المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الترغيب بها سماع الحديث وتبليغه ونسخه والترهيب من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب - جـ ١

[حسن بن علي الفيومي]

فهرس الكتاب

- ‌أهمية هذا الكتاب:

- ‌القسم الأول ترجمة الحافظ المنذري

- ‌ولادته ونشأته:

- ‌نشأته وتعلمه:

- ‌شيوخه:

- ‌ومن أهم شيوخه:

- ‌تلاميذه:

- ‌مؤلفاته:

- ‌ثناء العلماء عليه:

- ‌أهم مؤلفاته:

- ‌وفاته:

- ‌القسم الثاني دراسة موجزة لكتاب الترغيب والترهيب للمنذري

- ‌الباعث على تأليفه:

- ‌موضوعه:

- ‌مصادره وكيفية عزوه إليها:

- ‌اصطلاحه في الكتاب:

- ‌حكمه على الحديث:

- ‌القيمة العلمية للكتاب:

- ‌تعقبات على الترغيب والترهيب:

- ‌مختصرات الترغيب والترهيب:

- ‌القسم الثالث ترجمة الشارح

- ‌اسمه، ونسبه، ونسبته:

- ‌شيوخه:

- ‌وأما أقرانه:

- ‌تلاميذه:

- ‌مكانته العلمية، وثناء العلماء عليه وبعضر الانتقادات التي وجِّهت إليه:

- ‌عقيدته:

- ‌آثاره العلمية:

- ‌القسم الرابع: التعريف بكتاب فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب

- ‌نسبة الكتاب إليه وسبب تأليفه:

- ‌سبب تأليفه:

- ‌موضوع الكتاب:

- ‌موارد المؤلف في الكتاب، وطريقته في النقل منها:

- ‌أولًا: موارد المؤلف في الكتاب:

- ‌ثانيًا: منهجه وطريقته في النقل

- ‌المطلب الرابع: القيمة العلمية للكتاب، والمآخذ عليه

- ‌أولًا: القيمة العلمية للكتاب

- ‌ثانيًا: أهم المآخذ عليه:

- ‌وَصْفُ النُّسَخ الخَطِّيَّة المُعْتَمَدَةِ في التَّحقِيق، وصورٌ منها:

- ‌عملي في الكتاب:

- ‌أولًا: تحقيق النص:

- ‌منهجي في التحقيق:

- ‌توثيق النص:

- ‌نماذج من النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق

- ‌فصل فيما يتعلق بما [يخصه] قوله: "الحمد للّه

- ‌فصل في ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم

- ‌الترغيب في الإخلاص والصدق والنية

- ‌خاتمة في المدح والذم

- ‌فصل

- ‌المعصية بأحد الحرمين

- ‌الترهيب من الرياء، وما يقوله من خاف شيئا منه

- ‌[من صلى فطولها من أجل الناس]

- ‌[سيدنا عوف بن مالك الأشجعي الصحابي]:

- ‌ عبد الملك بن مروان

- ‌[المعصية بأحد الحرمين]:

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌[الترغيب في إتباع الكتاب والسنة]

- ‌الترهيب من ترك السنة وارتكاب البدع والأهواء

- ‌خاتمة الباب

- ‌[التَّرْغِيب فِي الْبدَاءَة بِالْخَيرِ ليستن بِهِ والترهيب من الْبدَاءَة بِالشَّرِّ خوف أَن يستن بِهِ]

- ‌كتاب العلم

- ‌الترغيب في العلم وطلبه وتعلمه وتعليمه وما جاء في فضل العلماء والمتعلمين

- ‌فصل

- ‌فصلٌ

- ‌فصل

- ‌الترغيب في الرحلة في طلب العلم

- ‌الترغيب بها سماع الحديث وتبليغه ونسخه والترهيب من الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌الترغيب بها سماع الحديث وتبليغه ونسخه والترهيب من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم

‌الترغيب بها سماع الحديث وتبليغه ونسخه والترهيب من الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

-

150 -

عَن ابْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُول نضر اللّه امْرأ سمع منا شَيْئا فَبَلغهُ كَمَا سَمعه فَرب مبلغ أوعى من سامع رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه إِلَّا أَنه قَالَ رحم اللّه امْرأ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح

(1)

قَوْله نضر هُوَ بتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة وتخفيفها حَكَاهُ الْخطابِيّ وَمَعْنَاهُ الدُّعَاء لَهُ بالنضارة وَهِي النِّعْمَة والبهجة وَالْحسن فَيكون تَقْدِيره جمله اللّه وزينه وَقيل غير ذَلِك.

قوله: عن ابن مسعود، تقدم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر اللّه امرأ سمع منا حديثًا" الحديث، نضر: هو بتشديد الضاد المعجمة وتخفيفها، حكاه الخطابي، انتهى، قاله الحافظ.

وقال بعضهم: رواه أبو عبيدة بالتخفيف، ورواه الأصمعي بالتشديد، ورجح التخفيف الخطابي وابن خلاد، ولم يذكر العسكري سواه، وكلاهما يقال، وإنما الكلام في الرِّواية يقال: نضَّر اللّه وجهه ونَضَر وجهه وأنضر اللّه وجهه ثلاث لغات

(2)

، قيل معناه: الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة

(1)

أخرجه الترمذي (2657) و (2658)، وابن ماجة (232)، وابن حبان (66 و 68 و 69).

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني: حسن صحيح صحيح الترغيب (89)، المشكاة (230).

(2)

انظر مشارق الأنوار (2/ 16).

ص: 747

والحسن، فيكون تقديره: زينه اللّه وجمله، قاله المنذري؛ وقيل: أوصله اللّه إلى نضرة النعيم وهي نعميها

(1)

، قال اللّه تعالى:{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)}

(2)

وقال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}

(3)

وقيل

(4)

: ليس هذا من الحسن، إنما معناه: حسن اللّه وجهه في الناس أي: جاهه وقدره، وكان بعض أهل العلم يقول: إني لأرى في وجوه أهل الحديث نضرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر اللّه امرأً" يعني: أنها دعوة أجيبت

(5)

، ومما أنشده هبة اللّه بن الحسن الشيرازي

(6)

:

عَلَيْكَ بِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ

عَلَى مَنْهَج لِلدِّينِ مَا زَالَ مُعْلَمَا

وَمَا النُّورُ إِلا فِي الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ

إِذَا مَا دَجَى اللَّيْلُ الْبَهِيمُ وَأَظْلَمَا

وَأَعْلَى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى السُّنَنِ اعْتَزَى

وَأَغْبَى الْبَرَايَا مَنْ إِلَى الْبِدَعِ انْتَمَى

وَمَنْ تَرَكَ الآثَارَ ضُلِّلَ سَعْيُهُ

وَهَلْ يَتْرُكُ الآثَارَ مَنْ كَانَ مُسْلِمَا؟

قوله: "فبلغه كما سمعه" وتأدية الحديث كما سمع لا تكاد تحصل إلا من الكتاب لأن الحفظ خوان، وروى أبو هريرة أن رجلًا شكى إلى رسولى اللّه صلى الله عليه وسلم الحفظ، فقالى:"استعن على حفظك بيمينك " يعني: الكتاب

(7)

، وروى

(1)

مطالع الأنوار (4/ 177).

