نزل مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده وأنا أشهد أنه رسول اللّه وأنه الذي بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه، امكثوا في أرضي ما بقيتم وأمر لنا بطعام وكسوة، وقال: ردوا عليهما هديتهما.

وفي رواية أم سلمة

(2)

: لما دخل جعفر على النجاشي جمع أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم، فقال جعفر بن أبي طالب: أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي

(1)

سورة الصف، الآية:6.

(2)

أخرجها أحمد في مسنده (3/ 263) من حديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 298

الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف وكنا على ذلك حتى بعث اللّه إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته.

فدعانا إلى اللّه عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان

فذكر الحديث إلى أن قال: ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى بن مريم عليه السلام لحق انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما ثم قال لجعفر وأصحابه اذهبوا فأنتم بأرضي آمنون ردوا عليهما هدايهما [فلا حاجة فيها فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما هداياهما

(1)

] وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار ونزل قوله تعالى: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}

(2)

انتهى قاله في مختصر مجمع الأحباب

(3)

.

تنبيه: ومن مناقب النجاشي ومحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أصدق عنه في أم حبيبة أربعة آلاف على ما رواه أبو داود متصلًا

(4)

عن أم حبيبة وعن الزهري مرسلًا

(5)

وقيل: أصدقها أربعمائة دينار، وقيل: أربعمائة درهم كما ذكره المنذري، واستدل أصحابنا بالحديث على أنه يستحب كون الصداق خمسمائة درهم والمراد فيمن يليق به ذلك الفقير، وأما ما فعله النجاشي

(1)

زيادة في المخطوطة المغربية فقط.

(2)

سورة المائدة، الآية:83.

(3)

مجمع الأحباب (مخ 2032 تشستربيتى/ لوحة 150 - 151).

(4)

في سننه رقم (2107).

(5)

سنن أبي داود رقم (2108).

ص: 299

فكان من ماله تبرعا أكرم به النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عليه الصلاة والسلام أداه ولا عقد به، وقد نهى عمر عن التغالي في صدقات النساء وقال: لو كانت مكرمة أو تقوى لكان الأولى بها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ما أصدق امرأة من نسائه ولا أخذ لامرأة من بناته أكثر من خمسمائة، قال الإمام في النهاية

(1)

: وهذا نهي استحباب لا يكره أي كراهة تحريم والنزول إلى هذا المبلغ المذكور إنما تخاطب به المرأة المالكة لنفسها والسيد في تزويج أمته فأما الأب إذا زوج ابنته الصغيرة فليس له أن ينزل عن مهر مثلها انتهى قاله في شرح الإلمام.

فائدة: يذكر فيها وفاة النجاشي، توفي رضي الله عنه في رجب سنة تسع من الهجرة وصلى عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، وعن أبي هريرة رضي الله عنه. أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: إن النجاشي قد مات فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى البقيع فصفوا خلفه وتقدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكبر أربع تكبيرات رواه الجماعة

(2)

وابن ماجه عن حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بهم فقال: "صلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم"، قالوا: من هو؟ قال: "النجاشي"

(3)

؛ حذيفة بن أسيد أبو سريحة الغفاري بالسين المهملة له صحبة شهد الحديبية مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

(1)

نهاية المطلب (13/ 9).

(2)

أخرجه البخاري (1245) و (1318) و (1328) و (1333) و (3881)، ومسلم (62 و 63 - 951)، وابن ماجه (1534)، وأبو داود (3204)، والترمذى (1022)، والنسائى في المجتبى 4/ 114 (1987) و (1988).

(3)

أخرجه ابن ماجه (1537). وصححه الألباني في صحيح الأحكام (90)، الإرواء (3/ 176).

ص: 300

وهي أول مشاهده ولم يبايع تحت الشجرة يومئذ وقيل: بايع ونزل الكوفة

(1)

، وفي رواية: نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصلى بهم وكبر أربع تكبيرات

(2)

، هذه الأحاديث صحيحة وفيها فوائد: منها الصلاة على الميت وأجمعوا على أنها فرض كفاية قاله ابن العطار

(3)

وخفى عليه فإن الصحيح عند المالكية أنها سنة على الكفاية، ووجوبها وجوب السنن، وقالت الشافعية إنها تسقط بواحد على الصحيح، وقيل: باثنين، وقيل بثلاثة، وقيل بأربعة

(4)

، ومنها: الصلاة على الميت الغائب عن البلد وهو مذهب الشافعي وموافقيه وهو قول أكثر أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أن الصلاة على الميت الغائب لا تجوز وهو قول أصحاب الرأي، وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصًا بذلك

(5)

فإن الأرض دحيت له حتى رأى النجاشي كما دحيت له حتى رأى المسجد الأقصى، وأجابوا أيضًا: بأن النجاشي لم يكن له هناك ولي من المؤمنين يصلي عليه وهذا ضعيف لأن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم واجب على الكافة

(6)

، ثم قال الخطابي

(7)

:

(1)

جامع الأصول (12/ 291) وأسد الغابة (1/ 703).

(2)

أخرجه البخاري (1333)، ومسلم (62 - 951).

(3)

العدة شرح العمدة (2/ 763).

(4)

المنهاج (ص 60) وشرح النووي على مسلم (7/ 21)، والنجم الوهاج (3/ 53).

(5)

شرح السنة (5/ 341)، وشرح النووي على مسلم (7/ 21).

(6)

معالم السنن (1/ 311)، والمجموع (5/ 253)، والإعلام (4/ 389 - 392).

(7)

شرح السنة (5/ 342).

ص: 301

ولا دليل فيه لأن النجاشي كان مسلمًا بين قوم كفار فقضى النبي صلى الله عليه وسلم حقه في الصلاة عليه، فأما الميت المسلم في البلد الآخر فليس كهو لأنه قضى حقه غيره من المسلمين في بلده؛ ومنها: المعجزة الظاهرة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإعلامه بموت النجاشي وهو بالحبشة في اليوم الذي مات فيه

(1)

، ومنها: الخروج إلى المصلى لصلاة الغائب، وقد تمسك به المالكية والحنفية في منع الصلاة على الميت في المسجد، ولا يتم لهم ذلك إلا بنقل يخصه وإنما خرج بهم إلى المصلى لأنه أبلغ في إظهار أمره المشتمل على هذه المعجزة

(2)

، ومنها: أن تكبيراتها أربع - وبه قال الشافعي والجمهور وخالفه الشيعة فقالوا: يكبر خمسًا ووردت فيه أحاديث

(3)

، وجاء أن عليا كان يكبر على أهل بيته سبعا تعظيما لشأنهم فهو خاص بهم، وفي شرح الموطأ من حديث سليمان بن أبي خثيمة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانية حتى مات النجاشي فخرج إلى المصلي فصف الناس وراءه وكبر أربعا ثم ثبت على أربع حتى توفاه اللّه

(4)

، كذا استند القرطبي في الشرح المذكور

(5)

؛ ومنها: استحباب الإعلام بالميت لا على الصورة نعى الجاهلية

(1)

شرح النووي على مسلم (7/ 21).

(2)

شرح النووي على مسلم (7/ 21 - 22).

(3)

العدة (2/ 764).

(4)

الاستذكار (3/ 30).

(5)

المفهم (8/ 88).

ص: 302

بل مجرد إعلام الصلاة عليه

(1)

.

فائدة: قال في شرح الإلمام

(2)

: وأفاد بعض علمائنا أنه ينبغي أنه يصلي كل ليلة على من مات في غير بلده وغسل فإنه يكتب له ثواب الصلاة في أقطار الأرض واستشكل من حيث أنه لم يرد، ولو كان مطلوبا لفعله الصحابة؛ قلنا: إذا شرع أصل عبادة لم يضر اختلاف الأوصاف كما استنبط بلال رضي الله عنه من مشروعية النوافل شكر الوضوء، وأقره عليه.

قوله: "فمن كانت هجرته" الحديث، الهجرة بكسر الهاء واسم الهجرة يقع على أمور، الهجرة الأولى: هجرة الصحابة من مكة إلى الحبشة حين أذى المشركون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ففروا بدينهم إلى النجاشي [وكانت هذه بعد البعثة بخمس سنين قاله البيهقى]

(3)

، وعدد المهاجرين فيها اثنا عشر رجلًا وأربع نسوة

(4)

وكانت هذه الهجرة بعد البعثة بثلاث عشرة سنة وكان يجب على كل من أسلم بمكة أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأطلق جماعة أن الهجرة كانت واجبة من مكة إلى المدينة وهذا ليس على إطلاقه فإنه لا خصوصية للمدينة وإنما الواجب الهجرة إلى

(1)

شرح النووي على مسلم (7/ 21).

(2)

شرح الإلمام لابن العماد.

(3)

شرح الأربعين (ص 12) للنووى وما بين المعكوفين إضافة من المصدر المذكور وانظر دلائل النبوة (2/ 297).

(4)

الإشارة (ص 116)، والمختصر الكبير (ص 36).

ص: 303

رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان

(1)

.

الهجرة الثانية: من مكة إلى المدينة؛ الهجرة الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليتعلموا الشرائع ويرجعوا إلى قومهم فيعلموهم

(2)

؛ الهجرة الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى مكة؛ الهجرة الخامسة: هجرة ما نهى اللّه عنه وهي أعم

(3)

؛ الهجرة السادسة: الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة فإنهم لما هاجروا أولًا إلى الحبشة رجعوا لما بلغهم عن المشركين سجودهم مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند قراءة سورة النجم فلقوا من المشركين أشد مما عهدوا فهاجروا ثانيًا كما هو معروف في السير فلا يقال كلاهما هجرة إلى الحبشة فاكتفى بذكر الهجرة إليها مرة

(4)

انتهى.

