المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌حرفة الأدب نشرت سنة 1955   هذا هو جوابك يا أخي الأستاذ حسني - فصول في الثقافة والأدب

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌حرفة الأدب نشرت سنة 1955   هذا هو جوابك يا أخي الأستاذ حسني

‌حرفة الأدب

نشرت سنة 1955

هذا هو جوابك يا أخي الأستاذ حسني (1):

هل تعرف من هو الشهيد الحي؟ ومن هو المعذَّب في الأرض؟ ومن هو أحق بالرّثاء والإشفاق؟

ليس السجين المكبَّل بالقيود الذي يقطع الحجارة من جَلْمَد الصخر، ولا الذي يغوص في أعماق اللجَج يبحث عن اللؤلؤ في بطن البحر، ولكنه المسكين الذي قُدِّر عليه أن يستخرج رزقه من أضيق أبواب الرزق: من شق القلم. هو من اتخذ الكتابة حرفة له، فهو يكتب دائماً وأبداً، يكتب وهو خامل كسول، ويكتب وهو مريض موجع، ويكتب وهو حزين مهموم.

إن رأى الناسُ مشهداً من مشاهد الطبيعة فوقفوا يستمتعون به، وقف هو يفكر كيف يصوغ شعوره كلاماً يعرضه على الناس. وإن قرأ الناس قصة أو مرّ بهم نعيم أو مسّهم بؤس، اختزنوا عواطفهم في صدورهم وتجرّعوها أو تعللوا بها على مهل، وراح

(1) أظنه حسني كنعان، أستاذ علي الطنطاوي ثم صديقه من بعد. وله أخبار متفرقة في الذكريات (مجاهد).

ص: 215

هو يبحث عن تعبير يذيع به عواطفه وينشرها. كل ما عنده للناس، أفراحه وأتراحه، وحبه وبغضه، وهو أبداً يَصُفّ كلاماً، هو أبداً يكتب؛ يفيق فيكتب، وينام وهو يكتب، ويحسّ أن الأفكار تصطرع أحياناً في رأسه وتتراكض حتى لتكاد تصدع أصداغه، فيستيقظ من أعماق منامه ليشعل المصباح إلى جانب سريره ويكتب (1)، فإذا أفرغ ما في رأسه وحسب أنه سينام وثبت أفكار أخرى تضرب على جوانب رأسه من داخل ليقوم فيفتح لها!

فلا يستمتع بيقظة ولا منام، ولا يعرف لذة التأمل ولا فتنة الأحلام، ولا يعيش ساعة لنفسه بل يعيش عمره كله للناس. ويا ليته يكتب حينما يريد، وأنّى، وهو يكتب حينما تريد المطبعة؟ والمطبعة لا ترحم، المطبعة كجهنّم، كلما قيل لها: هل امتلأت؟ تقول: هل من مزيد؟ الفكرة التي تحتاج إلى يومين لتنضج، توجب عليك المطبعة أن تعبّر عنها اليوم وأن تجيء بها كاملة ناضجة تعجب القراء. فكيف تضع الأم وليدها قبل أن يستكمل مدة حَمْله، ويكون كاملاً مكملاً لا سَقْطاً ولا مشوَّهاً؟

والأفكار لا تأتي إلا على مهل، تنساب انسياباً، وما على الكاتب إلا أن يستلقي ويسترخي ويدوّن ما يعرض له؛ كصائد

(1) إنه لَيَصف هنا نفسه، فهكذا كان جدي رحمه الله؛ إلى جنب فراشه مصباح وقلم وأوراق، فلا يزال كلما خطرت له فكرة أنار المصباح فخطّ على الورق كلمات، أو ربما خَرْبَش الكلمات في الظلمة حتى لا يطير من عينيه النوم، فإذا أصبح الصباح لم يكد ينجح في قراءة ما خربشه في عتمة الليل من كلمات. وهو في كل الأحوال لا يكاد يهنأ بنوم من كثرة ما يشتغل فكره بالأحاديث والمقالات (مجاهد).

ص: 216

الأسماك، ينصب شبكته ويقعد ساكناً ينتظر، فإن وثب وتحرك وهزّ الشبكة فرّت منها الأسماك. والمطبعة تريد منك أن تثب وراء السمكة فتمسكها بيدك وتضعها في الشبكة، تريد أن تجمع أفكارك كلها بنفسك وتصبّها على الورق!

