الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما هي السماء
؟
نشرت سنة 1987
إنّي تاركٌ اليومَ الأرضَ وما فيها وكاتبٌ عن السماء. لا أنقل ما في الكتب، وإن كان العلم والمعرفة يُطلَبان من الكتب أولاً، ولكني قائل شيئاً هو عند أكثر القراء جديد ربما يقرؤونه أول مرة، وهو عندي قديم، فأنا أشير إليه في كتبي المطبوعة ومقالاتي المنشورة وأحاديثي المسموعة من نصف قرن.
ولقد لخّصت الذي أكتبه اليوم في مقالة قصيرة نشرتها من نحو عشرين سنة أو قريباً منها في «الوعي الإسلامي» التي تصدر في الكويت (1)، طلبت فيها رأي العلماء، فعلّق عليها ناس أفاضل كان أظهرَهم الأستاذ الجليل الذي جمع الثقافتين: الثقافة الإسلامية العربية والثقافة الحديثة الغربية، هو الأستاذ محمد أحمد الغمراوي رحمة الله عليه، صاحب «النقد التحليلي في الرد على ما جاء به طه حسين في كتاب الشعر الجاهلي» .
والذي أعادني إلى الكلام في هذا الموضوع مقالة قرأتها قبل
(1) في عددها الخامس والثلاثين الذي صدر في محرّم سنة 1387 (نيسان 1967)(مجاهد).
أيام، فعدت لأسأل: ما هي السماء؟
وسيعجب أكثر القرّاء ويقولون: ارفع رأسك في النهار ترَ فوقك بحراً أزرق ما لأوله بداية ولا لآخره نهاية، فإن كان الليل صار ملاءة سوداء لا يدرك البصر طرفيها قد طُرِّزت بلآلئ مضيئة تلمع مثل النجوم. هذه هي السماء، فهل يجهل أحدٌ السماء حتى يسأل: ما هي السماء؟
* * *
ما هذا السقف الأزرق إلا الهواء. ولما أطلق الروس أول مركبة اخترقته زُلزلت عقول كنّا نحسبها أثبت من الجبال، وخفَّتْ أحلامٌ كانت أثقل من الرواسي، وكاد قوم يكفرون بعد إيمانهم، فحسبوا -جهلاً منهم- أنهم شاركوا الله في ملكه بما وصلوا إليه من العلم، وأنهم سيّروا في الفضاء قمراً آخر مثل القمر.
وكنت أذيع يومئذ أحاديث دائمة من إذاعة دمشق، فقلت معلقاً على هذا الخبر: إنما مَثَلكم ومَثَل قمركم كجماعة من النمل كانت في قريتها في يوم عاصف، فحملت نملة منها قطعة من القش، ثم أفلتتها فحملتها الريح مسافة عشرة أمتار، فظنت النملة أنها صارت من الآلهة
…
ولا إله إلا الله (1). وجاء بعد ذلك مَن يكتب أن العلم قد انتصر على الطبيعة وقهرها، فأذعتُ حديثاً آخر قلت فيه إن القشة ما طارت إلا بالقانون الطبيعي الذي طبع الله الكون عليه، وما يستطيع أحد أن يقهر الطبيعة، وإن قال ذلك سفاهة وجهلاً.
(1) انظر مقالة «ما قَدَروا الله حقّ قدره» في كتاب «نور وهداية» (مجاهد).
وقد نبّهَنا الله إلى ذلك في القرآن، ولكن أين من يتنبّه؟ ألم تقرؤوا خبر الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربه أنْ آتاه الله المُلك؟ {إذْ قَالَ إبْراهيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُميتُ، قالَ: أنا أُحْيي وَأُميتُ} ، أي أنه يأتي برجل حكم عليه بالقتل فيعفو عنه فيحييه، ويعمد إلى آخر فيقتله فيميته. على أنه ما أحيا ولا أمات إلا بالسنن التي سنّها الله والقوانين الطبيعية التي طبع الله الكونَ عليها، فلمّا طلب منه إبراهيم شيئاً يَخرج على هذه القوانين فقال له:{فإنّ اللهَ يَأتي بالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ، فَاتِ بها مِنَ المَغْرِبِ} ماذا كان جوابه؟ {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} .