(2)

سورة المطففين، الآية:24.

(3)

سورة الإنسان، الآية:11.

(4)

المغرب في ترتيب المعرب (1/ 467)

(5)

التعيين في شرح الأربعين (ص 22).

(6)

تساعيات العطار (59)، ومسألة العلو والنزول في الحديث (ص 18) لابن القيسراني.

(7)

أخرجه الترمذي (2666)، والبزار (8989)، والطبراني في الأوسط (1/ 244 رقم 801)، =

ص: 748

عن رافع بن خديج قال: قلنا يا رسول اللّه إنا نسمع منك أشياء، أفنكتبها؟ قال:"اكتبوا ولا حرج"

(1)

، وقال في النهاية

(2)

: وفي الحديث: "لا تكتبوا عني غير القرآن" وجه الجمع بين هذا. الحديث وبين إذنه في كتابة الحديث، فإنه قد ثبت إذنه فيها، أن الإذن في الكتابة ناسخ للمنع منها بالحديث الثابت وبإجماع الأمة على جوازها، وقيل: إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، والأولى الوجه، انتهى.

قالى أبو الفرج بن الجوزي

(3)

: ولتعلم أن الصحابة ضبطت ألفاظ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وحركاته وأفعاله فاجتمعت الشريعة من رواية هذا ورواية هذا، وقد

= والعقيلي في الضعفاء (3/ 83)، وابن عدي في الكامل (3/ 59 و 69)، وابن شاهين في الناسخ والمنسوخ (625)، والخطيب في تقييد العلم (ص 65 و 66 و 67) وفي الجامع لأخلاق الراوي (554) عن أبي هريرة، قال أبو حاتم في العلل (2541): هذا حديث منكر، وخصيب ضعيف الحديث.

وقال الترمذي: هذا حديث إسناده ليس بذلك القائم وسمعت محمد بن إسماعيل، يقول: الخليل بن مرة منكر الحديث. وقال الهيثمي في المجمع 1/ 152: رواه البزار، وفيه الخصيب بن جحدر، وهو كذاب. وضعفه الألباني في الضعيفة (2761).

(1)

أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (173)، والطبراني في الكبير (4/ 276 رقم 4410)، وابن شاهين في ناسخ الحديث (626)، والخطيب في تقييد العلم (ص 72 و 73). قال الهيثمي في المجمع 1/ 151: رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو مدرك، روى عن رفاعة بن رافع، وعنه بقية، ولم أر من ذكره.

(2)

النهاية (4/ 148).

(3)

تلبيس إبليس (ص 289).

ص: 749

قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية" انتهى.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فرب مبلغ" هو: بفتح لام مبلغ، أي: مبلغ إليه.

قوله: "أوعى من سامع" أوعى: أفعل التفضيل من الوعي وهو: الحفظ وقع صفة لمبلغ، وسامع: أي سامع مني، ولابد من هذا التقدير لأن المقصود ذلك، انتهى، قاله الكرماني

(1)

.

ففي هذا الحديث دليل على تبليغ العلم ونشره، وقد ثبت في صحيح البخاري:"بلغوا عني ولو آية وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"

(2)

، ومعناه: لينزل منزلة من النار، يقال: بوأه اللّه منزلا، أي: أسكنه إياه، وتبوأت منزلا: اتخذته، والمباءة: المنزل، قاله في النهاية

(3)

.

151 -

وَعَن زيد بن ثَابت قَالَ سَمِعت رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُول نضر اللّه امْرأ سمع منا حَدِيثا فَبَلغهُ غَيره فَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ وَرب حَامِل فقه لَيْسَ بفقيه ثَلاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم إخلاص الْعَمَل للّه ومناصحة وُلَاة الأمر وَلُزُوم الْجَمَاعَة فَإِن دعوتهم تحيط من وَرَاءَهُمْ وَمن كَانَت الدُّنْيَا نِيَّته فرق اللّه عَلَيْهِ أمره وَجعل فقره بَين عَيْنَيْهِ وَلم يَأْته من الدُّنْيَا إِلَا مَا كتب لَهُ وَمن كَانَت الآخِرَة نِيَّته جمع اللّه أمره وَجعل غناهُ فِي قلبه وأتته الدُّنْيَا وَهِي

(1)

الكواكب الدراري (2/ 27).

(2)

أخرجه البخاري (3461) عن عبد الله بن عمرو.

(3)

النهاية (1/ 159).

ص: 750

راغمة رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْبَيْهَقِيّ بِتَقْدِيم وَتَأْخِير وروى صَدره إِلَى قَوْله لَيْسَ بفقيه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه وَالنَّسَائيّ وَابْن مَاجَه بِزِيَادَة عَلَيْهِمَا

(1)

.

قوله: عن زيد بن ثابت، هو: زيد بن ثابت، الصحابي الأنصاري النجاري المدني القرطبي، كاتب الوحي والمصحف، كان عمره حين قدم رسول اللّه المدينة إحدى عشرة سنة، وحفظ قبل قدوم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا ست عشرة سورة، وقتل أبوه و لزيد بن ثابت ست سنين، واستصغره النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فرده، وكان يكتب الوحي لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويكتب له المراسلات أيضًا إلى الناس، وسيأتي الكلام على مناقبه مبسوطا

(2)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فرب حاول فقه إلى من هو أفقه منه" الحديث، فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ناقل السنة وواعيها، ودل على فضل الواعي بقوله صلى الله عليه وسلم:"فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه"، ولوجوب الفضل لأحدهما أثبت الفضل للآخر.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم" تقدم الكلام مبسوطا على الثلاث في أوائل هذا التعليق مبسوطًا، ودواء هذا الغل واستفراغ أخلاطه

(1)

أخرجه أبو داود (3660)، والترمذى (2656)، والنسائي في الكبرى (5816)، وابن ماجة (230)، وابن حبان (67) و (685). قال الألباني: صحيح - الصحيحة (950)، تخريج فقه السيرة (39)، صحيح الترغيب (90).

(2)

تهذيب الأسماء واللغات (1/ 200 - 202 الترجمة 186).

ص: 751

تجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه الثلاث تنفي الغل من قلب المسلم

(1)

، وتقدم الكلام على ذلك مبسوطًا.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ومناصحة الأمراء"، النصح لولاة الأمر هو: طاعتهم بها الحق ومعونتهم عليه وتذكيرهم وإعلامهم بما شغلوا عنه أو جهلوه بها أمر دينهم ومصالح دنياهم

(2)

، ولا يغتلهم ولا يذمهم ولا يلعنهم ولا يدعو عليهم، ومن النصيحة للولاة الدعاء لهم بالخير والصلاح بظهر الغيب كما قال الفضيل رحمة اللّه عليه: لو أن لي دعوة مجابة لجعلتها لإمام المسلمين، لأن بها صلاحه صلاح الدنيا والدين، وأن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إما شفاها أو رسالة، ويصدهم عن الظلم ويقبحه ويذكر لهم غوائل الظلم وشره وعواقبه.

