الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الترغيب في الصف الأول وما جاء في تسوية الصفوف والتراص فيها وفضل ميامنها ومن صلى في الصف المؤخر]
699 -
عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول ثمَّ لم يَجدوا إِلَّا أَن يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا" رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم
(1)
، وَفِي رِوَايَة لمُسلم لَو تعلمُونَ مَا فِي الصَّفّ الْمُقدم لكَانَتْ قرعَة
(2)
.
قوله: عن أبي هريرة رضي الله عنه تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول" الحديث ومعناه أنهم لو علموا فضيلة الأذان وقدرها وعظيم جزائه ثم لم يجدوا طريقا يحصلونه به لضيق الوقت عن الأذان أو لكونه لا يؤذن للمسجد إلا واحد لاقترعوا في تحصيله لقطع المنازعة بينهم والاختلاف ولكنهم لا يعلمون ما فيه من الثواب ولو يعلمون ما في الصف الأول من الفضيلة نحو ما سبق وجاءوا إليه دفعة واحدة وضاق عنهم ثم لم يسمح بعضهم لبعض به لاقترعوا عليه وفيه إثبات القرعة في الحقوق التي يزدحم عليها ويتنازع فيها
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (615) و (654) و (2689)، ومسلم (129 - 437).
(2)
أخرجه مسلم (131 - 439).
(3)
شرح النووي على مسلم (4/ 158).
واعلم أن الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله والحث عليه هو الصف الذي يلي الإمام سواء أكان صاحبه على بعد من الإمام أو قرب وسواء تخلله مقصورة أو منبرا أو أعمدة ونحوها أم لا هذا هو الصحيح، وقالت طائفة الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه لا تتخلله مقصورة ونحوها وإن تخلل الذي يلي الإمام شيء فليس بأول بل الأول ما لا يتخلله شيء وإن تأخر وقيل الصف الأول عبارة عن مجيء إنسان إلى المسجد أولا وإن صلى في صف متأخر والله أعلم
(1)
.
مسألة: يستحب للمأموم أن يبادر إلى الصلاة في الصف الأول لمعنيين أحدهما استماع قراءة الإمام، الثاني أن الصلاة في الصف الأول أخشع لعدم اشتغاله بمن أمامه وجهة اليمين أفضل قال الترمذي الحكيم لأنه روي أن الرحمة تنزل على الإمام أولا ثم على من على يمينه ثم على من يساره
(2)
.
فإن سبق واحد إلى الصف الأول لم يجز لغيره تأخيره إلا في مسائل إحداها: إذا كان ممن يتأذى به القوم بريحه الكريهة من صنان ونحوه وعن مالك رحمه الله أنه كان يأمر الزياتين والقصابين ونحوهم بالصلاة في آخر القوم لكراهة ريح ثيابهم.
الثانية: إذا حضر العبد بإذن السيد إلى الصف الأول فللسيد تأخيره وله أن
(1)
شرح النووي على مسلم (4/ 160).
(2)
رياضة النفوس (ص 68)، والقول التمام (ص 190)، وأسنى المطالب (1/ 234).
يأمره بالسبق إلى الصف الأول ليحرز له الموضع قاله في الشامل.
الثالثة: إذا تقدم صبي إلى الصف الأول أو امرأة إليه أمرت بالتأخير الحديث.
الرابعة: إذا صف خلف الإمام جاهل لا يصلح للاستخلاف فينبغي أن يؤخر ويتقدم إلى خلف الإمام من يصلح للإمامة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليلني منكم أولى الأحلام والنهى" والأولى أن لا يزعج السابق إلى خلف الإمام عن الصف الأول بل إن وجد في الصف الأول من يصلح للإمامة تقدم إلى الأمام وصلى هذا في موضعه وإن لم يكن في الصف الأول من يصلح أخر ويقدم من يصلح من الصف المتأخر
(1)
والله أعلم.
فائدة: يستحب المبادرة إلى الصف الأول الذي يلي الإمام وقيل في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)}
(2)
أن المراد المستقدمين إلى الصف الأول والمستأخرين عنه
(3)
، ولو سبق واحد إلى الصف الأول ثم قام ليتوضأ ويعود لم يبطل اختصاصه ولم يكن لغيره أن يجلس في مكانه قال في الروضة في باب صلاة الجمعة ويجوز
(1)
القول التمام (ص 190 - 191).
(2)
سورة الحجر، الآية:24.
(3)
قاله ابن عباس كما في تفسير الطبري (14/ 53 - 54)، وأبو الجوزاء كما في تفسير عبد الرزاق (1445) وتفسير الطبري (14/ 53)، وعون بن عبد الله كما في تفسير الطبري (14/ 48) والحسن ومروان بن الحكم كما في تفسير الطبري (14/ 53).
أن يبعث من يأخذ له موضعا، فإذا جاء ينحي المبعوث، وقال في الشامل قال يعني الشافعي ولا أكره للرجل يوم الجمعة أن يوجه من يأخذ له موضعا فإذا جاء الآمر تنحى له وروي عن ابن سيرين أنه كان يرسل غلامه إلى مجلس له يوم الجمعة ليجلس فيه فإذا جاء محمد قام الغلام وجلس فيه وهذا إن كان الذي يبعثه لا جمعة عليه بأن كان عبدا فإن كان حرا كره له الإيثار في القربى ولو فرش له رجل ثوب فجاء آخر لم يجز له أن يجلس عليه بل له أن ينحيه ويجلس مكانه قال في البيان ولا يرفعه لئلا يدخل في ضمانه انتهى قاله ابن العماد
(1)
.
