الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدّمة
كاد هذا الكتابُ يصل إلى أيدي القرّاء قبل اليوم بشهور، لولا أن الله أراد له التأخير، وفيما يقضي الله خير. وهذا ما حصل:
قرأتم في مقدمة كتاب «نور وهداية» أني قد اشتغلت أسابيع في مراجعة أوراق جدي رحمه الله حتى اكتملَت بين يديّ مقالاتٌ وأحاديثُ كاملاتٌ أو شبهُ كاملات، ثم أنفقت أسابيع أُخَر في فرز تلك الأحاديث والمقالات. وقد اعتبرت ذلك العمل فرزاً نهائياً لكل ما كان بين يديّ من أوراق، وبفراغي منه صارت الخطة واضحة أخيراً؛ فقد جمعت المؤتلِفَ من الكتابات الكثيرة التي تراكمَت بين يدَيّ وضمَمتُ بعضَه إلى بعض، فتكوّنت منه أصولٌ متعدّدة لكتب من ذوات الموضوع الواحد، وبقي عليّ مراجعةُ هذه الأصول -بعد صَفّها- وتصحيحُها ودفعها إلى المطبعة.
وكان من ثمرة هذا العمل كتاب «نور وهداية» الذي وفق الله إلى إصداره في العام الماضي، وكذلك كان منها هذا الكتاب، «فصول في الثقافة والأدب» . غيرَ أني لمّا بدأت بتصحيح مادته وجدت نقصاً في أصول بعض المقالات، وقرأت إشارات -في سواها- إلى مقالات لم أجد لها أصولاً عندي، فعزمت عندئذ على حل هذه المعضلات جميعاً. وفكرت فاهتديت إلى حل؛
تذكرت أيامي الجميلة في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وقد مضى عليها اليومَ ربعُ قرن أو يزيد، وكنت أُمضي في مكتبتها الساعات الطوال، ولطالما أمضيت فيها اليوم إلى آخره وسط الكتب والمراجع، حتى تغلق أبوابها ويضطروني إلى الانصراف.
فذهبت إلى المكتبة المركزية في الجامعة، وعهدي بقسم الدوريات فيها أن فيه طائفة طيّبة من الدَّوْريات القديمة. وظهر أني كنت في ظني على صواب ووجدت فيها ما كنت أملت، فانتدبت نفسي لمراجعة هذا القسم، ودأبت على زيارة المكتبة في الأسبوع ثلاث مرات، أمضي فيها في كل مرة أربعَ ساعات أو خمساً، وصرّمت في ذلك أشهر الصيف، كلّها أو جلّها، وغربلت عشرات من المجلّدات، فظفرت بمقالات كثيرة لم تكن في يدي من قبل أصولٌ لها، وبذلك ازداد العمل الذي بدأت به اتساعاً واكتمالاً، وباتت «مشروعات» الكتب المُعَدَّة للنشر واضحةً خطّتُها مجتمِعةً مادّتُها.
* * *
أما هذا الكتاب ففيه تنوّعٌ في الموضوع وتنوّعٌ في الزمان؛ فقد صدرت المقالات التي تؤلفه في الثلاثينيّات والأربعينيّات والخمسينيّات، ومنها مقالات وأحاديث من الستينيّات والسبعينيّات، والأقل من مقالاته صدر في الثمانينيّات، في السنوات الأخيرة التي نشر فيها جدي رحمه الله سلسلة مقالات «صور وخواطر» في جريدة «الشرق الأوسط» ، بعد الفراغ من نشر ذكرياته فيها. ومنها ما كان أحاديثَ عثرتُ على مُسوَّداتها، ومنها مقالات نُشِرت في صحف ومجلات قديمة متنوعة، وقليلٌ منها مخطوطات لم تُنشَر
من قبل ولا أذيعت قط. وهي تتنوع في موضوعاتها وتتباين، وفيها فوائد وفيها عِبَر، وفيها نثر وفيها شعر، وفيها جِدّ وفيها طرائف. وقد رتبتها في الكتاب في نسق، فجمعت ما تآلف منها معاً، وبدأت بالأخفّ منها وانتهيت بالأدسم.
ولقد كان يمكن أن يصدر هذا الكتاب ويصدر معه الكتاب الآخر الذي أعلنت عنه في بعض حواشي «الذكريات» (في طبعتها الجديدة التي صدرت في السنة الماضية بفضل الله)، وهو كتاب «فصول في الدعوة والإصلاح» ؛ فقد عزمت على إصدار الاثنين معاً وفرّغت لهما ما قدّرته لازماً من الوقت، لكن العمل في هذا الكتاب استطال حتى سطا على وقت الآخر، وعطّلني إصدارُ الطبعة الجديدة من كتاب «دمشق» أيضاً، فتأجل إصدار الكتاب الآخر إلى حين.
وامتدّ عملي في هذا الكتاب لأن فيه نصوصاً كثيرة من النثر والشعر تحتاج إلى مراجعة وضبط، فجدّي رحمه الله لم يضبط بالشكل إلا أقل القليل من الكلمات في كل ما يكتب، وأنا أحرص -حين أُعِدّ كُتُبَه للنشر- على أن أضبط كل غريب من اللفظ، وكذلك أسماء الأعلام والأماكن، وأتكبّد في ذلك عناء غير قليل، لكني أحتسبُه لأن الظن يغلب عليّ (حتى يقارب اليقين) أن كثيرين يعجزون عن قراءة الكلمات الصعبة وأسماء الرجال المجهولين والأماكن غير المألوفة، إلا أنْ يُضبَط ذلك كله بالشَّكْل. رحم الله الشيخ، فقد كان يكتب لزمان غير هذا الزمان، أو أنه يظن أن عامة القرّاء (وأنا منهم) مثله في العلم فهم يستغنون عن التشكيل في أمثال هذه المواطن.
والشعر خاصة لا يَحسن نشره بغير تشكيل، فهو يفقد وزنه إذا اختلّت قراءته، والألفاظ الغريبة فيه أكثر منها في سواه من النصوص الأدبية. ومن أجل ذلك فقد أنفقت وقتاً طويلاً في مراجعة وضبط الشعر في هذا الكتاب، وهو غير قليل، واضطرني هذا إلى الغوص في الدواوين وكتب الأدب. ثم ألجأتني مباحثُ ومسائل أخرى إلى كتب التاريخ والأعلام وسواها، فما انتهيت من تصحيح الكتاب وإعداده للنشر إلا وقد مررت بعشرات من المجلدات في شتى العلوم والفنون.
* * *
وبعد، فالحمد لله الذي أمدَّني بالهمّة والوقت لإخراج هذا الكتاب، وجزى الله خيراً كلَّ من ألهمه الله فدعا لي بالبركة في وقتي فأعان على صدوره، وبارك الله في كل من يدعو بالأجر لزوج خالتي، نادر حتاحت، الذي ينشره اليوم، ولي لقاء عملي فيه وفي سواه، وقبل ذلك لجدّي الذي خَطّه أول مرة، رحمه الله وغفر له وأكرم مثواه.
مجاهد مأمون ديرانية
جدة: رمضان 1428