قوله: "ولزوم الجماعة" فحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وأتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف كتيرًا لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وبها حديث آخر:"عليكم بالجماعة، فإن يد اللّه على الفسطاط، والفسطاط مجتمع الناس، وكل مدينة فسطاط"، ومعنى هذا الحديث: أن جماعة أهل الإسلام بها كنف اللّه ووقايته، فأقيموا بينهم ولا تفارقوهم، قاله بها النهاية

(3)

.

(1)

مدارج السالكين (2/ 90).

(2)

المفهم (2/ 10).

(3)

النهاية (3/ 445).

ص: 752

قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" الحديث، قال ابن الأثير في النهاية

(1)

: الدعوة المرة الواحدة من الدعاء أي: تحوطهم وتحفظهم، والظاهر: فتح الميم في "مَنْ وراءهم"، فهي موصولة مفعولا لتحيط.

قوله: "وَمن كَانَت الآخِرَة نِيَّته جمع اللّه أمره وَجعل غناهُ فِي قلبه وأتته الدُّنْيَا وَهِي راغمة" أي: كارهة.

152 -

وَرُوِيَ عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه: قَالَ خَطَبنَا رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم بِمَسْجِد الْخيف من منى فَقَالَ نضر اللّه امْرأ سمع مَقَالَتي فحفظها ووعاها وَبَلغهَا من لم يسْمعهَا ثمَّ ذهب بهَا إِلَى من لم يسْمعهَا أَلا فَرب حَامِل فقه لَا فقه لَهُ وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ الحَدِيث رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأوْسَط

(2)

.

قوله: عن أنس بن مالك، تقدم الكلام على مناقبه.

قوله: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمسجد الخيف من مني، الحديث؛ مسجد الخيف بفتح الخاء المعجمة وهو مسجد بمنى عظيم واسع جدًا، فيه عشرون بابًا، قال أهل اللغة: الخيف ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء، وبه سمي مسجد الخيف

(3)

، ويستحب الإكثار من الصلاة في مسجد

(1)

النهاية (2/ 122).

(2)

أخرجه أحمد 3/ 225 (13350)، وابن ماجة (236)، والطبراني في الأوسط (9/ 170 - 171 رقم 9444). وقال الطبراني: لم يرو هذأ الحديث عن زيد بن أسلم إلا ابنه، تفرد به عطاف بن خالد ومحمد بن شعيب بن شابور. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (91).

(3)

غريب اللغة (1/ 275) والصحاح (4/ 1359)، والنهاية (2/ 93)، والمجموع شرح المهذب (8/ 238).

ص: 753

الخيف، فقد روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "صلى في مسجد الخيف سبعون نبيًا منهم: موسى صلى الله عليه وسلم، كأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطوانيتان وهو محرم على بعير من إبل شنوءة مخطوم بخطام ليف له ضفيرتان"

(1)

وسيأتي الكلام على هذا الحديث وتفسير غريبه في الحج إن شاء اللّه تعالي، وأن يصلي أمام المنارة عند الأحجار التي أمامها، فقد روى الأوزاعي أنه مصلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويستحب أن يحافظ على حضور الجماعة فيه مع الإمام في الفرائض، فقد روى الأزرقي في مسجد الخيف والصلاة فيه آثارًا كثيرة وبسط القول في فضله وبيان مساحته وما يتعلق به، انتهى، قاله النووي في منسكه الكبير

(2)

.

153 -

وَعَن جُبَير بن مطعم قَالَ سَمِعت رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم بالخيف خيف منى يَقُول نضر اللّه عبدا سمع مَقَالَتي فحفظها ووعاها وَبَلغهَا من لم يسْمعهَا فَرب حَامِل فقه لَهُ وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ ثَلَاث لا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُؤمن إخلاص الْعَمَل للّه والنصيحة لائمة الْمُسلمين وَلُزُوم جَمَاعَتهمْ فَإِن دعوتهم تحفظ من وَرَاءَهُمْ رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير

(1)

أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 312 رقم 5407) والكبير (11/ 452 رقم 12283).

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عطاء بن السائب إلا محمد بن فضيل، تفرد به: عبد اللّه بن هاشم الطوسي. وقال الهيثمى في المجمع 3/ 221 و 297: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. وحسنه الألباني في الصحيحة (2023) وصحيح الترغيب (1127).

(2)

الإيضاح في مناسك الحج والعمرة (ص 370).

ص: 754

مُخْتَصرا وَمُطَولًا إِلَّا أَنه قَالَ تحيط بياء بعد الْحَاء رَوَوْهُ كلهم عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن عبد السَّلَام عَن الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبيه وَله عِنْد أَحْمد طَرِيق عَن صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ وَإسْنَاد هَذِه حسن

(1)

.

قوله: عن جبير بن مطعم، هو: جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، كنيته: أبو محمد، وقيل: أبو عدي الصحابي الجليل، روى عنه: ابناه ومحمد بن نافع وسليمان بن صرد وسعيد بن المسيب وأبو سلمة وعبد اللّه بن بابا وطائفة، وكان علامة بالنسب، أخذه من أبي بكر، وكان حليما وقورًا سيدا، قال ابن إسحاق: حدّثني عبد اللّه بن أبي بكر وغيره قالوا: أعطى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم فأعطى جبير بن مطعم مائة من الإبل وحسن إسلامه، وسلحه عمر بسيف النعمان بن المنذر حين أتي به، توفي سنة تسع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين

(2)

. انتهى.

قوله: سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالخيف، خيف مني، يقول:"نضر اللّه عبدًا سمع مقالتي فحظها ووعاها" تقدم في حديث زيد وابن مسعود وأنس: "امرأ سمع مقالتي"، وفي حديث جبير هذا:"عبدًا" وتقدم الكلام على تفسير ألفاظ هذا الحديث في الأحاديث قبله.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن دعوتهم تحوط من وراءهم" هكذا رواه الإمام أحمد وابن

(1)

أخرجه أحمد 4/ 80 (16738) و 4/ 82 (16754)، وابن ماجة (3056)، والطبراني في الكبير (2/ 126 - 127 رقم 1541 - 1544). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (92)، الروض النضير (276)، الصحيحة (403).

(2)

تهذيب الأسماء واللغات (1/ 146 - 147 الترجمة 103).

