الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصلٌ
قوله: عن أبي هريرة، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" الحديث، هذا حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب، ومعنى تنفيس الكربة أو الغمة بضم الكاف وسكون الراء، وجمعها كرب بضم الكاف وفتح الراء، قال الجوهري
(1)
: الكربة بالضم الغم الذي يأخذ بالنفس، وكذلك الكرب على وزن الضرب فتقول منه كربة الغم إذا اشتدَّ عليه.
وقوله: "نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النصوص لهذا المعنى كقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما يرحم الله من عباده الرحماء"
(2)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا"
(3)
والكرب: هو الشدة العظيمة التي ترفع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أن يخفف عنه منها مأخوذ من تثفس الخناق كأنه يرجى له الخناق، حتى تأخذ نفسا، والتفريج أعظم من ذلك وهو أن يزيل عنه الكربة
(1)
الصحاح (1/ 211)، وتهذيب الأسماء واللغات (4/ 113).
(2)
أخرجه البخاري (1284) و (5655) و (6655) و (7377) و (7448)، ومسلم (11 - 923) عن أسامة بن زيد.
(3)
أخرجه مسلم (117 و 118 و 119 - 2613) عن هشام بن حكيم.
فتفرج فتفرج عنه كربته ويزول همه وغمه فجزاء التنفيس التنفيس وجزاء التفريج التفريج كما في الحديث: "أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة"
(1)
، ويدخل في هذا إعانة المسلم، وتفريج الكرب عنه، ويدخل في كشف الكربة وتفريجها من أزالها بماله أو جاهه أو لمساعدته أو إشارته ورأيه ودلالته، والله أعلم
(2)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَمن ستر مُسلما ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة " الحديث، الستر المندوب إليه هنا، المراد به: الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفا بالأذى والفساد، وأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه بل ترفع قضيته إلى أولى الأمر إن لم يخف من ذلك مفسدة، هذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت، أما معصية رآه عليها وهو بَعْدُ متلبس بها فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها ممن قدر على ذلك فلا يحل تأخيرها، فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر إذا لم يترتب على ذلك مفسدة
(3)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَمن يسر على مُعسر يسر الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة" (أي: من
(1)
جامع العلوم والحكم (3/ 1004 - 1005). والحديث أخرجه أبو داود (1682)، والترمذى (2449)، وأبو يعلى (1111). قال الترمذي عقب الحديث (2449): هذا حديث غريب وقد روي عن عطية، عن أبي سعيد موقوفًا وهو أصح عندنا وأشبه. وقال أبو حاتم كما في العلل (2007): الصحيح موقوف الحفاظ لا يرفعونه. وقال الألباني: ضعيف، المشكاة (1913)، ضعيف أبي داود (300).
(2)
شرح النووي على مسلم (16/ 135).
(3)
المصدر السابق (16/ 135).
كان له دين على فقير فساهله بأن يمهله من وقت أداء دينه إلى وقت يحصل له مال، أو يترك بعض دينه، ويطلب الباقي
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَمن سلك طَرِيقا يلْتَمس فِيهِ علمًا"، ونكر "علمًا" ليتناول كل نوع من أنواع علوم الدين، ويندرج تحته قليلة وكثيرة
(2)
، وفي الحديث: دليل على شرف العلم وفضله، وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخل في سلوك الطريق الحقيقي وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلم، ويدخل فيه سلوك الطريق المعنوية إلى حصول العلم مثل حفظه ودراسته ومذاكرته ومطالعته وكتابته والتفهم له ونحو ذلك من الطردق المعنوية التي يتوصل بها إلى العلم
(3)
.
قوله: "سهل الله له به طريقا إلى الجنة"، قد يراد بذلك أن الله تعالى يسهل له العلم الذي يطلبه وسلك طريقه وييسره عليه، فإن العلم طريق موصل إلى الجنة، وهذا كقوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}
(4)
قال بعض السلف: فهل من طالب علم فيعان عليه، وقد يراد أيضا أن الله تعالى ييسر لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه الله تعالى الانتفاع به والعمل بمقتضاه فيكون سببا لهدايته ولدخوله الجنة، وقد ييسر الله لطالب العلم
(1)
المفاتيح (1/ 305).
(2)
الميسر (1/ 103).
(3)
جامع العلوم والحكم (3/ 1016).
(4)
سورة القمر، الآية:18.
علوما أخرى ينتفع بها، وتكون موصلة له إلى الجنة كما قيل:"من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم"، وكما قيل:"ثواب الحسنة حسنة بعدها"، وقد يدخل في ذلك أيضًا تسهيل طريق الجنة الحسنى يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده من الأهوال فييسر ذلك على طالب العلم للانتفاع به، فإن العلم يدل على الله تعالى من أقرب الطرق إليه، فمن سلك طريقه ولم يعرج عنه وصل على الله إلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها فسهلت عليه الطريق الموصلة إلى الجنة كلها في الدنيا والآخرة، فلا طريق إلى الله إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، والله أعلم؛ قاله ابن رجب
(1)
.
ففي هذا الحديث فضل إزالة الكربة عن المدين وفضل الستر عليه وفضل إنظاره وفضل المشي في طلب العلم، ويلزم من ذلك فضل الاشتغال بالعلم، والمراد: العلم الشرعي بشرط أن يقصد بذلك وجه الله تعالى، وإن كان هذا شرطا في كل عبادة لكن عادة لا يقيدون هذه المسألة به لكونه قد يتساهل فيه بعض الناس ويغفل عنه بعض الناس ونحوهم، والله أعلم
(2)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَمَا اجْتمع قوم فِي بَيت من بيُوت الله يَتلون كتاب الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينهم إِلَّا نزلت عَلَيْهِم السكينَة" الحديث، هذا يدل على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته، وهذا إن حمل
(1)
المصدر السابق (3/ 1016 - 1017).
(2)
شرح النووي على مسلم (17/ 21).
على تعلم القرآن وتعليمه فلا خلاف في استحبابه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من يقرأ القرآن فيستمع لقراءته كما أمر ابن مسعود أن يقرأ وقال:"إني أحب أن أسمعه من غيري"
(1)
، وروي يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه قال: كانوا إذا صلوا الغداة قعدوا حلقًا حلقًا يقرءون القرآن ويتعلمون الفرائض والسنن ويذكرون الله عز وجل
(2)
؛ وروى عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من قوم صلوا صلاة الغداة ثم قعدوا في صلاتهم يتعاطون كتاب الله ويتدارسونه إلا وكل الله بهم ملائكة يستغفرون لهم حتى يخوضوا في حديث غيره"
(3)
وهذا يدل على استحباب الاجتماع بعد صلاة الغداة لدراسة القرآن؛ وقد روى عن الأوزاعي أنه سئل عن الدراسة بعد صلاة الصبح فقال: أخبرني حسان بن عطية أن أول من أحدثها في مسجد دمشق هشام بن إسماعيل المخزومي في خلافة عبد الملك بن مروان فأخذ الناس بذلك، وعن ابن وهب قال: قلت لمالك أرأيت القوم يجتمعون فيقرأون جميعًا سورة واحدة حتى يختموها فأنكر ذلك وعابه، وقال: ليس هكذا كان يصنع الناس، إنما كان يقرأ الرجل على الرجل يعرضه وكانوا لا يرفعون أصواتهم
(1)
أخرجه البخاري (5050)، ومسلم (247 - 800).
(2)
أخرجه أبو يعلى (4088). قال الهيثمى في المجمع 1/ 132: ويزيد الرقاشي ضعيف.
(3)
أخرجه ابن السنى في رياضة المتعلمين (لوحة 104) قال: حدثني سلم بن معاذ، ثنا أبو شيبة بن أبي بكر، ثنا عمرو بن هاشم، ثنا محمد بن فضيل، عن أبيه، عن عطية العوفى عن أبي سعيد. قلت: عطية ضعيف.
بالذكر ولا بالقراءة ولا يفعلون ذلك جماعة
(1)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ويتدارسونه بينهم" يشعرك بأنه ليس المراد يجتمعون للتلاوة صوتا واحدًا متراسلين لأن الدراسة إنما تكون تلقينًا أو عرضًا، وهذا هو المروي عنهم، وأما الاجتماع على صوت واحد فليس بمروي عنهم، وقال أبو مصعب وإسحاق بن محمد الفروي: سمعنا أنس بن مالك يقول: الاجتماع يكره بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن، بدعة ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا العلماء بعدهم على هذا، كانوا يخلوا كل بنفسه ويقرأ ويذكر ثم ينصرفون
(2)
، وقد ذكر ابن بطال في شرح البخاري عن العلماء أنهم قالوا: الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج فيها إلى معرفة تلقي الصحابة لها، كيف تلقوها من صاحب الشريعة فإنهم أعرف بالمقال وأنقد بالحال، قال النووي: وفي هذا الحديث دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال مالك: يكره وتأوله بعض أصحابه، ويلتحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة أو رباط ونحوهما، ويكون الحديث خرج مخرج الغالب
(3)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا حفتهم الملائكة" يلتفون بهم ويدورون حولهم للتبرك
(1)
انظر جامع العلوم والحكم (3/ 1020 - 1021)، والمدخل (1/ 91).
(2)
انظر جامع العلوم والحكم (3/ 1021 - 1022)، والمدخل (1/ 92).
(3)
انظر المدخل (1/ 90)، وشرح الصحيح (3/ 268) لابن بطال، وشرح النووي على مسلم (17/ 21 - 22).
والرغبة فيما عندهم
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ونزلت عليهم السكينة" قيل: المراد بالسكينة هنا الرحمة وهو الذي اختاره القاضي عياض وهو ضعيف لعطف الرحمة عليهم، وقيل: الطمأنينة والوقار، وهذا حسن
(2)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وغشيتهم الرحمة" أي: سترتهم ولابستهم، والرحمة ضد القسوة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وذكرهم الله فيمن عنده" يعني: الملائكة المقربين من رحمته المواظبين بالطاعة، ويقرب منه قوله تعالى:"وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه"، ومعنى "فيمن عنده" دنو المنزلة والقرب من رحمة الله تعالى، دل الحديث على فضيلة حلق الذكر وهي: كل جماعة اجتمعوا لله تعالى في قراءة قرآن أو سماع حديثه أو تعلم علم الشريعة. والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" معناه: أن العمل هو الذي يبلغ العبد درجات الآخرة من الطاعة، فمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند الله تعالى لم يسرع به نسبه فيبلغه تلك الدرجات، فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال لا على الأنساب، فينبغي أن لا يتكل الإنسان على شرف النسب وفضيلة الآباء ويقصر في العمل، وقد أمر الله تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ورحمته بالأعمال، قال ابن مسعود رضي الله عنه: يأمر الله بالصراط
(1)
النهاية (1/ 408).
(2)
شرح النووي على مسلم (17/ 21).
فيضرب على جهنم فيمر الناس على قدر أعمالهم زمرًا أوائلهم كلمح البصر ثم كمر الريح ثم كمر الطير ثم يمر الرجل سعيا حتى يمر الرجل مشيًا حتى يمر الرجل يتلبط على بطنه فيقول: يارب لم بطأت بي فيقول: "إنما لم أبطئ، إنما بطأ بك عملك"، وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
لَعَمْرُكَ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا بِدِينِهِ
…
فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالَا عَلَى النَّسَبِ
لَقَدْ رَفَعَ الإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ
…
وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبِ
قاله ابن رجب أيضًا
(1)
.
106 -
وَعَن أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول من سلك طَرِيقا يلْتَمس فِيهِ علما سهل الله لَهُ طَرِيقا إِلَى الْجنَّة وَإِن الْمَلَائِكَة لتَضَع أَجْنِحَتهَا لطَالب الْعلم رضَا بِمَا يصنع وَإِن الْعَالم ليَسْتَغْفِر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأرْض حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء وَفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على سَائِر الْكَوَاكِب وَإِن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء إِن الْأَنْبِيَاء لم يورثوا دِينَارا وَلا درهما إِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذه أَخذ بحظ وافر رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ لَا يعرف إِلَا من حَدِيث عَاصِم بن رَجَاء بن حَيْوَة وَلَيْسَ إِسْنَاده عِنْدِي بِمُتَّصِل وَإِنَّمَا يرْوى عَن عَاصِم بن رَجَاء بن حَيْوَة عَن دَاوُد بن جميل عَن كثير بن قيس عَن أبي الدَّرْدَاء عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهَذَا أصح، قَالَ المملي رحمه الله: وَمن هَذِه الطَّرِيق رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْبَيْهَقِيّ فِي
(1)
جامع العلوم والحكم (3/ 1028 - 1031).
الشّعب وَغَيرهَا وَقد رُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن كثير بن قيس عَن يزِيد بن سَمُرَة عَنهُ وَعَن الأوْزَاعِيّ عَن عبد السَّلَام بن سليم عَن يزِيد بن سَمُرَة عَن كثير بن قيس عَنهُ قَالَ البُخَارِيّ وَهَذَا أصح وَرُوِيَ غير ذَلِك وَقد اخْتلف فِي هَذَا الحَدِيث اخْتِلَافا كثيرا ذكرت بعضه فِي مُخْتَصر السّنَن وبسطتة فِي غَيره وَالله أعلم
(1)
.
قوله: وعن أبي الدرداء، أبو الدرداء، اسمه: عويمر، وقيل: عامر، وتقدم الكلام على مناقبه رضي الله عنه، وسيأتي الكلام عليه أيضًا مبسوطًا.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا" أي: يطلبه، فاستعار له اللمس "سهل الله له طريقا إلى الجنة"، تقدم الكلام عليه، ويحتمل أن يكون المراد: الطريق الحسية والمعنوية، وهي الطريق الموصلة إلى تكرير وحفظ ومطالعة ومراجعة ومذاكرة ومدارسة ونحو ذلك
(2)
.
قوله: "وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع" الحديث، اختلف الناس في المراد بالملائكة، فقيل: المراد بهم عموم
(1)
أخرجه أحمد 5/ 196 (21715 و 21716)، والدارمى (354)، وأبو داود (3641) و (3642)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223) و (239)، وابن حبان (88)، والبيهقي في الآداب (862) والأربعون (3) والمدخل (347 و 348) والشعب (3/ 220 - 221 رقم 1573 و 1574)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (172 و 173 و 174 و 175 و 176 و 177 و 178)، والخطيب في الرحلة في طلب الحديث (4). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (70).
(2)
جامع العلوم والحكم (3/ 1016).
الملائكة، وقيل المراد: الكرام الكاتبون
(1)
؛ وقوله: "لتضع أجنحتها لطالب العلم" قيل معناها: أنها تتواضع لطالب العلم توقيرا لعلمه وتليين الجانب له والانقياد، وذلك مثل قوله تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)}
(2)
أي: تواضع لهم، وقيل: معنى وضع الجناح هو عبارة عن ترك الطيران والنزول للذكر كما في الحديث الآخر: "إلا نزلت عليهم السكينة وحفت بهم الملائكة"، وقيل: معناه بسط الأجنحة حقيقة وهي فرشها تحت قدمي طالب العلم لتحمله عليها وتبلغه حيث يقصد من البلاد أو المواضع في طلب العلم
(3)
، وقيل: المراد بذلك المعونة وتيسير السعي في طلب العلم
(4)
، وقيل: تبسطها بالدعاء لطالب العلم بدلا من الأيدي
(5)
لأن جناح الطائر يده
(6)
.
(1)
الميسر (1/ 103).
(2)
سورة، الآية:
(3)
معالم السنن (1/ 61) و (4/ 183).
(4)
شرح السنة (1/ 277)، وشرح المشكاة (2/ 673) للطيبى.
(5)
المجموع المغيث (1/ 363)، ومفتاح دار السعادة (1/ 64).
(6)
ذكر في هامش الأصل: (وليست هذه الخصوصية لأحد من عباد الله إلا لطالب العلم، فما ظنك بالأخيار منهم، والربانيين، جعلنا الله تعالى منهم، وفيهم الربانيون العلماء، قيل: سموا بذلك لقيامهم بالكتب والعلم، وقيل: نسبوا إلى علم الرب، وقيل: نسبوا إلى العلم بالرب، وقيل: لأنهم أصحاب العلم والديانة، فحسبك بمن توقره الملائكة وتدعوا له وتستغفر، ولولا ما علمت الملائكة أن منزلته منزلة عظيمة عند الله ما وقرته، ولو لم يكن في طلب العلم إلا دعاء الملائكة له لكان جزيلا بأن ينافس فيه، فإن أخذ ما يرغب في دعوة =
قوله صلى الله عليه وسلم: "وأن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض"، "من في السموات" يعني: الملائكة ومن فيها من الأنبياء، وإنما يستغفر له أهل السموات وهم الملائكة لأنهم عرفوا بتعريفهم وعظموا قولهم وهم أنهم يقولون الملائكة عباد الله ويمنعون من قال هم بنات الله وأنهم آلهة فيكون نفع عليهم عائد إليهم فيدعون لهم مكافأة بصنيعهم.
