الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الترغيب على المحافظة على الصبح والعصر]
658 -
عَن أبي مُوسَى رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ من صلى البردين دخل الْجنَّة رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم
(1)
البردان هما الصُّبْح وَالْعصر.
قوله عن أبي موسى تقدم الكلام عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى البردين دخل الجنة" الحديث البردان هما الصبح والعصر قاله المنذري وقال بعضهم المراد بالبردين صلاة الفجر والعصر لكونهما في طرفي النهار والبردان الغداة والعشي والأبردان كذلك وذلك لأنهما يصليان في بردي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر
(2)
، ومنه حديث ابن الزبير كان يسير بنا الأبردين
(3)
وسميا بالبردين لبرد هوائهما بخلاف ما بينهما من النهار
(4)
والمراد المحافظة على صلاتي الصبح والعصر لما في حديث فضالة حافظ على العصرين قال: وما كانت لغتنا فقلت وما العصران قال: صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها
(5)
(1)
أخرجه البخاري (574)، ومسلم (215 - 635).
(2)
أعلام الحديث (1/ 448).
(3)
النهاية (1/ 114).
(4)
مشارق الأنوار (1/ 83).
(5)
أخرجه أبو داود (428)، وابن حبان (1742) والحاكم 1/ 199 - 200 و 3/ 628. وصححه الحاكم. وصححه الألباني في الصحيحة (1813) وصحيح أبي داود (454).
وإنما أمر بأدائهما في الوقت المختار والمحافظة عليهما في الجماعة لما فيهما من الفضل والزيادة في الأجر إذ فيهما تشهد ملائكة الليل والنهار ولأن إحداهما تقام في وقت تثاقل النفوس لتراكم الغفلة واستحلاء النوم والأخرى تقام عند قيام الأسواق في البلدان واشتغال الناس بالمعاملات فنبه المكلفين على هذه المعاني بزيادة تأكيد كذا في الميسر للإمام شهاب الدين التوربشتي
(1)
.
وقيل المعنى أن المسلم إذا كان محافظا عليهما وأتى بهما في وقتهما مع ما فيه من التثاقل والمشاغل كان الظاهر من حاله أن يحافظ على غيرهما أشد محافظة وما عسى أن يقع منه تفريط فبالحري أن تقع مكفرة تغفر له ويدخل الجنة
(2)
والله أعلم.
659 -
وَعَن أبي زهيرة عمَارَة بن رويبة رضي الله عنه قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول لن يلج النَّار أحد صلى قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا يَعْنِي الْفجْر وَالْعصر رَوَاهُ مُسلم
(3)
.
قوله: عن أبي زهير عمارة بن روبية، عمارة بضم العين المهملة وتخفيف الراء روبية بضم الراء المهملة وفتح الهمزة ويقال أيضا روبية بضم الراء وفتح الواو ومصغر روبه بضم الراء وبعدها همزة ساكنة ثبت في رواية أبي
(1)
الميسر (1/ 187 - 188).
(2)
تحفة الأبرار (1/ 242).
(3)
أخرجه مسلم (213 و 214 - 634)، وأبو داود (427)، والنسائى في المجتبى 1/ 571 (478) و 1/ 582 (497).
زيد في باب صفة الشمس والقمر، قوله صلى الله عليه وسلم "لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" الولوج الدخول قال: الراوي يعني الفجر والعصر وإنما خص صلى الله عليه وسلم هذين الوقتين لفضل الصلاة فيهما لكون الأولى وقت استحلاء النوم والثاني وقت الاشتغال بالمكاسب فتكون العبادة فيهما أشق
(1)
وقد تقدم معنى ذاك في الحديث قبله قال في حدائق الأولياء سياق الحديث الراحة أعظم من السلامة منها وقطع المفاز {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}
(2)
(3)
.
660 -
وَعَن أبي مَالك الأشْجَعِيّ عَن أَبِيه رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من صلى الصُّبْح فَهُوَ فِي ذمَّة الله وحسابه على الله رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير والأوسط وَرُوَاته رُوَاة الصَّحِيح إِلَّا الْهَيْثَم بن يمَان وَتكلم فِيهِ فللحديث شَوَاهِد
(4)
أَبُو مَالك هُوَ سعد بن طَارق.
قوله: عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: الحافظ أبو مالك اسمه سعد بن طارق قاله: الحافظ المنذري.
(1)
إحكام الأحكام (1/ 172)، وكشف المناهج (5/ 77)، وشرح المصابيح (1/ 385)
(2)
سورة آل عمران، الآية:185.
(3)
حدائق الأولياء (2/ 98).
(4)
أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 229 رقم 4052) والكبير (8/ 318 رقم 8188). وقال الهيثمي في المجمع 1/ 297: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه الهيثم بن يمان ضعفه الأزدي، وبقية رجاله رجال الصحيح. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (458).
