المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌أخبار من التاريخ

‌أخبار من التاريخ

حديث أذيع سنة 1965

[حديث اليوم ليس كالأحاديث الماضيات، لا أتكلم فيه عن عَلَم من أعلام التاريخ ولا عن واقعة من وقائعه، ولكني أسرد فيه أطرافاً من تاريخ الحرمين، وجدتها متفرقة خلال مطالعاتي فجمعتها، يستمتع بها من شاء الاستمتاع، ويجد فيها النفع من أحبّ من السامعين أن يزداد معرفة بتاريخ هذا البلد الكريم.]

إنكم تذهبون كل يوم إلى جدة وتعودون منها، وتركبون منها البحر وتمتطون منها الجو، فهل تعرفون مَن الذي أسّس هذه المدينة ومن جعلها مرفأ مكة؟

كان مرفأ مكة في الجاهلية في مكان قريب من جدة اسمه «الشُّعَيْبة» ، فكلم عثمان بن عفان سنة 26 للهجرة أهلَ مكة في تحويله، فوافقوه، فخرج بالناس إلى موضع جدة وعاين المكان، وأمر بتحويل المرفأ إليه. ثم دخل البحر فاغتسل فيه، وقال لمن معه: ادخلوا البحر للاغتسال، ولا يغتسل أحد إلا بمئزر. ثم خرج على طريق عُسْفان إلى المدينة، وترك الناس ساحلَ الشُّعَيْبة من ذلك الزمان.

ص: 31

ذكر ذلك صاحب كتاب «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» (1) نقلاً عن تاريخ الحافظ عمر بن فهد. ويظهر أن مرفأ الشعيبة بقي مستعمَلاً، لأن ساحله عميق تستطيع السفن أن تدنو منه، ليس كساحل جدة الذي تضطر السفن إلى الوقوف بعيدة عنه؛ فقد ذكر المؤرخون أن المهدي لمّا شرع بعمارة الحرم أمر بنقل الأساطين من مصر، فكانت السفن تقف على الشعبية لسهولة نقل الأساطين منها إلى البر.

* * *

يا أيها المستمعون، قلت لكم إن هذا الحديث أخبار التقطتها من زوايا التاريخ، أسردها كيفما جاءت، لا أبتغي فيها الترتيب الزمني ولا التسلسل التاريخي.

من ذلك أن الكعبة كانت تقوم وحدها في الوادي، وكان الناس يبنون بيوتهم في الحِلّ خارج الحرم، يحرّمون على أنفسهم أن يبنوا بيوتهم مع بيت الله، فكانوا يأتون مكة نهاراً، فإذا كان الليل خرجوا إلى بيوتهم في الحِلّ. فلما ولي قُصَي أمرَ الكعبة وأخرج خُزاعة من مكة قال لقُريش: إنكم إن سكنتم الحرم حول البيت هابتكم العرب ولم تستحلّ قتالكم.

قالوا: أنت سيدنا ورأينا تبع لرأيك.

فأذن لهم بالبناء، وبنى هو «دار الندوة» لتكون لهم كالمجلس

(1) لعله «الإعلام بأعلام بلد الله الحرام» ، ومؤلفه هو قطب الدين محمد ابن أحمد المكّي المتوفّى سنة 988هـ (مجاهد).

ص: 32

النيابي للناس في أيامنا، فكانوا يجتمعون فيها كلما دهمهم أمر أو عرض لهم ما يحتاج إلى المشاورة، وكانوا يعقدون فيها العقود، فلا يتزوج أحد إلا فيها. وكان موضع دار الندوة مكان سُدّة المؤذّنين التي كانت من طرف المَطاف من جهة الشمال.

فبنوا البيوت حول الكعبة من جهاتها الأربع، وتركوا حولها رَحْبة للطواف تقدَّر بمقدار المَطاف القديم قبل توسعته، وجعلوا أبواب بيوتهم من جهة الكعبة، وجعلوا بين كل بيتين طريقاً ينفذون منه إلى البيت الحرام. وبقي كذلك حتى جاء عمر، فجعل هذه الساحة مسجداً وجعل لها سوراً بمقدار قامة الإنسان.

فتبيّن من ذلك أن الذي أسّس مدينة مكة هو قُصَي.