قوله: "ومن في الأرض" يعني: من عليها من السموات، وإنما يستغفر لهم أهل الأرض، وأما بنو آدم فبقاؤهم وصلاحهم مربوط برأيهم وفتواهم، وأما غير بنو آدم من الحيوان فما من شيء على وجه الأرض إلا وله مصلحة موجودة بوجود العلم مفقودة بفقد العلم، من ذلك بيان الحلال من الحيوانات والحرام منها وما لا يجوز قتلها وما يجوز قتلها، وكيفية قتلها يعني: من يعقل ومن لا يعقل لأن من لا يعقل ينتفع بالعالم لكونه يعلم الناس إحسان القتلة والذبحة والرفق بكل شيء، ويحتمل أن يكون استغفار هذه الأنصاف المذكورة بعضها بالحقيقة وبعضها بالمجاز وهو أن يكتب الله تعالى له بعدد كل حيوان من الأنواع المذكورة مغفرة وحكمة أي: صلاح العالم بالعلم، وما من شيء من الأصناف المذكورة إلا له مصلحة موجودة، ويحتمل أن يكون استغفار له في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما
(1)
.
= يرجوا بركتها من رجل صالح، فما الظن بدعاء قوم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فلله در العلم ومن به تردي وتعسًا للجهل ومن في أوديته تردَّي).
(1)
انظر المفاتيح (1/ 314)، والمدخل (1/ 89)، ومفتاح دار السعادة (1/ 65)، ومجموع رسائل ابن رجب (1/ 29).
قوله: "حتى الحيتان في الماء" إنما خص الحيتان بالذكر لأنها ليست داخلة في جملة من في السموات ولا في جملة من في الأرض، إذ هي في الماء، ولهذا قيل:"حتى الحيتان في الماء" والماء كان موجودًا قبل السموات والأرض، كما قيل:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}
(1)
قبل خلق السموات والأرض بخمسين عامًا، ولهذا المعنى: إذا مات العالم بكى عليه كل الخلق حتى الطير في الهواء والسمك في الماء قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(2)
فأهل الذكر في الآية هم العلماء فهم يسألون عن النوازل وبفتواهم يعبد الله ويطاع ويمتثل أمره ويجتنبه نهيه، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لمجلس علم عند الله تعالى خير من عبادة ألف سنة لا يعصى الله فيها طرفة عين"، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
(3)
الآية، إن الخشية لله أفضل من الذكر باللسان، لأن الخشية لله هي المقصود والمطلوب، ولا يراد الذكر إلا لأجلها، وهي لا تحصل إلا للعلماء لأنه عز وجل قال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} وإنما للحصر، وقال تعالى:{مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
(4)
فأي هذا الخير وهذا الفضل من الذكر باللسان ولا خلاف بين الأمة أن الخير المتعدي أفضل من الخير القاصر على المرء نفسه
(1)
سورة هود، الآية:7.
(2)
سورة النحل، الآية:43.
(3)
سورة فاطر، الآية:28.
(4)
سورة العنكبوت، الآية:43.
فبان أن هذا أفضل الذكر
(1)
، والعالم أفضل من العامل لخمسة أشياء، أحدهما: أن العلم قد يكون بغير عمل ولا يكون العمل عملا بغير علم؛ والثاني: مقام العلماء مقام الأنبياء ومقام العمل مقام الأولياء؛ والثالث: العمل لازم والعلم متعدي كالسراج؛ والرابع: ينفع العلم بغير عمل ولا ينفع العمل بغير العلم؛ وأيضًا العمل منا والعلم من الله تعالى.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وفضل العالم على العابد كفضل القمر على الكواكب"، قيل: المراد بالعالم: من له اعتقاد صحيح يؤدي فرائض الله تعالى ولا يشتغل بنوافل كذا مما هو فرض على الكفاية، قال في شرح السنة
(2)
: فضل العلم من حيث أن نفعه يتعدى إلى كافة الخلق، وفيه: إحياء الدين وهو تلو النبوة، فإن العلماء ورثة الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" أي: كبير.
قوله: وقد روى الأوزاعي، تقدم الكلام على الأوزاعي قريبًا.
107 -
وَعَن معَاذ بن جبل صلى الله عليه وسلم قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تعلمُوا الْعلم فَإِن تعلمه لله خشيَة وَطَلَبه عبَادَة ومذاكرته تَسْبِيح والبحث عَنهُ جِهَاد وتعليمه لمن لَا يُعلمهُ صَدَقَة وبذله لأَهله قربَة لأنه معالم الْحَلَال وَالْحرَام ومنار سبل أهل الْجنَّة وَهُوَ الأنيس فِي الوحشة والصاحب فِي الغربة والمحدث فِي الْخلْوَة وَالدَّلِيل على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالسِّلَاح على الْأَعْدَاء والزين عِنْد الأخلاء
(1)
المدخل (1/ 89).
(2)
شرح السنة (1/ 278).
يرفع الله بِهِ أَقْوَامًا فيجعلهم فِي الْخَيْر قادة قَائِمَة تقتص آثَارهم ويقتدى بفعالهم وينتهى إِلَى رَأْيهمْ ترغب الْمَلَائِكَة فِي خلتهم وبأجنحتها تمسحهم ويستغفر لَهُم كل رطب ويابس وحيتان الْبَحْر وهوامه وسباع الْبر وأنعامه لِأَن الْعلم حَيَاة الْقُلُوب من الْجَهْل ومصابيح الْأَبْصَار من الظُّلم يبلغ العَبْد بِالْعلمِ منَازِل الأخيار والدرجات العلى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة التفكر فِيهِ يعدل الصّيام ومدارسته تعدل الْقيام بِهِ توصل الْأَرْحَام وَبِه يعرف الْحَلَال من الْحَرَام وَهُوَ إِمَام الْعَمَل وَالْعَمَل تَابعه يلهمه السُّعَدَاء ويحرمه الأشقياء رَوَاهُ ابْن عبد الْبر النمري فِي كتاب الْعلم من رِوَايَة مُوسَى بن مُحَمَّد بن عَطاء الْقرشِي حَدثنَا عبد الرَّحِيم بن زيد الْعمي عَن أَبِيه عَن الْحسن عَنهُ وَقَالَ هُوَ حَدِيث حسن وَلَكِن لَيْسَ لَهُ إِسْنَاد قوي وَقد روينَاهُ من طرق شَتَّى مَوْقُوفا كَذَا قَالَ رحمه الله وَرَفعه غَرِيب جدا وَالله أعلم
(1)
.
قوله: عن معاذ بن جبل، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية" تقدم الكلام على العلم وتعلمه.
قوله: "والزين عند الأخلاء"، الأخلاء: جمع خليل، وهو الصديق.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ترغب الملائكة في خلتهم"، بضم الخاء أي: في مصاحبتهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه"، الهوام:
(1)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (268 و 269) مرفوعا وموقوفًا. وقال الألباني: موضوع ضعيف الترغيب (47).
جمع هامة [ولا يقع هذا الاسم إلا على المخوف من أحناش الأرض
(1)
].
قوله: "وسباع البر وأنعامه"، والأنعام: الإبل والبقر والغنم [واحدها نعم، وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، والأنعام يذكر ويؤنث، قال اللّ تعالى:{نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ}
(2)
وقال في موضع آخر: {مِمَّا فِي بُطُونِهَا}
(3)
(4)
].
قوله: "به توصل الأرحام"، والأرحام: الأقارب، وصلتهم الإحسان إليهم بما تيسر على حسب حاله وحالهم إما بجاه أو مال أو كلمة طيبة
(5)
.
قوله: حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي، بفتح المهملة وشدة الميم المكسورة، منسوب إلى بني العم بطن من تميم، والله أعلم.
قوله: وقال: هو حديث حسن، قال الحافظ شرف الدين الدمياطي تلميذ الحافظ المنذري
(6)
: ولعله الحسن اللفظي لا الحسن المصطلح بين أهل هذا الشأن أي: المحدثين.
108 -
وَعَن صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي رضي الله عنه قَالَ أتيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِد متكئ على برد لَهُ أَحْمَر فَقلت لَهُ يَا رَسُول الله إِنِّي جِئْت أطلب الْعلم
(1)
الصحاح (5/ 2062).
(2)
سورة النحل، الآية:66.
(3)
سورة المؤمنون، الآية:21.
(4)
الصحاح (5/ 2043).
(5)
شرح النووي على مسلم (2/ 201).
(6)
المتجر الرابح (ص 8).
فَقَالَ مرْحَبًا بطالب الْعلم إِن طَالب الْعلم تحفه الْمَلَاِئِكَة بأجنحتها ثمَّ يركب بَعضهم بَعْضًا حَتَّى يبلغُوا السَّمَاء الدُّنْيَا من محبتهم لما يطْلب رَوَاهُ أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد جيد وَاللَّفْظ لَهُ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد وروى ابْن مَاجَه نَحوه بِاخْتِصَار وَيَأْتِي لَفظه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
(1)
.
قوله: عن صفوان بن عسال المرادي، وعسال: بفتح العين المهملة وسين مشددة وهو مرادي كوفي، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتي عشر غزوة، ومن مناقبه أن عبد الله بن مسعود روى عنه وروى عنه جماعة من التابعين، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون حديثًا
(2)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بطالب العلم" وفي حديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيأتيكم أقوام يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا لهم: مرحبًا مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه الترمذي، وحديث أبي هارون العبدي، واسمه: عمارة بن جوين، عن أبي سعيد الخدري أيضًا قال: كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الناس لكم تبع، وإن رجالًا يأتوكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيرًا"، وفي رواية: "يأتيكم رجال من قبل
(1)
أخرجه أحمد 4/ 239 (18093)، وابن الأعرابى (1449)، والآجرى في أخلاق العلماء (ص 37)، والطبراني في الكبير (8/ 54 رقم 7347)، وأبو نعيم في المعرفة (3818).
وقال الهيثمى في المجمع 1/ 131: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.
وحسنه الألباني في الصحيحة (3397) وصحيح الترغيب (71).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 249 الترجمة 264).
المشرق" رواه الترمذي في العلم
(1)
، وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى
(2)
: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)}
(3)
قيل: المراد بالسائل هنا السائل عن الدين، أي: لا تنهره بالغلظة وأجبه برفق ولين، قاله سفيان، قال ابن العربي: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية، وقد كان أبو الدرداء ينظر في أصحاب الحديث وببسط ردائه لهم ويقول: مرحبًا بأحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو سعيد الخدري صلى الله عليه وسلم إذا رأى الشباب قال: مرحبًا وأهلا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبًا، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نوسع لكم في المجلس ونفقهكم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها" الحديث، حفته الملائكة أي: أطافوا به واستداروا حوله للتبرك والرغبة فيما عنده، قال الله تعالى:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}
(4)
.
109 -
وَرُوِيَ عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم طلب الْعلم فَرِيضَة على كل مُسلم وَوَاضِع الْعلم عِنْد أَهله كمقلد الْخَنَازِير الْجَوْهَر واللؤلؤ وَالذَّهَب رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَغَيره
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذى (2650) و (2651)، وابن ماجه (247) و (249)، والحاكم (1/ 88).
وصححه الحاكم وحسنه الألباني في الصحيحة (280)، وصححه في هداية الرواة (212).
(2)
تفسير القرطبي (20/ 101).
(3)
سورة الضحى، الآية:10.
(4)
سورة الزمر، الآية:75.
(5)
أخرجه ابن ماجه (224)، والسهمي في تاريخ جرجان ص 316. وقال البوصيرى في الزجاجة 1/ 30: هذا إسناد ضعيف لضعف حفص بن سليمان البزار. وصحح الألباني شطره الأول (72) وضعفه جدا بتمامه في ضعيف الترغيب (48).
قوله: عن أنس، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب" الحديث، وذكر أبو عمر في كتاب العلم، وقال في بعض طرقه:"اطلبوا العلم ولو بالصين" فهذا الحديث يدل على أن طلب العلم فرض على كل مكلف ذكرا أو أنثى، فالحديث شامل لفرض العين وفرض الكفاية، ومعلوم أن فرض الكفاية لا يجب على الجميع، فظاهره مشكل لكن الصحيح في الأصول أن فرض الكفاية يخاطب به الجميع ثم يسقط بفعل البعض، فذهب الإشكال، والله أعلم، واعلم أن طلب العلم فريضة على قدر ما يحتاج إليه الإنسان في خاصة نفسه من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة إن وجبت والحج إن استطاع إليه سبيلا دون فروض الكفايات، فتعلم أحكامه فرض عين لابد لكل مكلف من معرفته وأمر معاشه ما له بد من بيع وشراء ونحو ذلك، قال السيد الجليل الزاهد مالك بن دينار: من طلب العلم لنفسه فالقليل منه يكفيه، ومن طلب للناس فحوائج الناس كثيرة
(1)
.
وقال النووي في مقدمة شرح المهذب
(2)
: فرض العين هو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي يتعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها، وفيه جماعات الحديث المروي في مسند أبي يعلى الموصلي هو
(1)
جامع بيان العلم (1/ 538).
(2)
المجموع (1/ 24 - 25).
حديث أنس: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتًا فمعناه صحيح، وحمله آخر على فرض الكفاية؛ وأما أصل واجب الإسلام وما يتعلق بالعقائد فيكفى فيه التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقاده اعتقادًا جازمًا سليمًا من كل شك، ولا يتعين على المصدق تعلم أدلة المتكلمين، هذا هو الصحيح الذي عليه السلف والفقهاء المحققون من المتكلمين وغيرهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطالب أحدا بشيء سوى ما ذكرناه وكذلك الخلفاء ومن سواهم من الصحابة فمن بعدهم من الصدر الأول، بل الصواب للعوام وجماهير الفقهاء والمتفقهين الكف عن الخوض في دقائق الكلام مخافة من الاختلاط، انتهى. وقال ابن عبد البر
(1)
: قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض عين على كل امرئ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع، والذي يلزم الجميع فرضه ولا يسع الإنسان جهله الشهادة باللسان والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له ولا شبيه له ولا مثل، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه حق وأن البعث بعد الموت حق وأن القرآن كلام الله وما فيه حق من عند الله يجب الإيمان بجميعه وأن الصلوات الخمس فرض، ويلزمه من عملها ما لا يتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها، وأن صوم رمضان فرض ويلزمه علم ما يفسد صومه وما لا يتم إلا به، وإن كان ذا مال لزمه فرضا أن يعرف ما
(1)
جامع بيان العلم (1/ 56 - 60).
تجب فيه الزكاة؟ ومتى تجب؟ وفي كم تجب؟ ولزمه أن يعلم بأن الحج فرض عين مرة واحدة في دهره إن استطاع إليه سبيلًا، إلى أشياء يلزمه حملها ولا يعذر بجهلها نحو تحريم الزنا والربا وتحريم الخمر والخنزير وأكل الميتات والأنجاس كلها والغصب والرشوة في الحكم والشهادة بالزور وأكل أموال الناس بالباطل وما كان مثل هذا كله مما نطق به الكتاب وأجمعت الأمة عليه ثم سائر العلم وطلبه، والتفقه فيه وتعليم الناس إياه وفتواهم به في مصالح دينهم ودنياهم فرض على الكفاية يلزم الجميع فرضه، فإذا قام به قائم سقط فرضه عن الباقين لا خلاف بين العلماء في ذلك، والله أعلم. انتهى.