ولقد قلت من سنين في بعض أحاديثي «على مائدة الإفطار» في رمضان: إن لكل عصر وثنية، وإن وثنية هذا العصر هي المبالغة في تقدير العلم وتقديسه وجعله نداً للدين! وما العلم؟ العلوم الطبيعية عند أهلها هي: الوصول إلى معرفة قانون الله بالمشاهدة، ثم بالتجرِبة، ثم بالمعرفة.
مراحل لا بد منها؛ نيوتن مثلاً شاهد شيئاً يسقط، فراقبه ولاحظه وفكّر فيه، ثم فرض فرضية وجاء بنظرية، ثم أراد أن يختبر صحةَ هذه النظرية من بطلانها وصوابَها من خطئها فعمد إلى التجربة؛ فإذا اتحدت الظروف -ولو اختلفت البلدان- ثم كانت النتيجة واحدة فذلك هو القانون الطبيعي. وإذا قلت «الطبيعي» فلست أعني هذه المقالة الحمقاء التي كان يقول بها السفهاء والسخفاء، من أن الطبيعة هي التي خلقت وهي التي صنعت وهي التي عملت، بل أعني بقول «الطبيعي» أنه ليس من عمل البشر.
وإلا فما الطبيعة؟ إن لفظها «فَعيلة» بمعنى مَفعولة، أي أشياء
مَطبوعة، وكل مطبوع لا بد له من طابع. وقد بطلت الآن هذه المقالة وانصرف العلماء الكبار عنها وعادوا إلى إدراك الحقيقة الكبرى، وهي الإيمان بأن لهذا الكون خالقاً حكيماً قادراً سميعاً بصيراً. واقرؤوا إن شئتم كتاب «العلم يدعو إلى الإيمان» وكتاب «الطب محراب الإيمان» ، والكتب الكثيرة التي أُلِّفت في موضوعه وفي معناه.
هذا هو العلم. ثم إننا لم نُؤْتَ منه إلا قليلاً؛ عرفنا قانون الجاذبية، ولكن ما هي الجاذبية؟ ما ماهيّتها؟ وعرفنا الكهرباء وقوانينها وظواهرها، وجعلناها علماً يدرَّس في المدارس والجامعات وألّفنا فيها كتباً ومجلدات، ولكن هل عرف أحد ماهيّة الكهرباء؟ إننا نعلم أنها إن قُطعت الأسلاك انطفأت المصابيح ووقفت الآلات وفقدنا هذه الطاقة التي دعوناها الكهرباء، ولكن هل الأسلاك هي الكهرباء؟ (1){وَمَا أُوتيتُم مِنَ العِلْمِ إلاّ قَليلاً} .
(1) سمعت هذا المثال من جدي رحمه الله غير مرة، وقد ناقشته ذات يوم فقلت له إن الكهرباء هي دفق من الكهارب (الإلكترونات) السالبة الشحنة التي تندفع في المادة الموصِلة (السلك)، فقال: ولكن الكهرباء ليست هذه الإلكترونات، إنما هذه دقائقُ مشحونةٌ بالكهرباء، فما هي الكهرباء؟
وإنما سقت هذا الحوار لئلاّ يظن قارئ يقرأ جملة الشيخ هنا أنه كان جاهلاً بالذرة ودقائقها وبالكهرباء وأصولها؛ فهو كان قارئاً موسوعياً، هذه كانت من صفاته الظاهرة رحمه الله، فكانت كتب العلوم من جملة ما يقرأ من الكتب (على أنه لا يبلغ من التوسع والشمول فيها ما يبلغه في كتب الفقه والأدب وأمثالهما من الموضوعات اللازمة له والمحبَّبة إليه)، وما كان ليجهل ما يعرفه طلاب المدارس من هذه=
إن البشر إنما {يَعْلَمونَ ظاهِراً مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيا} ، أما الحقائق والماهيّات فلم يصل إليها علمهم.