وكان عدد المهاجرين إلى الحبشة في الثانية ثلاثة وثمانين وثماني عشرة امرأة، الهجرة السابعة: هجرة من كان مقيمًا ببلاد الكفر ولا يقدر على إظهار الدين فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلاد الإسلام ولا يحل له الإقامة بدار الكفر كما صرح به بعض الشافعية

(5)

انتهى، قال الماوردي

(6)

: فإن صار له

(1)

شرح الأربعين (ص 12 - 13) للنووي وهنا تقدمت العبارة في المخطوط فعبارة وكانت هذه الهجرة بعد البعثة

تتمة لقوله الهجرة الثانية من مكة إلى المدينة.

(2)

شرح الأربعين (ص 15) للنووي.

(3)

شرح الأربعين (ص 15) للنووي.

(4)

طرح التثريب (2/ 22).

(5)

شرح الأربعين (ص 15) للنووي.

(6)

في الحاوي الكبير (14/ 269).

ص: 304

فيها أهل وعشيرة وأمكنه إظهار دينه لم يجز له أن يهاجر لأن المكان الذي هو فيه قد صار دار إسلام؛ الهجرة الثامنة: الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن كما رواه أبو داود والإمام أحمد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "ستكون هجرة بعد هجرة وألزمهم مهاجر إبراهيم

" الحديث

(1)

، فهذه ثمانية أقسام للهجرة ذكرت في شرح الأحكام للعراقى

(2)

.

وقال ابن العربي

(3)

: قسم العلماء رضي الله عنهم: الذهاب في الأرض قسمين هربا وطلبا فالأول ينقسم إلى ستة أقسام:

الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وهي باقية إلى يوم القيامة والتي انقطعت بالفتح هي القصد على النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان.

الثاني: الخروج من أرض البدعة، قال أبو القاسم: سمعت مالكًا يقول: لا يحل لأحد أن يقول بأرض يسب فيها السلف.

الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.

الرابع: الفرار من الأذية في البدن وذلك على فضل من اللّه تعالى أخص فيه فإذا خشى على نفسه فقد أذن الله تعالى في الخروج عنه والفرار بنفسه للّه ليصب من ذلك المحذور وأول من فعله إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين

(1)

أخرجه أبو داود رقم (2482)، وأحمد في مسنده (11/ 455).

(2)

طرح التثريب (2/ 22).

(3)

أحكام القرآن (1/ 611 - 613) وقد لخصها النووي في شرح الأربعين (ص 13 - 15).

ص: 305

خاف من قومه فقال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}

(1)

وقال تعالى مخبرا عن موسى عليه الصلاة والسلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}

(2)

، الخامس: خوف المرض في البلاد الوخمة إلى الأرض النزهة وقد أذن صلى الله عليه وسلم للعرب حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح (اسم مكان)، السادس: الخروج خوفا من الأذية في المال فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه. وأما قسم الطلب فينقسم قسمين طلب دين وطلب دنيا وطلب الدين ينقسم إلى تسعة أنواع:

الأول: سير العبرة قال اللّه تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا}

(3)

ويقال: إن ذا القرنين إنما طاف ليرى عجائبها.

الثاني: سفر الحج.

الثالث: سفر الجهاد.

الرابع: سفر المعاش. الخامس: سفر التجارة والكسب الزائد على القوت وهو جائز لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}

(4)

، السادس: في طلب العلم، السابع: قصد البقاع قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"

(5)

، الثامن: الثغور للرباط بها، التاسع: زيارة

(1)

سورة العنكبوت، الآية:26.

(2)

سورة القصص، الآية:21.

(3)

سورة الروم، الآية:9.

(4)

سورة البقرة، الآية:198.

(5)

أخرجه البخاري رقم (1188)، ومسلم رقم (1397).

ص: 306

الإخوان في الله تعالى، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "زار رجل أخًا له في قرية فأرصد الله على مدرجته ملكًا فقال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية

" الحديث

(1)

، انتهى.

معنى الحديث: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى اللّه ورسوله ثوابا وأجرا أو نحو ذلك من التقديرات فمن هاجر إلى اللّه تعالى كان أجره على اللّه وكانت هجرته مقبولة

(2)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" الحديث، ولفظ دنيا مقصورة غير منونة لأنها فعلى من الدنو وموصوفها محذوف أي: الحياة الدنيا

(3)

، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا للّه ورسوله ورغبة في تعلم دين الإسلام وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك فهذا هو المهاجر إلى اللّه ورسوله حقا وكفاه وشرفا وفخرا أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب الدنيا يصيبها أي يحصلها أو امرأة ينكحها في دار الإسلام فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول تاجر والثاني خاطب وليس واحد

(1)

أخرجه مسلم رقم (2567).

(2)

المفهم (12/ 52)، وشرح النووي على الأربعين (ص 15 - 16) وإحكام الأحكام (1/ 62) وطرح التثريب (2/ 24).

(3)

الكواكب الدراري (1/ 18).

ص: 307

منهما مهاجر

(1)

، والسبب يقتضي أن المراد بالحديث الهجرة من مكة إلى المدينة لأنهم نقلوا أن رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمي أم قيس فسمي مهاجر أم قيس

(2)

.

تنبيه: لم يسم أحد فيمن صنف في الصحابة، هذا الرجل الذي ذكروا أنه كان يسمى مهاجر أم قيس فيما رأيت، وأما أم قيس المذكورة: فقد ذكر أبو الخطاب بن دحية أن اسمها قيلة وهي معدودة في الصحابيات

(3)

، انتهى [قال بعض مشايخنا: والحكمة في عدم تسمية الصحابي المذكور الستر على الصحابي لئلا يسيئ أحد الظن بالصحابي

(4)

].

وقوله: في الحديث: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها" يحتمل أن مهاجر أم قيس المذكور كان يحبها لمالها وجمالها، فجمعهما في التعريض به، ويحتمل أنه كان يطلب نكاحها وغيره من الناس هاجر لتحصيل دنيا من جهة ما فعرض بهما ويحتمل غير ذلك

(5)

.

فائدة: فإن قيل: النكاح من [المطلوبات الشرعية] والهجرة إليه هجرة إلى اللّه ورسوله فلم كانت من الدنيا.

(1)

جامع العلوم والحكم (1/ 72 - 73).

(2)

شرح الأربعين للنووي (ص 16).

(3)

طرح التثريب (2/ 25 - 26).

(4)

قاله ابن الملقن في الإعلام (1/ 204) و (2/ 604)، وما بين المعكوفين زيادة في المخطوطة المغربية فقط.

(5)

الإعلام (1/ 205) والتوضيح (2/ 193)، وعمدة القاري (1/ 28).

ص: 308

قيل: في بيانه أنه لم يخرج في الظاهر له وإنما خرج في الظاهر لطلب الهجرة فلما أبطن خلاف ما أظهر استحق العتاب واللوم ويقاس من خرج في الصورة الظاهرة لطلب الحج وقصد التجارة وكذلك يقاس سائر الأعمال كطلب العلم لطلب منصب ونحوه

(1)

واللّه أعلم.

فالهجرة على حد واحد في الفعل وإنما كانت هذه للّه وهذه لغير اللّه بما احتوت عليه الجوارح الباطنة وهي النية وقد قال الإمام المازري

(2)

: ألا ترى أن الساجد للّه والساجد للصنم في الصورة واحد، وإنما كانت هذه عبادة وهذه كفر بالنية

(3)

وفيه أن العمل للدنيا ليس من القربات في شئ وأن الديني لا يقبل ما لم يقترن به قصد الثواب إلى اللّه تعالى حتى قال العلماء: من أدى نفقة زوجته أو قريبه أو وفى دينه من غير قصد لامتثال الشرع لم يثبت على ذلك فسائر الأعمال كالهجرة في هذا المعنى فصلاحها وفسادها بحسب النية الباعثة عليها كالجهاد والحج وغيرهما، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلاف نيات الناس وما يقصد بها من الرياء والشجاعة والعصبية وغير ذلك في سبيل اللّه فقال:"من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه" فخرج بها كلما سألوا عنه من المقاصد الدنيوية

(4)

واللّه أعلم.

(1)

شرح الأربعين للنووي (ص 16).

(2)

كذا في المخطوط عزو القول للمازرى والذى في المدخل لابن الحاج عزوه لمالك بن أنس.

(3)

المدخل (1/ 7 - 8).

(4)

جامع العلوم والحكم (1/ 75).

ص: 309

قوله: رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، تقدم الكلام على البخاري وأبو داود والنسائي وسيأتي الكلام على مسلم بن الحجاج، وأما الترمذي فهو منسوب إلى ترمذ، قال أبو سعد السمعاني

(1)

: هي بلدة قديمة على أطراف نهر بلخ الذي يقال له جيحون ويقال في النسبة إليه ترمذي بكسر التاء والميم وبضمها وتفتح التاء مع كسر الميم ثلاثة أوجه حكاها السمعاني

(2)

واللّه أعلم.

قوله: في الكلام على رواة الحديث فإنه مما انفرد به يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التميمي قال الحفاظ: لم يصح حديث: "إنما الأعمال بالنيات" عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من رواية عمر بن الخطاب، ولا عن عمر إلا من رواية علقمة بن أبي وقاص، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم التيمي، ولا عن محمد إلا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، وعن يحيى انتشر فرواه عنه الخلق الكثير والجم الغفير

(3)

، ومن أعيانها مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وشعبة وابن عيينة وغيرهم

(4)

. واللّه أعلم.

(1)

عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي، أبو سعد (المتوفى: 562 هـ).