فروع، الأول: لا يلزم الإنسان تعلم كيفية الوضوء والصلاة وشبهها إلا بعد وجوب ذلك الشيء، فغن كان بحيث لو صبر إلى دخول الوقت لم يتمكن من تمام تعلمها مع الفصل في الوقت، فهل يلزمه التعلم قبل الوقت؟ تردد في فيه الغزالي، والصحيح: ما جزم به غيره، وهو أنه يلزمه تقدم التعلم كما يلزمه السعي إلى الجمعة كمن بعد منزله قبل الوقت ثم إن كان الواجب على الفور، وكان يعلم الكيفية على الفور وإن كان على التراخي كالحج فعلى التراخي ثم الذي يجب من ذلك كله ما يتوقف إذ أن الواجب عليه غالبًا دون ما يطرأ نادرًا، فإن وقع وجب التعلم حينئذ؛ الثاني: في وجوب تعلم أدلة القبلة أوجه، أحدها: فرض عين، والثاني: فرض كفاية، وأصحها فرض كفاية إلا من سافر سفرًا فتتعين لعموم حاجة الأسفار إلى ذلك، الثالث: البيع والنكاح وشبهه لأصله، الرابع: يلزم المكلف معرفتها بحل وبحرم من
المأكول والمشروب والملبوس ونحو ذلك ما لا غناء به عنه غالبا، وكذلك أحكام عشرة النساء إذا كان له زوجة وحقوق المماليك إن كان له ونحو ذلك، الخامس: قال الشافعي والأصحاب: على الآباء والأمهات تعليم أولادهم الصغار بما سيتعين عليهم بعد البلوغ فيعلمه الولي الطهارة والصلاة والصيام ونحوها، ويعرفه تحريم الزنا واللواط والسرقة وشرب المسكر والكذب والغيبة والنميمة وشبهها ويعرفه أن البلوغ يدخل في التكليف، وقيل: هذا التعليم مستحب، والصحيح: وجوبه ودليل وجوب تعلم الولد الصغير والمملوك قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}
(1)
قال علي بن أبي طالب ومجاهد وقتادة معناه: علموهم ما ينجون به من النار، وهذا ظاهر، وثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، ثم أجرة التعليم في مال الصبي لأنه يعود عليه نفعه، السادس: علم القلب، وهو معرفة أمراضه كالحسد والعجب وشبهها، فقال الغزالي: معرفة حدودها وأشباهها وطبها وعلاجها فرض عين، وقال غيره: إن رزق المكلف قلبا سليما من هذه الأمراض كفاه ذلك، ولا يلزمه تعلم دوائها، وإن لم يسلم نظر إن تمكن من تطهير قلبه من ذلك بلا تعلم لزمه التطهير كما يلزم ترك الزنا ونحوه من غير تعلم أدلة الترك، فإن لم يتمكن من الترك إلا بتعلم العلم المذكور تعين
(1)
سورة التحريم، الآية:6.
حينئذ، والله أعلم، قاله في الديباجة
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وواضع العلم عند أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب" الحديث، وقال في الإحياء: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: إني رأيت أني أقلد أعناق الخنازير، فقال: أنت تعلم الحكمة غير أهلها، قال الغزالي في الإحياء: في الكلام على قواعد العقائد في القسم الثالث: لو قال قائل: رأيت فلانا يقلد الدر في أعناق الخنازير وكنى به عن إفشاء العلم وبث الحكمة إلى غير أهلها، فالمستمع قد سبق إلى فهمه ظاهرة، والمحقق إذا نظر علم أن ذلك الإنسان لم يكن معه در ولا كان في موضعه خنازير فتفطن لدرك السر فيتفاوت الناس لذلك، ومن ذلك قول الشاعر:
رجلَانِ خياط وَآخر حائك
…
متقابلان على السماك الأعزل
لَا زَالَ ينسج ذَاك خرقَة مُدبر
…
ويخيط صَاحبه ثِيَاب الْمقبل
انتهى، قاله في الديباجة
(2)
، وسيأتي الكلام على الجملة قريبا مبسوطًا؛ وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تطرحوا الدر في أفواه الكلاب" خرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس
(3)
، والمراد بذلك: العلم لمن ليس أهلا له.
(1)
الديباجة (ص 164 - 166/ رسالة علمية).
(2)
الديباجة (ص 162/ رسالة علمية).
(3)
أخرجه البغوى في جزئه (10) وعنه الدارقطني في المؤتلف والمختلف (2/ 1072)، وابن الأعرابى في المعجم (994)، وابن حبان في المجروحين (2/ 117)، والرامهرمزى في أمثال الحديث (ص 122)، وابن عدى (9/ 71)، والديلمى كما في الغرائب الملتقطة (2878).
قال ابن حبان: وهذا لم يحدث به شعبة ولا يزيد بن هارون وإنما هو من حديث يحيى بن =
110 -
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من جَاءَهُ أَجله وَهُوَ يطْلب الْعلم لَقِي الله وَلم يكن بَينه وَبَين النَّبِيين إِلَّا دَرَجَة النُّبُوَّة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط
(1)
.
قوله: وعن ابن عباس، تقدم الكلام على ترجمته رضي الله عنه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من جاء أجله وهو يطل العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة"، وروي الدارمي عن الحسن مرسلًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة في الجنة"
(2)
ويكفيه أن الله تعالى يغفر له ما مضى من ذنوبه كما رواه الدارقطني مرفوعًا: "من طلب العلم كان كفارة له"
(3)
كذا رواه عن النبي
= عقبة بن أبي العيزار عن محمد بن جحادة. قال ابن عدى: وعند يحيى بن عقبة عن محمد بن جحادة، عن أنس أحاديث غيرها رواه، عن يحيى بن عقبة الربيع بن ثعلب وعنه ابنه محمد بن الربيع. وليحيى بن عقبة غير ما ذكرت وعامة ما يرويه، لا يتابع عليه. وقال الألباني: ضعيف جدا الضعيفة (4786).
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط (9/ 174 رقم 9454)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (581)، والخطيب في تاريخ بغداد (4/ 133). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا محمد بن الجعد، تفرد به العباس بن بكار. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 123: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن الجعد، وهو متروك. وضعفه الألباني في الضعيفة (5156) وضعيف الترغيب (49).
(2)
أخرجه الدارمى (366)، وابن شاهين في فضائل الأعمال (214).
(3)
أخرجه الدارمى (580)، والترمذى (2648). وقال الترمذى: هذا حديث ضعيف الإسناد، أبو داود اسمه نفيع الأعمى يضعف في الحديث، ولا نعرف لعبد الله بن سخبرة =
- صلى الله عليه وسلم، وروى أيضًا هو عن ابن مسعود موقوفا قال:"منهومان لا يشبعان: صاحب العلم، وصاحب الدنيا، ولا يستويان، أما صاحب العلم فيزداد رضي من الرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان"، ورواه البيهقي مختصرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
= كبير شيء ولا لأبيه. وقال الألباني: موضوع، المشكاة (221)، الضعيفة (5017).
(1)
أخرجه الدارمى (344)، وابن الأعرابى (1009)، والآجرى في أخلاق العلماء (38)، والبيهقي في المدخل (449) عن ابن مسعود موقوفا. ورواه الشاشى (692)، وابن حبان في المجروحين (2/ 22)، والطبراني في الكبير (10/ 180 رقم 10388)، وابن عدى (5/ 229) عن ابن مسعود مرفوعًا.
قال ابن عدى: وهذا الحديث أيضا ليس يرويه عن إسماعيل غير أبي بكر الداهري. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 135: رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو بكر الداهري، وهو ضعيف. وضعفه الألباني موقوفا ومرفوعا في المشكاة (261). ويروى مرفوعًا من حديث أنس وابن عباس: أما حديث ابن عباس:
أخرجه أبو خيثمة في العلم (141)، وإسحاق في مسند ابن عباس (883)، والبزار (4880)، والطبراني في الأوسط (6/ 20 رقم 5670) والكبير (11/ 76 رقم 11095) قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه أحسن من هذا الوجه. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 135: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، والبزار، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 5/ 284 (26118)، والدارمى (346) عن ابن عباس موقوفا.
وأما حديث أنس: أخرجه ابن عدى (7/ 557 - 558)، والحاكم (1/ 92)، والبيهقي في المدخل (450 و 451) والشعب (12/ 497 - 498 رقم 9798). وصححه الحاكم. وصححه الألباني في المشكاة (260).
تتمة: قال الخطيب البغدادي
(1)
: يستحب لطالب العلم أن يكون عزبًا ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجية وطلب المعيشة عن كمال الطلب، وقال عمر: تفقهوا قبل أن تسودوا
(2)
، أي: تعلموا العلم قبل أن تصيروا سادة منظورًا إليكم فتستحيوا أن تتعلموا بعد الكبر فتبقوا جهالًا
(3)
، وقيل: أراد قبل أن تتزوجوا وتشتغلوا بالزواج عن طلب العلم
(4)
.
وفي كامل ابن عدي في ترجمة أحمد بن سلمة الكوفي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أفلح صاحب عيال قط"
(5)
.
وفي الإحياء في آفات النكاح قال
(6)
: رئي سفيان ابن عيينة على باب سلطان، فقيل: ما هذا موقفك؟ قال: وهل رأيت ذا عيال أفلح، ثم أسند، يعني: الخطيب البغدادي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبدا اقتناه لنفسه ولم يشغله بزوجة ولا ولد"
(7)
، قال: واتفقوا على أن الهم
(1)
الجامع (1/ 101).
(2)
أخرجه وكيع في الزهد (102).
(3)
قاله أبو عبيد في غريب الحديث (3/ 369).
(4)
قاله شمر كما في تهذيب اللغة (13/ 26). وانظر النجم الوهاج (1/ 198).
(5)
أخرجه ابن عدى (1/ 312). وقال ابن عدى: وهذا الكلام من قول ابن عيينة، وهذا منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أجد هذا الحديث فيما عندي عن أحمد بن حفص، حدثناه بعض أصحابنا عنه، وأحمد بن سلمة هذا له من المناكير عن الثقات غير ما ذكرت، وليس هو ممن يحتج بروايته.
(6)
إحياء علوم الدين (2/ 34).
(7)
لم أجده في الجامع للخطيب وإنما رواه أبو نعيم في الحلية (1/ 25) عن ابن مسعود موقوفا وعزاه له ابن الجوزى في الموضوعات (2/ 278) والذهبى في الميزان (2/ 581) =
وأحزان وكثرة الأشغال والعلائق مورثة النسيان بالخاصة؛ لأن هموم الدنيا تورث ظلمة القلب، وهموم الآخرة تنور القلب، ونظير ذلك الفكرة في الصلاة في أمر الدنيا تمنع من كمال الأجر، وفي الآخرة تحمل على الخشوع وسكون الأعضاء، قال سحنون: لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع، وسئل الحسن: ما عقوبة العالم إذا آثر الدنيا؟ قال: موت قلبه. انتهى
(1)
.
وقال الإمام الشافعي: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن تعلم الفقه نَبْل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم العربية رق طبعه، ومن لم يصن نفسه ولم ينفعه علمه، قاله في النهاية
(2)
.
وقال علي لكميل بن زياد: يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق
(3)
. وقال الشافعي: من طلب الدنيا فعليه بالعلم، ومن طلب الآخرة فعليه بالعلم
(4)
.
= مرفوعًا. وقال ابن الجوزى: هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الدارقطني: إسحاق بن وهب كذاب مترك حدث بالأباطيل.
(1)
النجم الوهاج (1/ 198 - 199).
(2)
لم أجده في النهاية وإنما ذكره الماوردى في أدب الدنيا والدين (ص 40)، والمجموع (1/ 20)، وأسنده البيهقي في المدخل (511) ومناقب الشافعي (1/ 282)، والخطيب في تاريخ بغداد (8/ 218) و (12/ 252)، والهروى في ذم الكلام (1122).
(3)
إحياء علوم الدين (1/ 7)، وأسنده الأبهرى في الفوائد (16) وأبو نعيم في الحلية (1/ 79 - 80)، والخطيب في تاريخ بغداد (7/ 408).
(4)
النجم الوهاج (1/ 196)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 54)، وأسنده البيهقي في مناقب الشافعي (2/ 139).
111 -
وَعَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من طلب علما فأدركه كتب الله لَهُ كِفْلَيْنِ من الْأجر وَمن طلب علما فَلم يُدْرِكهُ كتب الله لَهُ كفلا من الأجر. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَرُوَاته ثِقَات وَفِيهِمْ كَلَام
(1)
.
قوله: عن واثلة بن الأسقع، هو واثلة بن الأسقع بن كعب، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من طلب علمًا فأدركه كتب له كفلين من الأجر، ومن طلب علمًا فلم يدركه كتب له كفلا من الأجر" الحديث؛ الكفل: هو النصيب من الأجر أو الوزر
(2)
.
قوله: ورواته فيهم كلام، قال أبو عمر
(3)
: أحاديث الفضائل تسامح العلماء قديمًا في روايتها عن كلٍ، ولم ينتقدوا فيها كانتقادهم في أحاديث الأحكام، والله أعلم.
112 -
وَرُوِيَ عَن سَخْبَرَة رضي الله عنه قَالَ مر رجلَانِ صلى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يذكر فَقَالَ اجلسا فإنكما على خير فَلَمَّا قَامَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق عَنهُ أَصْحَابه
(1)
أخرجه أبو يعلى كما في إتحاف الخيرة (1/ 199 - 200 رقم 264)، وعنه ابن حبان في المجروحين (3/ 38)، والطبراني في الكبير (22/ 68 رقم 165)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (213)، والخطيب في الجامع (37). وقال الهيثمى في المجمع 1/ 123: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون. وقال البوصيرى: هذا إسناد ضعيف، لضعف يزيد بن ربيعة الدمشقي، ورواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، وفيهم كلام وضعفه جدا الألباني في ضعيف الترغيب (50).
(2)
قاله المنذرى عند ذكره للحديث (1065) باب الترغيب في التبكير إلى الجمعة.
(3)
جامع بيان العلم (1/ 202).
قاما فَقَالا يَا رَسُول الله إِنَّك قلت لنا اجلسا فإنكما على خير ألنا خَاصَّة أم للنَّاس عَامَّة قَالَ مَا من عبد يطْلب الْعلم إِلَا كَانَ كفَّارَة مَا تقدم. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مُخْتَصرا وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَاللَّفْظ لَهُ
(1)
.
سَخْبَرَة: بِالسِّين الْمُهْملَة الْمَفْتُوحَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة الساكنة وباء مُوَحدَة وَرَاء بعْدهَا تَاء تَأْنِيث فِي صحبته اخْتِلَاف. وَالله أعلم.
قوله: عن سخبرة، سخبرة بالسين المهملة المفتوحة والخاء المعجمة الساكنة وباء موحدة مفتوحة وراء بعدها تاء تأنيث، في صحبته خلاف، قاله المنذري.
قوله صلى الله عليه وسلم: "اجلسا فإنكما على خير" الحديث، وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرءون القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كل على خير، هؤلاء يقرءون القرآن ويدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلمون، وإنما بعثت معلمًا فجلس معهم"
(2)
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وعن
(1)
أخرجه الترمذى (2648)، والطبراني في الكبير (7/ 138 - 139 رقم 6615 و 6616)، وأبو الطاهر المخلص (530). قال الهيثمى في المجمع 1/ 123: رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو داود الأعمى، وهو كذاب. وقال الألباني: موضوع ضعيف الترغيب (51).
(2)
أخرجه ابن ماجه (229)، والطيالسى (2365). وضعفه الألباني في المشكاة (257)، والضعيفة (11). ثم صححه في الصحيحة تحت (3593) دون قوله (وإنما بعثت معلمًا).
عبد الله بن عمرو أيضًا قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد وقوم يذكرون الله وقوم يتذاكرون الفقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كلا المجلسين على خير، أما الذين يذكرون الله عز وجل ويسألون ربهم فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يعلمون الناس ويتعلمون، وإنما بعثت معلمًا وهذا أفضل فقعد معهم"
(1)
قال القرطبي. وقيل لابن سيرين في نومه: أما إنك لو أتيت الحلق التي يتذاكر فيها الفقه لوجدت جبريل عليه السلام معهم
(2)
، وقال صالح المري [سمعت الحسن البصري يقول]: الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلم
(3)
.
113 -
وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: سبع يجرى للْعَبد أجرهن وَهُوَ فِي قَبره بعد مَوته من علم علما أَو كرى نَهرا أَو حفر بِئْرا أَو غرس نخلًا أَو بنى مَسْجِدا أَو ورث مُصحفا أَو ترك ولدا يسْتَغْفر لَهُ بعد مَوته رَوَاهُ الْبَزَّار وَأَبُو نعيم فِي الْحِلْية وَقَالَ هَذَا حَدِيث غَرِيب من حَدِيث قَتَادَة تفرد بِهِ أَبُو نعيم عَن الْعَزْرَمِي وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ ثمَّ قَالَ مُحَمَّد بن عبد الله الْعَزْرَمِي ضَعِيف
(4)
غير
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (1388)، والدارمي (361)، والبزار (2458)، والطبراني في الكبير (14/ 94 - 95 رقم 14709). وانظر ما قبله.
(2)
بستان العارفين (ص 427)، وجامع بيان العلم (1/ 226 - 227).
(3)
جامع بيان العلم (1/ 236).
