الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن عابدين ورسائله
كُتبت نحو سنة 1959 ولم تُنشَر (1)
ظهر في هذه القرون الثلاثة الأخيرة علماء لا يحصيهم العد، ألّفوا مؤلَّفات لا يحيط بها الحصر. ولم يكن في هؤلاء العلماء جميعاً مَن هو أرسخ قدماً في الفقه وأنفذ فيه فكراً من العالم الذي أقص عليكم اليوم قصة حياته، ولم يكن في هذه المؤلَّفات جميعاً ما هو أكثر ذيوعاً وأعمّ نفعاً من الكتب التي ألفها هذا العالم.
ذلكم هو ابن عابدين، صاحب «الحاشية» المشهورة التي صارت عمدة المُفتين في المذهب الحنفي، والتي لا يضارعها ولا يقاربها -في تحقيق مسائلها وفي إقبال الناس عليها- كتاب من كتب المذهب.
(1) لم يُنشَر هذا الفصل من قبل قط لأنه لم يكتمل، كما سترون فيما يأتي. ولو أنه كان ترجمة لعَلَم من الأعلام فحَسْب لضمَمتُه إلى كتاب «رجال من التاريخ» في طبعته الجديدة فيما سأضمّ من ترجمات إن شاء الله، لكني وجدته أقربَ إلى مادة هذا الكتاب لأنه بحث في رسائل ابن عابدين، والترجمة هذه كأنها مقدّمة للبحث لا تكاد تكون مستقلة بذاتها (مجاهد).
في دكان في البزورية
تبدأ هذه القصة في دكان في البزورية (1) لرجل اسمه السيد عمر عابدين، لم يكن من العلماء، ولكنه كان من أسرة عُرف رجالها بالاشتغال بالعلم وبالإقبال على العبادة، وبأن لهم حظاً من شرف النسب.
وكان من المشهور والمتعارَف عليه في دمشق أن يشتغل العلماء بالتجارة ويتعاطوا البيع والشراء، وقد أدركت أنا عدداً من هؤلاء العلماء لا تزال بقاياهم موجودة إلى اليوم، جمعوا العلم والمال وتجارة الدنيا وتجارة الآخرة، فاستغنوا بذلك عن أموال الحكام وترفّعوا به عن ذُلّ السؤال، وأمدّوا به الفقير وساعدوا المحتاج، فكان لهم عزّ الغِنى وعز العلم. وما انحرف عن الجادة مَن انحرف من العلماء إلا لأنهم احتاجوا إلى الرواتب ومدّوا أيديهم إلى أموال الأوقاف.
وكان السيد عمر يتحسّر دائماً على ما فاته من الاشتغال بالعلم وعلى أنه لم يسلك في ذلك مسلك أسلافه، فلما وُلد له هذا الولد (الذي نتحدث عنه) حفّظه القرآن وهو صغير، فكان يتلو الآيات قبل أن يصحح نطق الكلمات، ونشّأه على التلاوة الدائمة، وأقامه معه في الدكان يعلمه البيع والشراء.
(1)«البزورية» سوق من أسواق دمشق قديم جداً، كانت تُباع فيه الأبازير والتوابل والعطور وأنواع الحلويات من أيام ابن عساكر، وما تزال كذلك إلى اليوم. وهو خلف سوق مدحت باشا، بينه وبين سوق السلاح جنوبي الجامع الأموي (مجاهد).
ناصح مجهول
وكان يوماً يقرأ القرآن -كما علمه أبوه- والناس عاكفون على بيعهم وشرائهم، فمرّ به رجل، فسمعه يلحن، فزجره وأنكر عليه، وقال له: إن القرآن ما أُنزل لنقرأه بلا فهم كما تنطق الببغاء، بل لتدبّر معانيه والعمل به. وأنت ترتكب في قراءتك هذه ذنبين: الأول أن هذا محل للتجارة، والناس لا يستمعون قراءتك فيرتكبون الإثم بسببك، والثاني: أن قراءتك ملحونة، وأنت لا تقيم لسانك بها ولا تتدبر معاني ما تقرأ.
