المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌اقتراح في التعليم

‌اقتراح في التعليم

نشرت سنة 1953

مارست التعليم ستاً وعشرين سنة، علّمت خلالها في المدارس الأوّلية القروية في سَقْبا وزاكية، والمدارس الابتدائية في دمشق: الملك الظاهر وخالد وطارق، والمدارس الأهلية: الأمينية والكاملية والجوهرية، والمدارس الثانوية في دمشق ودير الزور وبغداد والبصرة وكركوك والقاهرة، والكلّيات الشرعية في دمشق وبيروت وبغداد، ودار المعلمين العالية في بغداد، ودرّست أطفالاً وشبّاناً وبنين وبنات، ولا أزال إلى اليوم أمارس التدريس مع القضاء في ثانويتين للبنين وللبنات. فاجتمع لي -من ذلك- من التجارب في التعليم ما لا أظنه اجتمع لكثيرين من المدرسين؛ أعان على ذلك طولُ المدة وتعدُّدُ البلاد، وأنه مرّ عليّ ألوفٌ وألوفٌ من التلاميذ، وتحصّل لي من ذلك آراء سأحاول أن ألخّص شيئاً منها لهذه المجلة (1).

وما أنشره اليوم اقتراح أنا أعلم أن دون الأخذ به عقبات، وأنه دعوة لقلب أوضاع المدارس وإبدال طرائق التعليم، ولكن

(1) مجلة «المعلّم العربي» التي نُشرت هذه المقالة فيها (مجاهد).

ص: 139

ذلك لا يمنع من درسه وبحثه، لأن كل اقتراح أو رأي بذرة تُلقَى في الأذهان، إما أن تموت وإما أن يكون منها الدَّوحة الباسقة والشجرة العظيمة. وما من شجرة -مهما عظمت وبسقت- إلا وأصلها بذرة.

والذي نبهني لهذه الاقتراح وجعلني أبحث فيه مرة في الرسالة من عهد بعيد (1) أنه كان لي أخ دعاه داع صحي إلى ترك المدرسة، فانقطع عنها وأقبل يطالع من كتب الأدب والتاريخ ما لا يثقل عليه ولا ينال من صحته، فقرأ فيما قرأ «تاريخ الطبري» كله و «الأغاني» وكتباً أخرى من هذه البَابَة، ثم رأى أن يدخل امتحان الكفاية (وتسميتها بالكفاءة لا وجه له (2))، فاستعد لذلك شهراً واحداً، ثم دخله فكان من الناجحين، على أن الناجحين في تلك السنة كانوا دون الثلث. وعاد إلى مثل ما كان عليه حتى كان امتحان النهاية (البكالوريا)(3) فاستعد له أشهراً ونجح فيه.

(1) انظر مقالة «أسلوب جديد في التعليم» ، وهي منشورة في كتاب «في سبيل الإصلاح» ، وانظر أيضاً الصفحة الثانية من مقالة «المطالعة» في هذا الكتاب، ص180 (مجاهد).

(2)

هو امتحان الشهادة الإعدادية، كان على رأس سنوات الدراسة الإعدادية الثلاث، وكان من وزن امتحان الثانوية العامة في أهميته وخطورة شأنه، فمن لم ينجح فيه استحال عليه إكمال الدراسة الثانوية، ومن نجح بمعدَّل دون المطلوب تحوّل إلى المدارس المِهَنية والصناعية وحُرم من التعليم الأكاديمي. بقي إلى أيامي أو بعدها بقليل، ثم أُلغي من سنوات طويلة حتى لأحسب أن عامة الناس لا يعرفونه اليوم إذا سمعوا به (مجاهد).

(3)

أي الثانوية العامة (مجاهد).

ص: 140

ففكرت في أمره، وجعلت أسائل نفسي: فإذا كانت الغاية النجاح في هذا الامتحان، وكان ذلك يتم بدراسة أشهر أو سنة على أبعد تقدير، فلِمَ ندرّس الطلاب هذه العلوم في سنين طويلة؟ ولماذا نضيع زهرة شباب أبنائنا في المدرسة لنعلمهم ما لا يكاد ينفعهم في حَيَواتهم إذا هم خرجوا من المدرسة إلى الحياة، ولم يقدروا أن يشتغلوا بعد ذلك بما يشتغل به العامي الجاهل من أعمال اليد وأشغال السوق؟ ألا يمكن أن نعلّم كل طالب ما ينتفع به ويميل إليه، ونعفيه من علوم يكرهها ولا فائدة لها في حياته؟

ثم ركزت السؤال فقلت: ما هي الغاية من التعليم؟

* * *

إن الغاية إما أن تكون الشهادة، أو تكون العلم لذاته، أو تكون الإعداد لخوض لُجّة الحياة والفوز في اجتيازها.