(4)
أخرجه البزار (7289)، وابن حبان في المجروحين (2/ 247)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 343)، والبيهقي في الشعب (5/ 122 - 123 رقم 3175). قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث قتادة تفرد به أبو نعيم عن العرزمي. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 167: =
أَنه قد تقدمه مَا يشْهد لبعضه وهما يَعْنِي هَذَا الحَدِيث والْحَدِيث الَّذِي ذكره قبله لَا يخالفان الحَدِيث الصَّحِيح فقد قَالَ فِيهِ إِلَّا من صَدَقَة جَارِيَة وَهُوَ يجمع مَا وردا بِهِ من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان انْتهى. قَالَ الْحَافِظ عبد الْعَظِيم: وَقد رَوَاهُ ابن مَاجَه وَابن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه بِنَحْوِهِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قوله: عن أنس، تقدم الكلام على ترجمته.
قوله صلى الله عليه وسلم: "سبع يجرى للْعَبد أجرهن وَهُوَ فِي قَبره بعد مَوته من علم علمًا" الحديث، بدأ بالعلم للاهتمام به، والمراد بالعلم هو المنتفع به إما بإرشاد المتعلمين أو تصشيف في كتاب ينتفع مطالعه، والمراد بالعلم المنتفع به هو العلم المحمود وهو العلم بالله عز وجل وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكوت أرضه وسمائه والعلم بشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه: علم التفسير والحديث والفقه
(1)
.
قوله في آخر الحديث: "أَو ترك ولدا يسْتَغْفر لَهُ بعد مَوته"، وفي حديث آخر:"أو ترك ولدا صالحًا يستغفر له" وفي رواية: "أو له بدل يستغفر له"، والمراد بالاستغفار: الدعاء، والولد الصالح: الذي يدعو له بعد موته بالخير ويدعو له صفة للولد لا شرط له؛ لأن ثواب الولد الصالح يصل إلى والده
= رواه البزار، وفيه محمد بن عبيد الله العرزمي، وهو ضعيف. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (73) و (959) و (2600).
(1)
مختصر منهاج القاصدين (ص 20).
كلما عمل صالحًا، فهذا دعاء الولد يصل والده وينتفع به، وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بالسلام على المقبرة والدعاء لهم، ما ذاك إلا لكون ذلك الدعاء لهم والسلام عليهم يصل إليهم ويأتيهم، ويروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:"الميت في قبره كالغريق ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديق له، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها"
(1)
وسيأتي الكلام قريبًا على بقية ألفاظ الحديث.
قوله: ورواه البيهقي، ثم قال: محمد بن عبيد الله العرزمي ضعيف، بفتح العين المهملة وسكون الراء وفتح الزاي وآخره ميم، نسبة إلى عرزم، قال ابن الأثير: وظني أنه بطن من فزارة، وجبانة عرزم بالكوفة معروفة، ولعل هذا البطن نزلوا بها فنسبت إليه
(2)
، والله أعلم.
114 -
وَعَن عمر رضي الله عنه: قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا اكْتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صَاحبه إِلَى هدى أَو يردهُ عَن ردى وَمَا استقام دينه حَتَّى يَسْتَقِيم عقله رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَاللَّفْظ لَهُ وَالصَّغِير إِلَّا أَنه قَالَ فِيهِ حَتَّى
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب (10/ 300 - 301 رقم 7527) و (11/ 472 رقم 8855) عن ابن عباس. قال البيهقي: قال أبو علي الحافظ: وهذا حديث غريب من حديث عبد الله بن المبارك، لم يقع عند أهل خراسان، ولم أكتبه إلا من هذا الشيخ، قد رواه ببعض معناه محمد بن خزيمة البصري أبو بكر، عن محمد بن أبي عياش، عن ابن المبارك، وابن أبي عياش، ينفرد به. وقال الذهبى في الميزان (4/ 70): محمد بن جابر بن أبي عياش المصيصي لا أعرفه، وخبره منكر جدا. وقال الألباني: منكر جدا الضعيفة (799).
(2)
قاله السمعانى في الأنساب (9/ 271)، وابن الأثير في اللباب (2/ 334).
يَسْتَقِيم عمله. وإِسنادهما مُتَقَارب
(1)
.
قوله: عن عمر بن الخطاب، تقدم الكلام على مناقبه رضي الله عنه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "مَا اكْتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صَاحبه إِلَى هدى أَو يردهُ عَن ردى"، الهدى: ضل الضلال.
115 -
وَرُوِيَ عَن أبي ذَر وَأبي هُرَيْرَة رضي الله عنهما أنَّهُمَا قَالا لباب يتعلمه الرجل أحب إِنِّي من ألف رَكْعَة تَطَوّعا وَقَالا قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا جَاءَ الْمَوْت لطَالب الْعلم وَهُوَ على هَذِه الْحَالة مَاتَ وَهُوَ شَهِيد. رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي الأوْسَط إِلَا أَنه قَالَ خير لَهُ من ألف رَكْعَة
(2)
.
قوله: عن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما، تقدم الكلام على مناقبهما رضي الله عنهما.
قولهما: أنهما قالا: لباب يتعلمه الرجل أحب إليَّ من ألف ركعة تطوعًا،
(1)
أخرجه الطبراني في الصغير (2/ 5 رقم 676) والأوسط (5/ 79 رقم 4726). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن زيد بن أسلم إلا ابنه عبد الرحمن، تفرد به: أصبغ بن الفرج. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 121: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وقال فيه:"حتى يستقيم عقله" بدل: عمله، وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف. وضعفه جدا الألباني في الضعيفة (6710) وضعيف الترغيب (52).
(2)
أخرجه الفسوى في المعرفة والتاريخ (3/ 397)، والبزار (8574)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (1/ 255)، والبيهقي في الشعب (10/ 405 - 406 رقم 7704)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (115) و (211)، والخطيب في تاريخ بغداد (10/ 342). وقال الهيثمى في المجمع 1/ 124: رواه البزار، وفيه هلال بن عبد الرحمن الحنفي، وهو متروك. وضعفه جدا الألباني في الضعيفة (2126) وضعيف الترغيب (53).
وقد نص الأئمة الأربعة رضي الله عنهم على أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، قال النووي في خطبة منهاجه
(1)
: أما بعد، فإن الاشتغال بالعلم من أفضل الطاعات وإن أنفقت فيه نفائس الأوقات. فالاشتغال بالعلم من أفضل الطاعات وفضل العلم كبير قال الله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}
(2)
الآية، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
(3)
، والصلاة أفضل من الصيام المتطوع به، فيكون العلم أفضل من النافلة بطريق الأولى، فإن العلم مصباح يستضاء به من ظلمة الجهل والهوى، فمن سار في طريق على غير مصباح لم يأمن أن يقع في بئر وبوار أي: هلاك فيعطب، قال ابن سيرين: إن قومًا تركوا العلم واتخذوا محاريب فصلوا وصاموا بغير علم، والله ما عمل أحد بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح
(4)
.
وقد قال الربيع بن خثيم: تفقه ثم اعتزل فأول تلبيس إبليس على العباد إيثارهم العمل على العلم، والعلم أفضل من النوافل، فأراهم أن المقصود من العلم العمل، وما فهموا من العمل إلا عمل الحوارج وما علموا أن العلم عمل القلب، وعمل القلب أفضل من عمل الجوارح، انتهى، قاله ابن
(1)
المنهاج (1/ 7).
(2)
سورة الزمر، الآية:9.
(3)
سورة فاطر، الآية:28.
(4)
قاله ابن رجب في لطائف المعارف (ص 125).
الجوزي
(1)
. ولهذا المعنى كان فضل العلم النافع الدال على معرفة الله وخشيتة ومحبته ومحبة ما يحب وكراهة ما يكره لاسيما عند غلبة الجهل والتعبد به أفضل من التطوع بأعمال الجوارح.
قال الإمام الشافعيُّ: ليس بعد الفريضة أفضل من طلب العلم
(2)
. وقال أبو الدرادء: مذاكرة العلم خير من قيام الليل
(3)
. وفي الحلية عن سلمان الفارسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نوم على علم خير من صلاة على جهل"
(4)
.
وقال ابن مسعود: أنتم في زمان العمل فيه أفضل من العلم، وسيأتي زمان العلم فيه أفضل من العمل، وكذلك الانشغال بتطهير القلوب أفضل من الاستكثار من الصوم والصلاة مع غش القلوب ودغلها
(5)
.
(1)
تلبيس إبليس (1/ 121).
(2)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/ 119)، والبيهقي في مناقب الشافعي (2/ 138)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 25)، وابن أبي حاتم في مناقب الشافعي (ص 97).
(3)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 208 - 209) بلفظ: "تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
(4)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/ 385)، والخلال في ذكر من لم يكن عنده إلا حديث (94). وذكره بلفظ المصنف الدميرى في النجم الوهاج (1/ 197). قال أبو نعيم: كذا رواه الأعمش عن أبي البختري، وأرسله أبو البختري عن سلمان، أيضًا. وقال الخلال: ليس لإسماعيل عن الأعمش إلا هذا الحديث وليس لمحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن إسماعيل غيره. وقال الدارقطنى كما في أطراف الغرائب والأفراد (3/ 118): تفرد به أحمد بن يحيى الصوفي ولم نكتبه إلا عن أبي عبيد القاسم بن إسماعيل. وضعفه الألباني في الضعيفة (4697).
(5)
لطائف المعارف (ص 255).
وروى أبو بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تعلم بابا من العلم فعمل به أو علمه جاهلا يعمل به كان خيرًا له من أن لو كانت الدنيا ما بين المشرق والمغرب ذهبا حمراء فأنفقها في سبيل الله" قاله أبو الفرج بن الجوزي في منهاجه بغير سند
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: تذكر العلم بعض ليلة أحب إلي من قيام ليلة
(2)
.
وعنه أيضًا رضي الله عنهما قال: من رأى الغدو إلى العلم ليس بجهاد فقد نقصى في رأيه وعقله
(3)
.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه: قال: لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة
(4)
.
وعن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: أتهجد بالليل أو أكتب العلم؟ قال: اكتب العلم، قال الحافظ شرف الدين الدمياطي: قلت وإنما قال له ذلك لأن كتابة العلم تتعدة نفعها إلى غيره فله أجره وأجر من انتفع بذلك في حياته وبعد موته أبدًا، وأما التهجد فليس له إلا أجره فقط
(5)
، والله أعلم.
(1)
منهاج القاصدين (1/ 17).
(2)
أخرجه ابن لال في حديثه (18)، والبيهقي في المدخل (456) و (460).
(3)
قاله أبو الدرداء كما في جامع بيان العلم (1/ 152) بلاغا.
(4)
الفقيه والمتفقه (1/ 16 و 17).
(5)
المتجر الرابح (ص 28).
قوله: عن أبي ذر، اسمه: جندب بن جنادب الغفاري، قال أبو الفرج: في اسمع اختلاف كبير، وكان يتعبد قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قديمًا، وقال: كنت في الإسلام رابعًا، ورجع إلى قومه فأقام عندهم حتى مضت بدر وأحد والخندق، ثم هاجر إلى المدينة، وكان شجاعًا ينفرد وحده فيفسح الطريق، وقال: صليت قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قيل: لمن؟ قال: لله عز وجل، قيل: فأين كنت تتوجه؟ قال: حيث وجهني الله، وقيل: ما أقلت الغبراء أي: حملت، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر، والغبراء: الأرض، والخضراء: السماء، توفي أبو ذر بالمدينة بفلاة من الأرض، وشهده عصابة من المؤمنين فقال لهم وهو محتضر: لو كان عندي ثوب يسعني كفنًا أو لامة أي: ثوب يسعني لما تكفنت إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم الله تعالى لا يكفنني منكم رجل كان أميرا ولا عريفا ولا بريدا ولا نقيبًا، ولم يكن في القوم أحدٌ إلا وقد أصاب من ذلك إلا فتى من الأنصار، فقال: أنا أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين من ثيابي من غزل أمي، قال: أنت فكفني فكفنه الأنصار، ودفنه مع النفر الذي معه في سنة اثنتين وثلاثين، وصلى عليه ابن مسعود
(1)
، قاله في مختصر مجمع الأحباب.
116 -
وَعَن أبي ذَر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا أَبَا ذَر لِأن تَغْدُو فتعلم آيَة من كتاب الله خير لَك من أَن تصلي مائَة رَكعَة وَلِأن تَغْدُو فتعلم بَابا من
(1)
حلية الأولياء (1/ 156 - 170)، وتهذيب الأسماء واللغات (2/ 229 - 230 ترجمة 781).
الْعلم عمل بِهِ أَو لم يعْمل بِهِ خير لَك من أَن تصلي ألف رَكْعَة. رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي ألف ركعة" الحديث، أي: تطوعًا، الغدو: هو الذهاب أول النهار.
117 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الدُّنْيَا ملعونة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَا ذكر الله وَمَا وَالاهُ وعالمًا ومتعلمًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن
(2)
.
(1)
أخرجه ابن ماجه (219)، وابن شاهين في شرح مذاهب أهل السنة (54)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (114). قال البوصيرى في الزجاجة 1/ 29 - 30: هذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد وعبد الله بن زياد. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (54) و (869).
(2)
أخرجه ابن ماجه (4112)، والترمذي (2322)، وابن أبي عاصم في الزهد (126)، والعقيلى في الضعفاء (2/ 326)، والبيهقي في الشعب (3/ 228 رقم 1580)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (135). قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب.
قال الدارقطنى في العلل (2117): يرويه ابن ثوبان، وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، واختلف عنه؛ فرواه علي بن ميمون العطار، عن أبي خليد عتبة بن حماد، عن ابن ثوبان، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وخالفه يحيى بن اليمان، رواه عن ابن ثوبان، عن أبيه، عن عبد الله بن ضمرة، عن كعب قوله، وهو وهم، وقيل عن ابن ثوبان، عن عبدة بن أبي لبابة، عن أبي وائل، ولا يصح. ورواه خالد بن يزيد العدوي، عن الثوري، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يتابع خالد على هذا لقول. وحسنه الألباني في الصحيح (2797) وصحيح الترغيب (74) و (3244).
قوله: وعن أبي هريرة، وتقدم الكلام على مناقبه مبسوطًا.
تتمة تتعلق بمناقبه رضي الله عنه: قال عمر بن حبيب حضرت مجلس الرشيد فجرت مسألة فتنازعها الحضور وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بحديث يرويه عن أبي هريرة، فقال بعضهم: كان أبو هريرة متهما فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي الله صلى الله عليه وسلم وعن غيره فنظر إليّ الرشيد نظر المغضب فقمت من المجلس وانصرفت إلى منزلي فلم ألبث حتى قيل: صاحب الرشيد بالباب فدخل إلي وقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم إني دفعت عن صاحب نبيك صلى الله عليه وسلم وأجللت نبيك صلى الله عليه وسلم أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب حاسر عن ذراعيه بيده السيف وبين يديه القطع، فلما رآني قال: يا عمر بن حبيب، في ما تلقاني أحد من الرد مثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي قلته وجادلت عليه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذا بين فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام والصلاة والصيام والطلاق والنكاح والحدود وكله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه، وقال: يا عمر بن حبيب أحييتني أحياك الله، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم
(1)
، مات سنة ست أو سبع
(1)
أخرجه المعافى بن عمران في الجليس الصالح (ص 465 - 566)، والخطيب في تاريخ بغداد (13/ 27).
ومائتين، وعمر بن حبيب هذا هو العدوي القاضي البصري من بني عدي، ولي قضاء البصرة
(1)
، قاله في الديباجة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله" الحديث، فالدنيا وكل ما فيها ملعونة، أي: مبعدة عن الله تعالى لأنها تشغل عنه إلا العلم النافع الدال على الله تعالى وعلى معرفته وطلب قربه ورضاه وذكر الله وما والاه مما يقرب إلى الله تعالى، فهذا هو المقصود من الدنيا، فإن الله عز وجل إنما أمر عباده بأن يتقوه ويطيعوه، ولازم ذلك دوام ذكره، قال ابن مسعود:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
(2)
أي: يذكر فلا ينسى، وإنما شرع الله تعالى إقام الصلاة للذكر وكذلك الحج والطواف، وأفضل أهل العبادات أكثرهم لله تعالى ذكرا فيها، فهذا كله ليس من الدنيا المذمومة وهو المقصود من إيجاد الدنيا وأهلها، قاله ابن رجب
(3)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ومما والاه" أي: طاعة الله تعالى والسلامة، من اللعن الذي هو الإبعاد خير كبير، وهو أخذ الفضلين السلامة والغنيمة، انتهى، قاله في حدائق الأولياء
(4)
.