وقال بعضهم: هو سعد بن طارق بن أشيم الكوفي روى عن أنس بن مالك وربعي بن خراش وأبيه طارق استشهد به البخاري في الجامع وروى له في الأدب روى له الباقون وأبو حازم الأشجعي الكوفي اسمه سلمان مولى عزة الأشجعية روى عن الحسن والحسين وأبي هريرة وروى عن مولاته عزة الأشجعية وخلائق ثقة صالح والده طارق بن أشيم الأشجعي له صحبة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم روى له البخاري في الأدب سوى أبي داود مات أبو مالك في خلافة عمر بن عبد العزيز
(1)
والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم "من صلى الصبح فهو في ذمة الله وحسابه على الله" الحديث أي عهد الله وحفظه ومن كان في عهد الله وأمانه لم يجز التعرض له ومن يعرض له كان ظالما وقيل معنى في ذمة الله أي في جوار الله وأمانه ومعناه استجار بالله والله تعالى قد أجاره فلا ينبغي لأحد أن يتعرض له بضر أو أذى فمن فعل ذلك فالله يطلبه بحقه ومن طلبه الله لم يجد له مفرا ولا ملجأ
(2)
، والذمة والذمام هنا الضمان يقول: فلان في ذمتي أي: في ضماني، وقيل: الذمة والذمام الأمان والعهد
(3)
، قال بعض العلماء: وإنما جعلوه في ذمة الله بشهادة الإيمان التي يشهدون له بها في قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وصلى صلاتنا
(1)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 212 - 213 ترجمة 202)، وتهذيب الكمال (10/ 269 - 271 ترجمة 2211).
(2)
المفهم (6/ 68).
(3)
جامع الأصول (6/ 221).
وأكل ذبيحتنا فله ذمة الله ورسوله" قاله ابن الأثير في النهاية
(1)
.
قوله: ورواته رواة الصحيح إلا الهيثم بن يمان [وتكلم فيه ضعفه أبو الفتح الأزدي وقال أبو حاتم: هو أحب إلي من عبد المؤمن بن علي فقيل له: ما تقول فيه؟ قال: صالح صدوق.].
661 -
وَعَن جُنْدُب بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من صلى الصُّبْح فَهُوَ فِي ذمَّة الله فَلَا يطلبنكم الله من ذمَّته بِشَيْء فَإِنَّهُ من يَطْلُبهُ من ذمَّته بِشَيْء يُدْرِكهُ ثمَّ يكبه على وَجهه فِي نَار جَهَنَّم رَوَاهُ مسلم وَغَيره
(2)
.
قوله: عن جندب بن عبد الله، هو: جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي ثم العلقي، وعلقة حي من بجيلة يكنى أبا عبد الله له صحبة، نسب تارة إلى أبيه وتارة إلى جده، له صحبة ليست بالقديمة سكن الكوفة ثم انتقل إلى البصرة، قال ابن منده وأبو نعيم: يقال له جندب الخير والذي ذكره ابن الكلبي أن جندب الخير هو جندب بن عبد الله بن الأخرم الأزدي الغامدي، روى له الترمذي حد الساحر ضربة بالسيف، روى عنه: تميم بن الحارث الأزدي وغيره
(3)
.
(1)
كشف المناهج (2/ 53 - 54).
(2)
أخرجه مسلم (261 - 657) و (262 - 657)، وابن أبي خيثمة في التاريخ الكبير - السفر الثانى 1/ 124 (357)، والرويانى (955) و (2/ 143)، والسراج (848).
(3)
أسد الغابة (1/ 359 ترجمة 802) و (1/ 360 ترجمة 804)، وتهذيب الكمال (5/ الترجمة 973) و (5/ الترجمة 975).
قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله" الحديث، صلاة الصبح لما فيها من الكلفة والتثاقل مظنة خلوص المصلي ومن كان مؤمنا خالصا فهو في ذمة الله أي: في عهده وأمانه وتقدم الكلام على ذلك الحديث قبله.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من يطلبه بذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم" معنى الحديث، أي: لا تتعرضوا لمن صلى الصبح ولا تعاملوه بمكروه فإنه في عهد الله وأمانه فمتى فعلتم ذلك تعرضتم لمطالبة الله تعالى إياكم بنقض عهده وإخفار ذمته
(1)
، فظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء" وإن دل على النهي من مطالبة الله إياهم بشيء من عهده لكن المعنى نهيهم عما يوجب مطالبة الله تعالى إياهم من نقض عهده بالتعرض لمن له عهده وذمته كما مر ذكره، ويحتمل أن يكون المراد بالذمة الصلاة المقتضية للأمان فيكون المعنى: لا تتركوا صلاة الصبح ولا تتهاونوا بشيء منها فينتقض به العهد الذي بينكم وبين ربكم فيطلبنكم به، ومن طلبه الله للمؤاخذة بما فرط في حقه والقيام أدركه ومن أدركه كبه على وجهه في نار جهنم كذا في الميسر
(2)
يقال كبه إذا صرعه فأكب هو على وجهه وهو من النوادر إذ ثلاثيه متعد ورباعيه لازم
(3)
.