* * *

ومن الطرائف التي وجدتها وأنا أنظر في الكتب أن باب إبراهيم المعروف الآن، وهو بقرب باب الحَزْوَرَة، ليس منسوباً إلى سيدنا إبراهيم كما يظن الناس، بل هو منسوب إلى خياط معمَّر كبير السن اسمه إبراهيم، كان يجلس عند هذا الباب فنُسب إليه وخلد اسمه واشتهر.

فليست الشهرة مقياساً للعظمة، بل ربما اشتهر من لا يستحق الشهرة وربما نُسي من كان مستحقاً لخلود الذكر.

* * *

وروى السيوطي نقلاً عن أبي شامة أن أهل المدينة المنوَّرة أحسّوا ليلة الأربعاء 3 جمادى الآخرة سنة 654هـ بزلزلة عظيمة

ص: 33

ارتجّت منها الأرض وتصدّعت بعض البيوت، ثم تكررت بعد ساعة، وتعاقبت الزلازل واستمرت يومين، ثم انفجر -كما يبدو- بركان في الحَرَّة (وهي منطقة بركانية) وصفوه بأنه نار عظيمة، أبصرها الناس من دورهم في المدينة فأضاءت لهم الدور حتى صار الليل من الضياء كالنهار.

قال الراوي: وطلعنا نبصرها فوجدنا الجبال تنبع ناراً ثم تسيل النار كما يسيل السيل! واجتمع الناس في المسجد تائبين مستغفرين، واستمرت النار والزلازل قريباً من شهر.

قال الذهبي: أمر هذه النار متواتر، وهي ممّا أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال:«لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل في بُصرى» .

* * *

وكانت الكعبة تُكسى الديباج الأبيض، حتى جاء الخليفة العباسي الناصر فكساها الديباج الأسود سنة 521هـ، واستمر ذلك إلى الآن.

* * *

وما دام الحديث عن الأوّليّات، فإن أول من أحدث بدعة الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان هو محتسب مصر، نجم الدين، سنة 792هـ.

وأول من أحدث الحاشية الخضراء على عمائم المنسوبين إلى السيدة فاطمة هو المتوكل الثاني ابن المعتضد سنة 773هـ.

ص: 34

ومن الغريب أن العمائم البيض كانت في عهد من العهود شعار النصارى، وقد تركوها مدة، فأراد وزير الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 716هـ إعادتهم إليها وزيادة الجزية المفروضة عليهم، فقام بالدفاع عنهم شيخ الإسلام ابن تيميّة، وبذل جهداً عظيماً حتى أبطل ذلك كله.

وأول من أحدث بدعة النِّياحة واللطم في عاشوراء هو معزّ الدولة (1) سنة 352هـ، وأجبر الناس على غلق الأسواق ومنع الطباخين من الطّبيخ، ونصبوا القِباب في الطرق وعلقوا عليها المُسوح، وأخرجوا النساء منتشرات الشعور يلطمنَ في الشوارع يُقمنَ المأتم على الحسين. واستمرت هذه البدعة المنكَرة عشر سنين ثم أُبطلت.

* * *

وفي جمادى الأول سنة 802 هجرية، أي منذ خمسمئة وثلاث وثمانين سنة، هطلت في مكة أمطار شديدة نزلت كأفواه القِرَب، وسال السَّيْل دَفّاعاً متلاطماً، فدخل الحرم حتى بلغ الماء القناديل، ثم دخل الكعبة من شِقّ الباب، وهدم من الرُّواق الذي عند الباب الذي يسمّى اليوم «باب الباسطية» عدة أساطين، وضرب منازل كثيرة، ومات في السيل عشرات.

وحزن الناس لما أصاب المسجد من الهدم وسقوط الأساطين، ولم يعلموا أن سقوط هذه الأساطين سيكون سبباً في

(1) اسمه أحمد بن بُوَيه، وهو من ملوك البُوَيهيين في العراق، وكان أيام الخليفة المستكفي (مجاهد).

ص: 35

سلامة المسجد، وأن الله يقدّر ويلطف، وأنه عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.

ذلك أنه بعد هذا السيل بخمسة أشهر، في ليلة السبت 28 شوال سنة 802، كان أحد المرابطين في تكية رامشت عند باب الحَزْوَرَة (ورامشت هو لقب الشيخ الذي بنى هذه التكية، واسمه إبراهيم بن الحسين) كان قد أشعل سراجاً في خَلوته، وتركه مشتعلاً وخرج، فجاءت فأرة فسحبت فتيل السراج فألقته على الأرض، فاحترقت الخلوة ووصلت النار إلى سقفها، ثم خرجت من شبّاكها المطلّ على الحرم فاشتعل جدار الحرم، حتى وصلت النار إلى سقف المسجد الحرام فالتهب.