(2)

الأنساب (3/ 41).

(3)

في الحاشية: الجم الجماعة الكبيرة والغفير من الغفر وهو الستر وسمى الجماعة الكبيرة بذلك لسترهم وجه الأرض واللّه أعلم.

(4)

طرح التثريب (2/ 3).

ص: 310

تتمة: علقمة بن [أبى]

(1)

وقاص هو الليثي

(2)

، ومحمد بن إبراهيم هو أبو عبد اللّه التيمي

(3)

ويحيى بن سعيد هو أبو سعيد الأنصاري وهم تابعيون يروي بعضهم عن بعض

(4)

، ويحيى بن سعيد الأنصاري أجمعوا على جلالته وإمامته، قال الإمام أحمد بن حنبل ما رأيت مثله في كل أحواله، وقال: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال ابن معين: أقام يحيى عشرين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، وقال لي عبد الرحمن بن مهدي: لا ترى عينيك مثل يحيى، وقال ابن حبان في الثقات: كان يحيى من سادات أهل زمانه حفظا وورعا وفهما وفضلا وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث وأمعن النظر في البحث عن الثقات وترك الضعفاء، روى له أصحاب الكتب الستة نقل أنه كان يصلي العصر فيستند إلى أصل منارة مسجده فيقف بين يديه الإمام أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وابن معين وغيرهم هيبة له وإعظاما يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم إلى المغرب لا يجلسون، توفي سنة ثمان وتسعين ومائة

(5)

(1)

كذا في الأصل وإنما هو علقمة بن وقاص الليثي.

(2)

انظر: جامع الأصول (12/ 608)، وتهذيب الكمال (20/ ترجمة 4021).

(3)

انظر لترجمته تهذيب الأسماء واللغات (1/ 76).

(4)

طرح التثريب (2/ 5).

(5)

حدث خلط للشارح بين يحيى بن سعيد الأنصارى ويحيى بن سعيد القطان فترجم للأنصارى بترجمة القطان انظر لترجمة يحيى بن سعيد الأنصارى جامع الأصول (12/ 1006)، وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 153 - 154)، وانظر لترجمة يحيى بن سعيد القطان جامع الأصول (12/ 1006) وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 154 - 155).

ص: 311

واللّه أعلم. [قوله: وقد روى من طرق كثيرة، غير طريق الأنصاري، ولا يصح منها شيء كذا قاله الحافظ علي بن المديني

(1)

].

تنبيه: قوله: علي بن المديني، والمديني: نسبة إلى مدينة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، نسب إليها لأن أصله كان منها، وكان من أعلم أهل زمانه بعلل الأحاديث، مات ابن المديني في القعدة سنة أربع وثلاثين ومائتين عن أربع وسبعين سنة

(2)

، انتهى. قاله في الديباجة.

16 -

عَن عَائِشَة قَالَت قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم: "يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأرْضِ، يُخْسَفُ بِأَوَّلهِمْ وَآخِرِهِمْ" قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ:"يُخْسَفُ بِأَوَّلهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ"

(3)

رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

قوله: وعن عائشة رضي الله عنها؛ عائشة هي: أم المؤمنين بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن غنم بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، يلتقي والدها مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، قال أبو عمر بن عبد اللّه: لم يختلفوا في اسم أبيها وجدها، وأن لقب أبي بكر عتيق، وأمها: أم رومان بضم الراء المهملة، وحكي ابن عبد البر أنه يقال: بفتحها أيضًا، واسم أم رومان: زينب بنت عامر، وقيل: بنت

(1)

زيادة في المخطوطة المغربية فقط.

(2)

انظر جامع الأصول (12/ 712 - 713)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 350 - 351).

(3)

أخرجه البخاري رقم (2118)، ومسلم رقم (2883) واللفظ للبخاري.

ص: 312

دهمان من بني مالك بن كنانة، توفيت أم رومان سنة ست من الهجرة في ذي الحجة، وقد صح أنها كانت في الإفك حية، وكان الإفك في شعبان سنة ست، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها واستغفر لها، أسلمت قبل الهجرة، وتزوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث وهي ابنة ست سنين، وقيل: سبع سنين، وقال عبد الغني: والأول أصح، وبنى بها في شوال على رأس ثمانية أشهر من مهاجره على الصحيح، وقيل: غير ذلك وهي ابنة تسع وولدت سنة أربع من النبوة

(1)

، وتوفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ثماني عشرة سنة

(2)

، وعن القاسم بن محمد قال: كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وهلم جرا إلى أن ماتت

(3)

؛ وعن عروة بن الزبير قال: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة

(4)

؛ وعن عطاء بن أبي رباح قال: كانت عائشة رضي الله عنها أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة

(5)

، واعلم أن رسول

(1)

المختصر الكبير (ص 93).

(2)

مرآة الزمان (7/ 410).

(3)

رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 375)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (49/ 165)، وانظر العدة (1/ 101)، وسمط النجوم العوالى (1/ 450) نقلا عن أنساب الأشراف للبلاذرى (1/ 418) وفيه اشتغلت بدل استقلت.

(4)

رواه الطبراني في المعجم الكبير (23/ 182)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (2759)، وانظر العدة (1/ 101)، وعيون الأثر (2/ 369).

(5)

رواه الحاكم في المستدرك (4/ 14)، واللالكائي في أعتقاد أهل السنة (2762)، وانظر العدة (1/ 101)، وعيون الأثر (2/ 369).

ص: 313

اللّه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع من أزواجه وعائشة. أفضلهن بلا خلاف؛ وهل هي أفضل من خديجة بنت خويلد؟ وجهان، حكاهما صاحب التتمة، وادعى الثعلبي الإجماع على أن خديجة أول الناس إسلاما، وهذا يقتضي ترجيح تفضيلها على عائشة رضي الله عنها

(1)

، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "ما تزوجت شيئا من نسائي ولا زوجت شيئا من بناتي إلا بوحي جاءني جبريل عن ربي عز وجل"

(2)

؛ وكنية عائشة أم عبد اللّه، كناها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأم عبد اللّه بابن أختها عبد اللّه بن الزبير

(3)

.

واعلم أن عائشة أم المؤمنين اختصت بفضائل لم يشركها أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيها، الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها؛ الثانية: أن جبريل عليه السلام جاء النبي صلى الله عليه وسلم بصورتها قبل أن يتزوجها؛ الثالثة: أنها كانت أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه؛ الرابعة: كان أبوها أحب الرجال إليه وأعزهم عليه؛ الخامسة: لم ينكح النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبواها مهاجران بلا خلاف سواها، السادسة: كان لها يومان وليلتان في القسم دونهن لما وهبتها سودة أم المؤمنين يومها وليلتها؛

(1)

العدة في شرح العمدة (1/ 101).

(2)

أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 495) في ترجمة (إسماعيل بن يحيى بن عبيد اللّه التيمى) وقال: يحدث عن الثقات بالبواطيل

ثم ذكر الحديث وقال: هذا الحديث باطل بهذا الإسناد. وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (7/ 251) وقال: غريب، وابن عساكر في تاريخ دمشق (69/ 149).

(3)

أخرجه أبو داود (3739)(4970)، وابن حبان (7117) وقال الألباني: صحيح الصحيحة (132).

ص: 314

السابعة: أنها كانت تغضب فيترضاها ولم يثبت ذلك لغيرها؛ الثامنة: لم ينزل الوحي على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في لحاف امرأة غيرها؛ التاسعة: أنها رأت جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي؛ العاشرة: نزل براءتها من السماء في قصة الإفك؛ الحادية عشرة: جعل براءتها قرآنا يتلى يوم القيامة؛ الثانية عشرة: لم ينزل بها أمرٌ إلا جعل اللّه تبارك وتعالى لها منه مخرجا وللمسلمين بركة؛ الثالثة عشرة: نزل آية التيمم بسبب عقدها حين حبس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الناس، وقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر؛ الرابعة عشرة: أنها خيرت فاختارت اللّه تبارك وتعالى ورسوله على الفور وكن لها تبعا في ذلك؛ الخامسة عشرة: كانت أفصحهن لسانًا؛ السادسة عشرة: كانت رضي الله عنها أكثرهن علمًا؛ السابعة عشرة: اختياره صلى الله عليه وسلم أن يمرض في بيتها؛ الثامنة عشرة: اجتماع ريق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وريقها في آخر أنفاسه عليه الصلاة والسلام؛ التاسعة عشرة: وفاته بين سحرها ونحرها؛ العشرون: وفاته صلى الله عليه وسلم في يومها؛ الحادية والعشرون: في بيتها بقعة هي أفضل بقاع الأرض مطلقًا، وهي مدفنه صلى الله عليه وسلم، وادعى القاضي عياض وغيره الإجماع عليه؛ الثانية والعشرون: لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث امرأة أكثر منها، روي لها عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ألفا حديث ومائتا حديث وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثًا ومسلم بثمانية وستين حديثا، وروى عنها من الصحابة عبد اللّه بن عباس وعبد اللّه بن الزبير وعبد اللّه بن قيس الأشعري وعبد اللّه بن عامر بن ربيعة وأبو هريرة

ص: 315

ونيف وستون رجلا وامرأة من التابعين في الصحيح

(1)

، انتهى، ذكره ابن الفرات الحنفي في تاريخه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "يغزوا جيش الكعبة" الحديث، أي: يقصد عسكر من العساكر تخريب الكعبة

(2)

.

