الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدّمة «باب البيان»
نشرت سنة 1955
جمعني موسم حج هذه السنة بالأخ الأستاذ صاحب «المسلمون» . وكنا في زيارة الأستاذ رشدي ملحس رئيس ديوان جلالة الملك سعود، فجعل يثني على «المسلمون» وصاحبها، ويأخذ عليها أنها لا تُعنى بالأدب عنايتها بالعلم، ولا تجعل من صفحاتها للقلب بعض ما جعلت للعقل. والأستاذ صاحب «المسلمون» من مزاياه أنه لا يسمع اقتراحاً نافعاً إلا أخذ به؛ لذلك أخذ بهذا الاقتراح الرشيد من الأستاذ رشدي، وكلفني «فتح» هذا «الباب» .
ولم أدرِ -حين قبلت- أن الشباب ولّى وأن العزم وَنَى، وأن الأيام لم تُبقِ في أعصابي قوة أفتح بها باباً ولا شُبّاكاً (1)، وأني كنت أخدع نفسي وأخدع الناس حين أزعم أني ما أزال اليوم كما كنت من ربع قرن، أيامَ كنت لا أقرأ قصة ولا أتلو شعراً، ولا أشهد خَشْعَة السحَر ولا بهاء الغَداة ولا فتنة الأصيل، ولا أرى الطبيعة حين تَبْسِم بأفواه الزهر أو تضحك بخَرْخَرة السواقي
(1) الشباك بهذا المعنى لفظ مولَّد.
أو تزأر بهدير الأنهار، ولا أرى الجمال حيثما كان، إلا توثبت القريحة وتدفقت على النفس المعاني، وازدحمت على القلم الكَلِمُ وولدت على سِنانه الفصول والمقالات.
أيام كنت
…
وأين مني تلك الأيام؟ كنت إن مشيت ثلاثة أكيال (1) إلى الرَّبْوة أو عشرة إلى الهامَة، أو ذهبت إلى بيروت أو إلى حمص، نشأت في النفس ألف ذكرى ونُقشت ألف صورة وانبعث ألف أمل. وهأنذا أمشي اليوم إلى آخر الأرض، إلى السند والهند وسيام وجاوة، فلا أكتب عنها إلا مُكرَهاً، كمَن ينحت من صخر، ولطالما كنت -إذا كتبت- أغرف من بحر.
لقد ونى العزم وولّى الشباب، فهل ترونها أبقت لي الأيام ما أقوى به على فتح هذا الباب؟ وهل تروني أستطيع أن أجري مع هؤلاء الأدباء في ميدان، وقد غبر دهري وعتقت آرائي، حتى صرت كأني عندهم من آثار الأوّلين؟
وأين أنا منهم وأنا لا أرتضي هذه الأساليب الواهية المستعجمة التي يكتبون بها، وهم لا يرتضون أسلوبي؟ وأنا أنكر هذه الموضوعات التي لا يعرفون غيرها، وهم ينكرون موضوعاتي؟ ومَن يستمع إليّ إن قلت إن غزل الشعراء العذريين الأمويين خير من شعركم هذا الحديث؟ وإن فيمَن تعدّونهم كتّاباً (كيوسف السباعي) من لا أستطيع أن أجد فيه إلا عامياً، عامي الفكر وعامي الأسلوب، وإن هذا الهراء الذي يكتبه ويطبعه لو كتب مثلَه تلميذٌ في الثانوية ممن عرفنا في أيامنا لسقط في الامتحان؟!
(1) كيل (كيلومتر) وجمعه أكيال، مثل ميل وأميال.
ومن يستمع إليّ إن قلت إن الأسلوب قبل الفكرة، والعبارة قبل الغرض، وإن المقطوعة الجميلة الأسلوب الصافية الديباجة المنخولة اللفظ أفضل -ولو خلت من المعنى المبتكَر- من كل هذا الهذَر الذي تسمّونه الشعر الجديد، وإن المعاني -مهما سمت وعلت- إن جاءت في اللفظ الركيك والنظم المتهافت (كنظم الصافي النّجَفي) لم يكن فيها خير ولم تكن إلا كتماثيل الثلج، كل ما فيها من دقة الصنع وروعة الفن يذوب إن أشرقت عليه الشمس فيصير وحلاً تطؤه الأقدام؟
هذه آرائي، فهل يستمع إليّ الناس إن أنا أبديتها؟ وهل ترضى «المسلمون» عن هذه الآراء؟ وإن هي لم تكن معي فيها، فهل تدعني أقول ما أشاء على عهدتي، أم تسدّ فمي وتشدّ بنِسْعَة لساني؟ وإن هي تركتني وخلّت بيني وبين الناس، فهل بقي لي من القوة والأَيْد ما أصاول به وأجادل، وأدافع عن آرائي؟
* * *
وشيء آخر؛ هو أني أعلم أن الغايات ثلاث: الحقيقة، والخير، والجمال. وأن الأدب لا يبتغي إلا الجمال وحده، هو غايته التي يمشي إليها وهو طَلِبَته التي يحرص عليها، وأن أعذب الكلام أكذبه. وهل الاستعارات والمَجازات كلها إلا أكاذيب؟
أنا أعلم هذا، وقد نشرت هذا الفصل عن الشريف الرضيّ دلالة عليه (1). ولكن الشريف وغير الشريف إنما قالوا هذا في
(1) يشير إلى مقالة «سيد شعراء الحب العذري» ، التي نشرها في «باب البيان» عندئذ، وهي في كتابه «رجال من التاريخ» (مجاهد).