700 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صُفُوف الرِّجَال أَولهَا وشرها آخرهَا وَخير صُفُوف النِّسَاء آخرهَا وشرها أَولهَا" رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه
(2)
.
وَرُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَعمر بن الْخطاب وَأنس بن مَالك وَأَبُو سعيد وَأَبُو أُمَامَة وَجَابِر بن عبد الله وَغَيرهم
(3)
.
(1)
تسهيل المقاصد (لوحة 71).
(2)
أخرجه مسلم (132 - 440)، وابن ماجه (1000)، وأبو داود (678)، والترمذي (224)، والنسائي في المجتبى 2/ 269 (832) والكبرى (982).
(3)
أما حديث ابن عباس: أخرجه البزار (5194)، والطبراني في الأوسط (3/ 45 رقم 2425) والكبير (11/ 203 رقم 11497). وأما حديث عمر بن الخطاب: أخرجه الطبراني في الأوسط (1/ 157 - 158 رقم 493). وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن عمر بن الخطاب إلا بهذا الإسناد، تفرد به إبراهيم بن المنذر. وقال الهيثمي في =
قوله: وعن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها" الحديث ففي هذا الحديث الحث على التقدم إلى الصف الأول وعكسه في حق النساء لما في قربهن من الرجال من خوف الفتنة
(1)
وقد نزل في ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ}
(2)
الآية وفيه كراهة العكس من الجانبين
= المجمع 2/ 93: رواه الطبراني في الأوسط وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي، ضعفه الجمهور، ووثقه ابن معين في رواية وضعفه في أخرى. وأما حديث أنس بن مالك: أخرجه البزار (7073). قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم يروى عن أنس إلا من هذا الوجه، ولا نعلم حدث به، عن سعيد إلا أبو عاصم.
وأما حديث أبي سعيد الخدرى: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 333 (3817)، وأحمد 3/ 3 (10994) و 3/ 16 (11121)، والحارث (153)، وأبو يعلى (1102)، وابن خزيمة (1562)، وابن حبان (402).
وأما حديث أبي أمامة: أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 165 رقم 7692). وقال الهيثمي في المجمع 2/ 93: رواه الطبراني في الكبير، وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف.
وأما حديث جابر بن عبد الله: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 332 (3814)، وأحمد 3/ 293 (14123) و 3/ 331 (14551) و 3/ 387 (15161)، وابن ماجه (1001).
وروى أيضًا من حديث فاطمة بنت قيس: أخرجه الحارث في المسند (150)، وابن عدى في الكامل (3/ 511).
ومن حديث محجن الأسلمى: أخرجه ابن الأعرابى المعجم (2122).
(1)
كشف المشكل (3/ 460).
(2)
سورة الحجر، الآية:24.
لإطلاق الشر عليهما ويحتمل أنه خلاف الأولى لا مكروه وذكر الشر على سبيل المقابلة أن المراد به نقص الفضيلة وقد أطلق على ولد الزنا أنه شر الثلاثة وليس المراد أنه دونهم ولذلك قال في الحية التي لم يقدروا عليها إنها شركم وإن كان في قتلها مثيرا أما صفوف الرجال فخيرها أولها أبدا وشرها آخرها أبدا وأما صفوف النساء فخير صفوفها آخرها وشرها أولها ليس هو على عمومه بل هذا محمول على ما إذا اختلطن بالرجال فإن صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال أو من صلى منهن في جانب بعيد عن الرجال فأول صفوفهن خير لزوال العلة
(1)
.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وشرها آخرها" فالمراد شر الصفوف في الرجال والنساء أقلها ثوابا وفضلا وأبعدها من مطلوب الشرع وكراهة ذلك الفعل وخيرها بعكسه وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات من الرجال لبعدهن عن مخالطة الرجال ورؤيتهن وتعلق القلب بهن عند رؤية حركاتهن وسماع كلامهن ونحو ذلك فأول صفوفهن لعكس ذلك
(2)
والله أعلم.
فائدة: في الصلاة بين السواري: عن معاوية بن قرة رضي الله عنه قال: كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طردا"
(3)
إنما نهوا
(1)
شرح النووي على مسلم (4/ 159).
(2)
شرح النووي على مسلم (4/ 159 - 160).
(3)
أخرجه الطيالسي (1169)، وابن ماجه (1002)، والرويانى (950)، وابن خزيمة =
عن ذلك وطردوا عنه لأمرين أحدهما أن ذلك المكان كان مصلى النساء
(1)
فأمروا أن يبعدوا عنه، والثاني: أن ذلك تأخر عن الصفوف الأول التي ندب الشارع إلى الإتيان إليها والإسباق، وفي الصفوف خلف السواري تفويت هذه الفضيلة فطردوا عن تلك الأماكن لذلك والله أعلم.
701 -
وَعَن الْعِرْبَاض بن سَارِيَة رضي الله عنه أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يسْتَغْفر للصف الْمُقدم ثَلَاثًا وَللثَّانِي مرّة رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح على شَرطهمَا وَلم يخرجَا للعرباض وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَلَفظه كَانَ يُصَلِّي على الصَّفّ الْمُقدم ثَلَاثًا وعَلى الثَّانِي وَاحِدَة" وَلَفظ النَّسَائِيّ كَابْن حبَان إِلَّا أَنه قَالَ كَانَ يُصَلِّي على الصَّفّ الأول مرَّتَيْنِ
(2)
.