أنا أفكر وأعلم أن الدماغ (أي المخ) له صلة قوية بالتفكير، فإن اختلّ جزء منه اختلّ الفكر، ولكن هل الفكر هو الدماغ؟ لمّا انتصر المذهب المادي في أواخر القرن التاسع عشر قال هيغل (أو إسبنسر، نسيت من منهما القائل): «إن الدماغ يفرز الفكر كما تُفرز الكَبِدُ الصفراءَ» . ثم صارت هذه المقالة تاريخاً يدوَّن ونادرة تُروى. لقد أبطل هنري برغسون وأصحابه نظرية الماديين، وإن عادت إليها الحياة شيئاً قليلاً على يد الماركسيين. ومذهب ماركس
= العلوم، وسوف ترون فيما يأتي من هذه المقالة تأكيد هذا الذي أقوله والبرهان عليه.
وقد بات العلماء يعرفون اليوم أن ما كنا نحسبه مكوّنات أوّلية للذرة إنما يتكون من أجزاء أصغر؛ فالبروتونات والنيوترونات التي تكوّن معاً نواة الذرة يتكوّن كل واحد منها من اجتماع ثلاثة جُسَيمات أصغر يسمّونها «الكوارْكات» ، وهي على ستة أنواع، فالبروتون يتكون مثلاً من اتحاد اثنين منها شحنةُ كلٍّ منهما ثلثا وَحدة موجبة وثالثٍ شحنتُه ثلث وَحدة سالبة، فيكون المجموع وَحدة موجبة واحدة. والنيوترون يأتي من اجتماع كواركين شحنة كل منهما ثلث وَحدة سالبة وكوارك ثالث شحنته ثلثا وَحدة موجبة، فيلغي بعضها بعضاً ويصبح بلا شحنة (متعادلاً). هذا كله نعرفه اليوم، ولكنا ما زلنا -كما قال جدي هنا- نجهل حقيقة الشحنة التي هي الكهرباء. وسيأتي بعدَنا جيل يعرف أكثر وأكثر، وربما استمرّ العلماء في العثور على مكوِّنات للمادة أصغر وأصغر، وإنما هذا من الإعجاز، ليقول كل جيل منهم للذي سبقه:«وما أوتيتُم من العلم إلا قليلاً» ، وصدق الله (مجاهد).
آيل إلى الزوال، لقد بدت في الجو علائم نهايته (1).
وعرفنا من قديم أن الإيمان والعاطفة والحب متصلة كلها بالقلب، والشعراء في كل لغة ولسان يقولون: سرقَت الحبيبة قلبي، وسكنت قلبي، ومزقت قلبي
…
ولست أدري ماذا صنعت غير هذا بقلبه! فهل عرفنا حقيقة الصلة بين الإيمان والحب وبين القلوب التي في الصدور؟
* * *
إن الأرض ذرة صغيرة في هذا الفضاء، فما الذي عرفناه من خبر هذا الفضاء؟ عرفنا بعلومنا ما يعرفه أطفال يلعبون على شاطئ البحر المحيط، جمعوا قليلاً من الأصداف الملوَّنة وحسبوا أنهم وضعوا أيديهم على ما في البحر. وهذا المثال ضربه -كما أذكر- نيوتن، ليس المثال من عندي.
وهذه القوانين الطبيعية: هل تَنْفُذُ هي نفسها في العوالم البعيدة عنا التي لا نعرف إلا لمحة عنها، أم هي قاصرة على عالمنا الأرضي وما يقاربه؟
لذلك رجعت أفكر في خلق السماوات والأرض، فلم أجد عند البشر علماً منه؛ إن الله ما أطلعهم إلا على طرف من أطراف هذا الفضاء، وسترون أن هذا الفضاء كله جزء من العوالم الكبيرة
(1) بعد أربع سنوات من نشر هذه المقالة تخلّت كبرى الدول الماركسية في العالم عن ماركسيتها، وتفكّك الاتحاد السوفييتي رسمياً في الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) من عام 1991 (مجاهد).