والموضوع الذي يحتاج إلى عشر صفحات عليك أن تكتبه في صفحتين لأن المطبعة لا تحتاج إلا إلى اثنتين. وإن عرضت لك -وأنت تنظر في تجارب الطبع- كلمة أفضل من كلمة أو جملة أحسن من جملة فإيّاك أن تبدّلها، لأن المطبعة يتعبها هذا التبديل. وخذ بعد ذلك ما شئت من التَّطْبيعات والتصحيفات وتحريف الكلم عن مواضعها وإبدالها بغيرها، وانْشَقَّ غضباً وغيظاً، فليس ينفعك الغضب ولا يجدي عليك الغيظ بعدما سار هذا التحريف وشَرّقَ وغَرّبَ وهو محمول عليك ومنسوب إليك، وأنفك -ولا مؤاخذة- في الرغام!

وأصعب شيء على الكاتب أن يَكثُر عليه العمل حتى لا يدع له وقتاً يداخل فيه الناس ويخالطهم. وهذا الاختلاط هو الزِّناد الذي يقدح شرر الفكرة، وما يراه أو يسمعه هو المادة التي يصنع منها أدبه. فكيف يُنتج معملٌ فَقَدَ الزِّناد الذي يدير المحرك والموادَّ الأولية التي تشغّل المعمل؟

لذلك تجد أكثر الكتّاب يجودون في الشباب أكثر مما يجودون في الكهولة، يكتبون في شبابهم للأدب المَحْض، يريدون أن يشقّوا لهم طريقاً وسط الزحمة فيتخذون لذلك أقوى العُدَد، يتعبون ويكِدّون، لا يبالون في سبيل التجويد وقتاً ولا جهداً، حتى إذا عُبِّد لهم الطريق وضمنوا لأنفسهم الحظوة عند

ص: 217

القراء والقَبول في الناس، جاؤوا يقبضون أجرة هذا الجهد الأول. فيزدحم عليهم الناشرون وأصحاب المجلات يطلبون منهم أن يكتبوا لهم، فيكثر في أيديهم المال ويقلّ الوقت، فيكتبون ما يخطر على البال، لا يجوِّدون ولا يحسنون، يرمون المقالة لا يبالون أجاءت بالطول أم بالعرض

وماذا يصنعون والناشرون لا يَدَعون لهم وقتاً لتجويد؟

وأصعب منه أن يُقال لك اكتب لنا في موضوع كذا، فإذا تأخرت أو تقاعست عتبوا عليك ولاموك. يحسبون أن الأفكار في رأس الكاتب كالدراهم في كيسه والبضائع في مخزنه، لا يكلّفه إعدادها إلاّ أن يَمُدّ يدَه فيأتي بها، لا يدرون أن للنفس إقبالاً وإعراضاً، وأنها يسلس قيادها تارة وتَحْرُن تارات، وأن من كبار الكتّاب من تمرّ به أيامٌ كلما حاول الكتابة فيها وقفت يده وجمد قلمه ونضب فكره، كأنه لم يكتب شيئاً قط! وأن الفرزدق، وهو مَن هو في الشعر، كان يقول: إنها لتجوز عليّ ساعات لَقَلْعُ ضرس من أضراسي أهون عليّ فيها من بيت من الشعر! وأن جريراً، الذي كان يغرف في شعره من بحر، قضى ليلة بطولها يتمرّغ ويتلوّى كالنُّفَساء التي تعاني آلام الوضع، حتى وضع قصيدته «الدمّاغة» (1) عند مطلع الفجر!

(1) هي بائية جرير الشهيرة التي هجا فيها بني نُمَير، هو سماها «الدمّاغة» . سهر فيها ليلة كاملة يتقلب على فراشه -كما في كتب الأدب- حتى كان السّحَر، فإذا هو قد قالها ثمانين بيتاً في بني نمير، فلما ختمها بقوله:

فَغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ

فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلابا

كبّر ثم قال: قد والله أخزيتهم إلى آخر الدهر. وهذه القصيدة تسميها=

ص: 218

وأصعب من ذلك كله مَن يأتيك من الكُبَراء والفُضَلاء أو ممن أنت معترف بحقهم أو مضطر إلى إرضائهم، فيسألك أن تُعِدّ له خطبة أو مقالة أو محاضرة في موضوع كذا

ويشرح لك فكرته، وقد تكون سخيفة أو رَقيعة أو فاسدة، وعليك أن تتبناها وتكون أباً مزوّراً لها وتسخّر لها أسلوبك وبلاغتك، ثم تقرؤها له وتتحمّل ملاحظاته وانتقاداته، ثم تشكلها وتعلّمه قراءتها وإلقاءها، ثم تجيء بعد إلقائها فتهنّئه عليها مع المهنّئين!