قوله: "فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم" وفي رواية: "ببيداء المدينة" وبيداء المدينة الشرف الذي قدام ذي الحليفة إلى جهة مكة

(3)

، وفي الصحاح

(4)

: والبيداء المفازة التي لا شيء فيها، وقال بعض العلماء: البيداء كل أرض ملساء لا شيء بها

(5)

، وسميت أيضًا بيداء لأنه ليس فيها بناء ولا أثر وكل مفازة تسمي بيداء

(6)

، وجمعها بيد وهي ما باد الشيء يبيد كأنها تبيد سالكها أي: تهلكه، ومنه قوله: أبيدت خضراء قريش، أي: أهلكت

(7)

وهي في هذا الحديث اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة، وأكثر ما ترد البيداء، ويراد بها هذه، ومنه الحديث:"أن قومًا يغزون البيت فإذا نزلوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول: يا بيداء أبيديهم فتخسف بهم" أي: أهلكيهم والإبادة الإهلاك أباده يبيده وباد هو يبيد، ومنه الحديث أيضًا: "فإذا

(1)

انظر العدة (1/ 100 و 1/ 102 - 103).

(2)

الكواكب الدراري (10/ 13).

(3)

شرح النووي على مسلم (8/ 92) و (18/ 5) والكواكب الدراري (8/ 75).

(4)

الصحاح (2/ 450).

(5)

شرح النووي على مسلم (18/ 5).

(6)

شرح النووي على مسلم (8/ 92) والكواكب الدراري (8/ 75).

(7)

مطالع الأنوار (1/ 559).

ص: 316

والإبادة الإهلاك أباده يبيده وباد هو يبيد، ومنه الحديث أيضًا:"فإذا هم بديار باد أهلها" أي: هلكوا وانقرضوا انتهى، قاله ابن الأثير في النهاية

(1)

.

قولها رضي الله عنها: قالت: قلت: يا رسول اللّه، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، الحديث، الخسف بالصالح ونحوه ليس حربا له بل لفراغ أجله

(2)

.

قوله: وفيهما أسواقهم ومن ليس منهم، أي: أهل أسواقهم أو رعاياهم

(3)

؛ ومن ليس منهم: أي: من ليس ممن يقصد التخريب بل هم الضعفاء والأسارى

(4)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يبعثون على نياتهم" أي: فيما يستسرون من الصلاح والفساد لأنه ربما يكون فيهم من هو مكره على حضوره معهم غير راض به، انتهى. وفي الرواية الأخرى:"ثم يبعثون على ما في أنفسهم" ومعناه: كمعنى قوله في الحديت الآخر: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث"

(5)

وقال الكرماني:

(6)

أي يخسف بالكل لشؤم الأشرار، ثم إنه تعالى يعامل كلا منهم في الحشر بحسب قصده، إن خيرا فخير وإن شرًا فشر، انتهى.

(1)

النهاية (1/ 171).

(2)

انظر كشف المشكل (4/ 376).

(3)

الكواكب الدراري (10/ 13).

(4)

الكواكب الدراري (10/ 13 - 14).

(5)

أخرجه البخاري رقم (3346)، ومسلم رقم (2880).

(6)

في الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (10/ 14).

ص: 317

فائدة: إذا أنزل اللّه بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم ثم يبعثون على نياتهم، وقد يشكل فيقال كيف يصيب العذاب من لم يفعل أفعالهم، والجواب: من وجهين: أحدهما: أن يكون فيهم من هو راض بأفعالهم أو غير منكر لها فيعذب برضاه بالمعصية وسكوته عن الإنكار فإن الصالحين من بني إسرائيل لما أنكروا على المفسدين ثم واكلوهم وشاربوهم وصافوهم عم العذاب الكل، والجواب الثاني: أن يكون إصابة العذاب لهم لا على وجه التعذيب ولكن يكون إماتة لهم عند انتهاء آجالهم كما هلكت المواشي والبهائم في الطوفان بآجالها لا بالتعذيب

(1)

، واللّه أعلم، وجد في حواشي المشارق من نسخة معتمدة.

18 -

عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ رَجعْنَا من غَزْوَة تَبُوك مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "إِنَّ أَقْوَامًا خَلْفَنَا بِالْمَدِينهِ، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ"

(2)

رواه البخاري وأبو داود ولفظه إن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لقد تركْتُم بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مسيرًا وَلا أنفقتم من نَفَقَة وَلا قطعْتُمْ من وَاد إِلَّا وهم مَعكُمْ قَالُوا يَا رَسُول اللّه وَكيف يكونُونَ مَعنا وهم بِالْمَدِينَةِ قَالَ حَبسهم الْمَرَض".

قوله صلى الله عليه وسلم: وعن أنس بن مالك، تقدم الكلام على مناقبه، وكم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث قريبًا.

(1)

كشف المشكل (2/ 512 - 513).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2839)، وأبو داود رقم (2508)، وأخرجه مسلم رقم (1911) من حديث جابر.

ص: 318

قوله: قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة، وخرج إليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

(1)

، ويأتي الكلام عليها في الصدق، وفيه حديث كعب بن مالك في تخلفه عنها، وفيه: فوائد جمة مبسوطا إن شاء اللّه تعالى.

قوله: "فقال: إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا" الحديث، خلفنا بإسكان اللام، والشعب بكسر الشين المعجمة هو الطريق في الجبل

(2)

.

وقوله: "إلا وهم معنا حبسهم العذر" أي الفقر والضعف أي من حيث استحقاق الثواب وحبسهم العذر جوابًا لقول من يقول لأي شيء يكونون معكم، قاله في شرح مشارق الأنوار.

قوله: وفي رواية أبي داود: "لقد تركتم بالمدينة قومًا ما سرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم" وفي آخره قال: "حبسهم المرض" قال النووي

(3)

: ففي هذه الراوية والتي قبلها فضيلة النية في الخير، وأن من نوى الغزو أو غيره من الطاعات فعرض له عذر منعه حصل له ثواب نيته وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمنى كونه مع الغزاة ونحوهم كثر ثوابه.

(1)

انظر المختصر الكبير (ص 67).

(2)

الكواكب الدراري (2/ 178) و (3/ 21) و (23/ 16).

(3)

شرح النووي على مسلم (13/ 57).

ص: 319

وفيه أيضًا أن من نوى خيرا فله أجر ما نواه وإن عاقه عنه عائق تفضلًا من اللّه تعالى وجزاءً على نيته

(1)

، ولهذا شواهد من السنة ذكره المنذري في حواشي مختصر سنن أبي داود، فإذا كان الشرع صلى الله عليه وسلم قد نزل العاجر عن الطاعة مع الفاعل لها إذا صحت نيته لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما"

(2)

وله نظائر في الحديث، فتنزيل العاجر عن المعصية التارك لها قهرا مع نية تركها اختيارا لو أمكنه منزلة التارك لها المختار أولى

(3)

، واللّه أعلم.

وقال الإمام أبو عبد اللّه القرطبي

(4)

: هذا الحديث يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا وفي فضل اللّه متسع وثوابه فضل لا استحقاق فيثيب على النية الصادقة ما لا يثيب على الفعل، وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة، قال: والأول أصح، ذكره في قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}

(5)

الآية، انتهى.

قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم

(1)

إكمال المعلم (6/ 334).

(2)

أخرجه البخاري رقم (2996).

(3)

مدارج السالكين (1/ 296).

(4)

تفسير القرطبي (5/ 342).

(5)

سورة النساء، الآية:95.

ص: 320

الجهاد

(1)

، وفيه دليل لسقوط الجهاد عن المعذورين ولكن لا يكون لهم ثواب المجاهدين بل يكون لهم ثواب نياتهم إن كانت لهم نية صالحة كما قال صلى الله عليه وسلم:"ولكن جهاد ونية"

(2)

وفيه أن الجهاد فرض كفاية وليس بفرض عين، وفيه رد على من يقول إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين وبعده فرض كفاية، والصحيح أنه كان فرض كفاية من حين شرع وهذه الآية ظاهرة في ذلك لقوله تعالى:{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}

(3)

(4)

.

قوله: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَر} قرئ بنصب الراء ورفعها قراءتان مشهورتان في السبع، قرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصبها والباقون برفعها

(5)

، وقرئي [في الشاذ] بجرها فمن نصب فعلى الاستثناء، ومن رفع فوصف القاعدين أو بدل منهم، ومن جر فوصف للمؤمنين أو بدل منهم

(6)

. واللّه أعلم.

فإذا تقرر ما ذكرناه، فسير القلوب أبلغ من سير الأبدان، كم من واصل ببدنه إلى البيت وقلبه منقطع عن رب البيت وكم من قاعد على فراشه في بيته

(1)

تفسير القرطبي (5/ 342).

(2)

أخرجه البخاري رقم (1834)، ومسلم رقم (1353).

(3)

سورة النساء، الآية:95.

(4)

شرح النووي على مسلم (13/ 42 - 43).

(5)

حجة القراءات (ص 210) والتيسير في القراءات السبع (ص 97).

(6)

انظر: إعراب القرآن ومعاني القرآن (2/ 170 - 171) للنحاس (1/ 234)، ومشكل إعراب القرآن (1/ 206) لمكى بن أبي طالب.

ص: 321

وقلبه متصل بالمحل الأعلى قال رجل لبعض العارفين باللّه: قد قطعت إليك مسافة قال: ليس هذا الأمر بقطع المسافات، فارق نفسك بخطوة وقد وصلت إلى مقصودك، شعر

(1)

:

جِسْمِي مَعِي غَيْرَ أَنَّ الرُّوحَ عِنْدَكُمُ

فَالْجِسْمُ فِي غُربَةٍ وَالرُّوحُ فِي وَطَنِ

(2)

17 -

عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يبْعَث النَّاس على نياتهم"

(3)

. رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن وَرَوَاهُ أيْضا من حَدِيث جَابر إِلَّا أنه قَالَ "يحْشر النَّاس".

