الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حادثة من التاريخ
أذيعت سنة 1972
[كان عمر بن الخطاب يقول: لا يزال الناس بخير ما عرفوا أمر جاهليتهم؛ لأن الذي اغتنى لا يدرك نعمة الغنى إلا إذا ذكر أيام الفقر، ومن شبع لا يعرف قدر نعمة الشّبَع إلا إنْ تَصوَّر حالة الجوع. ونحن الذين نستمتع اليوم -في هذه البلد- بالعزة والكرامة وعلوّ المنزلة بين الدول، ينبغي لنحمد الله على هذه النعمة أن نعرف كيف كنّا. وهذا قصة من الماضي القريب تصوّر لكم كيف كنا، أعرضها عليكم لتحمدوا الله على ما أنتم فيه.]
هذه حادثة وقعت في جدة في السادس من ذي القعدة سنة 1274هـ، منذ مئة وثماني عشرة سنة، ترون فيها ما كنا فيه من الخضوع لدول الغرب ومن تسلط دول الغرب علينا، لتَعجبوا مما كنا فيه مع كبر الدولة العثمانية وسعة ملكها، ولتحمدوا الله على ما صرنا إليه من العزة والكرامة.
وخلاصة الحادثة أن تاجراً من تجار جدة اسمه صالح جوهر، كان له مركب في البحر قد رفع عليه لسبب من الأسباب الراية الإنكليزية، فخطر له يوماً فأنزلها ورفع مكانها الراية
العثمانية، فسمع بذلك قنصل الإنكليز، فمنعه فلم يمتنع، وراجع التاجرُ الوالي نامق باشا، فأذن له برفع الراية العثمانية وكتب له بذلك منشوراً.
فطلع قنصل الإنكليز وأنزل الراية العثمانية ووطئها برجله، وتكلم (كما تقول الرواية) بكلام غير لائق، وأعاد الراية الإنكليزية. وشاع ذلك بين الناس فغضبوا وهاجوا، وخرجت جماهيرهم صاخبة فأحاطت بدار القنصل ورمتها بالحجارة، فخرج إليهم القنصل وقابلهم بالشدة والعنف ووجّه إليهم الشتائم، فألقى بذلك الزيت على نار غضبهم، وكانت النتيجة أن قُتل القنصل، وجرّهم الغضب إلى مهاجمة القنصليات الأجنبية الأخرى.
وأرادوا العدوان على النصارى ونهب أموالهم، لا سيما كبيرهم التاجر فرج بيه، وهو شريك قنصل الإنكليز وكانت له يد فيما كان من القنصل، فمنعهم من ذلك وكيل شريف مكة، السيد عبد الله نصيف، وجيه جدة يومئذ (وكان شريف مكة هو محمد ابن عون).
وكان نامق باشا قد سافر إلى المدينة، فلما سمع بهذه الحادثة عاد مسرعاً إلى جدة، وعمل على تسكين الفتنة، وقبض على من تولّى كبرها وأثارها ووضعهم في السجن، وكتب إلى إسطنبول يخبر السلطان بما كان، وطلع إلى مكة لأداء الحج.
فلما كان اليوم الثالث من أيام التشريق، والناس في منى، جاء الخبر من جدة بأن سفينة حربية إنكليزية وقفت حيال جدة ورمتها بالقنابل خمس ساعات متتاليات، بلا إنذار ولا إعلان
حرب. ولم يكن في المدينة إلا الضعاف والنساء والأولاد والقليل من الرجال، لأن أكثر الناس في الحج، فذُعروا وخرجوا هائمين على وجوههم تاركين بيوتهم وأموالهم.
فنزل نامق باشا إلى مكة، وعقد مجلساً عاماً أحضر فيه وجوه جدة ومكة وشيوخ القبائل وكبار المواطنين، وعرض عليهم الأمر وسألهم الرأي. فقال أكثرهم: إن الإسلام ولله الحمد قوي وأهله كثيرون. وذكروا له عدد قبائل الحجاز، مثل هُذَيل وثَقيف وحَرْب وغامِد وزَهْران، وقالوا له: لو تركتهم ينفرون نفيراً عاماً لاجتمع منهم خمسون ألفاً، ولدفعوا عدوان الإنكليز وردّوهم على أعقابهم وأذاقوهم وبال أمرهم.
فقال لهم نامق باشا: هذا العدد الذي ذكرتموه صحيح، وربما كان في قبائل العرب أضعاف ما ذكرتم، ولكن إذا اجتمعت هذه القبائل فإن غاية ما يقدرون عليه أنهم يصلون إلى جدة ويدفعون هذا المركب، فيجيء غيره من مراكب الإنكليز وغيرهم من الدول فيعتدي على بقية المرافئ، وتكون حرب على الدولة العثمانية لا تملكون نيل النصر فيها، لأنكم لا تملكون سفناً حربية ولا تقدرون على خوض المعارك الحربية، ثم إن جمع هذه القبائل يحتاج إلى مدة طويلة والأمر أعجل من ذلك.