وعجز الناس عن إطفائه لعُلُوّه، ولأن النار كانت أسرع منهم في إحضار السلالم، فمشت في السقف والتهمت الجانب الغربي من المسجد كله، وصار شعلة واحدة إلى أن وصل الحريق إلى الجانب الشامي، واستمرّ يأكل من السقف ويسير حتى وصل إلى باب العجلة (الذي يسمى اليوم باب الباسطية) حيث هدم السيل العمودين والقوس فوقفت النار، ولولا ذلك لأكلت المسجد كله!

وبقيت النار مشتعلة والناس لا يقدرون على إطفائها (ولم يكن لديهم مصلحة للإطفاء كما هي اليوم) حتى انطفأت من نفسها، وصار الجانب الغربي ونصف الجانب الشمالي مثل التلّ الكبير من أنقاض الحريق، وصار الواقف وراءه لا يستطيع أن يرى الكعبة.

وكانت مصيبة من المصائب، ولكن الله يسّر عمارة ما احترق

ص: 36

وتهدم على يد أمير الحاجّ، الأمير بيسق، وإعادته إلى أحسن مما كان عليه.

* * *

وبعد ذلك بأربع وثمانين سنة، أي في سنة 886، في الثلث الأخير من ليلة الإثنين 13 رمضان، صعد رئيس المؤذنين في المسجد النبوي في المدينة المنورة المنارةَ ليؤذّن أذان السّحَر. وكانت ليلة شاتية متلبّدة الغيوم متوارية النجوم، فارتجّت الدنيا برعد هائل، وسقطت صاعقة أصابت رأس المئذنة، فمات المؤذّن، وانشقّت المئذنة فهوت على سقف المسجد واشتعلت النار فيه. وأحسّ الناس بذلك فنادوا: الحريق، الحريق في المسجد!

وحضر الأمير وشيخ المسجد والقاضي وسائر الناس، وصعد أهل النجدة والقوة إلى سطح المسجد بالمياه في القِرَب يسكبونها على النار، ولكن النار ظلت مشتعلة ومشت شمالاً وغرباً، وعجزوا عن إطفائها، واستولت النار على كثير منهم فمات منهم أكثر من عشرة أنفس وهرب من استطاع الهرب.

وعظُمت النار جداً وأحاطت بجميع سقف المسجد، وأحرقت ما فيه من المصاحف وخزائن الكتب وما كان في المسجد من النفائس، وصار المسجد شعلة من نار، واحترقت القبّة العليا التي فوق قبة الحجرة الشريفة وذاب ما كان عليها من رصاص، ولكن النار لم تصل -بلطف الله- إلى الحجرة ولم تؤثّر في القبة السفلى التي تعلوها، مع أنه سقط عليها من أنقاض

ص: 37

المنارة وأنقاض القبة العليا أمثال الجبال، وأحرقت النار كل ما عدا الحجرة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، حتى الحجارة احترقت واسوَدّت.

ولما انطفأت النار نظر الناس فإذا مكان المسجد جبل من الأنقاض، فعمل أمير المدينة وعلماؤها ووجوهها وعامة أهلها، حتى النساء والصبيان، على إزالة الأنقاض وتنظيف المسجد، وأرسلوا مَن يخبر السلطان المصلح العظيم قايتباي صاحب المآثر العمرانية الباقية، فتوجّه بنفسه وعمل على عمارته من جديد، بأساطينه وأقواسه وقبّته ومآذنه، فكان تحفة عمرانية باقياً له ولمن عمل معه ثوابُها إن شاء الله.

* * *

أنتقل بكم الآن إلى دمشق، إلى ما قبل أربع وسبعين سنة فقط، ففي ضَحْوة يوم السبت رابع ربيع الثاني سنة 1311 كانت دمشق آمنة مطمئنة، وقد انصرف الناس إلى أعمالهم في الأسواق المُطيفة بالأموي، والنساء في بيوتهن الحافّة بالجامع، فما راعهم إلا صَريخ يصرخ كأنه النذير العُرْيان أنْ لقد احترق الأموي!