قوله: "ثم يكبه" بفتح الباء الموحدة لأنه لما عطف على المجرور وهو
(1)
الميسر (1/ 188).
(2)
الميسر (1/ 188)، وتحفة الأبرار (1/ 242 - 243).
(3)
الصحاح (1/ 207)، والمشارق (1/ 333) وإكمال المعلم (1/ 462).
يدركه التقى ساكنان وهما الباءان فحرك الثاني بالفتح للخفة يقال: كبه إذا صرعه إلى آخره، ومعنى: يكبه الله في النار أي يلقيه فيها على وجهه قاله في شرح مشارق الأنوار.
قال في حدائق الأولياء بعد سياق الحديث فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيء وإذا صار إلى هذا المقام أعني في جوار الملك العلام زالت الضرورة وحصل له الفوز وكمال الظاهر
(1)
.
662 -
وَرُوِيَ عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من صلى الْغَدَاة فأصيبت ذمَّته فقد استبيح حمى الله وأخفرت ذمَّته وَأَنا طَالب بِذِمَّتِهِ رَوَاهُ أَبُو يعلى
(2)
.
قوله: عن أنس بن مالك، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الغداة فأصيبت ذمته فقد استبيح حمى الله وأخفرت ذمته"، المراد بصلاة الغداة صلاة الصبح، ففيه جواز تسمية الصبح بالغداة، وقد كرهه قوم، وتقدم أن النووي قال في شرح المهذب: يكره تسميتها بالغداة والصحيح خلافه والله أعلم.
قوله: "فقد استبيح حمى الله وأخفرت ذمته" يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده.
(1)
حدائق الأولياء (2/ 98).
(2)
أخرجه أبو يعلى (4120). وقال الهيثمي في المجمع 1/ 296: رواه أبو يعلى، وفيه يزيد الرقاشي، وهو ضعيف، وقد وثق. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (241).
663 -
وَعَن أبي بصرة الْغِفَارِيّ رضي الله عنه قَالَ صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْعَصْر بالمخمص وَقَالَ إِن هَذِه الصَّلَاة عرضت على من كانَ قبلكُمْ فضيعوها وَمن حَافظ عَلَيْهَا كانَ لَهُ أجره مرَّتَيْنِ الحَدِيث رَوَاهُ مسلم وَالنَّسَائِيّ
(1)
المخمص بِضَم الْمِيم وَفتح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالْمِيم جَمِيعًا وَقيل بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء وَكسر الْمِيم بعْدهَا وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة اسْم طَرِيق.
قوله: عن أبي بصرة الغفاري، واختلف في اسم أبي بصرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: حميل بضم الحاء المهملة، وقيل: حميل بفتحها، وقيل: جميل بالجيم المعجمة المفتوحة، والصحيح ما قاله علي بن المديني اسم أبي بصرة حميل بن بصرة الغفاري قاله بعض ولده سكن أبو بصرة الحجاز وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه قليلا ثم تحول إلى مصر وسكنها وتوفي بها ودفن في مقبرتها وهو أحد الصحابة الذين توفوا بمصر رضي الله عنهم
(2)
.
قوله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالمخمص، المخمص (بضم الميم الأولى وفتح الخاء المعجمة والميم جميعا، وقيل: بفتح الميم وسكون الخاء وكسر الميم بعدها وفي آخره صاد مهملة) اسم طريق قاله الحافظ، وقال غيره: موضع بالمدينة
(3)
.
قوله: "إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها ومن حافظ عليها كان له أجره مرتين" ففيه فضيلة العصر وشدة الحث عليها.
(1)
أخرجه مسلم (292 - 830)، والنسائى في المجتبى 2/ 31 (531).
(2)
أسد الغابة (1/ 538 - 539 ترجمة 1271).
(3)
شرح النووي على مسلم (6/ 113).
664 -
وَعَن أبي بكر رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصُّبْح فِي جمَاعَة فَهُوَ فِي ذمَّة الله فَمن أَخْفَر ذمَّة الله كبه الله فِي النَّار لوجهه رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَاللَّفْظ لَهُ وَرِجَال إِسْنَاده رجال الصَّحِيح
(1)
.
قوله: عن أبي بكرة، تقدم الكلام عليه.
قوله: "من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله فمن أخفر ذمة الله كبه الله في النار لوجهه" تقدم الكلام على الذمة وبقية الألفاظ.
665 -
وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ من صلى الصُّبْح فَهُوَ فِي ذمَّة الله تبارك وتعالى فَلَا تخفروا الله تبارك وتعالى فِي ذمَّته فَإِنَّهُ من أَخْفَر ذمَّته طلبه الله تبارك وتعالى حَتَّى يكبه على وَجهه
رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير والأوسط بِنَحْوِهِ
(2)
وَفِي أول قصَّة وَهُوَ أَن الْحجَّاج أَمر سَالم بن عبد الله بقتل رجل فَقَالَ لَهُ سَالم أصليت الصُّبْح فَقَالَ الرجل نعم، فَقَالَ لَهُ انْطلق فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج مَا
(1)
أخرجه ابن ماجه (3945)، والضياء في المختارة (1/ 151 - 152 رقم 64). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (461).