قوله: عن العرباض بن سارية السلمي، كنيته: أبو نجيح كان من أهل الصفة، ومن البكائين نزل الشام وحمص توفي سنة خمس وسبعين، وقيل:
= (1567)، وابن حبان (2219)، والطبراني في الكبير (19/ 21 رقم 40)، والحكام (1/ 218) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الصحيحة (335).
(1)
كذا في الأصل وإنما عللوه بأنه قيل مصلى الجن المؤمنين. انظر: المفهم (5/ 37)، ورياض الأفهام (4/ 14)، وإعلام الساجد (ص 381).
(2)
أخرجه ابن ماجه (996)، والنسائي في المجتبى 2/ 266 (829) والكبرى (979)، وابن خزيمة (1558)، وابن حبان (2158) و (2159)، والطبراني في الكبير 18/ 255 (637) و (638) و 18/ 256 (639) و (640)، والحاكم (1/ 214)، والبغوي في شرح السنة (816). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (490).
توفي في أيام الزبير وليس في الصحابة من اسمه العرباض سواه، والعرباض من الإبل الغليظ الشديد
(1)
، وفي أمالي الرافعي وهو معدود من أهل الصفة ومن الذين نزل فيهم قوله تعالى:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ}
(2)
وتقدم الكلام على مناقبه مبسوطا
(3)
. للعرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد وثلاثون حديثا.
قوله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرة" ويؤيد ذلك ما في رواية ابن حبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الصف المقدم ثلاثا وعلى الثاني واحدة" الصلاة من الله تعالى رحمة ومن الملائكة ومن النبيين عليهم الصلاة والسلام استغفار ودعاء قاله الهروي
(4)
استغفاره صلى الله عليه وسلم للصف المقدم ثلاثا كاستغفاره للمحلقين ثلاثا ثم للمقصرين لأن غيرهم قصر في المشي إلى الصف الأول.
702 -
وَعَن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على الصَّفّ الأول قَالُوا يَا رَسُول الله وعَلى الثَّانِي قَالَ إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على الصَّفّ الأول قَالُوا يَا رَسُول الله وعَلى الثَّانِي قَالَ وعَلى الثَّانِي وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سووا صفوفكم وحاذوا بَين مناكبكم ولينوا فِي أَيدي
(1)
قاله الأصمعى تهذيب اللغة (3/ 211).
(2)
سورة التوبة، الآية:92.
(3)
انظر تهذيب الأسماء واللغات (1/ 330 ترجمة 402).
(4)
الغريبين (4/ 1094).
إخْوَانكُمْ وسدوا الْخلَل فَإِن الشَّيْطَان يدْخل فِيمَا بَيْنكُم بِمَنْزِلَة الْحَذف يَعْنِي أَوْلَاد الضَّأْن الصغار رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد لَا بَأْس بِهِ وَالطَّبَرَانِيّ وَغَيره
(1)
.
الْحَذف بِالْحَاء الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة مفتوحتين وبعدهما فَاء
قوله: وعن أبي أمامة رضي الله عنه تقدم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول قالوا يا رسول الله وعلى الثاني قال وعلى الثاني" قال العلماء ينقسم الموقف إلى ثلاثة أقسام:
قسم يستحب وقسم واجب وقسم مكروه
أما المستحب فهو الصف الأول وأفضله البقعة التي خلف الإمام ثم ما على يمينه ثم ما على يساره والصلاة في الصف الأول أفضل مما في غيره وإن كان في المسجد الحرام أو مسجد المدينة لأن القرب من الإمام فضيلة تتعلق بالصلاة ويشهد لذلك عموم الأحاديث قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول" وغير ذلك وأما القسم الواجب فهو أن يقف بحيث لا يتقدم على إمامه، وأما القسم المكروه فهو أن يقف منفردا خلف الصف والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم" الحديث مأخوذ من الحذاء بالذال والهمزة والمحاذاة الموازاة والمقابلة أي اجعلوها بحذاء
(1)
أخرجه أحمد 5/ 262 (22263)، وأبو يعلى كما في إتحاف الخيرة (2/ 144 رقم 1219/ 1)، والطبراني في الكبير (8/ 174 رقم 7727) والشاميين (1587). وقال الهيثمي في المجمع 2/ 91: رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجال أحمد موثقون.
وحسن الألباني شطر الأول وصحح الأخير صحيح الترغيب (491).
بعضها بعضا وهو أن يجعل المنكب بجنب المنكب والمناكب جمع منكب وهو ما بين الكتف والعنق.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ولينوا في أيدي إخوانكم" أراد لزوم السكينة في الصلاة وقيل أراد أن لا يمتنع على من يجيء ليدخل في الصف الأول لضيق المكان بل يمكنه من ذلك قاله في النهاية
(1)
.
قوله: "وسدوا الخلل" والخلل ما يكون بين الاثنين من الاتساع عند عدم التراص.
قوله: "فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف يعني أولاد الضأن الصغار" والحذف بالحاء المهملة والذال المعجمة مفتوحتين وبعدها فاء قال الحافظ يعني أولاد الضأن الصغار وفي رواية كأولاد الحذف قيل يا رسول الله وما أولاد الحذف قال: ضأن سود جرد صغار تكون باليمن وقال في النهاية الحذف هي الغنم الصغار واحدتها حذفة بالتحريك وقيل هي صغار جرد ليس لها آذان ولا أذناب يجاء بها من جرش اليمن
(2)
.