أما «الشهادة» فلا بحث فيها لأنها عَرَض لا جوهر، ووسيلة إلى غيرها، لا يصح الوقوف عليها ولا القناعة بها. وهي -بعدُ- كاسمها، شهادة، قد تكون مزكّاة عادلة، وقد تكون شهادة زور تعطى لغير أهلها وتُمنَح غيرَ مستحقها. وماذا ينفع الفقير المفلس أن يشهد له عُدول البلد بأنه أغنى الأغنياء؟

أما «العلم» فإني أذكر ما جرّبته بنفسي وما شاهدت عليه تلاميذي. ولقد كنت في دراستي الثانوية مُجَلّياً دائماً، وما كنت مقصراً في درس حتى الرياضيات، ولقد بقي من أساتذتنا الهاشمي والكيّال والشمّاع (مدّ الله في أعمارهم)، فاسألوهم: هل كنت إلا سابقاً في الرياضيات وفي الطبيعيات؟ ولقد كتبت مرة في

ص: 141

جريدة «اليوم» سنة 1930 أدّعي الجهل المطبق بالرياضيات -على عادة الأدباء- فردّ عليّ أستاذنا مسلّم عناية (رحمة الله على روحه) وشهد لي بأني كنت من السابقين فيها.

وما قلت هذا تمدّحاً وفخراً بل لأقرر أني -على رغم هذا كله- لم يبقَ عندي الآن مما درست من العلوم إلا ما كان طبعي منصرفاً إليه من علوم الدين واللسان والتاريخ والفلسفة، وما عدا ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية (1) فلا أكاد أعرف منه الآن إلا أشياء عامة جداً، أما التفاصيل والدقائق وأعيان المسائل فقد نسيتها كلها، ولو سئلت عما أعرفه من المثلثات مثلاً لأجبت صادقاً بأني لا أعرف إلا شيئاً اسمه الجيب والتَّجيب (وأظن أن اسمه تمام الجيب) والمماس (ولا أذكر ما هو على التحقيق)، حتى موضوع علم المثلثات على وجه التحديد نسيته، مع أن علامتي في هذا الدرس سنة درسناه كانت تسعاً من عشر وكنت تلك السنة الأول في صفي. والشيء الذي لم أنسَه ولم أجد في الحياة وقد عرفت العمليات الجراحية، وآلام النوبات الرملية، والضياع في الصحراء، وشهدت حربين اثنتين، حرب 1914 وحرب 1939، وذقت الفقر وموت الأم والأب

فلم أجد في ذلك كله ما هو أصعب منه، فهو الجذر التكعيبي والعياذ بالله من ذكره!

أما الكيمياء العضوية فلا أعرف منها الآن إلا أن فيها شيئاً اسمه الميثان، وتركيبه جزء من الفحم وأربعة من مولِّد الماء (2).

(1) لا الطبعية كما يقول المتحذلقون.

(2)

أي ذرة كربون وأربع ذرات هيدروجين، رمزه الكيماوي CH4، وهو المركَّب الأول في سلسلة البارافين الهَيْدروكربونية (مجاهد).

ص: 142

ولا أعرف عنها وعن الفيزياء (1) إلا أن الكيمياء تبحث في التبدّلات الجوهرية في المواد وتلك تبحث في التبدلات العارضة. ودرست الجغرافية (2) الطبيعية والسياسية والاقتصادية، ومع ذلك فقد سمعت في الرادّ من أيام اسم بلد فلم أدرِ أين يقع حتى بحثت عنه على المصوَّر.