ص: 755

ماجة، ورواه الطبراني في الكبير إلا أنه قال:"فإن دعوتهم تحيط" بياء بعد الحاء، انتهى، قاله الحافظ المنذري، قال في النهاية

(1)

: أي: تحدق بهم من جميع جوانبهم، يقال: حاطه وأحاط به، ومنه: قولهم: أحطت به علما أي: أحدق علمي به من جميع جهاته، وعرفته، وفي حديث العباس قلت: يا رسول اللّه، ما أغنيت عن عمك، يعني: أبا طالب يحوطك ويغضب لك، يقال: حاطه يحوطه حوطا وحياطة إذا حفظه وصانه وذب عنه وتوفر على مصالحه، انتهى.

قوله صلى الله عليه وسلم: "والنصيحة لأئمة المسلمين"، والمراد بالأئمة: أصحاب الحكومة وهم الولاة من الخلفاء الراشدين فمن بعدهم ممن يلي أمور هذه الأمة افتراض طاعتهم، وقد يتأول ذلك في الأئمة الذين هم علماء الدين، ومن نصيحتهم قبول ما رووه إذا انفردوا ومتابعتهم إذا اجتمعوا

(2)

. واللّه أعلم.

قوله في الكلام على رجال الحديث: رووه كلهم عن محمد بن إسحاق، هو: أبو بكر محمد بن إسحاق بن يسار المدني التابعي، صاحب كتاب المغازي، كان عالما بالمغازي وعلوم الشرع، قدم بغداد وحدّث بها، رأى أنس بن مالك، وعليه عمامة سوداء والصبيان خلفه يشيرون ويقولون: هذا صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا يؤت حتى يلقى الرجال، مات ابن إسحاق ببغداد سنة خمسين ومائة، ودفن بمقبرة الخيرزان وهو اليوم مشهور بمشهد الإمام أبي حنيفة

(3)

.

(1)

النهاية (1/ 461).

(2)

شرح السنة (13/ 95).

(3)

تهذيب الكمال (24/ الترجمة 5057)، وتذهيب تهذيب الكمال (8/ الترجمة 5774).

ص: 756

قوله: وله عند أحمد طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري، هو: صالح بن كَيسان بفح الكاف وبالياء الساكنة والسين المهملة المدني التابعي أبو محمد، ويقال: أبو الحارث مؤدب أولاد عمر بن عبد العزيز، رأى ابن عمر وابن الزبير، وقال ابن مَعين: سمع منهما، وروى عن نافع وسالم والأعرج وسليمان بن يسار ونافع بن جبير والزهري وجماعة؛ وقال مصعب بن الزبير: كان مولى لامرأة من دوس، وكان عالمًا جامعًا للفقه والحديث والمروءة؛ سئل الإمام أحمد عنه، فقال: خرج وقال هو أكبر من الزهري ووثقه ابن مَعين وغيره، قال الحاكم: مات وهو ابن مائة ونيف وستين سنة، وابتدأ بالعلم وهو ابن تسعين سنة، قال الذهبي: هذا غلط فاحش من الحاكم أبي عبد اللّه، ولعله لم يجاوز السبعين، ولو كان ابتدأ على ما ورخ لأخذ عن سعد وأبي هريرة وعائشة، قال الواقدي: مات بعد الأربعين ومائة

(1)

، واللّه أعلم، قاله في شرح الإلمام.

154 -

وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ ارْحَمْ خلفائي قُلْنَا يَا رَسُول اللّه وَمن خلفاؤك قَالَ الَّذين يأْتونَ من بعدِي يروون أحاديثي ويعلمونها النَّاس رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأوْسَط

(2)

.

قوله: عن ابن عباس، تقدم الكلام على مناقبه.

(1)

تهذيب الكمال (13/ الترجمة 2834)، وتذهيب تهذيب الكمال (4/ الترجمة 2874).

(2)

أخرجه الطبراني في الأوسط (6/ 77 رقم 5846). قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن زيد بن أسلم إلا هشام بن سعد، ولا عن هشام إلا أبي فديك، تفرد به أحمد بن عيسى العلوي. وقال الهيثمى في المجمع 1/ 126: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أحمد بن عيسى بن عبد اللّه الهاشمي، قال الدَّارقُطْنِي: كذاب. وقال الألباني: موضوع ضعيف الترغيب (74).

ص: 757

قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم خلفائي" الحديث، الخليفة: من يقوم مقام الذاهب ويسد مسده

(1)

، وقال الجوهري

(2)

: فقال خلف فلان فلانًا إذا كان خليفته، يقال: خلفه في قومه خلافة، قال اللّه تعالى:{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ}

(3)

والهاء فيه، في: الخليفة، للمبالغة، وجمعه: الخلفاء على معنى التذكير لا على اللفظ مثل ظريف وظرفاء.

جاء أعرابي إلى أبي بكر الصديق فقال: أنت خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال: لا، قال: فأنت الخالفة بعده، اعلم أن الخالفة في اللغة: الذي لا غناء عنده ولا خير فيه

(4)

، وكذلك الخلف، ومنه قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}

(5)

وفي حديث آخر: إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "على خلفائي رحمة اللّه" قيل: من خلفاؤك؟ قال: "من يحيون سنتي ويعلمونها عباد اللّه" رواه ابن عبد البر في كتاب العلم والهروي في ذم الكلام من حديث الحسن

(6)

، قاله في الديباجة.

(1)

النهاية (2/ 69).

(2)

الصحاح (4/ 1356).

(3)

سورة الأعراف، الآية:142.

(4)

النهاية (2/ 69).

(5)

سورة مريم، الآية:59.

(6)

أخرجه ابن بطة في الإبانة (37)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (220)، والهروى في ذم الكلام (708). وقال الألباني: باطل الضعيفة (854).

ص: 758

155 -

وَعَن أبي الردين قَالَ قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم مَا من قوم يَجْتَمعُونَ على كتاب اللّه يتعاطونه بَينهم إِلَّا كَانُوا أضيافا للّه وَإِلَّا حفتهم الْمَلَائِكَة حَتَّى يقومُوا أَو يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَمَا من عَالم يخرج فِي طلب علم مَخَافَة أَن يَمُوت أَو انتساخه مَخَافَة أَن يدرس إِلَا كَانَ كالغازي الرَّائِح فِي سَبِيل اللّه وَمن يبطئ بِهِ عمله لم يسْرع بِهِ نسبه رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش

(1)

.

قوله: عن أبي الردين، واسمه [لم يذكر شيء في تسميته، سكن الشام]

(2)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يجتمعون على كتاب اللّه يتعاطونه بينهم إلا كانوا أضيافًا للّه إلا حفتهم الملائكة" الحديث، ففي هذا الحديث دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وتقدم ذلك، وقال مالك: يكره

(3)

.

قوله: "وإلا حفتهم الملائكة" أي: يطوفون بهم ويدورون حولهم للتبرك والرغبة فيما عندهم

(4)

.

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 337 رقم 844). قال الهيثمي في المجمع 1/ 122: رواه الطبراني في الكبير، وفيه إسماعيل بن عيَّاش، وهو مختلف في الاحتجاج به. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (75).

(2)

الكنى لمن لا يعرف له اسم (ص 30)، ومعرفة الصحابة (5/ 2891)، والإصابة (7/ الترجمة 9897).