(1)
تهذيب الكمال (21/ 290 - 296 الترجمة 4211).
(2)
سورة آل عمران، الآية:102.
(3)
جامع العلوم والحكم (2/ 885).
(4)
حدائق الأولياء (1/ 66).
118 -
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من تعلم بَابا من الْعلم ليعلم النَّاس أعطي ثَوَاب سبعين صديقا. رَوَاهُ أَبُو مَنْصُور الديلمي فِي مُسْند الفردوس وَفِيه نَكَارَة
(1)
.
119 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا من رجل تعلم كلمة أَو كلِمَتَيْنِ أَو ثَلاثًا أَو أَرْبعا أَو خمْسا مِمَّا فرض الله عز وجل فيتعلمهن ويعلمهن إِلَّا دخل الْجنَّة. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فَمَا نسيت حَدِيثا بعد إِذْ سَمِعتهنَّ من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ أَبُو نعيم وَإِسْنَاده حسن لَو صَحَّ سَماع الْحسن من أبي هُرَيْرَة
(2)
.
120 -
وَعنهُ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ أفضل الصَّدَقَة أَن يتَعَلَّم الْمَرْء الْمُسلم علما ثمَّ يُعلمهُ أَخَاهُ الْمُسلم. رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن من طَرِيق الْحسن أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة
(3)
.
121 -
وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رجل آتاهُ الله مَالا فَسَلَّطَهُ على هَلَكته فِي الْحق وَرجل آتاهُ الله الْحِكْمَة فَهُوَ يقْضِي بهَا وَيعلمهَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم
(4)
الْحَسَد يُطلق وَيُرَاد بِهِ تمني زَوَال النِّعْمَة
(1)
أخرجه ابن بشران في الأمالي (1092). وقال الألباني: موضوع ضعيف الترغيب (55).
(2)
أخرجه أحمد 2/ 334 (8409) و 2/ 427 (9517)، وابن زيدان في مسنده (42)، وأبو بكر النصيبى في الفوائد (66)، والقطيعي في الألف دينار (125)، وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/ 180) و (2/ 276) والحلية (2/ 159). وضعفه الألباني في الضعيفة (6804) وضعيف الترغيب (56).
(3)
أخرجه ابن ماجه (243). وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (57)، الإرواء (6/ 29).
(4)
أخرجه البخاري (73) و (1409) و (7141) و (7316) و (7528)، ومسلم (268 - 816)، وابن ماجه (4208).
عَن الْمَحْسُود وَهَذَا حرَام وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الْغِبْطَة وَهُوَ تمني مثل مَا لَهُ وَهَذَا لا بَأْس بِهِ وَهُوَ المُرَاد هُنَا.
قوله: عن ابن مسعود، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين" الحديث، قال الحافظ: الحسد يطلق ويراد به: تمني زوال النعمة عن المحسود، وهذا حرام؛ ويطلق ويراد به الغبطة وهو: تمني مثل حاله، وهذا لا بأس به وهو المراد هنا، انتهى.
وفسره غيره مبسوطًا فقال: الحسد قسمان حقيقي ومجازي، فالحقيقي: تمني زوال النعمة عن صاحبها وهذا حرام بإجماع المسلمين مع النصوص الصريحة، وأما الحسد المجازي: فهو الغبطة وهو: أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره من غير تمني زوالها عن صاحبها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة، وإن كانت طاعة فهو مستحب، والمراد في الحديث: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين، قاله النووي
(1)
.
فهذا حسد منافسة وغبطة يدل على علو همة صاحبه وكبر نفسه وطلبها التشبيه بأهل الخير والفضل، وحق لمن نال من النفائس العالية ما يحق لمثله أن يحسد ويغبط بمثله، فمن اتصف بذلك فهو محسود إذ حصل على النعمة التامة الحقيقية، وكل ذي نعمة محسود عليها فيا طرباه دنيا وأخرى
(2)
.
(1)
شرح النووي على مسلم (6/ 97).
(2)
انظر حدائق الأولياء (1/ 554)، وبدائع الفوائد (2/ 237)، وطرح التثريب (4/ 72)، وفتح الباري (1/ 167)، والمفهم (7/ 77)، ومبارق الأزهار (1/ 54).
تنبيه في الفرق بين الغبطة والحسد: والغبطة والنفاسة وإن كانا من الحسد فقد يكون لهما وجه يبيحهما الشرع، والفرق بين الغبطة والحسد: أن الغابط يود أن يكون له مثل نعمة المغبوط من غير أن تنقص من نعمته شيء وهو الذي يبيحه الشرع المطهر، والحاسد الذي يود أن تزول نعمة المحسود ومن غير أن يناله منها شيء هو الذي يحرمه الشرع
(1)
، انتهى.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل آتاه الله مالا فسلكه على هلكته في الحق" أي: إنفاقه في الطاعات، والحق هنا واحد الحقوق وهو يستعمل في المندوب كما يستعمل في الواجب، ومنه الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إن في المال حقا سوى الزكاة"
(2)
وقال ابن بطال: إنفاق المال في حقه على ثلاثة أقسام:
الأول: أن ينفق على نفسه وأهله ومن يلزمه النفقة عليه غير مقتر يجب لهم ولا مسرف في ذلك كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}
(3)
وهذه النفقة أفضل من الصدقة ومن جميع النفقة.
والقسم الثاني: أداء الزكاة وإخراج حق الله تعالى لمن وجب عليه النفقة.
والقسم الثالث: صلة الأهل البعداء ومواساة الصديق وإطعام الجائع وصدقة التطوع كلها، فهذه صدقة مندوب إليها مأجور عليها لقوله صلى الله عليه وسلم:
(1)
المفاتيح (1/ 302) وشرح المشكاة (2/ 622)، والكواكب الدراري (2/ 41).
(2)
طرح التثريب (4/ 74).
(3)
سورة الفرقان، الآية:67.
"الساعي على الأرملة واليتيم والمجاهد في سبيل الله"
(1)
، ولا يخفى أن الرجل خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، فالمرأة كذلك
(2)
، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" الحديث، اعلم أن الله تعالى قال في كتابه العزيز:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ}
(3)
قال الإمام مالك رحمه الله
(4)
: الحكمة عندي المعرفة بدين الله والفقه فيه والإتباع له، وروى ابن وهب عن مالك أيضًا قال
(5)
: الحكمة نور يقذفه الله تعالى في قلب العبد، وتقدم ذلك في أوائل هذا التعليق، وقال الإمام أبو حنيفة: الحكمة هي العلم بأحكام الدين. بدلائلها، وقال الإمام الشافعي: الفقيه العالم بالأحكام الشرعية والحكيم العالم بأدلتها
(6)
، قال الغزالي: الفقيه العالم بظواهر الأحكام والحكيم العالم بأسرارها أيضًا، فكل حكيم فقيه وليس كل فقيه حكيم، مثاله: أن الفقيه يعلم وجوب الصوم بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
(7)
وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
(8)
والحكيم يعلم مع ذلك أن سر الصوم قهر النفس وكسر
(1)
شرح الصحيح (3/ 405 - 409).
(2)
طرح التثريب (4/ 74).
(3)
سورة البقرة، الآية:269.
(4)
تفسير الطبرى (2/ 576)، وترتيب المدارك (2/ 62).
(5)
ترتيب المدارك (2/ 62)، والدورى في ما رواه الأكابر (49).
(6)
شرح الأربعين الودعانية (ح / 14 ص 235 - 236).
(7)
سورة البقرة، الآية:183.
(8)
سورة البقرة، الآية:185.
الشهوات والتخلق بأخلاق الله وأخلاق الملائكة وغير ذلك من الأسرار المذكورة في مواضعها وغير أهل الحكمة هو الذي لا يفهمها ولا يعقلها
(1)
.
وقال ابن دريد
(2)
: الحكمة كل كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم ومنه قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}
(3)
أي: الحكمة، وقيل: الحكمة العلم الديني، وقيل: هي [سداد] القول وإحكام الفعل، وقال ابن عباس في قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
(4)
قال يعنى المعرفة بالقرآن
(5)
، وقال مجاهد في قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}
(6)
قال: الفقه والعقل والإصابة في القول
(7)
. وقال في حدائق الأولياء
(8)
: والمراد بالحكمة هنا الفقه (في الدين) كما فسرها به والقضاء والتعليم هو فائدة الحكمة (واليقين) والفقه في الدين، وقيل: الحكمة السنة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فهو يقضي بها ويعلمها احتسابًا" ومعناه: يعمل بها ويعلمها
(1)
شرح الأربعين الودعانية (ح 14/ ع 236 - 237).
(2)
جمهرة اللغة (1/ 564).
(3)
سورة مريم، الآية:12.
(4)
سورة البقرة، الآية:269.
(5)
تفسير الطبرى (5/ 8 - 9).
(6)
سورة لقمان، الآية:12.
(7)
تفسير الطبرى (18/ 182)، وتفسير ابن أبي حاتم (16748).
(8)
حدائق الأولياء (1/ 67).
احتسابا أي: يقضي بذلك على نفسه وغيره ويعلمها لإخوانه
(1)
، انتهى.
تنبيه: فإن قلت: لم ذكر مالا في قوله: "ورجل آتاه الله مالًا" والحكمة في قوله: "ورجل آتاه الله الحكمة"؟ قلت: لأن الحكمة المراد بها معرفة الأشياء التي جاء الشرع بها، أي: الشريعة فأراد التعريف بلام العهد بخلاف المال، ولهذا يدخل فيه أي قدر من المال أهلكه في الحق تحت هذا الحكم، قال ابن بطال: وفيه من الفقه، أن الغني إذا قام بشروط المال وفعل فيه ما يرضي ربه تعالى فهو أفضل من الفقير الذي لا يقدر على مثل حاله، انتهى، قاله الكرماني في شرح البخاري
(2)
.
122 -
وَعَن أبي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مثل مَا بَعَثَني الله بِهِ من الْهدى وَالْعلم كمثل غيث أصَاب أَرضًا فَكَانَت مِنْهَا طَائِفَة طيبَة قبلت المَاء وأنبتت الْكلأ والعشب الْكثير فَكَانَ مِنْهَا أجادب أَمْسَكت المَاء فنفع الله بهَا النَّاس فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسقوا وزرعوا وَأصَاب طَائِفَة أُخْرَى مِنْهَا إِنَّمَا هِيَ قيعان لا تمسك مَاء وَلا تنْبت كلأ فَذَلِك مثل من فقه فِي دين الله تَعَالَى ونفعه مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعلم وَعلم وَمثل من لم يرفع بذلك رَأْسًا وَلم يقبل هدى الله الَّذِي أرْسلت بِهِ. رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم
(3)
.
قوله: عن أبي موسى، اسمه: عبد الله بن قيس تقدم الكلام على مناقبه.
(1)
شرح النووي على مسلم (6/ 98).
(2)
الكواكب الدراري (2/ 42).
(3)
أخرجه البخاري (79)، ومسلم (15 - 2282).
قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم"، فالهدى هو الدلالة المؤدية إلى البعيد، والعلم هو صفة توجب تمييزًا لا يحتمل معناه النقيض، وقيل: الهدى والعلم هو الطريقة، انتهى، قاله الكرماني
(1)
.
قوله: "كمثل غيث"، مثل: بفتح المثلثة، المراد منه هاهنا: الصفة العجيبة الشأن لا القول السائد، فالمثل في الأصل بمعنى المثل الذي هو النظير ثم استعير لكل ما فيه غرابة من قصة وحال وصفة، أي: إن صفة ما بعثني الله به كصفة غيثا أصاب أرضًا، وإنما ضرب المثل بالغيث وهو المطر للمشابهة بينه وبين العلم إذ الغيث يحيى البلد الميت والعلم يحيى القلب الميت، انتهى، وقيل: إنما اختير الغيث من بين سائر المطر ليؤذن باضطرار الخلق إليه حينئذ، قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا}
(2)
قاله الكرماني
(3)
.
وقد كان الناس في الزمان الأول قبل المبعث وهم على فترة من الرسل قد امتحنوا بموت القلوب ونضوب العلم أي: ذهابه حتى أصابهم الله برحمة من عنده فأفاض عليهم بحال الوحي السماوي فأشبهت حالتهم حال من توالت عليهم السنون حتى تداركهم الله بلطفه
(4)
قوله صلى الله عليه وسلم: "أصاب أرضًا
(1)
الكواكب الدراري (2/ 55).
(2)
سورة الشورى، الآية:28.
(3)
الكواكب الدراري (2/ 56 - 57).
(4)
الكواكب الدراري (2/ 57).
فكانت منها طائفة طيبة" الحديث، الطائفة من الشيء قطعة منه، هكذا في جميع نسخ مسلم طائفة، ووقع في البخاري: "وكان منها نقية قبلت الماء" بنون مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مشددة وهو بمعنى: طيبة، وهذا هو المشهور في روايات البخاري
(1)
، وقبلت: من القبول، وفي بعضها بالياء أخت الواو مشددة، قالوا معناه: أمسكت، قاله الكرماني
(2)
.
قوله: "وأنبتت الكلأ والعشب الكثير" أما العشب والكلأ والحشيش فكلها أسماء للنبات، لكن الحشيش مختص باليابس، والعشب والكلأ مقصورًا مختصان بالرطب، والكلأ بالهمز يقع على اليابس والرطب
(3)
.
قوله: "وكان منها أجادب أمسكت الماء"، أما الأجادب: فبالجيم والدال المهملة جمع جديب، وقال بعض العلماء
(4)
: أجادب جمع أجدب، وأجدب جمع جدب مثل كلب وأكلب وأكالب، وهي: الأرض التي لا تنبت كلأ، قال الأصمعي: أي جرداء بارزة لا يسترها النبات، وقال القاضي عياض في الشرح: لم يُروَ هذا الحرف في مسلم ولا في غيره إلا بالدال المهملة من الجدب الذي هو: ضد الخصب، قال: وعليه شرح الشارحون، والمراد هاهنا: الأرض الصلبة التي تمسك الماء ولا تنبت سماها أجادب لأنها
(1)
شرح النووي على مسلم (15/ 47).
(2)
الكواكب الدراري (2/ 55 - 56).
(3)
شرح النووي على مسلم (15/ 46).
(4)
أعلام الحديث للخطابي (1/ 198) - ونقل عنه المؤلف بتصرف.
لصلابتها لا تنبت
(1)
.
قوله: "فشربوا منها وسقوا" قال أهل اللغة: سقى وأسقى بمعنى لغتان، وقيل: سقاه ناوله ليشرب، وأسقاه جعل له سقيا، قاله الكرماني
(2)
.
قوله: "وزرعوا" هكذا وقع في البخاري "وزرعوا"، ووقع في غير كما في صحيح مسلم:"ورعوا" بالراء من الرعي وكلاهما صحيح
(3)
.
قوله: "وأصاب طائفة أخرى" بالنصب، أي: وأصاب الغيث طائفة، أي: قطعة أخرى من الأرض
(4)
. قوله: "منها"، أي: من الأرض.
قوله: "إنما هي قيعان" بكسر القاف جمع قاع وهو الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها أي: التي لا يقف على وجهها ماء يدخل فيها ولا تنبت شيئا، وهذا هو المراد في الحديث كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث:"لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ"
(5)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فذلك مثل من فقه في دين الله" والفقه في اللغة هو الفهم كما تقدم يقال منه: فقه بكسر القاف يفقه كفرح يفرح إذا فهم، وأما الفقه الشرعي فقال صاحب العين
(6)
والهروي وغيرهما: يقال منه فقه بضم القاف إذا صار
(1)
شرح النووي على مسلم (15/ 46 - 47).
(2)
شرح النووي على مسلم (15/ 47)، والكواكب الدراري (2/ 56).
(3)
شرح النووي على مسلم (15/ 47).
(4)
الكواكب الدراري (2/ 56).
(5)
شرح النووي على مسلم (15/ 47)، والمفاتيح (1/ 252).
(6)
انظر: العين للخليل الفراهيدي (3/ 370).
الفقه سجية له، وقال ابن دريد بكسرها كالأول
(1)
، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم:"فقه في دين الله" هذا الثاني فيكون مضموم القاف على المشهور، وفقه بفتح القاف قال ابن عطية
(2)
: إذا غلب غيره في الفقه، وقد روى الحديث بالوجهين يعني بضم القاف وكسرها، المشهور الضم، قاله النووي في شرح مسلم
(3)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" الحديث، ذلك إشارة إلى المثل المذكور كناية عن عدم الالتفات، أي: لم يلتفت إلى التعلم والتعليم ولم يشتغل في ذلك، والله أعلم
(4)
.