خير البرّ عاجله
وكان صبياً يومئذ، لم يبلغ الحلم، ولكنه أدرك -مع ذلك- صحة ما قال الرجل، فاستأذن أباه وذهب من فوره فسأل عن أقرأ أهل البلد، فدلّوه على الشيخ سعيد الحموي، وكان شيخ قرّاء الشام في تلك الأيام، فذهب إليه في حجرته في المسجد وطلب منه أن يعلمه أحكام القرآن بالتجويد.
ولازمه مدة حفظ فيها الشاطبية والجَزْرية والميدانية، وقرأها عليه قراءة إتقان وإمعان، فجمع القراءات بطرقها وأوجهها.
بداية طلب العلم
ولما رأى ذلك أبوه رغّبه في العلم وأشار عليه بموالاة الطلب. وكان قد وجد لذة العلم وأحبّ الشيخ، فقرأ عليه النحو والصرف والفقه الشافعي.
والنحو هو ثمرة علوم العربية كلها، وكلها مقدّمات له
وأسباب. والفقه ثمرة علوم الدين كلها، وكلها مقدمات له وأسباب؛ لذلك كان طالب العلم يبدأ بهما ويعكف عليهما، ولا ينتقل إلى غيرهما إلا إذا أتقنهما، لأن من أسلوب التعليم يومئذ أن لا يُرهَق الطالب بالعلوم الكثيرة دفعة واحدة (كما يُصنَع اليوم) بل يُكلَّف بالعلم أو العِلْمين، لا يزيد عليهما حتى يفرغ منهما.
انتقاله إلى المذهب الحنفي
واستنفد علم الشيخ الحموي كله، وطلب المزيد، فدُلّ على العالم الكبير الشيخ محمد شاكر السالمي، الشهير بالعقّاد، وكان فقيهاً حنفياً عالي الطبقة، فقرأ عليه التفسير والحديث وعلم المعقول، وألزمه الانتقال إلى المذهب الحنفي، كما انتقل إليه أبو جعفر الطحاوي من قبل، ونبغ فيه كما نبغ الطحاوي. (1)
* * *
(1) انتهت هنا القطعة التي وجدتها بخط جدي رحمه الله، وقد ترددت لبرهة: أأضم هذا الفصل إلى الكتاب أم أدعه لعدم تمامه، ثم آثرت أن أضمه إلى الكتاب ومعه الفصل الذي يليه في رسائل ابن عابدين.
وقد كان جدي عظيمَ التوقير لابن عابدين يبالغ في الثناء عليه وعلى كتبه. والظاهر أنه عزم على أن يتوسع في الكتابة عنه ذات يوم، فقد شرع في كتابة هذا الفصل في ترجمته (ولم يتمَّه)، وسَوّدَ مادة فصل آخر في إحصاء رسائله والتعليق عليها (ولم يتمّه أيضاً، وهو الذي سيأتي بعد هذا الفصل). وكنتُ -إذا رتبت له أوراقه- أجد ظرفاً عليه عنوان «ابن عابدين ورسائله» ، من تلك الظروف الكبيرة التي كان يحفظ فيها مشروعات كتابات مؤجَّلة أو كتب تحت الإعداد. وفي هذا الظرف وجدت الأوراق التي جاءت منها هذه المقالة. =
رسائل ابن عابدين
«الحاشية» هي عمدة المُفتين في المذهب الحنفي من أكثر من مئة سنة، لا يضارعها في تحقيق مسائلها وفي إقبال الناس عليها كتابٌ من كتب الفقهاء المتأخرين في المذهب، لكنها - على جلالة قدرها- تعليقات تقيَّدَ فيها واضعُها بالنص الذي
= فأمّا تمام ترجمة ابن عابدين -بإيجاز- فهي أنه قد لزم شيخَه العقاد حتى وفاته سنة 1222هـ، ثم قرأ على الشيخ سعيد الحلبي علاّمة عصره، وكذلك قرأ على طائفة من كبار علماء زمانه كالشيخ محمد الكزبري والشيخ أحمد العطّار والشيخ صالح الزجّاج، وكثيرين غيرهم. وكان حسن السريرة دائم البِشْر والابتسام كثير التواضع، يُمضي أكثر ليله في التأليف ولا ينام إلا قليلاً. وكان كسبه من تجارة له مع شريك يقوم بالعمل من غير أن يزاول هو التجارة بنفسه. وأُغرم بالكتب حتى جمع منها مكتبة عظيمة، وكتب بخطه الكثير، وكان أبوه يشتري له من الكتب ما شاء ويقول:"اشترِ وعليّ الثمن، فإنك أحيَيتَ ما أمتُّ من سيرة سَلَفي". ووهبه مكتبة كبيرة ورثها عن آبائه.