(3)

شرح النووي على مسلم (17/ 21 - 22).

(4)

النهاية (1/ 408).

ص: 759

قوله صلى الله عليه وسلم: "وما من عالم يخرج في طلب العلم مخافة أن يموت أو انتساخه مخافة أن يدرس إلا كان كالغازي الرائح في سبيل اللّه" الحديث، قال الحافظ رحمه الله: وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من قرأه ونسخه أو عمل به من بعده ما خطه والعمل به لهذا الحديث وامثتاله، وناسخ غير النافع مما يوجب الإثم عليه وزره ووزر من قرأه أو نسخه أو عمل به من بعده ما بقي خطه والعمل به لما تقدم من الأحاديث:"من سن سنة حسنة وسيئة" واللّه أعلم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن يبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" تقدم الكلام على ذلك قريبًا.

قوله في الكلام على رجال الحديث: رواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش؛ أما إسماعيل بن عيَّاش فمثناة من تحت وبالشين المعجمة، فهو: إسماعيل بن عياش بن سليم أبو عتبة العنسي الجمعي، عالم الشام، وأحد مشايخ الإسلام، قال أبو خيثمة: كان أحول، وعن يحيى الوحاظي قال: ما أكبر نفسا منه، كنا إذا أتينا مزرعته لا يرضى لنا إلا بالخروف والخبيص، وسمعته يقول: ورثت من أبي أربعة يلاف دينار فأنفقتها في طلب العلم، وكان يحفظ شيئًا كثيرًا أربعين ألف حديث، قال يعقوب الفسوى: تكلم فيه قوم وهو ثقة عدل، وكان أعلم الناس بحديث الشام، أكثر ما تكلموا فيه قالوا: يغرب عن ثقات الحجازيين ووثقه يحيى بن مَعين، وقال: ليس به بأس في الشاميين، وقال دجيم: هو في الشاميين غاية، وقال البخاري: إذا حدّث عن أهل بلده فصحيح وعن غيرهم فيه نظر، وقال ابن عدي: لا يخلو عن غلط، قال الذهبي: وفي الجملة يحتج به في الشاميين خاصة، فعلم صنعته هنا، ولد

ص: 760

سنة اثنتين أو ستا أو ثمان ومائة، ومات سنة إحدى وثمانين ومائة

(1)

، انتهى، قاله في شرح الإلمام.

156 -

وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم يَنْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ رَوَاهُ مُسلم وَغَيره

(2)

وَتقدم هُوَ وَمَا يَنْتَظِم فِي سلكه وَيَأْتِي لَهُ نَظَائِر فِي نشر الْعلم وَغَيره إِن شَاءَ اللّه تَعَالَي، قَالَ الْحَافِظ وناسخ الْعلم النافع لَهُ أجره وَأجر من قَرَأَهُ أَو نسخه أَو عمل بِهِ من بعده مَا بَقِي خطه وَالْعَمَل بِهِ لهَذَا الحَدِيث وَأَمْثَاله وناسخ غير النافع مِمَّا يُوجب الإِثْم عَلَيْهِ وزره ووزر من قَرَأَهُ أَو نسخه أَو عمل بِهِ من بعده مَا بَقِي خطه وَالْعَمَل بِهِ لما تقدم من الأحَادِيث من سنّ سنة حَسَنَة أَو سَيِّئَة وَاللّه أعلم.

قوله: عن أبي هريرة، تقدم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" قال النووي: هكذا هو في نسخ مسلم، "انقطع عمله" وفي كثير منها "أمله" وكلاهما صحيح، والأول أجود وهو المذكور في الأحاديث

(3)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، المراد بالصدقة الجارية: الوقف، والمراد بالعلم: المنتفع به

(1)

تهذيب الكمال (3/ الترجمة 472)، وتذهيب تهذيب الكمال (1/ الترجمة 474).

(2)

أخرجه مسلم (14 - 1631)، وأبو داود (2880/ 1)، والترمذي (1376)، والنسائي 6/ 219 (3677).

(3)

شرح النووي على مسلم (17/ 8).

ص: 761

ليشمل المؤلفات وغيرها، ويدخل فيها وقفه أجنبي عليه أيضًا، وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شيء البتة لا دعاؤه ولا غيره، فالدليل على انتفاعه بما نسب إليه في حياته هذا الحديث، فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدلّ على أنها منه فإنه هو الذي تسبب إليها، ولذلك روى أن:"من سن سنة حسنة فاستن به كان له أجره وأجر من تبعه"

(1)

الحديث، وقد دل على هذا أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل"

(2)

(3)

فإذا كان هذا في العقاب ففي الفضل والثواب أولى وأحرى

(4)

.

157 -

وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: قَالَ قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم من صلى عَليّ فِي كتاب لم تزل الْمَلَائِكَة تستغفر لَهُ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِك الْكتاب رَوَاهُ الطبَرَانِيّ وَغَيره وَرُوِيَ من كَلَام جَعْفَر بن مُحَمَّد مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَهُوَ أشبه

(5)

.

(1)

أخرجه أحمد 5/ 387 (23289)، والبزار (2963 و 2864)، والطحاوى في مشكل الآثار (251) و (1542)، والحاكم 2/ 516 - 517. وقال الألباني حسن صحيح صحيح الترغيب (65).

(2)

أخرجه البخاري (3335) و (6867) و (7321)، ومسلم (27 - 1677) عن ابن مسعود.

(3)

هنا تقديم وتأخير يختلف عن المطبوع من الترغيب فراعينا ترتيب المطبوع.

(4)

الروح (ص 117 - 118).

(5)

أخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 232 رقم 1835)، والأصبهاني في الترغيب والترهيب (1697)، وابن الجوزى في الموضوعات (1/ 228). قال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد، تفرد به: إسحاق. قال ابن الجوزى: موضوع فيه يزيد بن عياض، قال يحيى: ليس بشيء، سئل مالك عن ابن سمعان فقال كذاب، فقيل فيزيد بن =

ص: 762

قوله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة، تقدم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب "الحديث، والمراد: باستغفار الملائكة الدعاء؛ وذكر القابسي القدسي أبو حفص عمر من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر، فيأمر اللّه عز وجل جبريل عليهم السلام أن يأتيهم، فيسألهم من هم؟ فيأتيهم فيسألهم، فيقولون: نحن أصحاب الحديث، فيقول اللّه عز وجل لهم: ادخلوا الجنة طال ما كنتم تصلون على نبيي صلى الله عليه وسلم

(1)

، وخرج عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة وضعت منابر من نور عليها قباب من در ثم ينادي مناد: أين الفقهاء؟ وأن الأئمة والمؤذنون؟ اجلسوا على هذه فلا روع

= عياض قال أكذب وأكذب، وقال النسائي: متروك الحديث وفيه إسحاق بن وهب قال الدَّارقُطْنِي: كذاب متروك يحدّث بالأباطيل، وقال ابن حبان: يضع الحديث.