قوله: وعن أبي هريرة، اختلفوا في اسمه واسم أبيه على أقوال نحو ثلاثين قولًا

(4)

. وقال ابن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا عن أبي هريرة قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر فسميت في الإسلام عبد الرحمن وإنما كناني أبي أبا هريرة لأني كنت أرعى غنما فوجدت هرة فجعلتها في كفي فقال أبي: أنت أبو هريرة

(5)

ولم يرو عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال أكثر مما روي عنه أبو هريرة فإنه روى عنه خمسة آلاف حديث وثلاثمائة حديث

(1)

ذكره الخرائطي في اعتلال القلوب (2/ 321).

(2)

لطائف المعارف (ص 251).

(3)

أخرجه ابن ماجه رقم (4229)، وأحمد في مسنده (15/ 44)، وأبو يعلى رقم (6247).

وصححه الألباني في الجامع الصغير رقم (2379)، وقال في صحيح الترغيب والترهيب (13): صحيح لغيره. وأخرجه ابن ماجه ايضا رقم (4230) عن جابر بن عبد اللّه.

(4)

تهذيب الأسماء واللغات (2/ 270).

(5)

تاريخ دمشق (67/ 298)، ومرآة الزمان (7/ 418).

ص: 322

وأربعة وسبعين حديثًا، وإنما صحبه أربع سنين

(1)

، قال الواقدي: وهو من قبيلة من اليمن يقال لها دوس من الأزد، واسم أمه: أميمة بنت صفيح بن الحارث وخاله سعيد بن صفيح من أشد أهل زمانه

(2)

، وقال أبو هريرة: نشأت يتيما وهاجرت مسكينًا وكنت أجيرًا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رحلي فكنت أخدم إذا نزلوا، وأحدوا إذا ركبوا فزوجنيها اللّه، والحمد للّه الذي جعل الدين قوامًا وجعل أبا هريرة إمامًا

(3)

.

قوله: كنت أجيرا لبسرة بنت غزوان كذا ذكرها الذهبي في تجريد الصحابة

(4)

أن اسمها بسرة، وقال: ما رأيت أحدًا ذكرها، والعجب أن هذا رواه الحافظ أبو نعيم في الحلية

(5)

في أوائل ترجمة أبي هريرة من حديث أبي بكر بن خلاد فذكر الحديث ابن ماجه عقبه بما رواه ابن علية عن الجريري فذكر الحديث إلى أن قال: "كنت أجيرًا لبسرة بنت غزوان لعقبة رحلي وطعام بطني

" الحديث

(6)

.

وقوله: "الحمد للّه الذي جعل الدين قوامًا" قوام الشيء عماده.

(1)

مرآة الزمان (7/ 426).

(2)

المعارف (ص 277).

(3)

طبقات ابن سعد 5/ 231، ومرآة الزمان (7/ 419).

(4)

تجريد أسماء الصحابة (2/ 252).

(5)

حلية الأولياء (1/ 379).

(6)

أخرجه ابن ماجه رقم (2445)، وابن أبي شيبة في مصنفه رقم (23380)، وابن حبان رقم (7150).

ص: 323

الذي يقوم به يقال: فلان قوام أهل بيته

(1)

والقائم الدائم المستمر الذي يعمل ولا يترك.

قوله: (وجعل أبا هريرة إمامًا) والإمام القدوة في الدين

(2)

، قال اللّه تعالى:{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}

(3)

أي: قدوة يقتدى بنا في الخير

(4)

، وكان ابن عمر يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المسلمين

(5)

، وقال الشيخ أبو القاسم القشيري شيخ الصوفية: الإمامة بالدعاء لا بالدعوى

(6)

، يعني: بتوفيق اللّه تعالى وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه

(7)

، وقال إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين

(8)

، وقيل: سألوا أن يجعل اللّه تعالى كل واحد منهم إمامًا

(9)

، قال الزمخشري: وعن بعضهم أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها وقد نزلت هذه الآية في العشرة المبشرين بالجنة

(10)

واللّه أعلم.

(1)

الصحاح (5/ 2017 - 2018)، والنهاية (4/ 124).

(2)

أحكام القرآن (3/ 456).

(3)

سورة الفرقان، الآية:74.

(4)

تفسير القرطبي (13/ 83).

(5)

أحكام القرآن (3/ 456)، وتفسير القرطبي (13/ 83).

(6)

لطائف الإشارات (2/ 652).

(7)

أحكام القرآن (3/ 456) وتفسير القرطبي (13/ 83).

(8)

تفسير القرطبي (13/ 83).

(9)

تفسير النسفى (2/ 552).

(10)

الكشاف (3/ 296).

ص: 324

وكان قدوم أبي هريرة رضي الله عنه سنة سبع والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر فسار إلى خيبر حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدم معه إلى المدينة وكان أبو هريرة رضي الله عنه بعيد ما بين المنكبين ذا ضفيرتين أفرق الثنيتين يصفر لحيته ويعفها، ويحف شاربه، وكان أحسن الناس خلقا مزاحا رضي الله عنه

(1)

ومناقبه كثيرة مشهورة.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يبعث الناس على نياتهم" الحديث، وفي الرواية الأخرى:"يحشر الناس على نياتهم" الحديث، فمن كانت نيته في الدنيا النصحية للّه ورسوله والمسلمين ويحب لهم ما يحب بُعث على هذه النية وجُوزِي عليها وإن كانت نيته بضد ذلك بعث عليها واستحق الجزاء بها، واللّه أعلم.

19 -

عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم إِن اللّه لا ينظر إِلَى أجسامكم وَلا إِلَى صوركُمْ وَلَكِن ينظر إِلَى قُلُوبكُمْ"

(2)

رواه مسلم.

قوله: وعن أبي هريرة أيضًا، تقدم الكلام على مناقبه في الحديث قبله.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم [وأموالكم] ولكن ينظر إلى قلوبكم"، وفي حديث آخر:"إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"

(3)

الحديث، معنى النظر هاهنا [الإحسان] والرحمة والعطف، لأن النظر في الشاهد دليل المحبة وترك النظر دليل البغض والكراهة وميل الناس إلى الصورة المعجبة والأموال الفائقة

(1)

المعارف (ص 278).

(2)

أخرجه مسلم رقم (2564).

(3)

أخرجه مسلم رقم (2564).

ص: 325

واللّه تعالى يتقدس عن شبه المخلوقين فجعل نظره إلى ما هو السر واللب وهو القلب والعمل والنظر يقع على الأجسام والمعاني فما كان بالأبصار فهو للأجسام وما كان بالبصائر فهو للمعاني انتهى، قاله في النهاية

(1)

.

وقال بعض العلماء: معنى نظر اللّه هنا مجازاته ومحاسبته إنما يكون ذلك على ما في القلب دون الصورة الظاهرة ونظر اللّه ورؤيته محيطة بكل شيء فحينئذ فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة أو مال أو جاه أو رياسة في الدنيا قلبه خرابا من التقوى ويكون ممن ليس له شيء من ذلك قلبه مملوءا بالتقوى فيكون أكرم عند اللّه عز وجل بل ذلك هو الأكثر وقوعا كما في الصحيح عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو لأقسم على اللّه لأبره"

(2)

قاله ابن رجب في شرح الأربعين النواوية

(3)

.

تتمة: وقال القرطبي

(4)

: في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه لا ينظر إلى أجسامكم" الحديث، فيه نظر اللّه تعالى الذي هو رؤيته الموجودات وإطلاعه عليها لا يخص موجودا دون موجود بل يعم جميع الأشياء إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ثم قد جاء في الشرع نظر اللّه تعالى بمعنى رحمته للمنظور إليه وبمعنى قبول أعماله ومجازاته عليها وهذا هو النظر الذي

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 77).

(2)

أخرجه البخاري رقم (4918)، ومسلم رقم (2853).

(3)

جامع العلوم والحكم (2/ 276).

(4)

المفهم (21/ 83 - 84).

ص: 326

يخص بعض الأشياء وينفي عن بعضها كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}

(1)

، فقوله صلى الله عليه وسلم:"إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم" أي: يثيبكم عليها ولا تقربكم منه كما قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}

(2)

ويستفاد من هذا الحديث فوائد:

أحدها: صرف الهمة إلى الاعتناء بأحوال القلب وصفاته بتحقيق علومه وتصحيح مقاصده وعروضه وتطهيره عن مذموم صفاته واتصافه بمحمودها، فإنه كما كان القلب هو محل نظر اللّه فحق للعالم بقدر إطلاع اللّه تعالى على قلبه أن يفتش عن صفات قلبه وأحوالها لإمكان أن يكون في قلبه وصف مذموم يمقته اللّه تعالى بسببه.

الثانية: أن الاعتناء بإصلاح القلب مقدم على أعمال بالجوارح لأن أعمال القلوب هي المصححة للأعمال إذ لا يصح عمل شرعي إلا من مؤمن باللّه تعالى مخلص فيما يعمله ثم لا يكمل ذلك إلا بمراقبة الحق فيه

(3)

وهو الذي عبر عنه بالإحسان حيث قال: "أن تعبد اللّه كأنك تراه"

(4)

وبقوله: "إن في

(1)

سورة آل عمران، الآية:77.

(2)

سورة سبأ، الآية:37.

(3)

إبطال التأويلات لأخبار الصفات (1/ 368).

(4)

أخرجه البخاري رقم (50)، ومسلم رقم (9).

ص: 327

الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"

(1)

الحديث.

