الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من نصوص «الحِسْبَة»
حديث أذيع سنة 1965
اسمحوا لي أولاً أن أقرأ عليكم هذا النص، ثم أقول لكم ما هو موضوع الحديث.
هذا النص تعليمات وأوامر للخبّازين وأصحاب الأفران، قال:"يجب رفع سقف الفرن وأن يُجعَل فيه مَنْفَس واسع للدخان، ويجب كنس بيت النار قبل كل تَعْميرة، وغسل البرميل وتبديل مائه كل يوم، وغسل المَعاجِن وتنظيفها. ويجب على من يعجن العجين أن يلبس ثوباً أبيض ضيّق الكمين لئلا يسقط شيء من عَرَقه في العجين، وأن يكون ملثَّماً لأنه ربما عطس أو تكلم فقطر شيء من فمه في العجين، ويشدّ على جبينه عصابة بيضاء لئلا يعرق فيقطر من عرقه شيء في العجين، ويحلق شعر ذراعيه لئلا يسقط من شعره في العجين، وإذا عجن في النهار فليكن عنده إنسان في يده مِذَبّة فيطرد الذباب عن العجين. ولا يجوز أن يُستعمَل الكُرْكُم والزَّعْفَران في توريد وجه الرغيف حتى يُظَنّ أنه ناضج، ولا أن يُغَشّ الدقيق بدقيق الحمص والفول، ولا أن يُخبَز العجين قبل أن يختمر، فإن الفَطير يثقل في الميزان وفي المعدة".
* * *
ربما ظننتم -يا أيها الإخوان المستمعون- أن هذه التعليمات صادرة عن إحدى البلديات أو إحدى دوائر الصحة في عصرنا هذا. لا يا سادة؛ إنها تعليمات المحتسب قبل سبعمئة سنة، في القرون التي نسميها «القرون الوسطى» تقليداً منا للغربيين ومجاراةً لهم في اصطلاحاتهم.
لقد كانت القرون الوسطى عهودَ تأخر وانحطاط في أوربا، أما في بلادنا فقد كانت عهود ازدهار وحضارة، وهذا النص الذي أنقله لكم شاهد واحد من آلاف الشواهد على ما أقول.
النص من كتاب «الحِسْبَة» ، ترون منه كيف أُلزِم العَجّان بأن يلبس مثل ثياب الجرّاحين في المستشفيات في أيامنا، صِدارة بيضاء ضيّقة الكُمَّين، ولثام يغطي الأنف والفم، وعصابة بيضاء تُشَدّ على الجبين، وأعجب من هذه إلزام العجّان بأن يحلق شعر ذراعيه لئلا تسقط منه شعرة في العجين. كما أوجبوا على كل خبّاز أن يتخذ له خاتماً فيه شارة خاصة يطبع به على كل رغيف يخرج من فرنه، ليكون مسؤولاً عنه إذا كان في دقيقه غش.
وفي «نفح الطبيب» أن الحاكم في الأندلس كان يسعّر الأشياء الضرورية، لا سيّما الخبز واللحم، ويأمر البيّاعين بأن يضعوا عليها أوراقاً بسعرها، ثم يبعث المحتسبُ الولدَ الصغير أو الخادم لاختبار البيّاع، فإن باعه بأكثر من السعر الرسمي استدعاه وعاقبه، فإن عاد أغلق دكّانه.
وفي كتاب «الحسبة» أيضاً نص عن الأطباء، لا يكاد يصدّق القارئ أنه مكتوب في القرن الثاني عشر الميلادي، أيام كانت
أوربا لا تعرف من الطب إلا ما تعرفه أشد القبائل الاستوائية في إفريقيا بعداً عن الحضارة وعن العلم؛ كانوا يداوون بالسحر والشعوذة وبتر الأعضاء بلا داع، وخنق المريض بأنواع من الأعشاب المؤدّية لطرد الشياطين!
واقرؤوا ما كتبه أسامة بن منقذ. هل تعرفون أسامة بن منقذ؟ إنه البطل الأديب، أحد فرسان الحروب الصليبية وأحد المؤلفين البارعين، وكتابه «الاعتبار» الذي دَوّنَ فيه مشاهداته من الكتب العالمية، وقد تُرجم إلى أكثر اللغات الحية.
في هذا الكتاب قصة طبيب مسلم أرسله ليداوي أحد ملوك الإفرنج في أيام هدنة كانت بين المسلمين والصليبيين، فاقرؤوها تروا كيف تركوا أدوية الطبيب وعمدوا إلى مداواة المريض بالنار والدخان والسحر لطرد الشياطين، ثم ضربوا رجله بالفأس فقطعوها، ومات المريض!
في تلك الأيام تُنشَر هذه التعليمات التي أتلوها عليكم. قال صاحب كتاب «الحسبة» :
"وينبغي إذا أُدخِل الطبيب على المريض أن يسأله عن سبب مرضه وعمّا يجده من الألم، ثم يرتب له قانوناً من الأشربة وغيرها من العقاقير، ويكتب نسخة منه لأولياء المريض ويُشهد عليها مَن حضر معه عند المريض، فإذا كان من الغد حضر ونظر إلى دائه ونظر إلى قارورته (أي فحص بوله) وسأل المريض: هل تناقص به المرض أم لا؟ ثم يرتب له ما ينبغي حسب مقتضى الحال. وهكذا إلى أن يبرأ أو يموت. فإن برئ من مرضه أخذ
الطبيب أجرته وكرامته، وإن مات حضر أولياؤه عند الطبيب الذي كان قد نصبه السلطان رئيساً للأطباء وعرضوا عليه النسخ التي كتبها لهم الطبيب، فإن رآها على مقتضى الحكمة وصناعة الطب، من غير تفريط ولا تقصير من الطبيب، قال لهم: إن مريضكم مات بانتهاء أجله. وإن رأى أن الطبيب قد أخطأ أو قصّر قال لهم: خذوا دية صاحبكم من الطبيب، فإنه هو الذي قتله بسوء صناعته وتفريطه".
أرأيتم يا سادة؟ إن هذه المسؤولية -التي قررها المجتمع الإسلامي من قرون طويلة- لم تقرَّر إلى اليوم في أكثر البلاد المتحضرة.
وفي هذا الكتاب، مع أنه كتاب في الحسبة لا في الطب، بيان كثير من آدابه؛ فعلى الطبيب أن يحلف اليمين التي سنّها أبقراط، وعليه أن لا يعطي أحداً دواء مضراً، وأن يمتنع عن مساعدة النساء على الإجهاض وإسقاط الولد، ولا يعطي الرجال الدواء الذي يقطع النسل، وليغض بصره عن العورات عند دخوله على المرضى، ولا يفشي سرّ مريضه.
* * *
هذه قطرة من بحر مما كنا عليه في القرون التي ندعوها «القرون الوسطى» ، والتي كانت أوربا تعيش فيها وراء ثلاثة حجب من الهمجية والتعصب والجهل.
* * *