(2)
أخرجه أحمد 2/ 111 (5898)، والبزار (5988)، والطبراني في الأوسط (4/ 5 رقم 3464) و (8/ 251 رقم 8548) والكبير (12/ 312 رقم 13210 و 13211). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا يونس، ولا عن يونس إلا أيوب، تفرد به: مكيس. قال الهيثمي في المجمع 1/ 296: رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد حسن له بعضهم. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (462).
مَنعك من قَتله فَقَالَ سَالم حَدثنِي أبي أَنه سمع رَسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول من صلى الصُّبْح كَانَ فِي جوَار الله يَوْمه فَكرِهت أَن أقتل رجلا أجاره الله فَقَالَ الْحجَّاج لِابْنِ عمر أَنْت سَمِعت هَذَا من رَسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ابْن عمر نعم
قَالَ الْحَافِظ وَفِي الأولى ابْن لَهِيعَة وَفِي الثَّانِيَة يحيى بن عبد الحميد الْحمانِي.
قوله: عن ابن عمر، تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله" الذمة الأمان.
قوله: "فلا تخفروا الله في ذمته" الحديث يقال: أخفرت الرجل حفظته، وأخفرته إذا كنت له خفيرًا أي: حاميا وكفيلا وخفرت الرجل أجزته وحفظته إذا كنت له خفيرا أو تخفرت له إذا استجرت به، والخفارة بالكسر والضم الذمام وأخفرت الرجل إذا أنقضت عهده وذمامه
(1)
، ومعنى الحديث أن الذي يظهر عن نفسه شعار أهل الإسلام فهو في جوار الله لا يستباح منه ما يحرم على المسلم فلا تنقضوا عهده وذمته كذا في الميسر وغيره
(2)
(وقال في المحكم معنى الحديث "لا تؤذوا المؤمن"
(3)
وهذا وعيد شديد لمن يتعرض للمصلين وترغيب في حضور صلاة الصبح).
قوله: ورواه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه وفي أوله قصة وهو أن
(1)
النهاية (2/ 52 - 53).
(2)
انظر: كشف المشكل (2/ 49)، والميسر (1/ 188)، وتحفة الأبرار (1/ 242 - 243).
(3)
المحكم (5/ 172).
الحجاج أمر سالم بن عبد الله بقتل رجل فقال: يا سالم أصليت الصبح فقال الرجل نعم فقال انطلق، الحديث.
قوله: وفي الأولى ابن لهيعة وفي الثانية محمد بن يحيى بن عبد الحميد الحماني، تقدم الكلام على ابن لهيعة، وأما يحيى بن عبد الحميد الحماني، وقال أبو نعيم في الحلية في ترجمة محمد بن خالد بن يزيد بن بسام من حديث سالم بن عبد الله بن عمر قال: جاؤوا بأسير إلى الحجاج فقال الحجاج: قم يا سالم فاضرب عنق هذا الأسير، فقال الأسير: ما كان ليفعل، فقالوا: إنه قد سل سيفه وأتاك قال: ما كان ليفعل، فأتاه فساره، فقال: يا هذا توضأت الغداة وضوءا حسنا وصليت في الجماعة قال نعم، قال: فأغمد سيفه ورجع، فقال له الحجاج: ما يمنعك أن تضرب عنق الأسير، قال: ما سمعت من والدي يحدث عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل توضأ لصلاة الغداة وضوءا حسنا وصلى في جماعة كان في جوار الله تعالى"
(1)
وما كنت لأقتل رجلا جار الله تعالى يا حجاج، فقال أبوه: ما أخطأت أمك إذ سمتك سالمًا، هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، كنيته أبو عمر، ويقال أبو عبد الله العدوي أحد الأئمة الفقهاء بالمدينة، قال سعيد بن المسيب: كان عبد الله أشبه ولد عمر به، وكان سالم بن عبد الله أشبه ولد عبد الله به، قال مالك: لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من
(1)
أخرجه معاذ بن المثنى في زوائد مسند مسدد كما في المطالب (1846)، والطبراني في الكبير (12/ 312 رقم 13210 و 13211)، وأبو العرب في المحن (ص 227 - 228)،
الصالحين في الزهد والفضل منه كان يلبس الثوب بدرهمين، وقال نافع: كان ابن عمر يقبل سالما ويقول: شيخ يقبل شيخا، قال عبد الرحمن بن أبي الزناد: كانوا يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد بالمدينة حتى نشأ فيهم القراء السادة علي بن الحسين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة علما وتقى وعبادة وورعا فرغب الناس حينئذ في السراري، قال ابن قتيبة: كان لعبد الله بن عمر من الأولاد سالم، وعبد الله، وعاصم، وحمزة، وبلال، وواقد، وكان عبد الله بن المبارك يعد سالما من الفقهاء السبعة، توفي سالم سنة ست ومائة، قاله البخاري وغيره، وقال الأصمعي سنة خمس، وقال الهيثم سنة ثمان بالمدينة
(1)
وتقدم أيضا ذكر أولاد عبد الله بن عمر في أول هذا التعليق في حديث الغار والله أعلم.