التي خلقها الله، فجئت أسأل عنها مَن خلقها. وما شهدنا خلقها ولا خلق أنفسنا.
مَن شهد نفسه لمّا كان نطفة في دم أبيه؟ ثم صار جنيناً في بطن أمه؟ ثم كان وليداً لا يعقل ولا يذكر ولا يفهم؟ إنها مرحلة من حياة آمن بها لأن أهله خبّروه بخبرها. وحياتنا طريق طويل طويل في بَيداء ممتدة واسعة، في وسطها قرية منوَّرة، فأنا لا أرى من الطيارة إلا هذه البقعة الصغيرة التي فيها الأنوار، وقبلها مراحل من الطريق وبعدها مراحل، أما ما كان قبلها فصدّقتُ خبره لمّا سمعته من أهلي، فلماذا لا أصدق خبر ما بعدها وقد خبّرني به خالقي وخالق أهلي؟
لقد علّمونا -مثلاً- أن الأرض قد انفصلت عن الشمس، وهذه هي نظرية لابلاس. ولكن القرآن الذي أنزله خالق الأرض والشمس يقول:{قُلْ أَئِنَّكُم لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً، ذلكَ رَبُّ العَالمين. وَجَعَلَ فيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا، وَبَارَكَ فيهَا، وَقَدَّرَ فيهَا أَقْوَاتَها في أَرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً للسَّائِلينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأرْضِ ائْتِيَا طَوْعَاً أو كَرْهَاً، قَالَتَا: أتَيْنَا طائِعِين. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ، وَأَوْحَى في كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} ؛ وهذا كلام رب العالمين صريح أن الأرض خُلقت قبل السماء، وأن السماء لمّا خُلقت الأرض كانت دُخاناً، أي غازات أو ما يشبهها، أو مادة أثيرية لا نعرف كُنهها.
وكنت أعجب كيف تكون الأرض أصل هذا الكون الواسع، وهي منه كالقطرة من البحر العظيم والرملة الواحدة من الصحراء
الكبرى، ثم ذكرت أن هذه هي سنة الله في كونه، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} . أليس كل شيء في الدنيا مركَّباً من هذه الذرة الصغيرة؟ وكل حي من هذه الخلية التي لا تُرى؟ فلِمَ لا تكون الأكوان من هذه الأرض؟
ولقد خبّرني الأستاذ عمر الحكيم رحمه الله (وكان يدرّس هنا في الكلية في مكة) أنهم عدلوا عن نظرية لابلاس وأعرضوا عنها ولم يبقَ متمسّكاً بها إلا الفرنسيون أو بعضهم عصبيةً منهم لصاحبها، وسرد في ذلك كلاماً طويلاً وسمّى لي مراجع كثيرة لم أحفظ أسماءها. والأستاذ عمر الحكيم كان -كما يقولون اليوم- موسوعة، فهو عسكري تخرج في أكبر مدرسة عسكرية في فرنسا، من سان سير، وهو أكبر أستاذ كان عندنا في الجغرافية، وكان مطّلعاً على جانب كبير من العلوم الإسلامية ومتقناً للفرنسية والألمانية ويحسن الإنكليزية، والعربية لغته، رحمه الله ورحم أباه خالد الحكيم، الذي كان من المقرَّبين من الملك المؤسِّس عبد العزيز عليه رحمة الله.
* * *
فما السماء؟
السماء في لغة العرب كل ما علاك فأظلّك.