وترجم له الشيخ محمد جميل الشطي في «أعيان دمشق في القرن الثالث عشر» فقال: "كان رحمه الله مُهاباً مُطاعاً لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد بلغ من الشهرة ما لا مزيد عليه، وكان مع ذلك حسن الصحبة حريصاً على إفادة الناس. وكان شغله من الدنيا التعلّم والتعليم والتفهّم والتفهيم، مقسِّماً وقتَه على أنواع الخير، من طاعة وعبادة وتدريس وتأليف وإفتاء. وكانت تَرِدُ إليه الأسئلة من غالب البلاد فيجيب عنها، ولم يزل كذلك حتى توفي رحمه الله في الحادي والعشرين من ربيع الثاني سنة 1252، وسنّه يومئذ أربع وخمسون سنة، ودُفن في مقبرة الباب الصغير"(مجاهد).
يعلّق عليه (1). أما عظمة ابن عابدين وفقهه وسعة روايته وكثرة اطلاعه على كتب الحنفية فتتجلى في رسائله. إنّ كل رسالة منها بحث كامل يصحّ أن يكون أساس أطروحة لنيل الدكتوراة، لا بل هي أعظم من ذلك بلا جدال. (2)
(1) ذلك لأن الحاشية إنما هي شرح مطوَّل لكتاب «الدُّر المُختار» ، وهذا الكتاب نفسه شرح لمَتْن سَبَقه. وهذه كانت عادة المتأخرين من المؤلفين، يبدأ أحدهم بالمَتْن، ثم يأتي من يشرحه ثم من يُحَشّي على الشرح، وهكذا في سلسلة طويلة نرى آثارها في مئات من كتب الفقه في المذاهب الأربعة جميعاً. والكتب الثلاثة التي صنعت «الحاشية» جاءت كلها من القرون المتأخرة كما هو متوقَّع: المتن الأصلي «تنوير الأبصار وجامع البحار» للشيخ شمس الدين التَّمرتاشي الغَزّي المتوفى سنة 1004هـ، وشرحه «الدّر المُختار شرح تَنوير الأبصار» للعلاء الحَصكَفي المتوفى سنة 1088، ثم «ردّ المُحتار على الدر المختار» ، وهو الكتاب الذي اشتهر باسم حاشية ابن عابدين، صاحبنا هذا المتوفى سنة 1252. وفي «الأعلام» للزركلي أن لصاحب المتن الأصلي شرحاً مخطوطاً على متنه لم يُطبَع اسمه «منح الغفّار شرح تنوير الأبصار»، ووجدت في «هديّة العارفين» للبغدادي أن للشارح (العلاء الحَصكَفي) شرحاً آخر أوسع اسمه «خزائن الأسرار وبدائع الأفكار في شرح تنوير الأبصار»، ولم أقع له على خبر. أخيراً ينبغي أن نقول إن ابن عابدين قد توفي قبل أن يتم حاشيته، فأتمّها ابنه الشيخ محمد علاء الدين (ت 1306) في مجلدين، وسمّى التتمة «قرة عيون الأخيار لتكملة رد المحتار» (مجاهد).
(2)
وصفها في «الذكريات» فقال: "رسائل ابن عابدين المشهورة أُعيدَ طبعها الآن ووُجدت في الأسواق بعد أن كانت نادرة يكاد يتعذّر وجودها، وكل رسالة منها تصلح أطروحة لنيل شهادة الدكتوراة"(8/ 28 من الطبعة الجديدة)(مجاهد).
فهو لا يبحث موضوعاً إلا حشد له من القول ما لا يجد الباحث مزيداً عليه، ولا يقتصر على نصوص المذهب، بل ينظر في أقوال فقهاء المذاهب الثلاثة الأخرى ويوازن بينها ثم يرجّح، وربما عرض رأياً له صادراً عن فقه عميق أصيل لا فقه رواية ونقل. وهو مناظر قوي، يعمد إلى الشدّة على الخصم ويضرب وجهه بالحجج العلمية وبالشواهد الشعرية، يظهر ذلك جلياً في عدد من رسائله.