وأما الحجاج فكنيته أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم فذكره إلى أن قال بن مالك بن كعب الثقفي أول ولاية وليها (تبالة) بمثناة من فوق مفتوحة ثم باء موحدة مخففة، فلما رآها احتقرها فتركها ثم تولى ابن الزبير فقهره على مكة والحجاز، وقتل ابن الزبير وصلبه بمكة سنة ثلاث وسبعين
(2)
.
فائدة: ولما هلك يزيد بن معاوية بويع لعبد الله بن الزبير بالخلافة وأطاعه أهل اليمن والحجاز والعراق وخراسان وهو الذي جدد عمارة الكعبة شرفها
(1)
انظر: تاريخ دمشق (20/ الترجمة 2367)، وتهذيب الكمال (10/ الترجمة 2149).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 153 ترجمة 113).
الله تعالى وبقي في الحكم إلى أن حصره الحجاج بمكة ولم يزل يحاصره إلى أن قتله فكانت خلافته تسع سنين، ولما كانت الغداة التي قتل فيها عبد الله بن الزبير دخل على أمه وهي يومئذ ابنة مائة سنة ولم يسقط لها سن قالت: يا عبد الله ما بلغت في حربك قال: بلغوا مكان كذا وكذا وضحك ثم قال إن في الموت لراحة، فقالت أمه: يا بني لعلك تتمناه لي ما أحب أن أموت حتى آتي على أحد طرفيك إما أن تملك فتقر بذلك عيني وإما أن تقتل فأحتسبك ثم ودعها فقالت: يا بني إياك أن تعطي خصلة من دينك مخافة القتل فخرج عنها وأنشأ يقول:
ولست بمبتاع الحياة نسيئة
…
ولا مرتق من خشية الموت سلمًا
وقال عبد الله بن الزبير: والله ما لقيت زحفا قط إلا كنت في الرعيل الأول ثم حمل عليهم فأصابته آجرة في مفرقه حتى فلقت رأسه فوقف قائما فقال له عروة والله إن أخذوك قطعوك قطعًا قطعًا فقال:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا
…
على أي شق كان في الله مصرعي
وذاك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزع
قال: فعلمت أنه لا يمكن من نفسه، وقال الواقدي: أحصر ابن الزبير ستة أشهر وسبع عشرة ليلة ونصب الحجاج قبحه الله المنجنيق على الكعبة يرمى به أحث الرمي وألح عليهم بالقتال من كل وجه وحبس عنهم الميرة وحصرهم أشد الحصار فقامت أسماء يوما فصلت ودعت فقالت: اللهم ارحم ذلك السجود والنحيب والظمأ في تلك الهواجر، وقتل عبد الله بن
الزبير يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وكان رضي الله عنه إذا قام إلى الصلاة كأنه عمود من الخشوع وكان يسجد فيطيل السجود حتى تنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذم حائط، وقال عبد الله بن العباس: كان عبد الله بن الزبير عفيفا في الإسلام قارئًا للقرآن أبوه الزبير وأمه أسماء وجده أبو بكر الصديق وعمته خديجة وجدته صفية وخالته عائشة والله لأحاسبن له نفسي محاسبة كبيرة
(1)
انتهى.
ولما قتل ابن الزبير وصلب ولاه عبد الملك بن مروان الحجاز سنين وكان يصلي بالناس ويقيم لهم الموسم ثم ولاه العراق وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فوليها عشرين سنة وحطم أهلها وفعل ما فعل ولي الحجاج بن يوسف العراق سنة خمس وسبعين، ونقش الدراهم والدنانير بالعربية سنة ست وسبعين وبنى الحجاج واسط سنة ثلاث وثمانين وتوفي بها ودفن بها وأخفي قبره وأجرى عليه الماء وكان موته سنه خمس وتسعين
(2)
كما سيأتي.
فائدة: في قتل الحجاج لسعيد بن جبير، سعيد بن جبير هو الإمام أبو عبد الله الأسدي الكوفي منسوب إلى ولاء بني والبة، سمع جماعات من أئمة الصحابة وكان مجاب الدعوة فمن ذلك دعاء الله تعالى أن يموت شهيدًا
(1)
حلية الأولياء (1/ 329 - 332)، وتاريخ دمشق (28/ ترجمة 3297)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 266 - 267 ترجمة 297).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 153 ترجمة 113).