وفي هذا الحديث التصريح بما يكشف للأنبياء والأولياء من رؤية الشياطين وشبهها بالحذف وفي رواية بأولاد الحذف كما تقدم لسرعتها وجولانها بين القوم بالوسوسة فيستحب سد الفرج بين الصفوف ومن وجد فرجة جاز له تخط صفا واثنين وثلاثة ليسدها ويكون التقصير منهم فلا حرمة
(1)
بحر المذهب (2/ 278).
(2)
النهاية (1/ 356).
لهم
(1)
وفيه التحريض على التعاون على الشياطين والأعداء بالإخوان الصالحين واتباع السنة فإنهم ينهزمون لا سيما إذا سدت الأبواب في وجوههم وغلقت أبواب الشر فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، واعلم أن هذه السنة تزيد في الألفة واجتماع القلوب والهيبة والوقار وأن الإخلال بها يورث العكس
(2)
قاله في شرح الإلمام.
703 -
وَعَن النُّعْمَان بن بشير رضي الله عنه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول: "إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على الصَّفّ الأول أَو الصُّفُوف الأول" رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد جيد
(3)
.
قوله: وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما هو النعمان بن بشير هو وأبوه صحابيان وأمه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة صحابية ولد النعمان بعد الهجرة بأربعة عشر شهرًا استعمله معاوية على حمص ثم على الكوفة وتوفي سنة أربع وستين والله أعلم
(4)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول أو الصفوف الأول" تقدم معنى الصلاة في اللغة والشريعة في أماكن من هذا التعليق وروي في
(1)
القول التمام (ص 192).
(2)
انظر: تحفة الأبرار (1/ 338)، وشرح المشكاة (4/ 1144).
(3)
أخرجه الإمام أحمد (4/ 268 - 269 رقم 18364)، والبزار (3224)، والطبراني في الكبير (21/ 114 رقم 133). وقال الهيثمي في المجمع 2/ 91: رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (492).
(4)
تهذيب الأسماء واللغات (2/ 129 الترجمة 633).
الأخبار إن الله تعالى إذا أنزل الرحمة على أحد ينزلها أولا على الإمام ثم يتجاوز عنه إلى من بحذائه في الصف الأول ثم إلى الميامن ثم إلى المياسر ثم على الصف الثاني وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "يكتب للذي خلف الإمام مائة صلاة وللذي في الجانب الأيمن خمسة وسبعون صلاة وللذي في الجانب الأيسر خمسون صلاة وللذي في سائر الصفوف خمسة وعشرون صلاة"
(1)
، وعن كعب الأحبار رضي الله عنه أنه كان يقف في آخر الصفوف ويقول بلغني أن الرجل من هذه الأمة يسجد سجدة فيغفر له وجميع من خلفه، ونقل في الإحياء عن بعضهم أنه كان يقصد الصلاة في الصف الآخر
(2)
، وهذا يختلف باختلاف المقاصد، وهذا في الرجال، أما النساء فيستحب لهن إذ صلين مع الرجال التأخر للحديث "خير صفوف النساء آخرها" ويستحب إكمال الصف الأول فالأول والصلاة في الصف الناقص المقدم أولى من الصف المتأخر المكمل، وفيه حديث بوب له ابن حبان في صحيحه
(3)
والله أعلم.
704 -
وَعَن الْبَراء بن عَازِب رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَأْتِي نَاحيَة الصَّفّ وَيُسَوِّي بَين صُدُور الْقَوْم ومناكبهم وَيَقُول لَا تختلفوا فتختلف
(1)
درر الحكام (1/ 90) والبحر الرائق (1/ 375).
(2)
إحياء علوم الدين (1/ 183).
(3)
أخرجه أبو داود (671)، والنسائي في المجتبى 2/ 267 (830) والكبرى (980)، وابن حبان (2155) عن أنس بلفظ: أتموا الصف الأول ثم الذي يليه، وإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر. وصححه الألباني في المشكاة (1094) وصحيح أبي داود (675).
قُلُوبكُمْ إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على الصَّفّ الأول" رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه
(1)
.
قوله: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما هو: أبو عمارة، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الطفيل، هو: البراء بن عازب بن الحارث بن عدي هو وأبوه صحابيان الأنصاري الأوسي الحارثي المدني، أمه: حبيبة بنت أبي حبيبة والأفصح في اللغة في البراء المد، روى البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلثمائة حديث وخمسة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم منها على اثنين وعشرين حديثا، وانفرد البخاري بخمسة عشر ومسلم بستة، نزل الكوفة وتوفي بها في زمن مصعب بن الزبير، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة، استصغره صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأول مشاهده أحد، ومناقبه كثيرة مشهورة
(2)
.
قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي ناحية الصف ويسوي بين صدور القوم ومناكبهم ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" الحديث، أي: إذا تقدم بعضهم على بعض في الصفوف تأثرت قلوبهم ونشأ بينهم الخلف، ومنه الحديث الآخر:"لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" يريد كلا
(1)
أخرجه أبو داود (664)، والنسائي في المجتبى 2/ 262 (823) والكبرى (973)، وابن خزيمة (1551) و (1552) و (1556) و (1557)، وابن حبان (2157) و (2161).
وصححه الألباني في صحيح أبي داود (670) وصحيح الترغيب (493) و (502) و (513).
(2)
تهذيب الأسماء واللغات (1/ 132 - 133 ترجمة 80).