وأعظم هذه الرسائل -بلا شك- هي «شرح رسالة عُقود رَسْم المفتي» ، ولا أظن أن حنفياً يستطيع أن يدّعي أنه قادر على الإفتاء من غير أن يعرف المسائل التي اشتملت عليها. وعلم «رسم المفتي» هو الذي يعلّم المفتي كيف يميّز القول الأصحّ والقول الصحيح عند ازدحام الأقوال.
ثم رسالته النفيسة في العُرف، وهي «نشر العَرْف في بناء بعض الأحكام على العُرْف» .
وهذه طائفة من رسائله:
* * *
الإبانة عن أخذ الأجرة على الحضانة
تكلم فيها عن الحضانة: هل هي حق الحاضنة أم هي حق الولد؟ وانتهى إلى أن لكل منهما حقاً فيها. وعن الأجرة ومن يستحقها، وعن الأجرة في حال إعسار الأب وتبرّع غير الأم بالحضانة مجاناً، ونقل في ذلك نقولاً كثيرة من كتب الحنفية
والشافعية. وبيّنَ أنه إن كان المتبرع بها أجنبياً عن الولد كُلِّف بدفع الأجرة التي يتبرع بها إلى الأم وبقي الولد عندها، وإن كان غيرَ أجنبي عنه والأب مُعسر خُيِّرت بين إمساكه مجاناً (أي بلا أجرة) أو دفعه إلى المتبرع بها.
والرسالة في ثماني عشرة صفحة.
* * *
منهل الواردين من بحار الفَيض على ذخر المتأهّلين
في مسائل الحيض
هذه الرسالة شرح لرسالة «ذخر المتأهلين» للشيخ البركوي المتوفى سنة 981هـ، وهي رسالة صغيرة الحجم كثيرة النفع، جمعت مسائل الحيض كلها، واشتملت على مقدمة وفصول. المقدمة في تفسير الألفاظ المستعمَلة في هذا الباب من أبواب الفقه وفي أصوله وقواعده الكلية. الفصل الأول في ابتداء الحيض وانتهائه. الفصل الثاني في أحكام المُبتدَأة (1) والمعتادة. الفصل الثالث في الانقطاع. الفصل الرابع في أحكام الاستمرار. الفصل الأخير في أحكام الدماء الثلاثة المعقود عليها الباب، وهي الحيض والاستحاضة والنِّفاس.
والرسالة في تسع وستين صفحة، مطبوعة في دمشق سنة 1302.
* * *
(1) التي بدأ بها الحيض ولم تكن حاضت من قبل (مجاهد).
رسالة رفع الانتقاض ودفع الاعتراض على قولهم:
الأَيْمان مَبنيّة على الألفاظ لا على الأغراض
تكلم فيها على الأَيْمان وهل تُبنى على الألفاظ أو على العُرف. فإن اعتبرنا الألفاظ، وغضب رجل فحلف ألاّ يشتري من فلان بقرش ثم اشترى بمئة أو بألف لا يحنث، وإن اعتبرنا غرض الحالف وعُرف الناس يحنث. وشرح صعوبة المسألة، ونقل -على عادته- نُقولاً نفيسة نادرة من كتب المذهب، ونبّه إلى الغلط في بعضها.
وبيّن أن الحالف على شيء لا بد أن يكون له غرض من الحلف، وهذا الغرض إما أن يكون الفعل نفسه (مثل: لا أدخل هذه الدار) وإما أن يكون الفعل مقروناً بشيء آخر (مثل: لا أشتري الشيء الفلاني بعشرة)، فإن غرضه أنه لا يشتري بالعشرة ولا بما فوقها. وإما أن يكون أمراً خارجاً عن الفعل المسمّى ولا يكون المسمى مراداً أصلاً (مثل: لا أضع قدمي في هذه الدار)، فإن غرضه أنه لا يدخل، فلو وضع قدمه ولم يدخل لم يحنث.