ومعنى الحديث التمثيل أن الأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس، فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحيى بعد أن كان ميتًا وينبت الكلأ فينتفع به الناس والدواب بالشرب والرعي والزرع وغيرها، وكذلك النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيى به قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع؛ والنوع الثاني من الأرض: ما لا يقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها فينتفع بها الناس والدواب، وكذلك النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليس لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام وليس عندهم اجتهاد في الطاعة
(1)
شَرح النووي على مسلم (15/ 47).
(2)
تفسير ابن عطية (2/ 279).
(3)
شرح النووي على مسلم (15/ 47).
(4)
انظر المفاتيح (1/ 252).
والعمل به فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم والنوع الثالث من الأرض هي: السباخ التي لا تنبت ونحوها فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع به غيرها، وكذلك النوع الثالث من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لينفع غيرهم، فهؤلاء لا خير فيهم
(1)
. انتهى.
(أي: الأول للمنتفع النافع، والثاني للنافع غير المنتفع، والثالث لغيرهما، أو الأول إشارة إلى العلماء والثاني إلى النقلة والثالث إلى من لا ينقل، وقال في حدائق الأولياء
(2)
: فالأول العالم علم دراية والثاني رواية كالأجادب والثالث من لا علم له، وهذا مثال ضرب لمن حل انتفاعه بالعلم والهدى فعلم وعمل، ولمن علم ولم يعمل، ولمن لا يعلم ولا يعمل
(3)
، انتهى).
وقال الشيخ الإمام محيى السنة
(4)
: فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل مثل العالم كمثل المطر، ومثل قلوب الناس كمثل الأرض في قبول العلم، فشبه من تحمل العلم وتفقه فيه بالأرض الطيبة أصابها المطر فنبتت وانتفع بها الناس، وشبه من تحمل العلم ولم يتفقه بالأرض الصلبة التي لا تنبت ولكنها تمسك الماء
(1)
شرح النووي على مسلم (15/ 47 - 48).
(2)
حدائق الأولياء (1/ 67).
(3)
شرح المشكاة (2/ 617)، وعمدة القاري (2/ 79).
(4)
شرح السنة (1/ 279).
فيأخذه الناس وينتفعون به، وشبه من لهم يفهم ولم يحمل بالقيعان التي لا تنبت ولا تمسك الماء فهو الذي لا خير فيه، انتهى.
وقال بعض العلماء: أشار النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب المثل إلى الأعلى والأسفل، فشبه ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر العام الذي يأتي الناس في حال إشرافهم على الهلاك، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة فمنهم العالم العامل المعلم فهذا بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها، ومنهم: من بلغه الشرع فلم يؤمن ولم يقبل فشبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالقيعان السبخة التي لا تقبل الماء في نفسها وتفسده على غيرها فلا يكون منها ولا يحصل بما حصل فيها نفع، وسكت عن الوسط إما لأنه داخل في الأول بوجه النفع الحاصل منهم في الدين فيؤخذ عنهم ألفاظ الحديث حسبما روي في كتابه ويتفقه فيه على غيره، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"رب حامل فقه ليس بفقيه"، وإما لأنه أخبرنا بالأهم فالأهم وهما الطائفتان المتقابلتان العليا والسفلى
(1)
. انتهى.
ففي هذا الحديث أنواع من العلم، منها: ضرب الأمثال، ومنها: فضل العلم والتعليم وشدة الحث عليهما وذم الإعراض عن العلم، والله أعلم
(2)
.
123 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله رضي الله عنه إِن مِمَّا يلْحق الْمُؤمن من عمله وحسناته بعد مَوته علما علمه ونشره وَولدا صَالحا تَركه أَو مُصحفا
(1)
المفهم (19/ 24 - 25).
(2)
شرح النووي على مسلم (15/ 48).
وَرثهُ أَو مَسْجِدًا بناه أَو بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيل بناه أَو نَهرا أجراه أَو صَدَقَة أخرجهَا من مَاله فِي صِحَّته وحياته تلْحقهُ من بعد مَوته. رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن وَالْبَيْهَقِيّ وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه مثله إِلَّا أَنه قَالَ أَو نَهرًا كراه وَقَالَ يَعْنِي حفره وَلم يذكر الْمُصحف
(1)
.
قوله: عن أبي هريرة رضي الله عنه، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إِن مِمَّا يلْحق الْمُؤمن من عمله وحسناته بعد مَوته علما علمه ونشره" الحديث، في باب سماع الحديث:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علمن ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم وغيره
(2)
، قال القاضي بن العربي: الذي لا ينقطع عمله بعد موته وهم ستة، هؤلاء الثلاثة، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو بهيمة إلا كان له حسنات إلى يوم القيامة"
(3)
، وقال صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة في الإسلام كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم
(1)
أخرجه ابن ماجه (242)، وابن خزيمة (2490)، والبيهقي في الشعب (5/ 121 - 122 رقم 3174). قال البوصيرى في الزجاجة 1/ 35: هذا إسناد مختلف فيه وقد رواه ابن خزيمة في صحيحه عن محمد بن يحيى الذهلي به. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (77) و (112) و (275)، والمشكاة (254)، الإرواء (6/ 29)، الروض النضير (1013).
(2)
أخرجه مسلم (14 - 1631)، وأبو داود (2880)، والترمذى (1376)، والنسائي في المجتبى 6/ 219 (3677).
(3)
أخرجه البخاري (2320) و (6012)، ومسلم (12 - 1553) عن أنس.
القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا"
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم: "كل عامل يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر"
(2)
قال القرطبي في كتاب منهج العباد
(3)
: فعلى هذا يكونون تسعة لا ستة، قلنا: هذه راجعة إلى المذكورات في الحديث، لأن الغرس داخل في الصدقة وكذلك المسجد والبيت والنهر، وأما المصحف فداخل في العلم، وأما السنة الحسنة فتشمل الجميع فعم الرباط
(4)
.
قال العلماء
(5)
: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع مجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء المذكورة في الحديث لكونه سببها لأنها أصول الخير وأغلب ما يقصده أهل الفضل أن تبقى بعدهم لأن الولد من كسبه وكذلك العلم الذي خلف من تعليم وتصنيف، وكذلك الصدقة الجارية.
قال العلماء: الصدقة الجارية بعد الموت أي: الدارة المتصلة كالوقوف الموصدة لأبواب البر، ومنه الحديث:"الأرزاق جارية" أي: دارة متصلة قاله
(1)
أخرجه مسلم (15 - 1017) عن جرير.
(2)
أخرجه أحمد (23951) و 6/ 20 (23954)، وأبو داود (2500)، والترمذى (1621) والحاكم 2/ 72 و 144. وقال الترمذى: وحديث فضالة حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1218).
(3)
ذكره القرطبي في التفسير (15/ 216) وسماه: كتاب منهج العباد ومحجة السالكين والزهاد.
(4)
انظر الميسر (1/ 99)، وتحفة الأبرار (1/ 149)، والمفاتيح (1/ 304).
(5)
شرح النووي على مسلم (11/ 85).
في النهاية
(1)
. فمعنى الصدقة الجارية أي: يجري نفعها ويدوم أجرها
(2)
وهي محمولة عند العلماء على الوقف
(3)
.
والوقف مصدر وقف يقف وقفًا، ومنه قوله تعالى:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)}
(4)
ويراد به التحبيس والتسبيل، والفصيح: وقف، ولا يقال: أوقف إلا في لغة تميمة، وعليها العامة وهو من القرب المندوب إليها بأدلة خاصة، قال الشافعي رحمه الله: ولم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته دارا ولا أرضًا، وإنما حبس أهل الإسلام، يعني: هذا التحبيس المعروف وهو إشارة منه إلى حقيقة شرعية، ويدلا على مشروعية الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فعموم قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(5)
ولذلك لما سمعها أبو طلحة رغب في وقف بيرحاء، وكانت أحب أمواله إليه
(6)
، وسيأتي الكلام عليها مبسوطًا، فتدخل الصدقة في الوقف فكان حجة على من أنكره من الحنفية، ويدخل فيها بناء القناطر والمطاهر والغراس، كما تقدم، وسبل الخيرات بالوصايا ونحوها.
وفيه: بيان أن فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه بالتعليم والتصنيف
(1)
النهاية (1/ 264).
(2)
مطالع الأنوار (2/ 111).
(3)
شرح النووي على مسلم (11/ 85)، وكفاية النبيه (12/ 5)، والنجم الوهاج (5/ 453).
(4)
سورة الصافات، الآية:24.
(5)
سورة آل عمران، الآية:92.
(6)
النجم الوهاج (5/ 453).
والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع
(1)
، فيدخل فيه علوم الشرع، ويخرج غيرها لأنها وإن انتفع بها في الدنيا فالسياق يخصصه بالانتفاع الأخروي، وهل المراد الذي من شأنه أن ينتفع به وإن لم يتيسر الانتفاع أو لابد من الانتفاع ليدوم سبب الثواب، الظاهر الثاني: ولو وقف على المشتغلين بالعلم كان فيه أجران أجر الصدقة وأجر الانتفاع بالعلم.
وفيه: أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت من الولد وغيره
(2)
.
وفيه: أن الصدقة عن الميت تنفعه ويصل ثوابها من الولد وغيره أيضا، وقد أجمع العلماء عليها وعلى الدعاء وهو نافع من الصالح وغيره، غير أن الوصف بالصلاح خرج مخرج الغالب لأنه ترجى إجابته أكثر من غيره، ولذلك ذكر الولد في الحديث بقوله:"أو ولد صالح يدعو له" لأنه من كسبه.
وفيه: أنه يصح قضاء الدين عن الميت من كل أحد
(3)
.
وفيه: أن الحج يجزئ عن الميت عند الشافعي وموافقيه ممن أدى فرضه وهو داخل في قضاء الدين إن كان حجا واجبًا، وكذلك إن أوصى بحج التطوع عندنا، وهو من باب الوصايا، وأما إذا مات وعليه صيام فالصحيح، أن الولي يصوم عنه، وله أن يطعم عنه، وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت والصلاة عنه ونحوها فمذهب الشافعي والجمهور أنها لا تلحق
(1)
شرح النووي على مسلم (11/ 85).
(2)
شرح النووي على مسلم (11/ 85).
(3)
شرح النووي على مسلم (11/ 85).
الميت، وفي ذلك خلاف بين العلماء، والله أعلم
(1)
.
124 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ رَوَاهُ مُسلم وَغَيره
(2)
.
125 -
وَعَن أبي قَتَادَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خير مَا يخلف الرجل من بعده ثَلاث ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَصدقَة تجْرِي يبلغهُ أجرهَا وَعلم يعْمل بِهِ من بعده رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح
(3)
.
126 -
وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عُلَمَاء هذِه الْأم رجلَانِ رجل آتَاهُ الله علما فبذله للنَّاس وَلم يَأْخُذ عَلَيْهِ طَمَعا وَلم يشتر بِهِ ثمنا فَذَلِك تستغفر لَهُ حيتان الْبَحْر ودواب الْبر وَالطير فِي جو السَّمَاء وَرجل آتَاهُ الله علما فبخل بِهِ عَن عباد الله وَأخذ عَلَيْهِ طَمَعا وشرى بِهِ ثمنا فَذَلِك يلجم يَوْم الْقِيَامَة بلجام من نَار وينادي مُنَاد هَذَا الَّذِي آتَاهُ الله علما فبخل بِهِ عَن عباد الله وَأخذ عَلَيْهِ طَمَعا وَاشْترى بِهِ ثمنا وَكَذَلِكَ حَتَّى يفرغ الْحساب رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(1)
شرح النووي على مسلم (11/ 85).
(2)
أخرجه مسلم (14 - 1631)، وأبو داود (2880)، والترمذى (1376)، والنسائي في المجتبى 6/ 219 (3677)، وابن خزيمة (2494)، وابن حبان (3016).
(3)
أخرجه ابن ماجه (241)، والنسائي في الكبرى (10863)، وابن خزيمة (2495)، والدينورى في المجالسة (3500)، وابن حبان (93) و (4902)، والطبراني في الأوسط (4/ 8 - 7 رقم 3472) والصغير (1/ 242 رقم 395). وصححه الألباني في "أحكام الجنائز"(224)"صحيح الترغيب"(79) و (113)"الروض"(1013).
الْأَوْسَط وَفِي إِسْنَاده عبد الله بن خِدَاش وَثَّقَهُ ابْن حبَان وَحده فِيمَا أعلم
(1)
.
127 -
وَعَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: عَلَيْكُم بِهَذَا الْعلم قبل أَن يقبض وَقَبضه أَن يرفع وَجمع بَين إصبعيه الْوُسْطَى وَالَّتِي تلِي الْإِبْهَام هَكَذَا ثمَّ قَالَ الْعَالم والمتعلم شريكان فِي الْخَيْر وَلا خير فِي سَائِر النَّاس رَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق عَليّ بن يزِيد عَن الْقَاسِم عَنهُ
(2)
.
قَوْله: وَلَا خير فِي سَائِر النَّاس أَي فِي بَقِيَّة النَّاس بعد الْعَالم والمتعلم وَهُوَ قريب الْمَعْنى من قَوْله الدُّنْيَا ملعونة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَّا ذكر الله وَمَا وَالَاهُ وعالما ومتعلما. وَتقدم.
(1)
أخرجه الطبراني (7/ 171 رقم 7187)، وابن عبد البر في جامع العلم (182). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن العوام إلا عبد الله بن خراش، ولا يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 124: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن خراش، ضعفه البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم وابن عدي، ووثقه ابن حبان.
وضعفه الألباني في الضعيفة (5157) وضعيف الترغيب (58).
(2)
أخرجه أحمد 5/ 266 (22290)، والدارمى (246)، وابن ماجه (228)، والطبراني في الكبير (8/ 215 رقم 7867) و (8/ 220 رقم 7875) و (8/ 232 رقم 7906)، وابن عدى (6/ 281)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (ص 90 - 91). وقال الهيثمى في المجمع 1/ 199 - 20: رواه أحمد والطبراني في الكبير، وعند ابن ماجه طرف منه، وإسناد الطبراني أصح؛ لأن في إسناد أحمد علي بن يزيد وهو ضعيف جدا، وهو عند الطبراني من طرق في بعضها الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس صدوق، يكتب حديثه، وليس ممن يتعمد الكذب. والله أعلم. وقال البوصيرى في الزجاجة 1/ 31: هذا إسناد فيه علي بن زيد بن جدعان والجمهور على تضعيفه. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (59)، الإرواء (2/ 143)، المشكاة (277 و 278).
قوله: عن أبي أمامة، اسمه: صدي بن عجلان، وتقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بهذا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يرفع" الحديث، وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"
(1)
.
قال ابن بطال
(2)
: معنى الحديث أن الله سبحانه وتعالى لا يهب العلم لخلقه ثم ينتزعه بعد أن تفضل به عليهم، والله يتعالى أن يسترجع ما وهب لعباده من علمه الذي يؤدي إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بتضييع التعلم فلا يوجد فيمن تبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر عليه الصلاة والسلام بقبض الخير كله ولا ينطق عن الهوى، انتهى.
قوله صلى الله عليه وسلم: "العالم والمتعلم شريكان في الخير، ولا خير في سائر الناس" الحديث، أي: في بقية الناس بعد العالم والمتعلم، قاله المنذري.
قال القرطبي: هذا الحديث ليس على ظاهره فإن المستمع والمحب ليسا مما لا خير فيه، وقد ذكر أبو عمر من حديث أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اغد عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا أو محبًّا، ولا تكن من الخامسة فتهلك"
(3)
(1)
أخرجه البخاري (100) و (7307)، ومسلم (13 و 14 - 2673).
(2)
شرح الصحيح (1/ 177).
(3)
أخرجه البزار (3626)، والطحاوى في مشكل الآثار (6116)، والدينورى في المجالسة (1893)، والطبراني في الأوسط (5/ 231 رقم 5171) والصغير (2/ 63 رقم 786) =
قال عطاء: قال لي مسعر بن كدام: يا عطاء، وردتنا في هذا الحديث زيادة لم تكن في أيدينا، وإنما كان في أيدينا:"اغد عالمًا أو متعلمًا" يا عطاء: ويل لمن لم يكن فيه واحدة من هذه
(1)
.
قال أبو عمر: الخامسة التي فيها الهلاك معاداة العلماء وبغضهم، ومن لم يحبهم فقد أبغضهم أو قارب ذلك، وفيه الهلاك.
