الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطالعة
حديث أذيع سنة 1966
أريد أن أدلكم اليوم على شيء فيه لذة كبيرة، وفيه منفعة كبيرة، وتكاليفه قليلة. فهل تحبون أن تعرفوا ما هو؟
هو المطالعة. ولقد جرّبت اللذائذ كلها فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب. وإذا كان للناس ميول وكانت لهم رغبات، فإن الميل إلى المطالعة والرغبة فيها هي أفضلها.
وهذا الكلام للسامعين جميعاً؛ للطالب، وللمدرّس، وللطبيب، وللمرأة في بيتها، وللمسافر وللمقيم.
الطالب إذا اقتصر على دروس المدرسة ولم يطالع لا يصير عالماً. وما دروس المدرسة؟ إن مثال ما يقرؤه الطالب في الثانوية مثال من يريد أن يعمل وليمة، فهو يدخل المطعم ليختار طعام الوليمة، فيذوق لقمة من هذا ولقمة من ذاك، فإذا أعجبه لون اشترى منه. والطالب يذوق في الثانوية لقمة من لون التاريخ، ولقمة من الحساب، ولقمة من النحو، ولقمة من الكيمياء
…
ليرى ما ترغب فيه نفسه ويميل إليه طبعه فيُقبل عليه، فإذا اكتفى بما درسه في المدرسة لم يحصّل شيئاً، لأن اللقمة لا تُشبع الجائع!
فليتعود الطلاب المطالعة، وليبدؤوا بالكتب الخفيفة السهلة. لي أخ أحببت أن أعوّده على المطالعة وهو صغير، فأتيته بقصة عنترة في ثمان مجلدات. وقصة عنترة مكتوبة بأسلوب فصيح، وفيها فروسية وفيها أدب، وفيها كثير من أخبار العرب، وإن كان مخلوطاً فيها الحقُّ بالباطل والواقعُ بالخيال، وليست كقصص هذه الأيام. فقرأها كلها، المجلدات الثمانية، وحفظ أكثر ما فيها. ثم أتيته بفتوح الشام (المنسوب للواقدي)، وهو كتاب مزيج من التاريخ ومن القصة، فقرأه، ثم تدرّج في المطالعة حتى صار يقرأ الكتب الكِبار (1).
فليبدأ الطلاب ولو بالقصص، على أن يختاروا منها القصص البليغة الأسلوب، العالية الهدف، العميقة المغزى. ولقد تُرجِمت أكثر القصص الأدبية العالمية، كالتي ترجمها المنفلوطي أو تُرجمت له فكتبها بأسلوبه أو ترجمها الزيّات، وغيرها من كتب التراجم التي هي أجمل من القصص. وأنا أوصي الطلاب والطالبات بقراءة كتاب «التلميذة الخالدة» الذي ألّفته بنت مدام كوري وقَصَّت فيه حياةَ أمها مدام كوري مكتشفة الراديوم.
ثم ينتقلون من القصص إلى كتب الأدب، فيقرؤون -مثلاً-
(1) هو الشيخ سعيد الطنطاوي، الأخ الأصغر لعلي الطنطاوي. وهو آية في الحفظ؛ يحفظ المئات من القصائد الطوال، بل الآلاف بلا مبالغة، ويحفظ من الأخبار والتواريخ والتراجم والأنساب ما يجعله موسوعة حية في هذه الأبواب، وهو فقيه حنفي متمكن من مذهبه متعصب له، وهو -بعدُ- عالم في الطبيعيات، تخرّج في كلية العلوم ودرّس الفيزياء والرياضيات، وله كتابات منشورة (مجاهد).
«البخلاء» للجاحظ، و «كليلة ودمنة» لابن المقفّع. ثم يقرؤون كتباً أنفع، ككتاب «صيد الخاطر» لابن الجوزي، وكتاب الحارث المحاسبي «الرعاية لحقوق الله» ، ثم يقرؤون كتب العلم.