وكل من عرفت من الطلاب هذه حالهم؛ ينسى أكثرهم كل شيء إلا شيئاً انقطع له واختص به، ويحفظ الأقلُّ منهم خلاصات موجَزة. أفما كان خيراً لو أقرأناهم هذه الخلاصات وحدها من الأصل؟

ولست أقول: دعوا هذه العلوم لا تُقرئوها التلاميذ، ولكن أقول إن هذا الخلط بين العلوم الكثيرة يؤدي إلى إضاعتها كلها، وهذا سرّ ما نشكوه من ضعف الطلاب في مصر والشام والعراق في اللغة، وهي أداة العلم كله، وما نلمسه من عقم القرائح وفَقْد المخترع والباحث.

ولو أنّا رجعنا إلى طريقة أجدادنا الذين كانوا يتعلمون علمين اثنين أو ثلاثة، فإذا أحسنوها أخذوا في غيرها، لكان أجدى علينا.

* * *

(1) وكانت تسمى في أيامنا «حكمت طبعية» .

(2)

وقد كان الأب أنستاس الكرملي يسمّيها علم «التفريع» ، من قولهم فَرَع الأرض (أي جَوّل فيها).

ص: 143

فمدارسنا -إذن- لا توصل إلى الغاية العلمية النظرية، فلننظر إلى الغاية العَمَلية: هل تبلّغنا إياها؟

هل تُعِدّ مدارسُنا التلاميذَ إعداداً جيداً للنجاح في الحياة، وضمان الكسب الطيب والعيش الرغد، مع الخلق القويم والإيمان العميق؟ الجواب -فيما أحسب- مُشاهَد ملموس؛ هو أن مدارسنا، معشرَ العرب لا معشر السوريين فقط، لا تكاد تخرّج إلا أطباء أو محامين أو مدرّسين أو موظفين.

أما الوظائف فعددها محدود لا يمكن أن يتسع لكل المتعلمين، ولا ينبغي أن يتسع لهم. وأما الأطباء والمحامون في دمشق فقد صاروا من الآن أكثر من اللازم بكثير، وغدا جلّهم يقنع بالربح القليل. أما التجارة والزراعة وسائر طرق الرزق فإن أكثر أهلها أو كلهم ممّن لم تخرّجهم المدارس، بل خرّجوا أنفسهم في مدرسة الحياة الكبرى.

وأصل المسألة أن نظام التعليم في بلادنا كالدار القديمة التي بُنيَت من غير هندسة وعلى غير مخطَّط، لا يفتأ أصحابها يتعاهدونها بالإصلاح، ويحاولون مرة جعلها على الأسلوب العربي، وتارة على الأسلوب القوطي، وطوراً على الأسلوب الأميركي الحديث، ينفقون عليها أضعاف ما يكفي لبناء دار جديدة، ويرضون أن يجعلوها -من كثرة التجارب وتعدد الأساليب- كالثوب المرقَّع، ولكنهم لا يجرؤون على هدمها من أساسها وتنظيف أرضها وبنائها من جديد على هندسة صالحة ونمط صحي نافع.

ص: 144

إننا نحبس التلاميذ ست سنين للدراسة الثانوية، ونحشو رؤوسهم بمعلومات أكثرها لا ينفع في الحياة. وماذا لعمري استفدت أنا -من دراسة المثلثات والهندسة النظرية وحفظ معادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء- في الكتابة وتدريس الأدب والقضاء، وهذه هي أعمالي في الحياة؟

سيقول قائل: ومن الذي ضرب الرمل فعرف أنك ستكون أديباً أو قاضياً؟ أفما كان في الإمكان أن تكون مهندساً أو صيدلياً أو شيخ طريقة أو قاطع طريق؟ كل ذلك ممكن، ولكن الدراسة العالية هي التي حددت طريقي في الحياة.

فلماذا لم أحدده قبل ذلك بسنوات؟ لماذا لم أحدد طريقي من قبل؟

هذه هي المسألة (كما يقول شكسبير)، والآن وصلت إلى الاقتراح الذي قدمت له هذه المقدمات الطِّوال.