ساعات لهوهم وحظوظ نفوسهم، لم يقولوه في الأيام السود ولا وسط المَعامع الحمر. ونحن اليوم في ساحة حرب، حرب الاستعمار ومكايده، وإسرائيل وشرورها، والدول الكبيرة ومطامعها، وحرب الإلحاد والرذيلة وخبيث العادات، وحرب الفقر والمرض والجهل
…
فهل يدع أدباؤنا هذا كله ويقولون مثل الذي قال الشريف الرضي؟ هل يتركون النار تأكل خضراءهم ويستلقون على ظهورهم يحلمون بقبلة من حسناء في غفلة الرقيب؟
إنه لم يبقَ في فرنسا بعد كَسْرة السبعين قلم كاتب ولا لسان أديب إلا قال فيها، مواسياً ومقوّياً وباعثاً للأمل وحافزاً للهمم، فكُتبت مئات من القصص عن مشاهد الحرب وآلاف من المقالات ودواوين من الشعر؟ فما الذي قاله أدباء العرب في «مأساة فلسطين» ؟
هل يجهل أدباؤنا خطر الكلام في مصاير الأمم؟ هل نسوا أن خطبة طارق هي التي فتحت الأندلس، وخطب نابليون ربحت النصر في إسترلتز، وأن خطب فيخته أنهضت ألمانيا، وأن أشعار إقبال أقامت دولة باكستان، وأن نصائح السرهندي صنعت أورانك زيب، أعظم ملوك الهند وسادس الخلفاء الراشدين (1)؟
* * *
إننا نفتح هذا الباب في «المسلمون» ، فهل يحب أدباؤنا أن يدخلوا؟
(1) انظر الفصل عنه في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).
ولا نقصره على لون من ألوان الأدب ولا على شكل من أشكاله. إنما ننشر فيه -إن شاء الله- الشعر والنثر، والبحث والوصف، والعرض والنقد، والأقصوصة والمسرحية، من كل ما نكتبه نحن أو يأتينا مما يكتب الناس وما نختاره من روائع الأدب القديم؛ لا نتقيد في النشر إلا بقيدين:
(1)
نقاء الديباجة وسلامة الأسلوب، حتى يكون هذا الباب متعة للأديب الضليع، وإماماً للطالب المتأدب يتبع سبيله ويسلك سننه.
(2)
ثم الحفاظ على مبادئ المجلة، بأن يكون ما يُنشَر فيها من الأدب نافعاً في خلق أو دين، فإن لم يكن بعضه كذلك فلا أقل من أن يكون خالياً من كل ما يأباه الدين والخلق الكريم.
والاتكال على الله، ومنه نرجو التوفيق ونستمد العون (1).
* * *
(1) نُشرت هذه المقالة في العدد الثاني من السنة الرابعة من سنوات «المسلمون» الذي صدر في شهر رمضان 1374 (نيسان 1955)، واستمر علي الطنطاوي يحرر هذا الباب تلك السنة حتى توقف الباب كله في آخرها، في العدد العاشر الذي صدر في رجب 1375 (شباط 1956). وهذه «المسلمون» ليست «المسلمون» التي نشر فيها مذكراته بأخَرَة، فتلك الأخيرة مجلة حديثة، بدأت بالصدور أواخر عام 1981 وبدأ علي الطنطاوي بنشر مذكراته فيها منذ عددها الرابع. أما هذه القديمة التي نتحدث عنها هنا فقد بدأت بالصدور قبل ذلك بثلاثين سنة كوامل، لا تزيد أسبوعاً ولا تنقص أسبوعاً، وهذه=
= من غرائب المصادفات وعجائب الموافقات. وقد أصدرها أولاً في القاهرة سعيد رمضان (المصري)، واستمرت كذلك ثلاث سنوات، ثم انتقلت إلى دمشق وصار مصطفى السباعي هو صاحب امتيازها ورئيس تحريرها. وفي أولى سنواتها في دمشق (سنتها الرابعة) حرّر علي الطنطاوي «باب البيان» فيها. وصدرت «المسلمون» في دمشق ثلاث سنوات، ثم انتقلت في سنتها السابعة إلى جنيف في سويسرا وعاد سعيد رمضان إلى رئاسة تحريرها. وفي السنة التي فارقَت فيها «المسلمون» الشام حوّل الشيخ السباعي ترخيصها وبدأ بإصدار «حضارة الإسلام» ، وهي المجلة الجليلة التي كُتبت لها الحياة سنوات طويلة من بعد (مجاهد).