ودعا على الحجاج أن لا يسلطه الله على أحد بعده، قتله الحجاج بن يوسف ظلما صبرا في شعبان سنة خمس وتسعين، ولم يعش الحجاج بعده إلا أيامًا، ومن أحاديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفًا
(1)
، وكان سبب قتل الحجاج له بالكوفة أنه قاتله مع ابن الأشعث، قال عون بن أبي شداد العبدي: بلغني أن الحجاج بن يوسف الثقفي لما ذكر له سعيد بن جبير أرسل إليه قائدا من أهل الشام يسمى المتلمس بن الأحوص ومعه عشرون رجلا من أهل الشام من خاصة أصحابه فبينما هم يطلبونه إذا هم براهب في صومعة له فسألوه عنه فقال الراهب: صفوه فوصفوه له فدلهم عليه فانطلقوا فوجدوه ساجدا يناجي ربه بأعلى صوته فدنوا منه فسلموا عليه فرفع رأسه فأتم بقية صلاته ثم رد عليهم السلام فقالوا له: أرسل الحجاج إليك فأجبه، قال: ولابد من الإجابة، قالوا: لابد، فحمد الله وأثنى عليه وصلى علي نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قام فمشى معهم حتى انتهى إلى دير الراهب فقال الراهب: يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم قالوا: نعم، قال لهم: اصعدوا الدير فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير فعجلوا الدخول قبل المساء ففعلوا ذلك، وأبى سعيد أن يدخل الدير فقالوا: ما نراك إلا أن تريد الهرب منا قال: لا ولكن لا أدخل منزل مشرك أبدا، قالوا: فإنا لا ندعك فإن السباع تقتلك قال سعيد: إن معي ربا يصرفها عني ويجعلها
(1)
تاريخ بغداد (1/ 472 - 473)، وتاريخ دمشق (14/ 225).
حرسًا لي تحرسني من كل سوء إن شاء الله، قالوا: فأنت من الأنبياء، قال: ما أنا من الأنبياء ولكن عبدٌ من عبيد الله تعالى خاطئ مذنب، قالوا له: احلف لنا أنك لا تبرح فحلف لهم، فقال لهم الراهب: اصعدوا إلى الدير وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح فإنه كره الدخول عليّ في الصومعة لمكانكم فدخلوا وأوتروا القسي فإذا هم بلبوة قد أقبلت فلما دنت من سعيد تحككت به وتمسحت به ثم ربضت قريبا منه وأقبل الأسد فصنع مثل ذلك، فلما رأى الراهب ذلك وأصبحوا، نزل إليه فسأله عن شرائع دينه وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم ففسر له سعيد ذلك كله فأسلم الراهب وحسن إسلامه وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل فصلوا عليه ويقولون يا سعيد: حلفنا للحجاج بالطلاق والعتاق إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه فمرنا بما شئت، قال: امضوا لشأنكم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضائه فساروا حتى وصلوا إلى واسط فلما انتهوا إليها قال لهم سعيد: يا معشر القوم قد تحرمت بكم وصبحتكم ولست أشك أن أجلي قد حضر وأن المدة قد انقضت فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت وأستعد لمنكر ونكير وأذكر عذاب القبر وما يحثى علي من التراب فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الذي تريدون فقال بعضهم: لا نريد أثرا بعض عين، وقال بعضهم: قد بلغتم أمنكم واستوجبتم جوائزكم من الأمير فلا تعجزوا عنه، فقال بعضهم: هو علي أدفعه إليكم إن شاء الله تعالى فنظروا إلى سعيد وقد دمعت عيناه وتغير لونه
ولم يأكل ولم يشرب ولم يضحك منذ لقوه وصحبوه فقالوا: فأجمعهم يا خير أهل الأرض ليتنا لم نعرفك ولم نرسل إليك الويل لنا كيف ابتلينا؟ اعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر فإنه القاضي الأكبر العادل الذي لا يجور، فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم، قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد إلا ما زودتنا من دعائك وكلامك فإنا لم نلق مثلك أبدًا فدعا لهم سعيد وخلوا سبيله، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه وهم محتفون الليل كله، فلما انشق عمود الصبح جاءهم سعيد بن جبير فقرع الباب فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة فنزلوا إليه وبكوا معه طويلا، ثم ذهبوا إلى الحجاج فدخل عليه المتلمس فسلم عليه وبشره بقدوم سعيد بن جبير فلما مثل بين يديه قال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال: بل أنت شقي بن كسير، قال: بل أمي كانت أعلم باسمي منك، قال: شقيت أنت وشقيت أمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها، قال: فما قولك في محمد؟ قال: نبي الرحمة، قال: فما قولك في علي أفي الجنة هو أم في النار؟ قال: لو دخلتهما وعرفت أهلهما عرفت من فيهما، قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل، قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي، قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار، قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب، قال: ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت
فوضعه بين يدي سعيد فقال سعيد: إن كنت جمعت هذا لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا، ثم دعا الحجاج بآلات اللهو فبكى سعيد، فقال الحجاج: ويلك يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو فمن الله وأما أنت فلا، قال: اذهبوا به فاقتلوه فلما خرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك فقال: ما أضحكك؟ قال: عجبت من جرأتك على الله تعالى وحلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط وقال: اقتلوه، فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، قال: وجهوه لغير القبلة، قال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله، قال: كبوه على وجهه، فقال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، فقال الحجاج: اذبحوه، فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، ثم قال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي، فذبح على النطع رحمه الله، وكان رأسه يقول بعد قطعه: لا إله إلا الله، وكان سعيد بن جبير كثير البكاء خوفا من الله تعالى يردد هذه الآية:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}
(1)
، قال ميمون بن مهران: مات سعيد بن جبير وما
(1)
سورة البقرة، الآية:281.