منهم يصرف وجهه عن الآخر ويوقع بينهم التباغض، فإن إقبال الوجه على الوجه من أثر المودة والألفة، وقيل: أراد بها تحويلها إلى الأدبار، وقيل: تغيير صورتها إلى صورة أخرى
(1)
، ففيه تنبيه على قاعدة عظيمة من قواعد الشرع وهي أن الشارع صلى الله عليه وسلم دأبه جمع القلوب وتألفها وعدم المنافرة وأنه يستدل بصلاح الظاهر على صلاح الباطن وعمارته
(2)
.
705 -
وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سووا صفوفكم فَإِن تَسْوِيَة الصَّفّ من تَمام الصَّلَاة" رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَابْن مَاجَه وَغَيرهم
(3)
.
وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فَإِن تَسْوِيَة الصُّفُوف من إِقَامَة الصَّلَاة
(4)
.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَفظه: أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ رصوا صفوفكم وقاربوا بَينهَا وحاذوا بالأعناق فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ إِنِّى لأرى الشَّيْطَان يدْخل من خلل الصَّفّ كَأَنَّهَا الْحَذف" رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي صَحِيحَيْهِمَا نَحْو رِوَايَة أبي دَاوُد
(5)
.
(1)
النهاية (2/ 37).
(2)
انظر: شرح النووي على مسلم (4/ 157)، وشرح المشكاة (4/ 1140).
(3)
أخرجه مسلم (124 - 433)، وابن ماجه (993)، وأبو داود (668)، وابن خزيمة (1543)، وابن حبان (2171) و (2174).
(4)
أخرجه البخاري (723).
(5)
أخرجه أبو داود (667)، وابن خزيمة (1545)، والنسائي في المجتبى 2/ 286 (857) والكبرى (976)، وابن حبان (2166) و (6339). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (673) وصحيح الترغيب (494).
الْخلَل بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَاللَّام أَيْضا هُوَ مَا يكون بَين الِاثْنَيْنِ من الاتساع عِنْد عدم التراص.
قوله: عن أنس، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "سووا صفوفكم" الحديث، تسوية الصفوف: اعتدال القائمين بها على سمت واحد، والتسوية لها معان ثلاثة، الأول: بمعنى تراص الأقدام واتصال المناكب وعدم خروج بعض عن بعض.
الثاني: سد الفرج التي بينها وهو مستفاد من المعنى الأول ولازم له.
الثالث: تسويتها باعتبار سد الصف الناقص.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" وفي رواية في البخاري "من إقامة الصلاة" وفي رواية في مسلم "من خمس الصلاة" أي: من تمامها وحسنها وكمالها معا.
قوله: "قد قامت الصلاة" فمعناه: قام له أو حان قيامهم، فهذا يدل على أن ذلك مطلوب وأنه مستحب غير واجب لأنه لم يذكر من واجباتها ولا من مستحباتها ولا من أركانها وتمام الشيء أمر زائد على وجود حقيقته التي لا يسمي إلا بها في مشهور الاصطلاح، وقد يطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به
(1)
، وقال في الإكمال تمام الشيء وحسنه وكماله بمعنى واحد
(2)
والله أعلم.
(1)
إحكام الأحكام (1/ 217)، طرح التثريب (1/ 217).
(2)
الإعلام (2/ 513).
فرع: ويؤخذ من الحديث أنه لو حضر مسبوق بعد ما أحرم الإمام في الركعة الأولى أو الثانية ورأى فرجة في الصف السابق أنه يستحب له الشق بين الصفوف إلى أن يصل إلى الدرجة السابقة فيسدها ولا يكون ذلك ملحقا التخطي بالتقصير القوم وهو كذلك، وقد نص عليه الشافعي ونقله عنه في الكفاية
(1)
، قال [كلمة ممسوحة] لذلك لو وجد الصفوف مستكملة وبينها فضاء يسع فللمسبوق الشق بين الصفوف لإقامة ذلك والله أعلم، قاله ابن العماد
(2)
.
قوله: في رواية أبي داود: "رصوا صفوفكم وقاربوا بها وحاذوا بالأعناق" المحاذاة بالذال المعجمة كما سبق، والتراص التلاصق، وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطًا.
قوله: "فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف" تقدم معناه.
706 -
وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم اسْتَووا تستو قُلُوبكُمْ وتماسوا تزاحموا قَالَ شُرَيْح تماسوا يَعْنِي تزاحموا أوفى الصَّلَاة وَقَالَ غَيره تماسوا تواصلوا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط
(3)
.
(1)
كفاية النبيه (4/ 65).
(2)
القول التمام (ص 192).
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 214 رقم 5121). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الشعبي إلا مجالد، ولا مجالد إلا أبو خالد الأحمر، تفرد به: سريج بن يونس، ولا يروى عن علي إلا بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في المجمع 2/ 90: رواه الطبراني في الأوسط وفيه الحارث وهو ضعيف. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (258).
قوله: عن علي، تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "استووا تستو قلوبكم" الحديث، تقدم بعض التابعين ليصلي بالناس إمامًا فالتفت إلى المأمومين يعدل الصفوف وقال: استووا أو استقيموا فغشي عليه، فسئل عن ذلك فقال: كما قلت لهم استقيموا فكرت في نفسي فقلت لها: فأنت هل استقمت مع الله طرفة عين
(1)
.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وتماسوا تزاحموا" قال شريح: تماسوا يعني تزاحموا أوفى الصلاة، وقال غيره: تماسوا تواصلوا، قاله الحافظ رحمه الله.