وخير ما يقرؤون القرآن، بشرط أن يفهموا ما يقرؤون، وقراءةُ سورة قصيرة مع الفهم والتدبّر خير من ختمة بلا فهم ولا تدبّر. القرآن أساس البلاغة في القول، فضلاً عن كونه أساس الهداية للقلب، وكونه دستور الحياتين وسبب السعادتين. والذين تسمعون عنهم من بلغاء النصارى في هذا القرن ما بلغوا هذه المنزلة إلا بدراسة القرآن، كالشيخ ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم اليازجي، وفارس الخوري، هذا وهم نصارى، ونحن أَوْلى بهذا الكتاب.
فليتعود الطلاب المطالعة بأن يقرؤوا كل يوم خمس صفحات، لا يتركونها أبداً. أنا من نصف قرن أقرأ ما لا يقل معدّله اليومي عن عشرين صفحة، بل لا يكاد يقل عن خمسين، فاحسبوا كم يبلغ مجموع عشرين صفحة في اليوم في خمسين سنة؟ أكثر من ثلث مليون.
لا تعجبوا، فكثير من الناس قرؤوا أكثر من ذلك، العقاد مثلاً أعرف أنه قرأ أكثر منها. أما العلماء المتقدّمون فمنهم من بلغت مؤلفاته، لا مطالعاته، خمسين ألف صفحة.
ومن كان من الطلاب يملك مالاً -من راتب من الدولة أو نفقة له من أبيه- فليخصص منه كل شهر خمسة ريالات أو عشرة لشراء الكتب، على أن يحسن اختيار ما يشتري، يجد أنه لم يكمل
دراسته حتى صارت عنده مكتبة صغيرة. ومن لم يجد مالاً فإن المكتبات العامة موجودة والمطالعة فيها مجّانية، فليذهب إليها.
المهم حُسْن اختيار الكتب؛ فالكتب مثل الأطعمة، فيها النافع وفيها الضار، ومنها المغذّي المفيد، وما هو كثير الدسم عظيم النفع ولكن لا تشتهيه النفس، وما هو مُشَهٍّ لذيذ ولكن لا ينفع، ومنها السم القاتل، ومنها ما هو سم ولكنه ملفوف بغشاء من السكّر، فمن انخدع بحلاوة الغشاء قتله السم! ومَن أكل كل ما يجده -يخلط به الحلو والحامض والحار والبارد- أصابته التخمة وسوء الهضم، ومن قرأ كل شيء صار معه سوء هضم عقلي!
ومن الكتب ما يُدخِل الجنةَ ومنها ما يُدخل النارَ، فلينتبه الطالب، وليسأل من يثق به من المدرّسين والعلماء، وإلاّ كان ترك المطالعة خيراً منها.
لما كنا صغاراً لم يكن في أيامنا هذا الرائي (التلفزيون) ولا الرادّ (الراديو)، ولا كانت هذه الأشياء قد اختُرعت، ولم تكن السينما الناطقة قد وُجدت، فما كان عندنا من التسليات إلا المطالعة. ولم يكن شيء من أمثال هذه المجلات المصوَّرة، فكنّا إذا أردنا أن نقرأ الأشياء الخفيفة لإضاعة الوقت لا نجد إلا قصص الفروسية، كقصة عنترة وحمزة البهلوان والملكة ذات الهمة وسيرة بني هلال، وأمثال ذلك.
ثم أخذنا نقرأ كتب الأدب. ولقد قرأت «الأغاني» كله (وهو في بضعة وعشرين مجلداً) في عطلتين صيفيتين متواليتين وأنا في أول الدراسة الإعدادية. لم أفهم كل ما فيه، ولا نصفه، ولكن
قرأته، وعلق في ذهني من أخباره شيء كثير لا أزال أذكره إلى اليوم رغم قِدَم العهد وضعف الذاكرة.