وشرح هذه الأحوال ثم قال: "والحاصل أن الأوجه أربعة: إما أن توجد حقيقة الفعل ويفوت الغرض، وإما أن توجد صورة الفعل والغرض، وإما أن يوجد الغرض فقط ويفوت الفعل، وإما أن لا يوجد منهما شيء. والحنث إنما يتحقق في الوجه الأول فقط دون الثلاثة الباقية".
وضرب لذلك أمثلة، ثم استطرد إلى الكلام في الحقيقة والمجاز فجاء بشيء نفيس. وكانت خلاصة بحثه: "إن الذي يُبنى
عليه الحكم في الأيمان هو الألفاظ المذكورة في كلام الحالف باعتبار دلالتها على معانيها الحقيقية أو المجازية التي قرينتها العرف، وتسمى «الحقيقة الاصطلاحية» ، وهي مقدَّمة على الحقيقة اللغوية. أما الأغراض الخارجة على الألفاظ فلا تُبنى عليها الأحكام في الأيمان".
والرسالة في تسع عشرة صفحة.
* * *
تنبيه ذوي الأفهام على أحكام التبليغ خلف الإمام
وفيها دليل مشروعيته، وهو حديث جابر في صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس قاعداً في مرضه وأبو بكر يُسمع الناس تكبيره، وسرد طرق الحديث وجاء بنقول وأحكام فقهيّة واستنباطات قيّمة، وبيّنَ "ما أحدثه جَهَلة المُبَلّغين من منكرات ابتدعوها ومُحدَثات اخترعوها، لكثرة جهلهم وقلّة عقلهم
…
"، وبيّن هذه المُبتدَعات وأن في بعضها كفراً وفي بعضها فساد الصلاة، ونقل عن الشيخ عبد الغني النابلسي (الذي كان علاّمة عصره) قوله "إن الأذان والإقامة والتسبيحات خلال الصلاة والأدعية جميعها والخطبة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى، كل ذلك لا يجوز فيه التمطيط والتغيير في الحروف والكلمات والزيادة في المد، فإن التغيير والتمطيط حرام، وتحسين الصوت مستحَب، ولا يُرتكَب الحرام لأجل المستحَب".
والرسالة في سبع عشرة صفحة.
* * *
إعلام الأعلام بأحكام الإقرار العام
قال في أولها: "إن مسألة الإقرار العام قد حارت فيها الأفهام، لا سيّما إقرار الوارث بقبضه جميعَ ما يخصّه من التركة. وكثر فيها النزاع، حتى إن أفضل المتأخرين الشيخ حسن الشُّرُنْبُلالي ألّف فيها رسالة، جمع فيها كثيراً من نقول المذهب، ولم يَخلُ ما جاء به عن تأمل ونظر. فأردت أن أذكر بعض نقوله وأضم إليها بعض النقول، وجمعت ذلك في هذه الرسالة ورتّبتها على مقدمة وستة فصول".
والرسالة في ست وعشرين صفحة، مطبوعة في دمشق سنة 1301 بتصحيح الشيخ أبي الخير عابدين.
* * *
العقود الدُّريّة في قول الواقف على الفريضة الشرعية
قال في سبب تأليفها: "إن هذه المسألة قد اختلفت فيها فتاوى المفتين من العلماء المتأخرين، حيث لم يَرِد فيها نص عن الأئمة المتقدمين، وقد ألف فيها رسالةً شيخُ الإسلام، العلاّمة يحيى بن المنقار المفتي بدمشق الشام، وافَقَه فيها كثير من أهل عصره وصوّبوا ما ابتكره بثاقب فكره، وخالفه فيها آخرون، والكل أئمة مُعتبَرون، فها أنذا أذكر لك جملة من كلام الفريقين، وأضم إليها ما تقرّ به العين".
والذي قرره ابن المنقار أن قوله "على الفريضة الشرعية" يفيد التسوية بين الذكر والأنثى في القسمة، والذين ردوا عليه قالوا إنه يفيد أن للذكر مثل حظ الأنثيَين. وبعد أن أفاض ابن عابدين في
الكلام على أدلة الفريقين قال: "والحاصل أنه ليس المراد بالفريضة الشرعية فريضة الميراث ولا التسوية، ولكن تُفَسَّر بالعُرف".