707 -
وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أقِيمُوا الصُّفُوف وحاذوا بَين المناكب وسدوا الْخلَل ولينوا بأيدي إخْوَانكُمْ وَلَا تذروا فرجات الشَّيْطَان وَمن وصل صفا وَصله الله وَمن قطع صفا قطعه الله" رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَعند النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة آخِره الفرجات جمع فُرْجَة وَهِي الْمَكَان الْخَالِي بَين الِاثْنَيْنِ
(2)
.
قوله: عن ابن عمر تقدم.
(1)
لطائف المعارف (ص 18 - 19).
(2)
أخرجه أحمد 2/ 97 (5724)، وأبو داود (666)، والطبراني في الكبير (13/ 319 رقم 14113) والشاميين (1958)، والمخلص في المخلصيات (2630). وصححه الألباني في المشكاة (1102) وصحيح أبي داود (672) وصحيح الترغيب (495). وأما آخره وهو من وصل صفًّا، أخرجه النسائي في المجتبى 2/ 268 (831) والكبرى (981)، وابن خزيمة (1549)، والحاكم في المستدرك (1/ 213). وصححه الحاكم ووافقه الذهبى. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (503).
قوله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل" معنى "وأقيموا الصلاة" سووها وعدلوها أي عدلوا وسووا، يقال أقام العود إذا قومه، وتقدم الكلام على المحاذاة وسد الخلل.
قوله: "وتراصوا فيها" أي: تلاصقوا حتى لا يكون بينكم فرج، وأصله تراصصوا من رص البناء رصا إذا ألصق بعضه ببعض فأدعم، ومنه حديث ابن صياد فرصه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: ضم بعضه بعضًا قاله في النهاية
(1)
.
قوله: "وحاذوا بين المناكب" هو بالذال المعجمة وتقدم، والمناكب جمع منكب وهو مجتمع ما بين العضد والكتف وروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أن ثيابهم كانت تنقطع من عند مناكبهم لشدة تراصهم في صلاتهم لأنهم عليه الصلاة والسلام كان لا يدخل في الصلاة حتى يسويهم ويعلمهم ترصيص الصفوف كيف هي
(2)
.
قوله: "وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم" تقدم معناه في الأحاديث المتقدمة.
قوله: "ولا تذروا فرجات الشيطان" الفرجات جمع فرجة وهي الخلل الذي يكون بين المصلين في الصفوف فأضافها إلى الشيطان تقطيعًا لشأنها وحملًا على الاحتراز منها، وفي رواية "فرج الشيطان" جمع فرجة كظلمة وظلم.
(1)
النهاية (2/ 227).
(2)
المدخل (1/ 133).
708 -
وَعَن جَابر بن سَمُرَة رضي الله عنه قَالَ خرج علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَلا تصفون كَمَا تصف الْمَلَائِكَة عِنْد رَبهَا فَقُلْنَا يَا رَسُول الله وَكَيف تصف الْمَلَائِكَة عِنْد رَبهَا قَالَ يتمون الصُّفُوف الأول ويتراصون فِي الصَّفّ" رَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه
(1)
.
قوله: عن جابر هو جابر بن سمرة تقدم الكلام على مناقبه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة محند ربها" الحديث، المراد بذلك إتمام الصفوف الأول في الصلاة، وأبعد بعضهم فقال: المراد به الصلاة في الجهاد كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)}
(2)
والظاهر أنه يشمل الأمرين، ويحتمل أن يكون المراد بالملائكة الملائكة الذين هم حول العرش، ويحتمل أن يكون المراد الكل وهو الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم:"فضلنا على الناس بثلاث، جعلت لنا الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وكذلك تأتون يوم القيامة بين يدي الرب جل وعلا صفوفًا"
(3)
كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}
(4)
ويقفون صفوفًا بين يدي ربهم يوم القيامة
(1)
أخرجه مسلم (119 - 430)، وابن ماجه (992)، وأبو داود (661)، والنسائي في المجتبى 2/ 266 (828) والكبرى (978) و (11546).
(2)
سورة الصف، الآية:4.
(3)
أخرجه مسلم (4 - 522) عن حذيفة.
(4)
سورة الفجر، الآية:22.
كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)}
(1)
وقال محمد بن جرير: حدثني محمد بن خلف العسقلاني فذكر الحديث إلى أن قال عن ابن مسعود قال: الروح في السماء الرابعة وهو أعظم من السماوات والأرض والجبال ومن الملائكة يسبح كلّ يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكًا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفًّا وحده
(2)
، وروى الطبراني عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لله ملكًا لو قيل: التقم السماوات السبع بلقمة واحدة لفعل، تسبيحه سبحانك حيث كنت"
(3)
، وهذا من خصائص هذه الأمة، وكانت الأمم المتقدمة يصلون منفردين كل واحد على حدة، ولما أراد الله تعالى حصول هذه الفضيلة للأنبياء المتقدمين جمعهم فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ليلة الإسراء
(4)
.
(1)
سورة الفجر، الآية:38.
(2)
تفسير الطبري (24/ 46 - 47).
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط (6/ 290 رقم 6442) والكبير (11/ 195 رقم 11476). وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي إلا بشر بن بكر، تفرد به وهب الله بن رزق. وقال الهيثمي في المجمع 1/ 80: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وقال: تفرد به وهب بن رزق. قلت: ولم أر من ذكر له ترجمة. وقال الذهبي في العلو (ص 66): حديث منكر. وقال الألبانى: منكر الضعيفة (3199).