* * *
المطالعة ضرورية للطالب وضرورية للمدرّس؛ فالمدرس الذي يقتصر على ما تعلّمه في المدرسة، ولا يطالع ليوسع أفقه ويزيد علمه، يتخلّف عن القافلة ويصبح بين الطلاب كأنه طالب حافظ لدرسه! وهي ضرورية للطبيب، ليطّلع على ما كُشِف من أمراض وما استُحدث من طرق العلاج وما جَدّ من أدوية. وضرورية لعالم الدين، ليرى ما حدث في الدنيا فيعرف كيف يبيّن حكم الله فيه. وضرورية لعلماء الدنيا ليعرفوا أحكام دينهم وأسراره ومزاياه. ولو أردنا أن نعرف مقدار رقيّ بلد فلننظر إلى عدد الكتب التي تُباع فيه.
جاءني مرة طالب يشكو مُرَّ الشكوى من كثرة ما كُلِّف بحفظه من الشعر العربي. قلت: وما الذي كُلِّفتَ به؟ قال: كُلِّفتُ بحفظ مئتَي بيت في السنة.
ولما قال «مئتي بيت» ضخّم صوته ورفع حاجبيه وفتح عينيه، وضغط على الحروف كأنه يأتي بإحدى المدهشات.
فقلت له: إن حمّاد الراوية كان يحفظ أكثر.
قال: ومَن حمّاد الراوية؟
قلت: وجهلك به أعجب. حمّاد كان في العراق، فأبلغه والي الكوفة أن الخليفة هشام بن عبد الملك يدعوه لأمر مهم، وأعطاه
خمسة آلاف درهم لينفق منها على عياله في غيبته ثم سَفَّره على نفقة الخليفة إلى دمشق. أما الأمر المهم الذي استدعاه الخليفة من أجله فهو أن الخليفة كان يتوضأ والخادم يصب على يديه من الإبريق، فتذكر أن كلمة «إبريق» قد وردت في بيت شعر ولم يقدر أن يذكر البيت، فدعاه ليسأله عنه. فخبّره أن البيت هو:
ودَعَوْا بالصَّبوح يوماً فجاءت
…
قَيْنَةٌ في يمينها إبريقُ
ثم سأله (وهنا الشاهد): كم تحفظ يا حمّاد من الشعر؟ قال: لا أدري يا أمير المؤمنين، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مئة قصيدة لمئة شاعر معروف. قال: هات. فأنشده حتى ملّ الخليفة، فوكّل به مَن يسمع منه، فأنشده من حفظه ألفين ومئتي قصيدة. فإذا كان في كل منها عشرون بيتاً على الأقل فهذه أربعة وأربعون ألف بيت
…
وأنت تستكثر حفظ مئتي بيت!
* * *
إن الحفظ هو الميزة الأولى للذهن العربي، أو الإسلامي إن شئت؛ لأن العلوم كلها قد نُقِلت حفظاً ورُويت رواية، ولم يبدأ التدوين والتأليف إلا في أواخر القرن الثاني.
وحفظ المحدّثين أعجوبة، ومنهم -كالدّارَقطني- من كان يحفظ مئة ألف حديث بسندها. هل تعرف ما هو السند؟ هو طريق رواية الحديث، أي قولهم: حدّثنا فلان عن فلان
…
هذا هو السند. ومنهم من يحفظ من أسماء الرواة العشرة الآلاف وأكثر من ذلك، ومنهم من كان يسمع عشرات الأحاديث فيحفظها من مَرّة.
لما جاء الشافعي إلى مالك وقعد في حلقته كان مالك يُملي والطلاب يكتبون، ولم يكن مع الشافعي قلم ولا ورق، فجعل يبلّ إصبعه بريقه ويكتب على ذراعه. الكتابة لم تكن لتظهر بالطبع، ولكنه يصنع ذلك ليثبّت الأحاديث في ذاكرته. ورآه مالك فحسبه يهزأ به، فقال له: إنما أكتب ما أسمع لأحفظه، وإن شئت أعدته عليك. قال: أعده. فأعاد الدرس كله.