على وجه الأرض رجل إلا وهو محتاج إلى علمه وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة، وذلك في سنة خمس وتسعين، وكان عمر سعيد بن جبير تسعا وأربعين سنة
(1)
والله أعلم.
فائدة أيضًا: تتعلق بالحجاج: وكان الحجاج يسمى كليبًا، وسبب تسميته بذلك أنه لما ولدته أمه امتنع من أخذ الثدي فاغتم أبوه لذلك وأقام كذلك ثلاثة أيام حتى يئس من حياته فحضر إليهم شيخ اللحى أعور باليمين في زي حكيم من حكماء العرب فشكا أبو الحجاج له أمر ولده فقال: ينظر إلى كلبة سوداء ليس بها بياض ذات جرى فيذبح له من جراها جروا أسود ويلطخ بدمه فاه وثدي المرضعة ففعل ذلك فقبل الثدي لوقته.
وقيل: إن ذلك الشيخ الأعور كان إبليس لعنه الله وانتشأ الحجاج ولقب بكليب لهذا السبب ثم إنه صار عند روح بن زنباع الجذامي كاتب عبد الملك بن مروان وكان شهما مقداما وكان روح يخصه بالمعضلات من الأمور، فشكا عبد الملك يوما لروح تخلف العسكر وأنهم لا يركبون لركوبه ويتثاقلون في المسير فقال روح: يا أمير المؤمنين في شرطتي رجل إن وليته هذا الأمر كفاك همه فأمر بإحضاره وسأله عن نسبه فانتسب له فولاه أمر الجيش فقام بذلك أحسن قيام وعاد لا يستقر أحد بعد ركوب أمير المؤمنين
(1)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 216 - 217 ترجمة 208)، وتهذيب الكمال (10/ ترجمة 2245).
واستقر على أمره فعظم في أعين الناس وهابوه وولاه العراقين
(1)
، وأما شهادته على نفسه بعد ما قتل فقد روي أنه لما حج مع عبد الملك بن مروان بعد قتله ابن الزبير عبر على ناد وفيه جماعة من قريش فيهم بعض ولد يزيد بن معاوية فنظر إلى الحجاج وهو يتبختر في مشيته، فقال: يتبختر ولا يتخطر عمرو بن معدي كرب، فسمعه فرجع إليه وقد عرفه، فقال: كيف لا أتبختر وقد قتلت بقائم سيفي مائة ألف كل منهم يشهد على أبيك يزيد بالزنا وشرب الخمر فهذه شهادته على نفسه أنه قتل مائة ألف فنعوذ بالله من مكره، وكان آخر من قتل سعيد بن جبير ومن حين قتله اختل في عقله وعاد يقول ما لي وما لجبير؟ ما لي وما لجبير؟ حتى مات
(2)
.
لطيفة: ومن مستطرفاته: قيل إن رجلا أهدى للحجاج تينا في غير أوانه وجلس على الباب ينتظر الجائزة فأحضرت أناس للقتل فتسحب منهم شخص واحد فخشي المتستر على نفسه أن يطالب بتكملة العدة فأخذ صاحب التين فجعله مكان المتسحب وأحضروا بين يدي الحجاج فضرب رقابهم وقدم صاحب التين لضرب العنق فصاح وقال: وما جرمتي أنا أيها الأمير فقال ألست منهم؟ قال لا والله أنا صاحب التين فضحك الحجاج وقال تمن علي، فقال لست أسألك غير ثلاث دراهم فقال ويحك وما تصنع بها؟ فقال أشتري بها فأسا وأقطع أصل هذه التينة التي كانت سبب قدومي
(1)
كنز الدرر (4/ 174 - 175).
(2)
كنز الدرر (4/ 181 - 182).
عليك، قال فضحك الحجاج حتى فحص برجله الأرض وأجازه وأحسن إليه
(1)
.