والقرّاء! هل تسمع يا أيها الأخ؟ القراء أشد على الكاتب من المطبعة ومن الناشرين. إنْ جَدَدْتَ لهم، قالوا: إلى متى الجِدّ؟ ألا شيء من هَزْل؟ ألا قليل من إحماض؟ وإن هزلت لهم قالوا: ما هذا العبث، وما هذا الكلام الفارغ من المعنى؟ ألا جددت ونحن في أيام جِدّ وجهاد؟

وإن سلكت بهم سبل العاطفة ووصفت لهم عواطف القلب وصبوات النفس، قالوا: يا لله، ويا للأخلاق! أمثلك يكتب في مثل هذا؟ دَعْ هذا للشبّان المراهقين وتفرّغْ لما ينفع الناس ويُصلح المجتمع. وإن أنت تفرغت لما ينفع الناس ويصلح المجتمع قالوا: ما هذا؟ أهذا أدب؟ هذا وعظ! إنما الأدب وصف صبوات النفس وعواطف القلب!

* * *

= العرب «الفاضحة» ؛ تركت بني نُمَير ينتسبون في البصرة إلى عامر بن صَعْصَعة ويتجاوزون أباهم نُميراً إلى أبيه، هرباً من ذكر نمير وفراراً مما وُسِم به من الفضيحة والوصمة (مجاهد).

ص: 219

ولو كنا في بلاد تدع الكاتب يقول ما يشاء (مما لا يقدح في خُلُق ولا دين) لهان الأمر، ولكن القراء لا يُسيغون إلا لوناً واحداً من الكلام، فإن بدّلته لهم أو جدّدت فيه لم تحتمله نفوسهم، وأصابهم منه سوء هضم عقلي، يُعقِب نوبةَ ثورة، يصيب الكاتبَ شرارُها أو تحرقه نارها. فهو مضطر أن يكون في عواطفه وآلام قلبه في واد، وفيما يكتب للناس في واد.

والقراء يأخذون المجلة ليمروا عليها نظرة مسرعة وهم راكبون في الترام أو منتظرون الطعام أو متهيئون للمنام، فلا يحاولون أن يستمتعوا بها أو يستفيدوا منها، بل يحاولون انتقاصها وتجريح صاحبها. ما يدرون أن هذا الكلام الذي يقرؤونه في دقائق قد كلف صاحبه تفكير ساعات وجهد أيام، وأنه مرّ على هذه الأفكار -من يوم أن كانت بذرة في النفس ألقتها فيها رياح المصادفة، وسَقَتْها ملاحظة عابرة، ثم غذّتها الفِكَر والمشاهدات والذكريات والأحلام، إلى أن صارت مقالة مقروءة- أكثرُ مما مر على الرغيف من يوم أن كان سنبلة في الحقل إلى أن وُضع على المائدة. وربما كان الرغيف مُرّاً أو محروقاً أو غير ناضج، ولكنه لم يصل إليك حتى اعتوَرَته هذه الأيدي كلها ومرت به هذه الأطوار جميعاً.

* * *

فيا أيها الأخ، أرجو قبل أن تسأل عن علي الطنطاوي، وما باله لا يعطي المجلة خير ما عنده، وهل شاخ أم هرم أم أصْفَى كما تُصفي الدجاجة (1)، أن تسأل القراء: هل يَدَعون لي أن أقول

(1) يقال: أصفى الشاعرُ إذا انقطع شعره، وأصفت الدجاجة إذا انقطع بَيضها (مجاهد).

ص: 220

ما أريد؟ هل تتركني إدارة المجلة أكتب في الأدب كما كنت أكتب في «الرسالة» ؟ لقد حيّروني وسدّوا عليّ مسالكي، فوقفت، لا عجزاً ولا مرضاً ولكن لأني لا أدري من أين أسير!

هذه هي القصة يا أيها الأخ، فأبقِها سراً بيني وبينك ولا تطلع عليها أحداً من القرّاء.

* * *

ص: 221