وقصة البخاري في بغداد أعجب. لمّا جاء البخاري بغداد وقعد للدرس، وكان شاباً، أراد بعض المحدّثين أن يختبروا حفظه، فجاؤوا بمئة حديث فخلطوا مُتونها بأسانيدها، أي أنهم جعلوا سند هذا المتن لذاك وسند ذاك لهذا، ثم جاؤوا بعشرة أشخاص فحفّظوا كل واحد عشرة من الأحاديث المخلوطة. فلما قعد البخاري للدرس قام أولهم فسأله: ما تقول في حديث كذا؟ وسرد عليه أحد الأحاديث المخلوطة، فقال: لا أعرفه. فسأله عن الثاني، والثالث، إلى العاشر، وهو يقول: لا أعرفه.
فلما فرغ قعد وقام الرجل الثاني فصنع مثله، والثالث والرابع
…
حتى عُرضت عليه الأحاديث المئة، وهو يقول: لا أعرفها. وتعجب الناس، وظن العامة أنه رجل جاهل لأنه يُسأَل عن مئة حديث فلا يعرف منها شيئاً. فلما فرغوا قال البخاري للرجل الأول: قم. فقام، فقال له: الحديث الأول الذي سألتني عنه رويتَه كذا، وجوابه كذا، والحديث الثاني رويته كذا وجوابه كذا
…
حتى أعاد الأحاديث المئة بخطئها وصوابها.
وليس العجيب حفظُه الصوابَ، بل العجيب حفظه الغلط.
وأغرب من هذه القصة قصة أبي العلاء المعري، ومَن رواها مؤرخ ثقة هو ابن العَدِيم (1). قال: كان المعرّي في مسجده، وكان إلى جنب المسجد روميّان يتكلمان بلسان الروم (وهو لا يعرفه)، ثم اختلفا على شيء ورفعا الأمر إلى القاضي، فطالب أحدَهما بالبيّنة. فقال له: ما كان معنا أحد، ولكن كان في المسجد شيخ يسمع كلامنا فادعُ به، فدعا القاضي بالمعرّي وسأله. فقال المعري: أنا لا أعرف ما قالا، ولكن أُعيد عليك ألفاظهما.
وأعادها بالرومية! وهذه القصة -إن صَحّت- كانت من أعجب العجب.
وقصة المتنبي لما وقف يشتري كتاباً صغيراً فجعل ينظر فيه، فقال له البائع: إن كنت تريد أن تشتريه فهات الثمن، وإن كنت تريد حفظه فإنك لا تستطيع أن تحفظه في وقفة. قال: ماذا يكون منك إن كنت قد حفظته؟ قال البائع: إن حفظتَه فهو لك. قال: خذ فانظر. وقرأه عليه، وإذا به قد حفظه!
والغزالي
…
يقول الغزالي: من أساتذتي الذين استفدت منهم قاطع طريق، خرج علينا مرة فأخذ كل ما في القافلة، وأخذ «تعليقتي» (وهي دفتر المذكرات التي كان يكتب فيها ما يسمعه من
(1) له كتاب كبير جداً في أعلام مدينة حلب وتاريخها اسمه «بغية الطلب في تاريخ حلب» اختصره في «زبدة الحلب في تاريخ حلب» وطُبع جزء صغير منه، وله عن المعرّي كتاب لم يُعثَر عليه كاملاً اسمه «دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعري» ، طُبع ما عُثِر عليه منه، ويُحتمَل أن تكون هذه القصة في أي من الكتابين (مجاهد).
العلماء). قال: فجعلت أتوسّل إليه وأقول: أنا لا آسَفُ على مال ولا متاع، ولكن تعليقتي. قال له: وما تعليقتك؟ قال الغزالي: دفتر فيه علمي كله. فضحك قاطع الطريق وقال: ما هذا العلم الذي يذهب منك إن ذهب دفتر؟
قال الغزالي: فانتبهت لهذا الدرس، وجعلت أحفظ كل شيء أسمعه لئلا يذهب إن ذهب الكتاب.
ومن هنا قالوا:
ليس بعِلْمٍ ما حوَى القِمَّطْرُ
…
ما العلمُ إلاّ ما حواه الصّدْرُ
* * *
يا سادة، عندي أخبار أخرى؛ ما انتهى الموضوع ولكن انتهى الوقت، ولعلي أعود إليه في حلقة أخرى إن شاء الله.
* * *