وقال معاوية بن قرة: قال أبو الدرداء: اطلبوا العلم فإن عجزتم فأحبوا اهله فإن لم تحبوهم فلا تبغضوهم
(2)
، وكان يقول: اغد عالمًا أو متعلمًا أو محبًّا
(3)
، كما تقدم في حديث أبي بكرة، وكان رضي الله عنه: يقول: تفكر ساعة خير من عبادة ليلة
(4)
، ومن شعره رضي الله عنه:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ
…
وَيَأْبَى اللهُ إِلَا مَا أَرَادَ
= وجزء من اسمه عطاء (17)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 336)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (151).
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، عن أبي بكرة وعطاء بن مسلم ليس به بأس ولم يتابع عليه. قال الهيثمى في المجمع 1/ 122: رواه الطبراني في الثلاثة والبزار، ورجاله موتقون. وضعفه الألباني في الضعيفة (2836).
(1)
انظر مشكل الآثار (15/ 406/ ح 6116)، والحلية (7/ 336)، وجامع بيان العلم (1/ 147 - 148/ ح 151).
(2)
الطبقات (2/ 357 - 358).
(3)
الآداب الشرعية (2/ 35).
(4)
الطبقات (7/ 392)، وسير السلف (1/ 555).
يَقُولُ الْمَرْءُ: فَائِدَتِي وَمَالِي
…
وَتَقْوَى اللهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا
(1)
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه في آخر عمره يقول
(2)
: أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكا بلا ورق، قاله في الديباجة.
128 -
وَعَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن مثل الْعلمَاء فِي الأرْض كَمثل النُّجُوم يهتدى بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر فَإِذا انطمست النُّجُوم أوشك أَن تضل الهداة رَوَاهُ أَحْمد عَن أبي حَفْص صَاحب أنس عَنهُ وَلم أعرفهُ وَفِيه رشدين أَيْضًا
(3)
.
قوله: عن أنس، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن العلماء في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة"، قوله في هذا الحديث:"أوشك" معناها أسارع، مثل النبي صلى الله عليه وسلم حملة العلم الذي جاء به بالنجوم التي يهتدى بها في الظلمات فما دام العلم باقيًا فالناس في هدى، وبقاء العلم بقاء حملته، فإذا ذهب حملته ومن يقوم به وقع الناس في الضلال كما في
(1)
الاستيعاب (4/ 1648)، وسير السلف (1/ 557).
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في مداراة الناس (13) والإشراف (252).
(3)
أخرجه أحمد 3/ 157 (12600)، والآجرى في أخلاق العلماء (ص 28 - 29)، والرامهرمزي في الأمثال (ص 87)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 70). وقال الهيثمى في المجمع (1/ 121). رواه أحمد، وفيه رشدين بن سعد، واختلف في الاحتجاج به، وأبو حفص صاحب أنس مجهول. والله أعلم. وضعفه الألباني في الضعيفة (5874) وضعيف الترغيب (60).
الحديث: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن بقبض العلماء"
(1)
وتقدم هذا الحديث.
129 -
وَعَن سهل بن معَاذ بن أنس عَن أَبِيه رضي الله عنهم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من علم علما فَلهُ أجر من عمل بهِ لَا ينقص من أجر الْعَامِل شَيْء رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَسَهل يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ
(2)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه؛ وسهل سيأتي الكلام عليه، كما ذكره الحافظ رحمه الله.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من علم علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل شيئًا" تقدم معناه في قوله: "من سن سنة حسنة".
130 -
وَعَن أبي أُمَامَة قَالَ ذكر لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم رجلَانِ أَحدهمَا عَابِد وَالْآخر عَالم فَقَالَ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام فضل الْعَالم على العابد كفضلي على أدناكم ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله وَمَلَائِكَته وَأهل السَّمَوَات وَالأرْض حَتَّى النملة فِي جحرها وَحَتَّى الْحُوت ليصلون على معلم النَّاس الْخَيْر رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح وَرَوَاهُ الْبَزَّار من حَدِيت عَائِشَة مُخْتَصرا قَالَ معلم الْخَيْر يسْتَغْفر لَهُ كل شَيْء حَتَّى الْحيتَان فِي الْبَحْر
(3)
.
(1)
جامع العلوم والحكم (3/ 1018).
(2)
أخرجه ابن ماجه (240)، الطبراني في الكبير 20/ 198 (446)، وأبو نعيم في المستخرج (40). وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (80).
(3)
أخرجه الترمذى (2685)، والطبراني في الكبير (8/ 233 رقم 7911)، وتمام في الفوائد (43) و (1243 و 1244)، وقال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح غريب سمعت أبا =
قوله: عن أبي أمامة؛ اسمه: صُدَيّ، بضم الصاد وفتح الدال وتشديد الياء، بن عجلان الباهلي نزيل حمص بعد أن سكن مصر، وكان من علماء الصحابة وأعيانهم، وكان عمره في حجة الوداع ثلاثين سنة، مات سنة إحدى وثمانين، وقيل: ست وثمانين بقرية دنود على عشرة أميال من حمص، وكان مكثر أو أكثر رواياته عند الشاميين، عاش إحدى وتسعين سنة، وهو آخر من مات من الصحابة بالشام، وقيل: عبد الله بن بسر آخرهم. والله أعلم
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض ليصلون على معلمي الناس الخير" أي: العلم، فالجليل جل جلاله وملائكته يعظم طالب العلم، فكيف العالم، ونور العلم يزيد على نور العبادة كما مثله في الحديث الآخر، فالقمر بالنسبة إلى باقي الكواكب.
قوله: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" الصلاة في اللغة: الدعاء،
= عمار الحسين بن حريث الخزاعي، يقول: سمعت الفضيل بن عياض، يقول: عالم عامل معلم يدعى كبيرا في ملكوت السموات. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (81)، وصححه في المشكاة (213).
وأما حديث عائشة: أخرجه البزار 18/ 184 (169). وقال الهيثمى في المجمع 1/ 124: رواه البزار، وفيه محمد بن عبد الملك، وهو كذاب أيضا. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (82).
(1)
تهذيب الأسماء واللغات (2/ 176 الترجمة 718).
وهي من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة بمعنى: الاستغفار، ومن الآدمي: تضرع ودعاء، وتقدم الكلام على شيء من ذلك مبسوطًا؛ وجحر النملة: بضم الجيم وإسكان الحاء المهملة هو الخرق في الأرض، وجحر النملة: مسكنها، والله أعلم.
قوله: في رواية البزار: "معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر" والمراد بالخير هنا: العلم، وتقدم الكلام على الحكمة في استغفار الحيتان للعالم وأهل السموات والأرض قريبًا مبسوطًا.
131 -
وَعَن ثَعْلَبَة بن الحكم الصَّحَابِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول الله عز وجل للْعُلَمَاء يَوْم الْقِيَامَة إِذا قعد على كرسيه لفصل عباده إِنِّي لم أجعَل علمي وحلمي فِيكُم إِلَّا وَأَنا أُرِيد أَن أَغفر لكم على مَا كَانَ فِيكُم وَلا أُبَالِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَرُوَاته ثِقَات
(1)
.
قَالَ الْحَافِظ رحمه الله وَانْظُر إِلَى قَوْله سبحانه وتعالى علمي وحلمي وأمعن النّظر فِيهِ يَتَّضِح لَك بإضافته إِلَيْهِ عز وجل أَنه لَيْسَ المُرَاد بِهِ علم أَكثر أهل الزَّمَان الْمُجَرّد عَن الْعَمَل بِهِ وَالْإِخْلَاص.
قوله: عن ثعلبة بن الحكم الصحابي، هو: ثعلبة بن الحكم بن (عرفطة بن الحارث بن لقيط بن يعمر الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير (2/ 84 رقم 1381)، وأبو الحسن السكرى في مشيخته (29).
وقال الهيثمى في المجمع 1/ 126: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون. وقال الألباني: موضوع بهذا التمام الضعيفة (867) وضعيف الترغيب (61).
بكر بن عبد مناة بن كنانة الكناني، ثم الليثي، قال: كنت غلامًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عنه: سماك بن حرب، ويزيد بن أبي زياد، شهد خيبر، نزل البصرة، ثم انتقل إلى الكوفة
(1)
.
قوله: "يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة: إني لم أجعل علمي وحلمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم".
قال الحافظ رحمه الله: وانظر إلى قوله سبحانه وتعالى: "علمي وحلمي" وأمعن النظر فيه يتضح لك بإضافته إليه عز وجل أنه ليس المراد به علم أكثر أهل الزمان المجرد عن العمل به والإخلاص، قال الحافظ شرف الدين الدمياطي: وهذ الحديث وأشباهه وجميع أحاديث هذا الباب إنما هي في حق العالم العامل المبتغي بعلمه وجه الله عز وجل؛ وأما العامل غير العامل فهو من أشد الناس عذابا يوم القيامة، وكذا العالم الذي لم يبتغ بعلمه وجه الله تعالى لا يشم رائحة الجنة وهو أحد الثلاثة الذين تسعر بهم النار قبل الخلائق كلهم
(2)
.
فصل: في ذكر نبذة تتعلق بفضل العلم والعلماء من كلام القوم، فالعالم يغفر له ما لا يغفر للجاهل كما روى الطبراني بإسناد جيد مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا جمع الناس يوم القيامة في صعيد واحد، قال للعلماء: إني كنت أعبد بفتواكم، وقد علمت أنكم تخلطون كلما يخلط الناس، وإني لم
(1)
أسد الغابة (1/ الترجمة 592)، وتهذيب الكمال (4/ الترجمة 840).
(2)
المتجر الرابح (ص 14).
أضع علمي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم"
(1)
، قال صاحب الأنوار رحمه الله: خص اللّه العلماء بفضيلة بخلاف غيرهم أن الله عز وجل يعبد بفتواهم ويعرف جلاله بهم غير أنهم مطالبون بشكر النعمة فيدفعون لوجود كل فتنة ومحنة وحادثة وبدعة، وهذا مقام عظيم، إذ به يعبد الله. وبه ينتهي عن معاصيه وتترك، فكل من ترك معصية أو بدعة ففي صحيفته، وكل من أطاع الله وعبده فكذلك في صحيفته أيضًا
(2)
.
قال في المدخل
(3)
: وقد ورد أن الله تعالى يأمر يوم القيامة بأهل البلاء إلى الجنة والعلماء وقوف في المحشر فيقولون: يا ربنا بفضل علمنا دخلوا الجنة، أي: إنهم علموهم ما يلزمهم من الأحكام في بلائهم وما لهم على ذلك من الأجور وكيفية الصبر وما للصابرين فامتثلوا ذلك منهم، فكان سببا لما جرى، ثم يأمر الله تعالى بالمجاهدين والصابرين إلى غير ذلك من الطوائف الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والعلماء وقوف يقولون: يا ربنا بفضل
(1)
أخرجه الرويانى (542)، والطبراني في الأوسط (4/ 302 - 303 رقم 4264) والصغير (1/ 354 رقم 591)، وعنه أبو نعيم في المعرفة (4444)، وابن عدى في الكامل (5/ 178 - 177)، والبيهقي في المدخل (567)، وابن المقرب في أربعينه (ص 72)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (232 و 233). قال ابن عدى: وهذأ الحديث بهذا الإسناد باطل، وإن كان الراوي عنه صدقة بن عبد الله ضعيف، وابن شابور ثقة وقد روى عنه. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 126 - 127: رواه الطبراني في الكبير، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف جدا. وضعفه الألباني جدا في الضعيفة (868).
(2)
المدخل (1/ 68).
(3)
المدخل (1/ 62 - 63).
علمنا بفضل علمنا، فيقول الله عز وجل:"أنتم عندي كأنبيائي، اذهبوا فاخترقوا الصفوف فاشفعوا تشفعوا"، وإذا كان كذلك فينبغي الاعتناء بأمر العالم وتقدمة رتبته بالذكر على غيره من الرتب الباقية، انتهى.
وقال يحيى بن معاذ: رأى رجل منصور بن عمار في المنام فقال: ما صنع الله بك؟ فقال: قال لى يا منصور جئتنى بتخليط كثير ولكن قد عفوت عنك، كنت تحببني إلى الناس أو إلى خلقي ثم أمر لي بكرسي فوضع، فقال: مجدني بين ملائكتي كما مجدتني في الأرض بين خلقي
(1)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليوم واحد من العالم الذي يتعلم الناس منه الخير أفضل عند الله وأعظم أجرا من عبادة الناس مائة سنة.
وقال عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: "من تعلم وعلم وعمل فذلك يدعى عظيما في ملكوت السموات"
(2)
.
وقال الحسن: لولا العلماء لصار الناس كالبهائم، وإنما أراد بذلك أن الناس يخرجون بالتعليم عن حد البهيمية إلى حد الإنسانية
(3)
.
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء قادة والفقهاء سادة ومجالستهم زيادة"
(4)
، وجاء في الحديث: "من صلى الفريضة ثم قعد يعلم
(1)
حلية الأولياء (9/ 325 - 326)، والرسالة (1/ 74 - 75)، وصفة الصفوة (1/ 464).
(2)
أخرجه أبو خيثمة في العلم (7)، وأحمد في الزهد (330)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 93).
(3)
إحياء علوم الدين (1/ 11).
(4)
أخرجه الدارقطنى في السنن (3086)، والقضاعى في مسند الشهاب (7307)، والبيهقي في المدخل (441) والشعب (13/ 152 - 153 رقم 10096). وقال الألباني: موضوع الضعيفة (42).
الناس الخير نودي في السموات عظيمًا"
(1)
وبهذا تواطأت الأخبار ونقلت الأمة خلفا عن خلف، أعني: تعظيم العالم ورفع منزلته على غيره إذ أنه ليس بعد درجة الأنبياء إلا درجتهم ثم بعد درجتهم درجة الشهداء، وقد جاء في الحديث الذي خرجه الحافظ أبو نعيم في كتاب رياضة المتعلمين بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء"
(2)
زاد غير أبي نعيم: "فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء"
(3)
وقد روي هذا عن الحسن البصري من قوله وهو أشبه، وهذا بيّنٌ؛ لأن دم الشهداء إنما هو في ساعة من نهار أو ساعات ثم انفصل الأمر فيه إلى إحدى الحسنين، ومداد
(1)
ذكره ابن الحاج في المدخل (1/ 121).
(2)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (153) عن أبي الدرداء.
(3)
أخرجه ابن عمشليق في جزئه (14) من حديث عمران بن حصين. وأخرجه ابن الجوزى في العلل المتناهية (83) من حديث ابن عمر. وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/ 179 و 2/ 276) وابن الجوزى (84) من حديث عبد الله بن عمرو. والسهمى في تاريخ جرجان (ص 92) و (ص 222)، وابن الجوزى (85) من حديث النعمان بن بشير. قال ابن الجوزى عن حديث ابن عمر: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الخطيب: رجاله كلهم ثقات غير محمد بن الحسن ونراه مما صنعت يداه. وقال عن حديث ابن عمرو: وهذا لا يصح، قال أحمد بن حنبل: محمد بن يزيد الواسطي لا يروي عن عبد الرحمن بن زياد شيئا وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات.
وقال عن حديث النعمان: هذا لا يصح أما هارون بن عنترة، قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به يروي المناكير التي يسبق إلى القلب أنه المعتمد لها ويعقوب القمي ضعيف. وضعفه الألباني في الضعيفة (4832).
العلماء هو وظيفة العمر ليلًا ونهارًا
(1)
، ومما أنشده الأديب أبو الحسن علي بن أحمد الفنجكردي لنفسه
(2)
:
مِدَادُ الْفَقِيهِ عَلَى ثَوْبِهِ
…
أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الْغَالِيهْ
وَمَنْ طَلَبَ الْفِقْهَ ثُمَّ الْحَدِيثَ
…
فَإِنَّ لَهُ هِمًّةً عَالِيَهْ
وَلَوْ تَشْتَرِي النَّاسُ هَذِي الْعُلُومَ
…
بِأَرْوَاحِهِمْ لَمْ تَكُنْ غَالِيَهْ
وقال علي رضي الله عنه: العالم أعظم أجرًا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله، وإذا مات العالم انثلمت ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء إلى يوم القيامة
(3)
.
وقال الفضيل بن عياض: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وشحوا على دينهم وأعزوا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله تعالى لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس وكانوا لهم تبعًا وعز الإسلام وأهله ولكنهم ذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم
(1)
المدخل (1/ 68).