وفي الرسالة فوائد كثيرة جاءت استطراداً، منها أن قضاء القاضي يُنقَض إذا كان حكماً لا دليل عليه، وأن المرأة تصلح شاهدة في الأوقاف كما تصلح ناظرة، وأن قولهم «نَصّ الواقف كنص الشارع» في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل به
…
والرسالة في إحدى وعشرين صفحة.
* * *
الفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة
قال في أولها: "وقد عنّ لي الكلام على بعض ألفاظ شاع استعمالها بين العلماء، وفي إعرابها أو معناها إشكال أو خفاء".
تكلم فيها على قولهم «هَلُمّ جَرّاً» ، وقولهم «من ثَمّ» ، و «اللهمَّ إلاّ أنْ يكون كذا» ، و «لا بد من كذا» ، و «هو أكثر من أن يحصى وزيد أعقل من أن يكذب» ، و «سواء كان كذا أم كذا» ، و «كائناً ما كان» ، و «بعد التي واللُّتَيّا» ، و «هذا الشيء لا مَحالة كذا» ، و «لا أفعله البتّة» ، و «ناهيك بكذا» ، وألفاظ أُخَر.
والرسالة مطبوعة في دمشق سنة 1301 بتصحيح أبي الخير عابدين، وهي في ثلاث وعشرين صفحة، فيّاضة بالفوائد النحوية واللغوية والنُّقول النفيسة، وإن كان فيها كثير من تكلّف وجوه الإعراب والتمحّل للمعاني.
* * *
شفاء العليل وبل الغليل
في حكم الوصية بالختمات والتهاليل
كتب المؤلف على نسخته التي هي بخطه: "بيان عدد الكتب التي جمعت منها هذه الرسالة، سوى التي راجعتها ولم أنقل عنها، أسردها هنا، وإن كنت عزوت كل مسألة إلى محلها ليزداد الواقف عليها ثقة بذكر مجموعها، وقد أنافت على خمسين كتاباً. وهي: شرح البخاري للعَيني، شرح مَجْمَع الآثار، شرح الكنز للزَّيلعي، شرحه لابن نُجَيم، شرحه للمقدسي، معراج الدِّراية، فتح القدير، الدر المختار
…
"، إلخ.
* * *
رفع الاشتباه عن عبارة الأشباه
وسبب تأليفها أن شيخه، الشيخ شاكر، سُئل في شعبان سنة 1218 عن عبارة ابن نُجَيم في كتاب الأشباه والنظائر، في آخر باب المرتد:«ولو قال قائل إن الأنبياء لم يَعصوا حال النبوة ولا قبلها كفر لأنه رد النصوص» . فأمره بتأليف هذه الرسالة.
بحث فيها في عصمة الأنبياء، وبيّنَ أنهم معصومون قبل النبوة من الكفر بالإجماع، وغيرُ الكفر من الذنوب موضع خلاف بين العلماء. فنقل عن أكثر الأشاعرة وطائفة من المعتزلة أنه لا يمتنع عقلاً على الأنبياء قبل البعثة أن تقع منهم معصية، كبيرة كانت أو صغيرة، وذهب الرّوافض وأكثر المعتزلة إلى أنه يمتنع عقلاً.
وهم معصومون بعد النبوة من الكفر، ومن تعمّد الكذب في الأحكام، ومن تعمّد الكبائر والصغائر الدالة على الخسة، وأما
الصغائر التي لا تدل على الخسة فتجوز منهم عمداً وسهواً.
والرسالة في اثنتي عشرة صفحة.
* * *
رفع التردد في عقد الأصابع عند التشهد
حقق فيها المسألة، وبيّنَ كيفية عَقْدها عند التشهد، وجاء بنقول كثيرة وجاء بأدلتها من الحديث، وبحث في رجال هذه الأحاديث وطرقها. وكان الفراغ من تأليف هذه الرسالة (وهي في ست عشرة صفحة) في رجب سنة 1236، وقد اطلع بعد ذلك على رسالة في موضوعها للشيخ مُلاّ علي القاري فألحقها بها في ربيع الأول سنة 1249.