(4)
طرح التثريب (2/ 112).
709 -
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خياركم ألينكم مناكب فِي الصَّلَاة" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
(1)
.
قوله: "عن ابن عباس"، تقدم الكلام على فضائله.
قوله صلى الله عليه وسلم: "خياركم ألينكم مناكب في الصلاة" الحديث، وفي حديث آخر عن ابن عمر:"خياركم ألاينكم مناكب في الصلاة" هي جمع ألين وهو بمعنى السكوت والوقار والخشوع، ومعنى لين المنكب هنا أن الرجل إذا كان في الصف وأمره أحد أن يسوي في الصف أو يضع يده على منكبه المستوي بطبعه أو أراد أحد أن يدخل في الصف بمنكبه له أن يدخل في الصف ولا يمنعه، وقالى أبو سليمان الخطابي: معنى لين المنكب السكون والخشوع في الصلاة
(2)
والوجه الأول أليق بهذا الباب، وقال بعضهم: ألينكم مناكب في الصلاة الذي يوسع على صاحبه، قاله في شرح المصابيح
(3)
.
710 -
وَعَن أنس رضي الله عنه قَالَ: أُقِيمَت الصَّلَاة فَأقبل علينا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أقِيمُوا صفوفكم وتراصوا فَإِنِّي أَرَاكُم من وَرَاء ظَهْري" رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم بِنَحْوِهِ
(4)
. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فَكَانَ أَحَدنَا يلزق مَنْكِبه
(1)
أخرجه أبو داود (672)، وابن خزيمة (1566) وابن حبان (1756). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (676)، الصحيحة (2533).
(2)
معالم السنن (1/ 184).
(3)
المفاتيح (2/ 228 - 229).
(4)
أخرجه البخاري (418) و (719) و (741)، ومسلم (125 - 434).
بمنكب صَاحبه وَقدمه بقدمه
(1)
.
قوله: "وعن أنس رضي الله عنه" تقدم الكلام على مناقبه.
قوله: "قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال أقيموا صفوفكم وتراصوا" الحديث تراصوا بضم الصاد المهملة أي تضاموا ولا وتلاصقوا حتى يتصل ما بينكم ولا ينقطع فالتراص التلاصق ومنه قوله تعالى كأنهم بنيان مرصوص قاله أحد المتأولين.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فإني أراكم من وراء ظهري" وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل ترون قبلتي ها هنا، فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم، إني لأراكم من وراء ظهري" وفي رواية "إني لأبصر من ورائي كما أبصر بين يدي" مذهب أهل السنة من الأشعرية وغيرهم أن هذا الإبصار إدراك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم انخرقت له فيه العادة فكان يرى به من غير مقابلة فإن أهل السنة لا يشترطون في الرؤية المقابلة ولا مما يشترطه المعتزلة فلذلك استحال عندهم رؤية الله تعالى يوم القيامة وخالفوا قواطع الشريعة وما أجمع عليه الصحابة والتابعون وقال بقي بن مخلد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى في الظلام كما يرى في الضوء، وقال مجاهد: كان يرى خلفه كما يرى أمامه وذهب بعض العلماء إلى أن المراد في هذا الحديث بالبصر والرؤية العلم وأن معناه أعلم وهذا احتمال بعيد وحمله على الظاهر أولى ويكون ذلك زيادة في إكرامه صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (725).
قوله: وفي رواية للبخاري "فكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه" والإلزاق هو الإلصاق.
711 -
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحْسنُوا إِقَامَة الصُّفُوف فِي الصَّلَاة" رَوَاهُ أَحْمد وَرُوَاته رُوَاة الصَّحِيح.
712 -
وَعَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على ميامن الصُّفُوف" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن.
713 -
وَعَن الْبَراء بن عَازِب رضي الله عنه قَالَ كُنَّا إِذا صلينَا خلف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أَن نَكُون عَن يَمِينه يقبل علينا بِوَجْهِهِ فَسَمعته يَقُول رب قني عذابك يَوْم تبْعَث عِبَادك" رَوَاهُ مُسلم.
قوله: وعن البراء بن عازب رضي الله عنه تقدم.
قوله: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه" الحديث، أما جهة اليمين فلشرفها ولما أشار إليه الراوي من الفوز برؤية وجهه قبل غيره، وهذا هو المقصود وإلا فهو يقبل على الفريقين ولكن أراد الأولوية وسرعة الدخول فيمن واجههم بالسلام لأنه دعاء وهو منه مقبول وهذا قريب وقول الأعرابي الذي عن يمينه في الشرب والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا وعن علي والنخعي أنهما كانا يستقبلان الناس بوجوههما بعد الصلاة.
وقال ابن العطار في شرح العمدة ذهب الشافعي إلى بقاء الإمام مستقبل القبلة إذا لم يرد الانصراف أفضل خصوصا إن جلس للذكر والدعاء لحديث
خير المجالس ما استقبل به القبلة رواه الحاكم ولأنه أجمع للقلب وعلى هذا يكون إقباله صلى الله عليه وسلم لمصلحة أو لبيان الجواز
(1)
.
وقال النووي في شرح المهذب: إذا أراد أن ينتقل في المحراب ويقبل على الناس بالذكر والدعاء وغيرهما جاز أن ينتقل كيف شاء وأما الأفضل فقال البغوي الأفضل أن يقبل عن يمينه وقال في كيفيته وجهان أحدهما وبه قال أبو حنيفة يدخل يمينه في المحراب ويساره إلى الناس ويجلس عن يمين المحراب والثاني وهو الأصح يدخل يساره في المحراب ويمينه إلى القوم ويجلس عن يسار المحراب وجزم في شرح السنة بالثاني
(2)
.