(2)
النكت على مقدمة ابن الصلاح (3/ 591)، وفتح المغيث (3/ 97). وأما الفنجكردى فهو: الأديب أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد الفنجكردي من أهل نيسابور، وفنجكرد من قراها. قال السمعانى: هو الأستاذ البارع، صاحب النظم والنثر الجاريين في سلك السلامة الباقيين معه على هرمه وطعنه في السن على كمال الطراوة. قرأ أصول اللغة على أبي يوسف يعقوب بن أحمد الأديب، وغيره، وأحكمها وتخرج فيها. وكان سليم النفس، أمين الجنب، عفيفا، خفيفا، طريف المحاورة، قاضيا للحقوق، محمود الأحوال، مرضي السيرة، حسن الاعتقاد، مكبا على الاستفادة والإفادة، مشتغلا بنفسه، أصابته علة أزمنته ومنعته الخروج. انظر: التحبير (1/ 562) والمنتخب من شيوخ السمعانى (1225).
(3)
أخرجه الخطيب في الجامع (347)، وعياض في الإلماع (ص 48).
وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك ما في أيدي الناس فذلوا وهانوا على الناس
(1)
.
وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء الدنيا: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية وبيوتكم كسرية وأبوابكم ظاهرية وأخفافكم جالوتية ومراكبكم قارونية وأوانيكم فرعونية وموائدكم جاهلية ومذاهبكم سلطانية، فأين المحمدية
(2)
؟ قاله في حياة الحيوان. وقال يحيى بن معين: من عاجل الرياسة فاته كثير من العلم، وقيل: إن السيادة تحصل بالعلم وكلما زاد العلم زادت السيادة.
قوله: تسودوا بفتح الواو المشدد مشتقا من السويد الذي من السياد، قاله الكرماني
(3)
. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: عليكم بالعلم فوالذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، وإن أحدًا لم يولد عالمًا، وإنما العلم بالتعلم
(4)
.
وقال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك
(5)
.
(1)
أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/ 92).
(2)
إحياء علوم الدين (1/ 61)، وحياة الحيوان (1/ 504).
(3)
الكواكب الدراري (2/ 41).
(4)
ذكره بتمامه الغزالى في الإحياء (1/ 8). وأخرج قوله وإن أحدا إلى آخره، وكيع في الزهد (518)، وابن أبي شيبة (26123 و 26124)، وأحمد في الزهد (899).
(5)
أخرجه أبو هلال العسكرى في الحث على طلب العلم (ص 52 - 53)، وأبو الحسين الطيورى في الطيوريات (504).
وسُئل عبد الله بن المبارك: من الناسُ؟ قال العلماء قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قيل: فمن السفهاء؟ قال: الذي يأكل الدنيا بدينه
(1)
.
قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: العلماء الصادقون أشفق على العباد من الآباء والأولاد، لأن الآباء يحفظونهم من عاهات الدنيا والعلماء يحفظونهم من عاهات الدنيا والآخرة.
وقال بعضهم
(2)
: الولادة نوعان، أحدهما: هذه المعروفة، والثانية: ولادة القلب والروح، قال: وهذه الولادة لما كانت بسبب الرسول كان كالأب لهم، وقد قرأ:(وهو أب لهم)، ومعنى هذه القراءة في قوله:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}
(3)
إذ ثبوت أمومة أزواجه لهم فرع على ثبوت أبوته، قالى: فالشيخ والمعلم والمؤدب أبو الروح والوالد أبو الجسم
(4)
. وعن الشيخ نور الدين الهاشمي: من علم العلم كان خير أب ذاك أبو الروح لا أبو الجسد
(5)
، قيل للإسكندر: لم تكرم معلمك فوق إكرام أبيك؟ فقالى: إن معلمي سبب حياتي الباقية وأبي سبب حياتي الفانية
(6)
، وسئل بعض العلماء: العلم أفضل أم المال؟ قال: العلم، قيل: فما بالى الناس ترى أهل العلم على أبواب أصحاب
(1)
أخرجه الدينورى في المجالسة (300)، وابن بشران في الأمالى (592)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 167 - 168)، والخطيب في تاريخ بغداد (8/ 88)، والطيورى في الطيوريات (587).
(2)
قاله ابن تيمية كما في الروح (ص 83)، ومدارج السالكين (3/ 70).
(3)
سورة الأحزاب، الآية:6.
(4)
مدارج السالكين (3/ 70).
(5)
أدب الدنيا والدين (ص 77).
(6)
التبر المسبوك (1/ 106).
الأموال أكثر مما ترى أصحاب الأموال على أبواب العلماء، قال: لأن العلماء عرفوا منفعة الأموال والحاجة إليها، وجهل أصحاب الأموال منفعة العلم وفضله
(1)
، ذكره صاحب كتاب النوازل للحنفية، والله أعلم.
132 -
وَرُوِيَ عَن أبي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يبْعَث الله الْعباد يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يُمَيّز الْعلمَاء فَيَقُول يَا معشر الْعلمَاء إِنِّي لم أَضَع علمي فِيكُم لأعذبكم اذْهَبُوا فقد غفرت لكم. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير
(2)
.
133 -
وَرُوِيَ عَن أبي أُمَامَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بجاء بالعالم وَالْعَابِد فَيُقَال للعابد ادخل الْجنَّة وَيُقَال للْعَالم قف حَتَّى تشفع للنَّاس رَوَاهُ الْأَصْبَهَانِيّ وَغَيره
(3)
.
(1)
قاله بزرجمهر كما في أدب الدنيا والدين (ص 37).
(2)
أخرجه الرويانى (542)، والطبراني في الصغير (1/ 354 رقم 591)، وابن عدى في الكامل (5/ 177)، والبيهقي في المدخل (567)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (232 و 233)، والأصبهانى في الترغيب والترهيب (2158)، وابن عساكر في المعجم (1070)، وابن الجوزى في الموضوعات (1/ 263). وقال الطبراني: لا يروى عن أبي موسى إلا بهذا الإسناد تفرد به عمرو بن أبي سلمة. قال ابن عدي: هذا الحديث بهذا الإسناد باطل. قال أحمد بن حنبل: لا تحل عندي الرواية عن موسى بن عبيدة. قال ابن حبان: ولا يحل الاحتجاج بخبر طلحة بن زيد.
وقال العراقى في تخريج الإحياء (14): رواه الطبراني من حديث أبي موسى بسند ضعيف. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 126 - 127: رواه الطبراني في الكبير، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف جدا. وضعفه الألباني جدا في الضعيفة (868) وحكم عليه بالوضع فيضعيف الترغيب (62).
(3)
أخرجه الأصبهانى فيالترغيب والترهيب (2157). وقال الألباني: موضوع ضعيف الترغيب (63).
134 -
وَرُوِيَ عَن جَابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يبْعَث الْعَالم وَالْعَابِد فَيُقَال للعابد ادخل الْجنَّة وَيُقَال للْعَالم اثْبتْ حَتَّى تشفع بِمَا أَحْسَنت أدبهم رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره
(1)
.
135 -
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن عمرو قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فضل الْعَالم على العابد سَبْعُونَ دَرَجَة مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْفرس سبعين عَاما وَذَلِكَ لَان الشَّيْطَان يبدع الْبِدْعَة للنَّاس فيبصرها الْعَالم فينهى عَنْهَا وَالْعَابِد مقبل على عبَادَة ربه لا يتَوَجَّه لهَا وَلا يعرفهَا رَوَاهُ الْأصْبَهَانِيّ
(2)
وَعجز الحَدِيث يشبه المدرج.
حضر الْفرس يَعْنِي عدوه.
قوله: عن عبد الله بن عمر، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد سبعون درجة، ما بين كل درجتين، حضر الفرس سبعون عامًا" الحديث، حضر الفرس: هو بضم الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة بعدها راء مهملة، وأحضر فحضر فهو محضر إذا عدا، ومنه الحديث: أنه أقطع الزبير حُضرَ فرسه بأرض المدينة
(3)
، وقد فسره الحافظ رحمه الله بغير ضبط لحروفه، فقال: هو عدوه أي: جريه.
(1)
أخرجه ابن عدى في الكامل (3/ 327) و (8/ 189)، والبيهقي في الشعب (3/ 234 رقم 1588)، والخطيب في المسفق والمفترق (1/ 691). وقال البيهقي: تفرد به مقاتل بن سليمان. وقال الألباني في الضعيفة (6805) وضعيف الترغيب (64): موضوع.
(2)
أخرجه الأصبهانى في الترغيب والترهيب (2143). وضعفه الألباني جدا في ضعيف الترغيب (65) وقال في الضعيفة (6578): منكر جدًّا.
(3)
النهاية (1/ 398).
136 -
وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقِيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة روح بن جنَاح تفرد بِهِ عَن مُجَاهِد عَنهُ
(1)
.
قوله: عن ابن عباس، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" الحديث، يقول: وجود فقيه واحد بين الناس أشد على الشيطان من ألف عابد لأن الفقيه يأمر الناس بالدين والسنة ويصلحهم بالإرشاد والنصيحة، والشيطان يأمرهم بالمنكر والفحشاء والمعاصي والبغضاء
(2)
.
قال الغزالي في أوائل الإحياء: قد سأل فرقد السبخي الحسن البصري عن شيء فأجابه، فقال: إن الفقهاء يخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمك يا فريقد، وهل رأيت فقيهًا بعينك، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه والمداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم، ولم يقل [يعني الحسن البصري]:
(1)
أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3/ 308)، والفاكهى في أخبار مكة (283)، وابن ماجه (222)، والترمذي (2681)، والفريابى في الفوائد (21)، وابن المنذر في الأوسط (24)، والآجرى في أخلاق العلماء (ص 24 و 25)، والطبراني في الكبير (11/ 78 رقم 11099) والشاميين (1109). وقال الترمذى: هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الوليد بن مسلم. وقال الألباني: موضوع، المشكاة (217)، وضعيف الترغيب (66) وقال: ضعيف جدًّا.
(2)
انظر المفاتيح (1/ 318) وشرح المشكاة (2/ 678) للطيبى.
الحافظ لفروع الفتاوى، فهذا هو الفقيه الذي أشد على الشيطان من ألف عابد، وأما غيره من فقهاء زماننا فلا
(1)
.
تتمة: فرقد السبخي، كنيته: أبو يعقوب، فرقد بن يعقوب السبخي، بفتح السين والباء الموحدة، وفي آخره معجمة نسبته إلى السبخة وهي مكان بالبصرة، كان يأوى إليها فنسب إليها، وأصله من عباد أهل أرمينية، وانتقل إلى البصرة، وروى عن الحسن البصري، وروى عن أنس بن مالك، وروى عنه: العراقيون، قال أحمد: رجل صالح، لم يكن صاحب حديث.
وقال ابن عدي: كان يعد من صالحي أهل البصرة، وليس له كثير حديث، كان يقول: إن ملوك بني إسرائيل كانوا يقتلون قراءهم على الدين، وإن ملوككم إنما يقتلونكم على الدنيا
(2)
، وقال: قرأت في التوراة، من أصبح حزينًا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه، ومن جالس غنيًا فتضعضع له ذهب ثلثا دينه، ومن أصابته مصيبة فشكاها إلى الناس كأنما يشكو ربه عز وجل
(3)
؛ وقال: قرأت في التوراة، أمهات الخطايا ثلاث: الكبر والحسد والحرص، فاستل من هؤلاء الثلاث ست فصارت تسعًا: الشبع والنوم والراحة وحب المال وحب الجماع وحب الرياسة
(4)
، وتوفي رحمه الله، قيل: سنة إحدى
(1)
إحياء علوم الدين (1/ 32 - 33).
(2)
حلية الأولياء (3/ 46).
(3)
حلية الأولياء (3/ 45 - 46).
(4)
حلية الأولياء (3/ 45).
وثلاثين ومائة، ولم يكن بالحافظ للحديث، انتهى، قاله ابن الأثير في الأنساب
(1)
، والله أعلم.
137 -
وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من فقه فِي دين ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَلكُل شَيْء عماد وعماد هَذَا الدّين الْفِقْه وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة لِأن أَجْلِس سَاعَة فأفقه أحب إِلَيّ من أَن أحيي لَيْلَة الْقدر رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ إِلَا أَنه قَالَ أحب إِلَيّ من أَن أحيي لَيْلَة إِلَى الصَّباح وَقَالَ الْمَحْفُوظ هَذَا اللَّفْظ من قَول الزُّهْرِيّ
(2)
.
(1)
اللباب (2/ 99).
(2)
أخرجه الحكيم الترمذى في نوادر الأصول (113) و (1407)، والآجرى في أخلاق العلماء (ص 23)، والطبراني في الأوسط (6/ 194 رقم 6166)، وابن عدى (2/ 50)، والدارقطنى (3085)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 192 - 193)، والقضاعى في مسند الشهاب (206)، والبيهقي في الشعب (3/ 231 - 232 رقم 1584) و (3/ 233 - 234 رقم 1587)، والخطيب في الجامع (1328) وتاريخ بغداد (3/ 703)، وابن الجوزى في: العلل (194 و 195). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن صفوان بن سليم إلا يزيد بن عياض. قال الدارقطنى في العلل (1676): حدث به عمر بن سعيد المنبجي، عن هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن روح بن جناح، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ووهم فيه. وإنما رواه الوليد بن مسلم، عن روح بن جناح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعند روح بن جناح، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة البيت المعمور، وسئل الشيخ أبو الحسن، عن روح بن جناح متروك؟ قال: لا. وقال أبو نعيم: رواه هياج بن بسطام، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سليمان نحوه تفرد به يزيد بن عياض عن صفوان. قال ابن الجوزى: هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه خلف بن يحيى. قال أبو =
قوله: عن أبي هريرة، تقدم الكلام عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما عبد الله بشيء أفضل من فقه، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" الحديث، تقدم الكلام على ذلك، وبسنده عن أبي هريرة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لكل شيء دعامة، ودعامة الإسلام الفقه في الدين، والفقيه أشد على الشيطان من ألف عابد"
(1)
وفي تاريخ أصبهان في ترجمة محمد بن أبان عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التفقه في الدين حق على كل مسلم"
(2)
.
138 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: أَنه مر بسوق الْمَدِينَة فَوقف عَلَيْهَا فَقَالَ: يَا أهل السُّوق مَا أعجزكم قَالُوا وَمَا ذَاك يَا أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: ذَاك مِيرَاث رَسُول الله
= حاتم: الرازي لا يشتغل بحديثه وأما محمد بن إبراهيم متروك. وقال ابن الجوزى في الموضع الثانى: قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن أبي أبي الربيع قال هيثم كان أبو الربيع يكذب وقال يحيى ليس بثقة وقال الدارقطني: متروك وقال ابن حبان: يروي عن الأئمة الموضوعات. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 121: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه يزيد بن عياض، وهو كذاب. وقال الألباني: موضوع الضعيفة (2651) و (4461) و (5159) وضعيف الترغيب (67).
(1)
أخرجه أحمد بن منيع كما في المطالب (3088)، وابن عدى في الكامل (2/ 50)، ومن طريقه البيهقي في الشعب (3/ 233 - 234 رقم 1587) وابن الجوزى في العلل (195)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 192 - 193)، والخطيب في الجامع (1328). قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن أبي أبي الربيع قال هيثم كان أبو الربيع يكذب وقال يحيى ليس بثقة وقال الدارقطني: متروك وقال ابن حبان: يروي عن الأئمة الموضوعات.
(2)
أخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/ 144).
- صلى الله عليه وسلم يقسم وَأَنْتُم هَا هُنَا أَلا تذهبون فتأخذون نصيبكم مِنْهُ قَالُوا وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي الْمَسْجِد فَخَرجُوا سرَاعًا ووقف أَبُو هُرَيْرَة لَهُم حَتَّى رجعُوا فَقَالَ لَهُم مَا لكم فَقَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَة قد أَتَيْنَا الْمَسْجِد فَدَخَلْنَا فِيهِ فَلم نر فِيهِ شَيْئا يقسم فَقَالَ لَهُم أَبُو هُرَيْرَة وَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِد أحدا قَالُوا بلَى رَأينَا قوما يصلونَ وقوما يقرؤون الْقُرْآن وقوما يتذاكرون الْحَلَال وَالْحرَام فَقَالَ لَهُم أَبُو هُرَيرَة وَيحكم فَذَاك مِيرَاث مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط بِإِسْنَاد حسن
(1)
.
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 114 - 115 رقم 1429). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عبد الله بن الرومي إلا علي بن مسعدة. قال الهيثمى في المجمع 1/ 123 - 124: رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن. وقال العراقي في تخريج الإحياء (925): أخرجه الطبراني في المعجم الصغير بإسناد فيه جهالة أو انقطاع. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (83).