فترك التجّار مخازنهم مفتوحة ووثبوا ينظرون، وصعدت النساء على السطوح، وتراكض الناس من كل جهة، وإذا الدخان ينبعث من سقف الجامع! ولم يكن في دمشق مصلحة إطفاء (وقد أُنشِئت على إثر الحادث)، وحار الناس ماذا يصنعون، فاستَبَقوا إلى سجّاد المسجد ومصاحفه يُخرجون ما يصلون إليه منها، وعمد بعضهم إلى الماء يصبّونه وإلى المعاول علّهم يحصرون

ص: 38

النار، ولكن النار كانت أسرع منهم، إذ كان خشب السقف قديماً جافاً وعليه من الأصبغة والأدهان طبقات، فما شمّ رائحةَ النار حتى التهب كله دفعة واحدة، كأنما قد صُبَّ عليه البنزين!

وكانت الرياح في ذلك اليوم غربية شديدة، فما مرت نصف ساعة حتى صار السقف كله شعلة واحدة، وجعلت قطع النيران تتساقط من كل مكان، فالتهب المسجد كله ولم يعد يستطيع أحد أن يقترب منه، فوقفوا ينظرون وكأن النار التي تأكل مسجدهم تأكل قلوبهم، ولكن العجز أمسكهم وقيّدهم.

وكانت عَمَد المسجد قديمة، أكثرها مكسور ومربوط بأطواق الحديد، فتشققت من النار، ثم هوى البناء كله وزلزلت الأرض وكانت ساعة من ساعات الهول! وامتدت النار تسوقها الرياح الغربية إلى سوق القباقبية وزقاق الحمراوي. ثم انجلى الدخان عن الخراب الشامل؛ لم يبقَ من الأموي إلا المشهدان عند باب البريد ورُواق الصحن، عدا الرواق الممتدّ بين باب النوفرة إلى مشهد الحسين فقد ناله الحريق فتضعضع، وأصاب الحريق المنارة الغربية.

ذهب المسجد كله في ساعتين ونصف ساعة. المسجد الذي أُنفقت فيه الأموال والأعمار وعملت في بنائه الأيدي والأفكار ألفاً وثلاثمئة سنة، ذهب كله في مئة وخمسين دقيقة فقط، ذهب في سبيل نارجيلة! ذلك أن عاملاً من العمال كان يصلح رصاص السقف في الجهة الغربية، فأعجبه المنظر وهاج في نفسه الشوق إلى نَفَس دخان، فجاء بنارجيلة وأوقد ناراً ليشعلها، فأشعل النار

ص: 39

في الأموي! (1)

ثم انصرف الناس إلى تنظيف الجامع، وكان ما اجتمع من الأنقاض المتراكمة كأنه تل عظيم. وتناوبوا على تنظيفه، يشتغل أهل كل محلة يوماً، يجيئون جميعاً؛ كهولهم وشبابهم، أغنياؤهم وفقراؤهم، يعملون بأيديهم إيماناً واحتساباً، ينقلون التراب والحجارة، ويتسابق الأغنياء إلى إطعامهم، فيتكفّل أغنياء الحي بإعداد الطعام للعاملين فيتغدّون في المسجد، فكان ذلك مظهراً رائعاً للأخوّة والبذل، وغدا الناس كأنهم أسرة واحدة، يعملون جميعاً في بيت الله وينزلون ضيوفاً عليه.

وكان الكشف، وقُدِّرت نفقات البناء بسبعين ألف ليرة ذهبية. ولو أنّا نظرنا إلى القوّة الشرائية لكل ليرة وجعلنا الخبز مقياساً فحسبنا سعره يومئذ وسعره اليوم لرأينا المبلغ يعادل عشرين مليون ليرة من نقد هذه الأيام. قدّمها الدمشقيون من أموالهم، وبنوا البناء القائم اليوم بأيديهم من غير أن يشرف عليه مهندس يحمل شهادة من أوربا، فكان المسجد الأموي العظيم أثراً دمشقياً لعهد يقولون إنه كان عهد تأخّر وظلام!

* * *

(1) انظر خبر هذه الواقعة كما رُويت هنا (مع زيادات عليها) في كتاب علي الطنطاوي «الجامع الأموي» ، فصل «الحريق الأخير» (مجاهد).

ص: 40