فقال أحد التجار: إن من البحّارة في جدة من يستطيع الغوص والدخول تحت هذا المركب البحري، فيغرقه بالبرّامات التي تثقب فيه ثقوباً.
قال الباشا: وما النفع من إغراقه، وإن نحن أغرقناه جاءنا
بدل المركب عشرة، وإن أغرقنا العشرة جاءتنا مئة؟
قالوا: فماذا ترى؟
قال: نتدارك الأمر باللطف وحسن السياسة، بأن نتوجه إلى جدة أنا وبعض أعيانكم، ونجتمع بقبطان هذا المركب ونعقد معه أمراً يندفع به الضرر.
فاستحسنوا رأيه وتوجهوا معه إلى جدة، فقابل القبطان، وتم الاتفاق على أن يجري التحقيق في هذه القضية ويُرفَع الأمر إلى السلطان ويُعمَل بما يجيب به.
ولكن السلطنة -مع الأسف- خيّبت الأمل فيها ووقفت موقفاً هو الغاية في المذلة والهوان؛ فبدلاً من أن تدفع العدوان بمثله أو أن تحتجّ عليه وترفض القبول، وهذا أقل الإيمان، أرسلت في أواخر المحرم من سنة 1275 لجنة تحقيق مختلطة، مؤلفة من أعضاء عثمانيين وأعضاء إنكليز وفرنسيين. وكان العثمانيون قلة في اللجنة فسيطر عليها الأجانب، وراحت اللجنة تقبض على كل من تتوهم أن له صلة بمقتل القنصل على اعتبار أن هذه هي الجريمة الكبرى، أما ضرب البلد الآمن بالقنابل وإزهاق المئات من أرواح الأبرياء، وإضاعة الأموال وتخريب البيوت وترويع الآمنين، فهذا كله مشروع.
وقبضوا على المئات من الوجوه والأعيان. فلما لم يستطيعوا معرفة الفاعل الحقيقي لجؤوا إلى قرار غريب؛ هو اتهام الباشا ووكلائه ووجوه البلد بأنهم أحدثوا هذه الفتنة. وكان أغرب من ذلك أن خنعت الدولة العليّة العثمانية، فقبلت بنفي نامق باشا
وقتل الوجيه الأنبل كبير الحضارم السيد سعيد العامودي، فقُتل علناً في جدة، كما قُتل عبد الله المحتسب واثنا عشر من وجوه الناس. ونفوا عشرات من كرام الناس، فمنهم من مات في منفاه كالسيد عبد الله باهارون، شيخ السادة من الحضارمة، ومنهم من رجع إلى جدة بعد أمد طويل كالشيخ عبد القادر قاضي جدة، والشيخ عمر بادرب، والشيخ سعيد باغلف.
وحضر بعد انتهاء الأمر الشريف عبد الله الذي ولي إمارة مكة، فقال له أعضاء اللجنة من الإنكليز والفرنسيين: لقد سرّنا قدومك إلى جدة قبل أن نسافر، لأننا نريد الوصول إلى مكة لنراها وخشينا أن يمنعنا أهل مكة من دخولها، فلما حضرت أنت وثقنا من دخولها، لأنه لا يستطيع أحد أن يمنعنا وأنت الأمير المُطاع النافذ الأمر.
فبلغ منه الضعف وبلغ من هيبتهم في نفسه أنه لم يستطع أن يردهم، واسمعوه يقول بلسانه (كما نقل ذلك زيني دَحلان) قال:"إنهم لما طلبوا مني ذلك تحيرت، وعلمت أني إن أجبتهم بأن ذلك محرَّم في ديننا لم يقبلوا مني الجواب وأن المسلمين لا يقبلون بدخولهم مكة، فألهمني الله جواباً عقلياً إقناعياً، فقلت لهم: أنتم رأيتم صورة مكة في الخرائط والجغرافيات، ليس فيها بساتين ولا أنهار ولا شيء من الزخارف، وإنما هي واد غير ذي زرع بين الجبال، وذهابكم إليها تعب بلا فائدة. فقنعوا بهذا الجواب وتركوا الذهاب".
* * *
هذه هي الحادثة التي كانت -كما يقول دحلان- من أعظم المصائب على الإسلام، سردتها عليكم لتَعجبوا مما كنا فيه من الضعف أمام دول الغرب، ولتحمدوا الله على أنّا صرنا أعزّ وأكرم، وأن مثل هذا الحادث لا يمكن أن يُعاد.
* * *