وأما حديث أنس قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ساعة يسلم يقوم ثم صليت مع أبي بكر فكان إذا سلم وثب كأنه يقوم عن رضف"
(3)
وغير ذلك من الأحاديث التي فيها النهي عن جلوس الإمام في مصلاه بعد السلام فالجواب عن ذلك كله أنه محمول على كراهة اللزوم لحالة واحدة يرى أن حقا عليه أن لا يتغير عنها بل يفعل هذا مرة وهذا مرة والأمر واسع
(4)
وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قام النساء ومكث في مكانه يسيرا لكي ينفذ النساء
(1)
العدة (1/ 301).
(2)
المجموع (2/ 490).
(3)
أخرجه ابن خزيمة (1717)، والحاكم (1/ 216)، والبيهقى في الكبرى (2/ 259 رقم 3001). صححه الحاكم وتعقبه الذهبي فقال:[يعنى فيه عبد الله بن فروخ] قال البخاري: (يعرف) وينكر، وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة.
(4)
المجموع (2/ 489) وشرح النووي على مسلم (5/ 220)، والمفهم (6/ 135).
قبل الرجال
(1)
وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس في مصلاه تحى تطلع الشمس حسناء فإذا طلعت قام
(2)
وفي الترمذي "من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تامة تامة تامة"
(3)
وغيره من الأحاديث والله أعلم.
قوله: "يقبل على الناس بوجهه" قال القاضي عياض يحتمل أن يكون الإقبال هنا بمعنى الانصراف إلى منزله منها ويحتمل أن يكون التيامن عند التسليم وهو الأظهر لأن عادته صلى الله عليه وسلم إذا انصرف أن يستقبل جميعهم بوجهه أما بعد قيامه من الصلاة وأما حين ينفتل قال في إقباله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بعد قيامه من مصلاه أو يكون حين ينفتل
(4)
.
ففي هذا الحديث استحباب القرب من الإمام واستحباب جهة يمينه عند السلام من الصلاة فأما القرب منه فلفوائد منها سماع قراءته ومنها الاستنان بأفعاله وأقواله ومنها تبليغ ذلك إلى من بعده ومنها حيازة الثواب لأن الله تعالى وملائكته يصلون على الصف الأول مرتين وعلى الثاني مرة كما جاء في السنن ومنها أن يكون سترة لمن خلفه كما أن الإمام سترة له ومنها أنه مرتبة
(1)
أخرجه البخاري (837) و (849 و 850) و (870) عن أم سلمة.
(2)
أخرجه مسلم (287 - 670)، وأبو داود (1294) و (4850) عن جابر بن سمرة.
(3)
أخرجه الترمذى (586). قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب. وحسنه الألباني في المشكاة (971)، وصحيح الترغيب (464).
(4)
إكمال المعلم (3/ 42)، وشرح النووي على مسلم (5/ 321).
أولي الأحلام والنهى ومنها سماع تأمينه وقنوته ليشاركه فيه وغير ذلك كالفتح عليه وتنبيهه لمصلحة الصلاة وينبغي أن يكون ذلك كله ليثاب عليه.
قوله: "فسمعته يقول رب قني عذابك يوم تبعث عبادك" رواه مسلم كذا في الترغيب، قوله تبعث ورأيت في غيره من الكتب "تبعث أو تجمع" بالشك وقالوا رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأبو عوانة في الصحيح عنده يوم تبعث عبادك من غير شك وتبعث عبادك أو تجمع شك من الراوي فقوله قني يقول إلى آخره أي بعد سلامه وإقباله عليهم أما دعاؤه بعد ذلك فهو صريح في استحباب الدعاء للمصلي عقب الصلاة والذكر والرد على من خالف ذلك وأما إفراد نفسه بالدعاء مع ما ورد من النهي عن أن يخص الإمام نفسه بالدعاء فمحمول على بيان الجواز أو التعليم لكل مصل أن يدعو بهذه الكلمات ولا يتركها وإن دعا الإمام بغيرها كما في حديث معاذ لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك فينبغي المداومة على هذين الدعاءين للإمام والمأموم والمنفرد وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"رب قني عذابك" الحديث وهو مغفور له محقق الوقاية فإنه تعليم لأمته وقد قال في المفهم
(1)
: وأما اجتهاده عليه السلام في الدعاء ونحوه وإن كان قد أعطي قبل السؤال فوفاء بحق العبودية وقيام بوظيفة الشكر كما قال "أفلا أكون عبدا شكورا" وفي قوله "يوم تبعت عبادك" تذكير بذلك المقام فإنه باعث على التقوى والخوف من الله تعالى فيه وفيه التصريح بالمعاد والإيمان
(1)
المفهم (11/ 95).
به من أركان الإسلام وفيه إشارة إلى أنه كان يسلم عن يمينه وشماله كما تقدم قاله في شرح الإلمام.
714 -
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصَّفّ الأول مَخَافَة أَن يُؤْذِي أحدا أَضْعَف الله لَهُ أجر الصَّفّ الأول" رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط.
قوله: عن ابن عباس رضي الله عنهما تقدم.
قوله: "من ترك الصف الأول مخافة أن يؤذي أحدا أضعف الله له أجر الصف الأول" المضاعفة كثرة الأجور وضعف الشيء مثليه.