الثالثة: أنه لما كانت القلوب هي المصححة للأعمال الظاهر وأعمال القلب غيبت عنا فلا نقطع بعيب أحد لما نرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم اللّه من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا عليه تفريطًا أو معصية يعلم اللّه من قلبه وصفا محمودًا يغفر له بسببه فالأعمال إما رأت ظنية لا أدلة قطعية، ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة وعدم احتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة بل نحتقر ونذم تلك الحالة السيئة لا تلك الذات المتسببة، فتدبر هذا فإنه نظر دقيق

(2)

انتهى، قاله في الديباجة.

واعلم أن القلب عضو شريف فيه نور الإيمان وأنه موضع التقوى قال صلى الله عليه وسلم: "التقوى هاهنا وأشار إلى قلبه"

(3)

، والأعمال وسائل بها يتقرب العباد إلى اللّه تعالى وبها يظهر المطيع من العاصي فصار كل منهما محل نظره تعالى بخلاف الصور لأن المقصود منها ما هو في بواطنها من معرفة خالقها والعلم بذاته وصفاته وبخلاف الأموال، لأن الدنيا ما تزن عند اللّه جناح بعوضة فما ظنك بالأموال، انتهى.

(1)

أخرجه البخاري (52)، ومسلم (107 - 1559) عن النعمان بن بشير.

(2)

جميع ما سبق نقلا عن المفهم (21/ 83 - 84).

(3)

أخرجه أحمد (19/ 374)، وأبو يعلى رقم (2923).

ص: 328

ومقصود الحديث أن الاعتبار في هذا كله بالقلب وهو من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"

(1)

.

فائدة: قال الإمام المازري: احتج بعض الناس بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس

(2)

فالعقل هو التثبت في الأمور وجمعه عقول سمي بذلك لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه، وقيل: هو التمييز الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوانات وهو ضد الحمق، وقال المحاسبي: هو نور في القلب يفيد الإدراك وذلك النور يقل ويكثر فإذا قوي فمع ملاحظة الهوي قيل لعمرو بن العاص ما بال قومك لو يؤمنوا وقد وصفهم اللّه بالعقل فقال: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا}

(3)

وكانت قريش تدعي أهل الإحلام والنهى، فقال تلك عقول كادها اللّه تعالى أي: لم يصحبها التوفيق، وقال: قوم أحلامهم أذهانهم وأن العقل لا يعطي لكافر إذ لو كان له عقل لآمن إنما الكافر الذَّهن، روي الترمذي الحكيم بسنده أن رجلًا قال: يا رسول اللّه ما أعقل فلانا النصراني؟ فقال: مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول اللّه تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ

(1)

انظر شرح النووي على مسلم (16/ 121).

(2)

شرح النووي على مسلم (11/ 29) و (16/ 121).

(3)

سورة الطور، الآية:32.

ص: 329

السَّعِيرِ (10)}

(1)

(2)

وأجاب الجمهور: عن هذا يحمل هذا على العقل النافع، واختلف العلماء في محل العقول فقال أصحابنا وجمهور المتكلمين أنه في القلب، وقال أصحاب أبي حنيفة وأكثر الأطباء أنه في الدماغ

(3)

، واللّه أعلم.

20 -

عَن أبي كبْشَة الأنمَارِي رضي الله عنه أَنه سمع رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُول ثَلَاث أقسم عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثكُمْ حَدِيثا فاحفظوه، قَالَ: مَا نقص مَال عبد من صَدَقَة وَلا ظلم عبد مظْلمَة صَبر عَلَيْهَا إِلَّا زَاده اللّه عزا وَلا فتح عبد بَاب مَسْألة إِلَا فتح اللّه عَلَيْهِ بَاب فقر أَو كلمة نَحْوهَا، وَأُحَدِّثكُمْ حَدِيثا فاحفظوه قَالَ إِنَّمَا الدُّنْيَا لأربعة نفر عبد رزقه اللّه مَالا وعلما فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ ربه ويصل فِيهِ رَحمَه وَيعلم للّه فِيهِ حَقًا فَهَذَا بِأَفْضَل الْمنَازل وَعبد رزقه اللّه علما وَلم يرزقه مَالا فَهُوَ صَادِق النِّيَّة يَقُول لَو أَن لي مَالا لعملت بِعَمَل فلَان فَهُوَ بنيته فأجرهما سَوَاء وَعبد رزقه اللّه مَالا وَلم يرزقه علما يخبط فِي مَاله بِغَيْر علم وَلا يَتَّقِي فِيهِ ربه وَلا يصل فِيهِ رَحمَه وَلا يعلم لله فِيهِ حَقًا فَهَذَا بأخبث الْمنَازل وَعبد لم يرزقه اللّه مَالا وَلا علما فَهُوَ يَقُول لَو أَن لي مَالا لعملت فِيهِ بِعَمَل فلان فَهُوَ بنيته فوزرهما سَوَاء"

(4)

. رواه أحمد والترمذي واللفظ له وقال حديث حسن صحيح.

(1)

سورة الملك، الآية:10.

(2)

النجم الوهاج (1/ 269 - 270).

(3)

شرح النووي على مسلم (11/ 29)، والكواكب الدراري (1/ 205)، والنجم الوهاج (1/ 270).

(4)

أخرجه أحمد (29/ 561)، والترمذي رقم (2325)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 317)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3025).

ص: 330

ورواه ابن ماجه ولفظه "قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم: مثل هَذِه الأمة كَمثل أَرْبَعَة نفر رجل آتَاهُ اللّه مَالا وعلما فَهُوَ يعْمل بِعِلْمِهِ فِي مَاله يُنْفِقهُ فِي حَقه وَرجل آتَاهُ اللّه علما وَلم يؤته مَالا وَهُوَ يَقُول لَو كَانَ لي مثل هَذَا عملت فِيهِ بِمثل الَّذِي يعْمل، قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم فهما فِي الأجر سَوَاء وَرجل آتَاهُ اللّه مَالا وَلم يؤته علما فَهُوَ يخبط فِي مَاله يُنْفِقهُ فِي غير حَقه وَرجل لم يؤته اللّه علما وَلا مَالا وَهُوَ يَقُول لَو كَانَ لي مثل هَذَا عملت فِيهِ مثل الَّذِي يعْمل، قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم فهما فِي الْوزر سَوَاء"

(1)

.

قوله: عن أبي كبشة الأنماري؛ أبو كبشة [المزحجي له صحبة

(2)

]، اسمه عمرو بن سعد، وقيل: عامر بن سعد، وقيل: عمر بن سعد، وقيل: غير ذلك نزل الشام وكان قدومه إليها مع عمر روى له أبو داود والترمذي والبيهقي هذا الحديث، وأبو كبشة الذي في الكتب الستة ثلاثة الأنماري ها والسدوسي والسلولي

(3)

قاله في الديباجة.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفطوه

" الحديث.

أي: اقسم باللّه عليهن، والقسم هو الحلف.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة

"الحديث. وعدم نقص المال من الصدقة لأجل أن اللّه تعالى يبارك فيه

(4)

، وسمي المال مالا لميل القلوب به

(1)

أخرجه ابن ماجه رقم (4228)، وأحمد (29/ 552).

(2)

زيادة في المخطوطة المغربية.

(3)

انظر: جامع الأصول (12/ 611 و 820).

(4)

شرح السنة (6/ 133).

ص: 331

عن اللّه عز وجل

(1)

، وقد روي عن غير واحد من أهل اليقين والمعرفة أنهم عدوا الدراهم أو وزنوها ثم تصدقوا منها فوجدوها بحالها لم تنقص، والإسناد صحيح

(2)

، والنبي صلى الله عليه وسلم صادق لكن أفهامنا تقصر عن إدراك مثلها، فنكل علمه إلى قائله عليه الصلاة والسلام وإلى باعثه جل جلاله، قاله صاحب المغيث

(3)

، وذكر العلماء أيضا في نقص المال وجهين، أحدهما: معناه أن يبارك فيه وتدفع عنه المفسدات فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفية، وهذا يدرك بالحس والعادة، والوجه الثاني: أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المترتب عليه جبر لنقصه وزيادة إلى أضعاف كثيرة

(4)

، واللّه أعلم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده اللّه عزًا" المظلمة بفتح الميم وكسر اللام اسم ما أخذه الظالم ظلما قوله: (فصبر) أي: العبد (عليها) أي: على تلك المظلمة ولو كان متضمنا لنوع عن المذلة (إلا زاده اللّه بها عزا) أي: عنده تعالى، كما أنه يزيد للظالم عنده ذلا بها أو يزيده اللّه بها عزا له في الدنيا معاقبة، كما يحصل للظالم ذل بها ولو بعد حين من المدة، بل ربما ينقلب الأمر ويجعل الظالم تحت ذل المظلوم جزاء وفاقا، قوله (ولا فتح عبد) أي: على نفسه (باب مسألة) أي: باب سؤال وطلب من الناس لا

(1)

قاله الثوري كما في شرح السنة (14/ 252 - 253).

(2)

المجموع المغيث (3/ 342)، ورياض الأفهام (3/ 284).

(3)

المجموع المغيث (3/ 342 - 343).

(4)

شرح النووي على مسلم (16/ 141).

ص: 332

لحاجة وضرورة، بل لقصد غنى وزيادة (إلا فتح اللّه عليه باب فقر) أي: باب احتياج آخر وهلم جرا، أو بأن سلب عنه ما عنده من النعمة فيقع في نهاية من النقمة، كما هو مشاهد في أصحاب التهمة، ومثل حاله بالحمار الذي ليس له الذنب، وهو دائر في الطلب، فدخل في بستان حريصا عليه فقطع الحارث أذنيه، وشبه أيضا بكلب في فمه عظم، ومر على نهر لطيف يظهر من تحته عظم نظيف، ففتح الكلب فمه حرصا على أخذ ما في قعر الماء فوقع ما في فمه من العظم في الماء، فالحرص شؤم والحريص محروم

(1)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "وأحدثكم حديثا فاحفظوه، قال: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه اللّه مالا وعلما فهو يتقي اللّه فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم للّه فيه حقا فهذا بأفضل المنازل" الحديث، تقدم الكلام على النفر في أول الباب في حديث الغار مبسوطا، ويجوز في قوله:"وعبد رزقه اللّه مالًا" الكسر والرفع، والمراد بالرحم: صلة الأقارب، والمراد بقوله:"يعلم للّه فيه حقًّا" الزكاة المفروضة الواجبة في ماله.