قال الذهبي في ميزان الاعتدال 1/ 301: وله (أى بشر بن عبيد) عن يزيد بن عياض، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا: من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له. وهذا موضوع.

قال الهيثمي في المجمع 1/ 136 - 137: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه بشر بن عبيد الدارسي، كذبه الأزدي وغيره. وضعفه الألباني جدا في الضعيفة (3316)، وقال: موضوع ضعيف الترغيب (76).

(1)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 468) ومن طريقه السمعانى في أدب الإملاء (ص 96) وابن الجوزى في الموضوعات (1/ 260)، وابن المقرب في أربعين حديثًا (13) عن أنس.

قال الخطيب هذا حديث موضوع والحمل فيه على الرقي والله أعلم.

ص: 763

عليكم ولا حزن حتى يفرغ اللّه فيما بينه وبين العباد من الحساب"

(1)

انتهى، قاله القرطبي في تذكاره

(2)

، وقال المعافي بن عمران: كتابة حديث واحد أحب إليّ من صلاة ليلةٍ

(3)

.

158 -

وَعنهُ قَالَ قَالَ رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتبَوَّأ مَقْعَده من النَّار رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَغَيرهمَا

(4)

وَهَذَا الحَدِيث قد رُوِيَ عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة فِي الصِّحَاح وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد وَغَيرهَا حَتَّى بلغ مبلغ التَّوَاتُر وَاللّه أعلم.

قوله: عن أبي هريرة، تقدم الكلام على مناقبه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" الحديث، وقال الحافظ: وهذا الحديث قد روي عن غير واحد من الصحابة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها حتى بلغ مبلغ التواتر، واللّه أعلم، انتهى.

هذا باب عظيم أحاديثه في نهاية الصحة، وقيل: إنها متواترة، روى أبو بكر في مسنده والقاضي أبو بكر بن العربي أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو من أربعين نفسًا من الصحابة، وحكى الإمام أبو بكر الصيرفي في شرحه لرسالة الشافعي

(1)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 254 - 255)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/ 353)، قال أبو نعيم: غريب من حديث مسعر، تفرد به الحسن عن إسماعيل، ويعرف بالحسن بن يزيد الجصاص، بغدادي سكن الموصل. وقال الخطيب: هذا حديث غريب من حديث مسعر تفرد به إسماعيل بن يحيى التيمي عنه، وكان ضعيفا سيء الحال جدًا.

(2)

التذكرة (ص 828).

(3)

تلبيس إبليس (1/ 121) وصفة الصفوة (2/ 352).

(4)

أخرجه البخاري (110) و (6197)، ومسلم (3 - 3).

ص: 764

أنه روي عن أكثر من ستين صحابيًا مرفوعًا، وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن منده: عدد ما رواه فبلغ بهم سبعة وثمانين صحابيًا، منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، قال: ولا نعرف حديثًا اجتمع على روايتُه العشرة إلا هذا، ولا حديثًا يروي عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا، وقال بعضهم: رواه مائتان من الصحابة ثم لم يزل في ازدياد، وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحهما من حديث علي والزبير وأنس وأبي هريرة وغيرهم، وأما إيراد أبي عبد اللّه الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين من حديث أنس في أفراد مسلم فليس بصواب، فقد اتفقا عليه، واللّه أعلم

(1)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فليتبوأ مقعده من النار" وهو بكسر اللام هذا هو الأصل، وبالسكون هو المشهور، قال العُلماء: معناه فلينزل، وقيل: فليتخذ منزله من النار، قال الخطابي: وأصله من مباءة الإبل وهي إعطائها، والتبوؤ: اتخاذ المباءة أي المنزل، يقال: تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه موضعا لمقامه، قال الجوهري: تبوأت منزلا أي نزلته، ثم قيل: إنه دعاء بلفظ الأمر يريد أن اللّه تعالى يبوئه مقعده من النار وخرج مخرج الأمر، ومعناه: الدعاء، وقيل: هو خبر بلفظ الأمر أي معناه، فقد استوجب ذلك فليوطن نفسه عليه، وذلك لأن الأمر يرد بمعنى الخبر، والخبر يرد بمعنى الأمر لقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}

(2)

وهو أمر بالتربص وهذا كثير مشهور

(3)

.

(1)

شرح النووي على مسلم (1/ 68).

(2)

سورة البقرة، الآية:228.

(3)

انظر أعلام الحديث (1/ 212) للخطابي، وكشف المشكل (1/ 228 - 229) لابن الجوزي، وشرح النووي على مسلم (1/ 68)، والكواكب الدراري (2/ 112 - 113).

ص: 765

قال النووي رحمه الله

(1)

: اعلم أن هذا الحديث يشتمل على فوائد وجمل من القواعد، إحداها: تقرير هذه القاعدة أن الكذب عند المتكلمين من أصحابنا الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عليه عمدا كان أو سهوًا، هذا مذهب أهل السنة، وقال المعتزلة: شرطه العمدية، الثانية: تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وأنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة، وإباحة الكذب عليه صلى الله عليه وسلم موقعة إلى إبطال شرعه وتحريف دينه، ولكن لا يكفر بهذا الكذب إلا أن يستحله هذا هو المشهور من مذاهب العُلماء من الطوائف، وقال الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين: يكفر من تعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، كذا حكى هذا المذهب عنه، ولده: إمام الحرمين، وكان يقول في دروسه كثيرًا: من كذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كفر وأراق دمه، وضعف إمام الحرمين هذا القول، وقال إنه لم يره لأحد من الأصحاب، وأنه هفوة عظيمة من والده، والصواب ما قدمناه عن الأصحاب، ثم إن كذب عليه صلى الله عليه وسلم عمدًا في حديث واحد فسق وردت رواياته كلها وبطل الاحتجاج بجميعها، فلو تاب وحسنت توبته، فقد قال جماعة من العُلماء منهم الإمام أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري وصاحب الشافعي وأبو بكر الصيرفي من فقهاء أصحابنا الشافعية وأصحاب الوجوه فيهم: لا تؤثر توبته في ذلك ولا تقبل روايتُه بل يختم جرحه دائمًا.

(1)

شرح النووي على مسلم (1/ 69)

ص: 766

قال النووي

(1)

: هذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية والمختار القطع بصحة توبته في هذا قبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة وهي: الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على رواية من كان كافرًا فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة، وأجمعوا على قبول شهادته ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا؛ الثالث: أنه لا فرق بين تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك فكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع خلافًا للكرامية الطائفة المبتدعة في زعمهم الباطل أنه يجوز وضع الحديث في الترغيب والترهيب وتابعهم كثيرون من الجهلة الذي يكسبون أنفسهم الزهد أو ينسبهم جهلة مثلهم، واللّه أعلم.