لطيفة أخرى: ويروى أنه قال يوما للشعبي: كم عطاءك في السنة قال ألفين، قال ويحك عطاؤك قال ألفان قال كيف لحنت أولا قال لحن أمير المؤمنين فلحنت فلما أعرب أعربت وما أمكن أن يلحنه أمير المؤمنين وأعرب أنا فاستحسن ذلك منه وأجازه، قلت: الشعبي هذا هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار، وذو كبار قيل من أقيال اليمن من حمير وهو كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم روى عن عمر بن الخطاب وعن عثمان وعلي رضي الله عنهم أ. هـ قاله في تاريخ كنز الدرر
(2)
وهو تاريخ مبسوط في تسعة أجزاء كبار في قطع المنصوري.
666 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ ويجتمعون فِي صَلاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فِيكُم فيسألهم رَبهم وَهُوَ أعلم بهم كَيفَ تركْتُم عبَادي فَيَقُولُونَ تركناهم وهم يصلونَ وأتيناهم وهم يصلونَ
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه وَلَفظه فِي إِحْدَى رواياته قَالَ تَجْتَمِع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الْعَصْر فيجتمعون فِي صَلَاة الْفجْر فتصعد مَلَائِكَة اللَّيْل وَتثبت مَلَائِكَة النَّهَار
(1)
كنز الدرر (4/ 182).
(2)
كنز الدرر (1/ 182 - 183).
ويجتمعون فِي صَلَاة الْعَصْر فتصعد مَلَائِكَة النَّهَار وتبيت مَلَائِكَة اللَّيْل فيسألهم رَبهم كيفَ تركتُم عبَادي فَيَقُولُونَ أتيناهم وهم يصلونَ وتركناهم وهم يصلونَ فَاغْفِر لَهُم يَوْم الدّين
(1)
.
قوله: عن أبي هريرة تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" الحديث، التعاقب أن تأتي طائفة بعد طائفة ومنه تعقيب الجيوش وهو أن يذهب إلى العدو قوما ويجيء آخرون وقيل معناه يذهبون ويرجعون
(2)
وأما تعاقبهم في هذين الوقتين فإنهما وقتا الفراغ من وظيفتي الليل والنهار ووقت رفع أعمال العباد إلى الله تعالى، وأما اجتماعهم فيهما فهو من تمام لطف الله تعالى بالمؤمنين لتكون شهادة لهم بما شهدوه من الخير
(3)
والله أعلم.
واختلف العلماء في المراد بهؤلاء الملائكة هل هم الحفظة أو غيرهم فحكى صاحب المفهم عن الجمهور أنهم الحفظة وقال إن الأظهر عنده أنهم غير الحفظة وما ذكر أنه الأظهر هو الذي لا يتجه غيره وهذا الحديث لا يدل لما حكاه الجمهور
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (555) و (3223) و (7429) و (7486)، ومسلم (210 - 632)، والنسائى في المجتبى 1/ 581 (495)، وابن خزيمة (321) و (322).
(2)
إكمال المعلم (2/ 589)، وشرح النووي على مسلم (5/ 133)، والكواكب الدراري (4/ 199).
(3)
الكواكب الدراري (4/ 200).
(4)
طرح التثريب (2/ 305).
قوله: "ثم يعرج الذين باتوا فيكم" العروج هو الارتقاء وتقدم.
قوله "فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم" أما سؤاله منه وهو أعلم فيحتمل أن يكون لطلب اعتراف الملائكة بذلك ردا عليهم فيما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}
(1)
وقيل: هذا السؤال على ظاهره وهو تعبد منه لملائكته كما أمرهم بكتب الأعمال وهو أعلم بالجميع، وفيه إيذان بأن ملائكة الليل لا يزالون حافظين العباد إلى الصبح
(2)
وفيه زيادة شرف الصلاتين وذلك لتعاقب الملائكة في وقتيهما، ولأن وقت صلاة الصبح وقت لذة النوم كما قيل إن الكرى عند الصباح يطيب والقيام فيه أشق على النفس من القيام في غيره، وصلاة العصر وقت الفراغ عن الصناعات وإتمام الوظائف والمسلم إذا حافظ عليها مع ما فيه من التثاقل والتشاغل فلأن يحافظ على غيرها بالطريق الأولى
(3)
.
وفيه فضيلة صلاة العصر والصبح لاجتماع الملائكة فيهما وهما المراد بقوله سبحانه وتعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا}
(4)
كما قال جرير بن عبد الله
(5)
وتقدم الكلام على هذا الحديث مبسوطًا.
(1)
سورة البقرة، الآية:30.
(2)
الكواكب الدراري (4/ 200).
(3)
اللامع الصبيح (3/ 365)، وعمدة القارى (5/ 44).
(4)
سورة طه: الآية: 130.
(5)
طرح التثريب (2/ 305).
خاتمة: وهذا من خفي لطفه تعالى وجميل ستره إذ أطلع الملائكة على العباد بكرمه حالة عباداتهم ولم يطلعهم عليهم ولا جمعهم لهم في حال خلواتهم ولذاتهم وانهماكهم في معاصيهم وشهواتهم فسبحانه من كريم حليم جليل إذ ستر القبيح وأظهر الجميل
(1)
.
(1)
المفهم (6/ 49).