قوله صلى الله عليه وسلم: "وعبد رزقه اللّه علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء

" الحديث. قال العلماء: ومتى اقترن بالنية قول أو سعى تأكد الجزاء والتحق صاحبه بالعامل لهذا الحديث، وقد حمل قوله "فهما في الأجر سواء" على استوائهما في أصل أجر العمل دون مضاعفته، فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل دون من نواه ولم

(1)

مرعاة المفاتيح (8/ 3308).

ص: 333

يعمله فإنهما لو استويا من كل وجه لكتب لمن هم بحسنة ولم يعملها عشر حسنات وهو خلاف النصوص ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}

(1)

وقال ابن عباس وغيره: القاعدون المفضل عليهم المجاهدون هم القاعدون من أهل الأعذار

(2)

انتهى، فالعاقل يغبط من أنفق ماله في سبل الخيرات ونيل علو الدرجات

(3)

.

واعلم أن من عجز عن عمل خير وتأسف عليه وتمنى حصوله كان شريكا لفاعله في الأجر كما قال في هذا الحديث قال: لو كان لي مال لعملت فيه ما عملت فيه فلان أنهما سواء في الأجر أو الوزر، وقد قيل إنهما سواء في أصل الأجر دون المضاعفة فإنها تختص بالعامل كما تقدم نقله فمن هاهنا كان أرباب الهمم العالية لا يرضون بمجرد هذه المشاركة ويطلبون أن يعملوا أعمالا تقاوم الأعمال التي عجزوا عنها ليفوزوا بثواب يقاوم ثواب تلك الأعمال ويضاعف لهم كما يضاعف أولئك فيستووا هم وأولئك العمال في الأجر كله

(4)

. انتهى.

لطيفة في المعنى: روى حميد بن زنجويه بإسناده عن زيد بن أسلم قال: يؤتى يوم القيامة بفقير وغني اصطحبا في اللّه تعالى فيوجد للغني فضل عمل

(1)

سورة النساء، الآية:95.

(2)

جامع العلوم والحكم (3/ 1044).

(3)

لطائف المعارف (ص 246).

(4)

لطائف المعارف (ص 249).

ص: 334

فيما كان يصنع في ماله فيرفع على صاحبه فيقول الفقير: يا رب لم رفعته وإنما اصطحبنا فيك وعملنا لك فيقول اللّه تعالى: له فضل عمل بما صنع في ماله فيقول يا رب لقد عملت لو أعطيتني مالا لصنعت مثل ما صنع فيقول: صدق فارفعوه إلى منزل صاحبه ويؤتى بمريض وصحيح اصطحبا في اللّه تعالى فيرفع الصحيح بفضل عمله فيقول المريض لم رفعته علي فيقول بما كان يعمل في صحته، فيقول: يارب لقد عملت لو صححتني لعملت كما كان عمل، فيقول اللّه: صدق فارفعوه على درجة صاحبه ويؤتى بحر ومملوك اصطحبا في اللّه تعالى.

فيقول مثل ذلك ويؤتى بحسن الخلق وسيئ الخلق فيقول يا رب لم رفعته عليّ وإنما اصطحبنا فيك وعملنا لك، فيقول: بحسن خلقه فلا يجد له جوابًا انتهى، قاله ابن رجب في شرح الأربعين النواوية

(1)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "وعبد لم يرزقه اللّه مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته، فوزرهما سواء" ذم النبي صلى الله عليه وسلم الرجل المذموم لتمنيه المعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ما لأخيه، وهذا هو الحسد، ومدح الأول، لأنه من الغبطة لا من الحسد، والجاهل يغبط من أنفق ماله في الشهوات وتوصل به إلى اللذات المحرمات، قال اللّه تعالى حاكيا عن قارون {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} إلى قوله: {وَالْعَاقِبَةُ

(1)

لطائف المعارف (246).

ص: 335

لِلْمُتَّقِينَ}

(1)

(2)

فإن قول القائل بلسانه: لو أن لي مالا لعملت فيه بالمعاصي كما عمل فلان ليس هو العمل بالمعصية التي هم بها، وإنما أخبر عما هم به فقط مما متعلقه إنفاق المال في المعاصي وليس له مال بالكلية، وأيضًا في الكلام بذلك محرم، فكيف يكون معفو عنه غير معاقب؟

(3)

، واللّه أعلم.

21 -

عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيمَا يروي عَن ربه عز وجل إِن اللّه كتب الْحَسَنَات والسيئات ثمَّ بَين ذَلِك فَمن هم بحسنة فَلم يعملها كتبهَا اللّه عِنْده حَسَنَة كَامِلَة فَإِن هم بهَا فعملها كتبهَا اللّه عِنْده عشر حَسَنَات إِلَى سَبْعمِائة ضعف إِلَى أَضْعَاف كثِيرَة وَمن هم بسيئة فَلم يعملها كتبهَا اللّه عِنْده حَسَنَة كَامِلَة وَإِن هُوَ هم بهَا فعملها كتبهَا اللّه سَيِّئَة وَاحِدَة زَاد فِي رِوَايَة أَو محاها وَلا يهْلك على اللّه إِلَا هَالك"

(4)

رواه البخاري ومسلم.

قوله: وعن ابن عباس، تقدم الكلام على مناقب ابن عباس قريبًا.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك

" الحديث. وفي نسخة: "ثم بين ذلك في كتابه، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنة كاملة"، وفي حديث أبي هريرة الذي بعده: "وإذا أراد عبدي أن يعمل حسنة فلم يعملها اكتبوها له حسنة ما لم يعملها"

(5)

ففي هذا الحديث والأحاديث بعده بيان ما أكرم اللّه تعالى به هذه الأمة زادها اللّه تعالى شرفا وكرما وخفف عنهم

(1)

سورة القصص، الآيات: 79 - 83.

(2)

لطائف المعارف (ص 246).

(3)

جامع العلوم والحكم (3/ 1047).

(4)

أخرجه البخاري رقم (6491)، ومسلم رقم (131).

(5)

أخرجه البخاري رقم (7501)، ومسلم رقم (129).

ص: 336

مما كان على غيرهم من الإصر والثقل والمشاق

(1)

، وفيه: بيان ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من المسارعة إلى الانقياد لأحكام الشرع

(2)

، والظاهر أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى عن اللّه عز وجل:"وإذا تحدث بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها" المراد بالتحدث: حديث النفس وهو الهم

(3)

، ولا يتوقف ذلك على أن تحدثه به لسانه

(4)

.

قال النووي رحمه الله: وقد دل على ذلك قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "وإذا همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنة كاملة" والظاهر: أن المراد إذا منعه من ذلك عذر ولا تكتب له الحسنة بمجرد الهم مع الانكفاف عن الفعل بلا عذر، ويحتمل حمله على إطلاقه وأن مجرد الهم بالخير قربة، وإن لم يمنع منه مانع

(5)

، وفي حديث خريم بن فاتك:"من هم بحسنة فلم يعملها فعلم اللّه أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة"

(6)

فهذا يدل على أن المراد بالهم هنا هو العزم الذي يوجد معه الحرص على العمل لا مجرد الخطرة التي تخطر ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم

(7)

.

(1)

شرح النووي على مسلم (2/ 152).

(2)

شرح النووي على مسلم (2/ 152).

(3)

جامع العلوم والحكم (3/ 1042).

(4)

طرح التثريب (8/ 229).

(5)

طرح التثريب (8/ 229).

(6)

أخرجه أحمد (31/ 383).

(7)

جامع العلوم والحكم (3/ 1043).

ص: 337

قوله صلى الله عليه وسلم في الحسنة: "فإن هم بها فعملها كتبها اللّه عنده عشر حسنات" وفي حديث أبي هريرة: "فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها

" الحديث. فمضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها، فمعناه: أن التضعيف بعشر أمثالها لابد منه بفضل اللّه ورحمته ووعده الذي لا يخلفه

(1)

، وقد دل عليه قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}

(2)

(3)

.

وفي حديث أبي ذر الذي رواه مسلم في الدعوات في الحسنات يقول اللّه تبارك وتعالى: "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ"

(4)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إلى سبعمائة ضعف"، قال النووي

(5)

: وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}

(6)

، وقد حكى أبو الحسن الماوردي أقضى القضاة عن بعض العلماء أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة وهو غلط، فقيل: المراد: يضاعف هذا التضعيف وهو السبعمائة، وقيل: المراد: يضاعف فوق السبعمائة لمن يشاء، وفي رواية لابن ماجه:"إلى سبعمائة ضعف"

(7)

.

(1)

شرح النووي على مسلم (17/ 12).

(2)

سورة الأنعام، الآية:160.

(3)

جامع العلوم والحكم (3/ 1036).

(4)

أخرجه مسلم رقم (2687).

(5)

في شرح مسلم (2/ 152).

(6)

سورة البقرة، الآية:261.

(7)

أخرجه ابن ماجه رقم (1638).

ص: 338

قوله: "إلى أضعاف كثيرة" فقد ورد التضعيف بذلك في الحديث، ففيه التصريح بالمذهب الصحيح المختار عند العلماء أن التضعيف لا يقف على سبعمائة

(1)

فالزيادة بعد تكثير التضعيف إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى

(2)

.