ثم معنى الحديث: أن هذا جزاؤه وقد يجازى به، وقد يعفو اللّه الكريم عنه ولا يقطع عليه بدخول النار، وهكذا سبيل كلّ ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر فكلها يقال فيها: هذا جزاؤه، وقد يجازى وقد يعفو اللّه الكريم عنه، ثم إن جوزي وأدخل النار فلا يخلد فيها بل لابد من خروجه منها بفضل اللّه ورحمته ولا يخلد في النار إذا مات على التوحيد، واعلم أن مذهب أهل السنة: أن من ارتكب كبيرة ومات قبل التوبة إن شاء اللّه تعالى عفا عنه ويدخله الجنة أول مرة، وإن شاء عذبه في النار ثم يدخله

(1)

شرح النووي على مسلم (1/ 70).

ص: 767

الجنة، وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة، وقالت المعتزلة: صاحب الكبيرة إذا مات بغير التوبة لا يعفى عنه ويخلد في النار، واللّه أعلم

(1)

.

159 -

وعن سمرة بن جُندُبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". رواه مسلم وغيره

(2)

.

قوله: (عن سمرة بن جندب)، هو: سمرة بن جندب بضم الدال وفتحها بن هلال بن حريج بحاء مهملة ثم راء مكسورة ثم ياء مثناة من تحت ثم جيم الفزاري، كنيته: أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الرحمن وأبو عبد اللّه وأبو سليمان، توفي أبوه وهو صغير فقدمت به أمه المدينة فتزوجها أنصاري وكان في حجره حتى كبر وأجازه النبي صلى الله عليه وسلم في المقاتلة في غزوة أحد وغزا بعد ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوات ثم سكن البصرة وكان زياد يستخلفه عليها إذا سافر إلى الكوفة ويستخلفه على الكوفة إذا سافر إلى البصرة، وكان يكون في كلّ واحدة منهما ستة أشهر، وكان شديدًا على الخوارج، ولهذا تبغضه الحرورية ومن قاربهم في مذهبهم، وكان الحسن وابن سيرين وفضلاء البصرة يثنون عليه، روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة وثلاثة وعشرون حديثًا، توفى بالبصرة سنة تسع أو ثمان وخمسين، وقال البخاري: توفي بعد أبي هريرة سنة تسع وخمسين، وقيل: سنة ستين، سقط في قدر مملوء ماء حارًا بسب كزاز شديد أصابه، الكزاز: داء يكون من شدة البرد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليه

(1)

شرح النووي على مسلم (1/ 68 - 69).

(2)

أخرجه مسلم في المقدمة (1/ 8)، وابن ماجة (39)، وابن حبان (29). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (95).

ص: 768

غلمان الأنصار في كلّ سنة فمر غلام فأجازه في البعث وعرض عليه سمرة بعده فرده، فقال سمرة: لقد أجزت هذا ورددتني ولو صارعته لصرعته، قال:"فدونكه، فصارعه فصرعه" فأجازه في البعث يوم أحد، واللّه أعلم

(1)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: (من حديث عني بحديث يرى أنه كذب

) الحديث، ذكر بعض الأئمة جواز فتح الياء من "يرى" وهو ظاهر حسن، فأما من ضم الياء من "يرى" فمعناه يظن، وأما من فتحها فظاهر ومعناه: وهو يعلم، ويجوز أن يكون بمعنى يظن أيضًا، فقد حكى رأي بمعنى ظن، قاله النووي

(2)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: (فهو أحد الكاذبين)، قال القاضي عياض رحمه اللّه تعالى: ضبطناه بكسر الباء وفتح النون على الجميع، وهذا هو المشهور من اللفظ، وقال: الرِّواية فيه عندنا "الكاذبين" على الجميع، رواه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المستخرج على صحيح مسلم في حديث سمرة "الكاذبين" بفح الباء وكسر النون على الثنية والجمع، واحتج به على أن الراوي له يشارك البادئ بهذا الكذب، ثم رواه أبو نعيم من رواية المغيرة "الكاذِبَيْن" أو "الكاذِبِيْن" على الشك في التثنية أو الجمع، وقيد ذلك لأنه لا يأثم إلا بروايته ما يعلمه أو يظنه كذبًا، وأما ما يظنه ولا يعلمه فلا إثم عليه في روايتُه عن غيره

(3)

.

وأما فقه هذا الحديث ففيه: تغليظ الكذب والتعرض له أن من غلب على

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (1/ 235 - 236 ترجمة 233)، وتهذيب الكمال (12/ الترجمة 2585).

(2)

شرح النووي على مسلم (1/ 65).

(3)

شرح النووي على مسلم (1/ 64 - 65).

ص: 769

ظنه ما يرويه كذبا فرواه كان كاذبًا، وكيف لا يكون كاذبًا وهو مخبر بما لم يكن

(1)

، وإنما سمي المحدّث به كاذبًا لأنه رأى أن ذلك كذب، فالتحدّث به صار معينًا لمن افتراه على فريته فاشترك معه في الوزر كمن أعان ظالمًا على ظلمه

(2)

، ويؤخذ منه أنه يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعًا لو غلب على ظنه وضعه، فمن رواه وعلم حاله أو ظنه ولم يبين حال راويته فهو داخل في ذلك مندرج في جملة الكذابين على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، واعلم أن الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أعظم أنواع الكذب بعد كذب الكافر على اللّه تعالي، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إياكم والحديث وكثرة الروايات عني، فمن قال عني فلا يقولن إلا حقًّا وصدقًا"، وقد هاب جماعة من الصحابة والتابعين الرِّواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذا الحديث خوفا من الزيادة والنقصان والغلط فيه حتى أن بعض التابعين كان يهاب رفع المرفوع فيوقفه على الصحابي، ويقول: الكذب عليه أهون من الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، انتهى، قاله النووي

(3)

.

ولقد دار بين الزهري وربيعة معاتبة فقال ربيعة للزهري: ألا إنما أخبر الناس برأيي إن شاؤوا أخذوا وإن شاؤوا تركوا وأنت إنما تخبرهم عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فانظر ما تخبرهم به، انتهى، قاله الكرماني

(4)

، وكان عمر بن

(1)

شرح النووي على مسلم (1/ 65).

(2)

الميسر (1/ 97).

(3)

شرح النووي على مسلم (1/ 71)، والكواكب الدراري (2/ 115).

(4)

الكواكب الدراري (2/ 115 - 116).

ص: 770

الخطاب يشدد في ذلك ويقول: أقلوا الرِّواية عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم، يريد في التقليل

(1)

؛ وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقل الرواية عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وإذا روى تغير لونه؛ وليس قوله صلى الله عليه وسلم "فليتبوأ مقعده من النار" جاريا على المفهوم من صيغة الخبر وإنما هو أمر بمعنى الخبر تقديره: فإنه يتبوأ مقعده من النار

(2)

وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت" ليس المراد بأن يصنع ما يشاء، وإنما تقديره: إذا لم تستح فإنك تصنع ما تشاء لأنه إنما يمنعك الحياء فإذا زال فإنك لا تبالي بما تصنع وهو أبلغ في الذم لأن الراضي بترك الحياء راض بجملة القبائح

(3)

فنسأل اللّه السلامة وسلوك سبل الاستقامة، قاله ابن الفرات الحنفي في تاريخه.