* * *

إن الدراسة العالية هي المقصودة بالذات، وما قبلها ثقافة عامة هي بمكان المقدّمة لها والتمهيد إليها. أفلا يستطيع الشاب الواعي دراسة الحقوق -مثلاً- من غير إحاطة بدقائق الكيمياء والفيزياء والمثلثات؟ أوَلا يكفيه أن يعرف عنها الشيء المُجمَل المختصر؟ وطالب الطب: هل يستحيل عليه تحصيله من غير معرفة بعلل الشعر واختلاف الكوفيين والبصريين؟

لقد شاهدنا محامين بارعين وقضاة لا يعرفون شيئاً عما

ص: 145

درسناه من المشتقَّات وتحول التابع. وشاهدنا أطباء استطاعوا أن ينجحوا في عمليات خطيرة وهم يجهلون شروط عمل اسم الفاعل ولا يقدرون على الموازنة بين أبي تمام والبحتري. وها هم أولاء كبار رجال المعارف المشرفون على شؤونها وعلى هذه المجلّة، سلوهم: هل يذكرون من دروس التجهيز إلا ما يتعلق بما انقطعوا له واختصوا به؟ سلوا الأستاذ الفتيح، وهو أديب وحقوقي: هل يستطيع أن يحل معادلة جبرية من الدرجة الثانية؟ وهل يعرف رمز البترول من الكيمياء العضوية؟ وسلوه مرة ثانية: هل منعه ذلك من أن يكون موفَّقاً في عمله ناجحاً فيه، معدوداً من كبار رجال التربية والتعليم؟

فما العمل؟

أنا أقول لكم، ولكن لن يسمع أحدٌ قولي لأني لست ذا شهادة في التربية والتعليم!

اجعلوا مدة الدراسة الابتدائية والثانوية معاً سبع سنين، يتمكن فيها الطالب من العربية بالمِران والتطبيق وإحياء السليقة في نفسه، لا بحشو رأسه بالقواعد وقتل وقته بمعرفة أوجه الإعراب، حتى يقيم لسانه ويتنزّه عن الخطأ الفاحش. ولا يضره -إذا رفع الاسم الواقع بعد «إذا» - أن يُعربه مبتدأ أو فاعلاً لفعل محذوف يفسّره المذكور كما يقول متحذلقة النحاة، وإذا نصب الاسم لا يضره أن يكون حالاً أو تمييزاً.

ويتعلم من دينه ما يمسك عليه إيمانَه وخلقه ويرغّبه في الخير ويصرفه عن الشر ويمنعه عن الحرام، ولا يحتاج -بعد

ص: 146

هذا- إلى عَدّ سنن الصلاة ولا إلى معرفة اختلاف الفقهاء في القُرْء: أهو الدم أم الطهر؟

ومن الرياضيات الشيءَ العملي الذي لا يُستغنَى عنه، من غير بحث في النظريات المجردة. ومن علوم الطبيعة وقوانينها ما لا بد من معرفته لإدراك ظواهر الطبيعة وأسرار المخترَعات التي يستعملها، كالرادّ والهاتف والكهرباء. وشيئاً من الصحة وتاريخ العرب وجغرافية بلادهم، ومبادئ لغة من اللغات الأجنبية

وأمثال ذلك، فما قصدت الاستقصاء ووضع منهج كامل بل أردت التمثيل.

فإذا تخرج الطالب في هذه المدرسة عرضنا عليه فروع الجامعة ليختار واحداً منها، فإذا اختاره حضّرناه له في سنة أو سنتين أو ثلاث عند الضرورة، وعلمناه ما لا بد منه للدراسة في هذا الفرع؛ فيكون في كل كلية قسم تحضيري يتلقى فيه الطالب علومَه عن رغبة فيها وحب لها، لأنه هو الذي اختارها ولأنها وافقت هواه. وينجو -بذلك- مَن خُلق شاعراً من طلاسم الرياضيات أو الرسوب دونها والانقطاع عن المدرسة وحرمانه التحصيل من أجلها، وهو لا يحتاج إليها من بعد أبداً. ولا يتعلم كل طالب إلا ما يحتاج إليه، مع اختصار مدة الدراسة، وتقوية الاختصاص، وكسب الوقت الذي يُستفاد منه في تقوية الأجسام بالرياضة وتقويم الأخلاق بالموعظة والمراقبة.

ومن شاء الاكتفاء بالدراسة الأولى واقتحام الحياة لم نسلبه وقته، ونكون قد سلّحناه بثقافة عملية يعلو بها عن مستوى العامة

ص: 147

والسوقة، ويستطيع معها مداومة القراءة والمطالعة.

فما رأي إخواننا الأساتذة والمربين؟

* * *

ص: 148