وقال الكرماني

(3)

: وإن قلنا إن معنى تضاعف السبعمائة ضعف بأن يزيد عليها فذلك في مشيئة اللّه، وأما المتحقق فهو إلى سبعمائة فقط، وقال في موضع آخر

(4)

: فإن قلت: كيف يكون سبعمائة فقط واللّه يضاعف لمن يشاء، قلت: هذا أقله والتخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائدة واللّه أعلم.

فزيادة المضاعفة على العشر لمن يشاء اللّه أن يضاعف له دليله قوله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}

(5)

فدلت هذه الآيات على أن النفقة في سبيل اللّه تضاعف بسبع مائة ضعف

(6)

.

تتمة: قال الجوهري

(7)

: ضعف الشيء مثله، وضعفاه مثلاه، هذا في غير

(1)

شرح النووي على مسلم (2/ 152).

(2)

شرح النووي على مسلم (17/ 12).

(3)

في الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 169).

(4)

في الكواكب الدراري (9/ 80).

(5)

سورة البقرة، الآية:261.

(6)

جامع العلوم والحكم (3/ 1036 - 1037).

(7)

في الصحاح (4/ 1390).

ص: 339

الوصية انتهى، ودليل الزيادة على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد من حديث علي بن زيد بن جدعان عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللّه تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة ثم تلى {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}

(1)

(2)

. وخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا: "من دخل السوق فقال لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب اللّه له ألف ألف حسنة ومحي عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة"

(3)

وفي حديث تميم الداري مرفوعًا: "من قال أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له أحدًا صمدًا عشر مرات كتب اللّه له أربعين ألف ألف حسنه"

(4)

وفي حديث الصيام: "فإنه لي وأنا أجزي به" يدل على أن الصيام لا يعلم قدر مضاعفتة ثوابه إلا اللّه تعالى لأنه أفضل أنواع الصبر وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، قاله ابن رجب

(5)

.

وفي حديث ابن عباس من حج من مكة ماشيا حتى يرجع كتب اللّه بكل خطوة سبعمائة حسنة كل حسنة مثل حسنات الحرم، قيل: ومن حسنات

(1)

سورة النساء، الآية:40.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (16/ 442).

(3)

أخرجه الترمذي رقم (3428).

(4)

أخرجه الترمذي رقم (3473) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه" والخليل بن مرة ليس بالقوي عند أصحاب الحديث قال محمد بن إسماعيل: هو منكر الحديث.

(5)

جامع العلوم والحكم (3/ 1039 - 1040).

ص: 340

الحرم قال: "بكل حسنة مائة ألف حسنة" قال شيخ الإسلام قاضي القضاة ولي الدين العراقي

(1)

: قال والدي في شرح الترمذي: فهذا أكثر ما رأيته ورد في التضعيف وهو بكل خطوة سبعين ألف ألف حسنة، قال: والجمع بين هذه الأحاديث وبين حديث أبي هريرة أنه لم يرد بحديث أبي هريرة انتهاء التضعيف بدليل أن في بعض طرقه كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة فقد بين بهذه الزيادة أن التضعيف يزاد على السبعمائة، والزيادة من الثقة على الصحيح، انتهى واللّه أعلم.

واعلم أن مضاعفة الإخلاص في الحسنات زيادة على العشر يكون بحسب حسن الإسلام كما جاء ذلك مصرحًا في حديث أبي هريرة وغيره تكون بحسب كمال الإخلاص وبحسب فضل ذلك العمل في نفسه وبحسب الحاجة إليه، واللّه أعلم قاله الكرماني

(2)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسن كاملة، وإن هم هو بها فعملها كتبها اللّه سيئة واحدة" الحديث، قال الإمام المازري: مذهب القاضي أبي بكر بن أبي الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه، ويحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما يمر ذلك بفكره من غير

(1)

طرح التثريب في شرح التقريب (4/ 104).

(2)

راجع جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 316).

ص: 341

استقرار، ويسمى هذا (همًا)، ويفرق بين الهم والعزم، وهذا مذهب القاضي أبي الطيب وطائفة كبيرة من الفقهاء والمحدثين، وأخذوا بظاهر الحديث، قال القاضي عياض رحمه الله: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب، قال الله تعالى:{بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}

(1)

أي: عزمت عليه قلوبكم وقصدتموه إذ كسب القلب عزمه ونيته، وفي الآية دليل لما عليه الجمهور أن أفعال القلوب إذا استقرت يؤاخذ بها لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة، وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة لكن نفس الإصرار والعزم معصيةً فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها عبدي بأن عمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها الحديث.

[فإن تركها خشية الله تعالى كتبت حسنة كما جاء في الحديث: "إنما تركها من جرائي" فصار تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك، وعصيانه هواه حسنة، فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم، وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى بل لخوف الناس، هل يكتب حسنة؟ قال: لا، لأنه إنما حمله على تركها الحياء، وهذا ضعيف لا وجه له، هذا آخر كلام القاضي، وهو ظاهر حسن ولا مزيد عليه، وقد تظاهرت

(1)

سورة البقرة، الآية:225.

ص: 342

نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر

(1)

، والله أعلم، ومذهب الجمهور أن العزم على المعصية إذا استقر في القلب كان ذنبًا يكتب عليه بخلاف الخاطر

(2)

، انتهى، قاله في شرح الإلمام.

قال الإمام أبو جعفر الطحاوى هذا الحديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها وبذلك جزم النووي أيضا خلافا لمن قال أنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة

(3)

. والله أعلم.

22 -

عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يَقُول الله عز وجل إِذا أَرَادَ عَبدِي أَن يعْمل سَيِّئَة فَلَا تكتبوها عَلَيْهِ حَتَّى يعملها فَإِن عَملهَا فاكتبوها بمِثْلِهَا وَإِن تَركهَا من أَجلي فاكتبوها لَهُ حَسَنه وَإِن أَرَادَ أَن يعْمل حَسَنَة فَلم يعملها اكتبوها لَهُ حَسَنَة فَإِن عَملهَا فاكتبوها لَهُ بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة"

(4)

. رواه البخاري واللفظ له ومسلم.

23 -

وَفِي رِوَايَة لمُسلم

(5)

"قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من هم بحسنة فَلم يعملها كتبت لَهُ حَسَنة وَمن هم بحسنة فعملها كتبت لَهُ عشر حَسَنَات إِلَى سَبْعمِائة ضعف وَمن هم بسيئة فَلم يعملها لم تكْتب عَلَيْهِ وَإِن عَملهَا كتبت".

(1)

راجع شرح النووي على مسلم (2/ 151).

(2)

شرح النووي على مسلم (11/ 107 - 108).

(3)

شرح النووي على مسلم (2/ 152).

(4)

أخرجه البخاري رقم (7501)، ومسلم رقم (129).

(5)

رقم (130).

ص: 343

24 -

وَفِي أُخْرَى لَهُ "قَالَ عَن مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ الله عز وجل إِذا تحدث عَبدِي بِأَن يعْمل حَسَنَة فَأَنا أَكتبهَا لَهُ حَسَنَة مَا لم يعملها فَإِذا عَملهَا فَأَنا أَكتبهَا لَهُ بِعشر أَمْثَالهَا وَإِذا تحدث بِأَن يعْمل سَيِّئَة فَأَنا أغفرها لَهُ مَا لم يعملها فَإذا عَملهَا فَأَنا أَكتبهَا لَهُ بِمِثْلِهَا وَإِن تَركهَا فاكتبوها لَهُ حَسَنَة إِنَّمَا تَركهَا من جراي"

(1)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما تركها من جرائي" قال الحافظ

(2)

: هو بفتح الجيم وتشديد الراء أي من أجلي. وقال غيره: أي من أجلي وبسببي، وجراء: تمد وتقصر يقال: فعلت ذلك من جراك ومن جرائك أي من أجلك

(3)

، وهذا يدل على أن المراد من قدر على ما هم من المعصية فيتركه لله عز وجل، وهذا لا ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة لأن تركه للمعصية بهذا القصد عمل صالح فإما إن هم بمعصية ثم ترك عملها خوفًا من المخلوقين أو مراءاة لهم فقد قيل: إنه يعاقب على تركها بهذه النية لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف الله تعالى محرم وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم فإذا اقترن بذلك ترك المعصية لأجله عوقب على هذا الترك

(4)

.

وأما إن سعى في تحصيلها بما أمكنه ثم حال بينه وبينها العذر فقد ذكر

(1)

مسلم رقم (129).

(2)

فتح الباري (11/ 326).

(3)

الصحاح (6/ 2302)، ومطالع الأنوار (2/ 108)

(4)

جامع العلوم والحكم (3/ 1045).

ص: 344

جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل"

(1)

ومن سعى في حصول المعصية جهده ثم عجز عنها فقد عمل وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "ما لم تتكلم به أو تعمل"

(3)

يدل على أن الهام بالمعصية إذا تكلم بما هم به لسانه أنه يعاقب على الهم حينئذ لأنه قد عمل بجوارحه معصية وهو التكلم بلسانه، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي كبشة الأنماري الذي تقدم قريبًا:"لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان " يعني الذي يعصي الله تعالى في ماله قال "فهما في الوزر سواء"

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري رقم (5269).

(2)

أخرجه البخاري رقم (31)، ومسلم رقم (2888).

(3)

أخرجه البخاري رقم (5269) ومسلم رقم (127).

(4)

جامع العلوم والحكم (3/ 1045 - 1046).

ص: 345