160 -

وَعَن الْمُغيرَة قَالَ: سَمِعت رَسُول اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُول: "إِن كذبًا عَليّ لَيْسَ ككذب على أحد فَمن كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتبَوَّأ مَقْعَده من النَّار". رَوَاهُ مُسلم وَغَيره

(4)

.

قوله: (عن المغيرة بن شعبة)، والمغيرة: بضم الميم على المشهور، وحكى ابن قتيبة وابن السكيت وغيره أنه يقال: بكسرها أيضًا، وكان المغيرة أحد دهاة العرب، وكنيته أبو عبد اللّه، ويقال: أبو عيسى، ويقال: أبو محمد،

(1)

إكمال المعلم (7/ 21).

(2)

انظر غريب الحديث (3/ 32)، وأعلام الحديث (1/ 212).

(3)

انظر غريب الحديث (2/ 31) لأبى عبيد، وغريب الحديث (1/ 365) لابن قتيبة، وأعلام الحديث (3/ 2198)، وكشف المشكل (2/ 203 - 204) وتحفة الأبرار (3/ 272).

(4)

أخرجه البخاري (1291)، ومسلم (4 - 4).

ص: 771

المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بالعين المفتوحة الثقفي الكوفي الصحابي، أسلم عام الخندق، روي له عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مائة وستة وثلاثون حديثًا، روى عنه جماعة من الصحابة ومن التابعين جماعة كثيرة، وكان مغيرة موصوفًا بالدهاء، قال جماعة: إنه أحصن بثلثماثة امرأة في الإسلام، وقيل: ألف امرأة وشهد الحديبية مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وولاه عمر بن الخطاب البصرة مدّة ثم نقله عنها فولاه الكوفة فلم يزل عليها فأقره عثمان عليها ثم عزله وشهد اليمامة وفتح الشام وذهبت عينه يوم اليرموك وشهد القادسية وفتح نهاوند وكان على ميسرة النعمان بن مقرن وشهد فتح همدان وغيرها واعتزل الفتنة بعد مقتل عثمان واستعمله معاوية على الكوفة فلم يزل عليها حتى توفي بها سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، قالوا: وهو أول من وضع ديوان البصرة

(1)

.

كتب الحافظ أبو عمر بن عبد البر على استيعابه زيادة في ترجمة المغيرة، قال

(2)

: لما قتل عثمان وبايع الناس عليا دخل عليه المغيرة بن شعبة فقال له: يا أمير المؤمنين إن لك عندي نصيحة، قال: وما هي؟ قال: إن أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة بن عبيد اللّه على الكوفة والزبير بن العوام على البصرة وابعث إلى معاوية بعهده إلى الشام حتى تلزمه طاعتك فإذا استقرت لك الخلافة فأدرها كيف شئت برأيك، فقال علي رضي الله عنه: أما طلحة والزبير فأرى فيهما رأيي، وأما معاوية فلا واللّه لا يراني اللّه مستعملا له أبدًا ما دام

(1)

تهذيب الأسماء واللغات (2/ 108 - 110 ترجمة 599).

(2)

الاستيعاب (4/ 1447).

ص: 772

على حاله ولكني أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون فإن أبى حاكمته إلى اللّه تعالى فانصرف عنه المغيرة مغضبا لما لم يقبل نصيحته، فلما كان الغد أتاه فقال: يا أمير المؤمنين نظرت فيما قلت لك بالأمس وفيما جاوبتني فيه فرأيت أنك وفقت للخير وطلبت الحق، ثم خرج عنه، فلقيه الحسن وهو خارج فقال: أاللّه ما قال هذا الأهور، قال: أتاني بالأمس بكذا وأتاني اليوم بكذا، فقال: نصح لك أمس، وخدعك اليوم، فقال له علي: إن أقررت معاوية على ما بيده كنت متخذ المضلين عضدًا، فقال المغيرة في ذلك:

نصحتُ عليًّا في ابنِ هندٍ نصيحةً

فردَّ فلَمْ أنصَحْ لهُ الدهرَ ثانيَهْ

فقلتُ لهُ أرسلْ إليهِ بعهدهِ .. على الشامِ حتّى يستقرَّ معاويَهْ

ويعلمَ أهلُ الشام أنْ قد ملكتَهُ

فأمُّ ابن هندٍ بعدَ ذلك هاوِيَهْ

فلَمْ يقبلِ النُّصْحَ الذي جئتهُ بهِ

وكانَتْ لهُ تلكَ النصيحةُ كافيَهْ

انتهى.

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن كذبًا عليّ ليس ككذب على أحد

) الحديث، وفي الحديث أيضًا:"لا تكذبوا علي فإنه من يكذب عليّ يلج النار"

(1)

وهذا الحديث أصل عظيم في التحذير من الكذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والتشديد فيه بالوعيد الشديد، وقد أشار عليه الصلاة والسلام بقوله:(إن كذبًا عليّ ليس ككذب على أحد) أن الكذب عليه كذب على اللّه تعالى لأنه يدخل في الشريعة ما ليس منها ويخرج منها ما هو فيها، فإن أقواله وأفعاله وحركته

(1)

أخرجه البخاري (106)، ومسلم (1 - 1)، وابن ماجة (31)، والترمذي (2660) عن علي بن أبي طالب.

ص: 773

وسكونه ونطقه وسكوته حجج من حجج الله تعالى وأدلته من أدلته فالمغير لها معرض إلى المخالفة لأحكام الله تعالى بما وضعه واخترعه وضرره أشد من ضرر المعاصي المختصة بأربابها لأن في هذا مضرة بالخلق عمومًا، انتهى.

خاتمة: قال الإمام القرطبي في كتابه التذكرة

(1)

: قال علماؤنا: فتخويفه صلى الله عليه وسلم بالنار على الكذب دليل على أنه كان يعلم أنه سيكذب عليه فحذار مما وضعه أعداء الدين وزنادقة المسلمين في باب الترغيب والترهيب وغير ذلك، وأعظمهم ضررًا أقوام من المنسوبين إلى الزهد وضعوا الحديث حسبة فيما زعموا فتقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم وركونًا إليهم فضلوا وأضلوا، وقد ذكر الحاكم وغيره من شيوخ المحدثين أن رجلا من الزهاد انتدب في وضع أحاديث في فضل القرآن وسوره، فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: رأيت الناس زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغبهم فيه، فقيل له النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، فقال: أنا ما كذبت عليه إنما كذبت له، وزعم بعضهم: أن هذا كذب له صلى الله عليه وسلم لا كذب عليه، كما تقدم، وهذا الذي انتحلوه وفعلوه واستدلوا به غاية الجهالة ونهاية الغفلة، والله أعلم.

* * *

(1)

تفسير القرطبي (1/ 80)، والتذكار في أفضل الأذكار (ص 170).

ص: 774