* * *
الأقوال الواضحة الجليّة
في تحرير مسألة نقض القسمة ومسألة الدرجة الجعلية
وهي في تحرير المسألة التي ذكرها الإمام السبكي في الأشباه، في القاعدة التاسعة (إعمال الكلام أولى من إهماله). وهي متعلقة بقسمة ريع الوقف، بَيّن فيها المسألة وجواب السبكي، ومخالفته له ووجه ما ذهب إليه.
وهي في إحدى وعشرين صفحة، طُبعت في دمشق سنة 1301.
* * *
أجوبة محقَّقة عن أسئلة مفرَّقة
أجاب فيها على أسئلة في تفسير عبارات مُشكلة في شروط بعض الواقفين، وجاء -على عادته- بنُقول نفيسة، من مذهبه ومن مذهب الشافعية.
وعلى سؤال ورد إليه في ذي الحجة سنة 1241 عن ذمي تشاجر مع مسلم، فقال له المسلم: أنت كافر. قال الذمي: لست بكافر. قال له المسلم: قل آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر. فقال النصراني: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال المسلم: الرسل كثيرون. قال النصراني: كلهم. وذلك بحضور جماعة من المسلمين. وهم يسألون: هل يُحكَم بإسلامه أم لا؟ فأجاب بأنه لا يحكم بإسلامه، وبيّن الوجه في هذه الفتوى فقال:"على أنه لو أتى بالشهادتين صراحة لا يُحكَم بإسلامه ما لم يتبرأ من دينه، كما صرّح به الجمع الكثير من أئمتنا الحنفية".
وعلى سؤال في الحساب موضوعه تقسيم تركة فيها وصية.
وعلى سؤال في التمليك، وهل يحتاج إلى التسليم أم لا، فأجاب أن "التمليك لفظ مشترك بين ما يكون بعِوَض وما يكون بدونه، وأن كلاًّ منهما قد يكون تمليك عين أو تمليك منفعة. فالأول كالبيع، فإنه تمليك المال بعِوَض، والإجارة، فإنها تمليك المنفعة بعوض، والنكاح، فإنه تمليك البضع بعوض، لكنه تمليك حكماً. والثاني كالهبة، فإنه تمليك العين حالاً بلا عِوَض، ومثلها الصدقة، وكالوصية فإنها تمليك العين بعد الموت
بلا عوض، وكذا العاريّة، فإنها تمليك المنفعة بلا عوض. وهذه العقود مختلفة الأحكام
…
"، وأفاض في شرح أحكامها.
والرسالة في إحدى وعشرين صفحة، وفيها بحث جيد عن طلاق الثلاث بلفظ واحد (1).
* * *
(1) هذه هي آخر الرسائل التي ذكرها جدي فيما وجدت من أوراق، وقد كان يعتزم -فيما ظهر لي- إتمام الكتابة في وصف هذه الرسائل وتنقيح القسم الذي كتبه، لأن ما كُتب كُتب بصيغة المُسَوَّدة، ومن أجل ذلك كدت أصرف النظر عن نشر هذا الفصل كله أصلاً، ثم إني آثرت نشره كما هو على تركه واطّراحه. ومن شاء أن يطّلع على سائر الرسائل فهي مطبوعة متداوَلة (كما أشار الشيخ في النص الذي نقلتُه من «الذكريات» وأثبتُّه في صدر هذا الفصل)، وأهم ما بقي منها مما لم يُذكر هنا:«تنبيه الغافل الوَسْنان على أحكام هلال رمضان» ، و «تحرير النقول في النفقة على الفروع والأصول» ، و «تحرير العبارة فيمَن هو أَوْلى بالإجارة» ، و «تنبيه الولاة على أحكام شاتم خير الأنام أو أحد أصحابه الكرام» . ولابن عابدين عدد كبير من المؤلَّفات طُبع بعضٌ منها وبعضٌ ما يزال مخطوطاً، وقسم آخر فُقِد، فممّا فُقِدَ من كتاباته «ذيل سلك الدُّرَر للمُرادي» ، و «حاشية على تفسير القاضي البيضاوي» ، و «حاشية كبرى على إفاضة الأنوار شرح كتاب المنار» ، و «نظم كنز الدقائق» . رحمه الله (مجاهد).