أما المقرَّر في العلم فهو أن الشمس والقمر يسبحان في الفضاء (وهذا أمر صرّح به القرآن فقال: {وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون})، وأن الشمس -على بعدها عنا- يصل نورها إلينا في نحو ثمان دقائق، لأن النور يقطع في مسيره ثلاثمئة ألف
كيل (كيلومتر) في الثانية؛ أي أنها تبعد عنا ثمان دقائق بالزمن الضوئي، والقمر يبعد عنا ثانية وثلث الثانية بهذا الزمن، فلو أننا استطعنا أن نصنع مركبة تسير بسرعة الضوء (وهي أقصى سرعة ممكنة، فإنْ زادت السرعة على ذلك ذهب الجسم -كما يقول آينشتاين- وتحول إلى طاقة) لبلغنا القمر في ثانية وثلث الثانية، ولوصلنا إلى الشمس في ثماني دقائق.
وأن هذه الأجرام التي تظهر لنا نقطة في الفضاء في الليلة الظلماء (وقد لا تظهر لنا أبداً) منها ما يبعد عنا ألف ألف (أي مليوناً) من السنين بالزمن الضوئي، ومنها ما يبعد عنا مئة مليون وألف مليون سنة وأكثر. فاحسبوا كم «ثمان دقائق» في هذه المدة التي تبلغ ألف مليون سنة لتتصوروا كم هي أبعد من الشمس.
أما كبرها، فنحن نعلم أن القمر أصغر من أرضنا، والأرض لا تعد شيئاً إلى جنب الشمس، ومن النجوم العملاقة ما لو أن الشمس أُلقِيت فيه هي وسيّاراتها لكانت بالنسبة إليه كحبة رمل ألقيت في بَوادي نجد، أو كقطرة ماء قُطِرت في البحر المحيط!
وهذه النجوم والأجرام -على ضخامتها- كثيرة لا تُحصى، يزيد عددها على ملايين الملايين، وتسير بسرعة مهولة، ومع ذلك لا تصطدم إلا إذا اصطدمت ستُّ نحلات تطير وحدها حول الأرض، لأن هذا الفضاء واسع واسع كسَعَة جوّ الأرض بالنسبة إلى النحلات كما يقول مؤلف كتاب «النجوم في مسالكها» !
فأين مكان السماء من هذا الفضاء؟
الله خبّرنا أن السماء ليست حدوداً وهميّة، بل هي «جرم»
حقيقي لأنه سمّاها «بناء» وقال «بَنَيْناها» : {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنَّاهَا؟} ، {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَاً شِدَاداً} ، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ، {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقَاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا؟}. وقال:{اللهُ الذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} . ووصفها بأنها سقف لهذا العالم فقال: {وَجَعَلْنَا السّمَاءَ سَقْفاً} ، وقال:{والسَّقْفِ المَرْفُوع} ، وجعل لها أبواباً تُفتَح وتُغلَق، فقال:{فَفَتَحْنَا أبْوابَ السّمَاء} ، و {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أبْوابُ السّمَاء} ، ونفى أن يكون فيها منافذ غير هذه الأبواب، فقال:{وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج} ، وأن السماء تُفتَح يوم القيامة:{وَفُتِحَتِ السّمَاء} ، وأنها تَنْشَقّ:{فإذا انْشَقَّتِ السّمَاء} وتنفطر وتُكشَط. وبيّنت النصوص أن السماوات سبع: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوات} ، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوات} ، {الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوات} . وأن الله قد جعلها طِباقاً، قال:{سَبْعَ سَمَاوات طِباقاً} .
فليست السماء خطوطاً وهمية هي مدارات الكواكب كما ذهب إلى ذلك جماعة من الفضلاء أخطؤوا وما أصابوا، وليست السماء حاجزاً متصوَّراً، بل هي كما وصفها ربنا بناء؛ إنها مادة محيطة بهذا الفضاء وما فيه، ولها أبواب تُفتَح وتُغلَق، وعليها حَرَس، وإذا جاء الموعد تُطوَى السماءُ {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب} .
ثم إن الله عز وجل بعد أن وصف السماء بأنها بناء وأنها سقف مرفوع أكمل الصورة فجعل لهذا السقف مصابيح، فقال:{وَزَيَّنّا السّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابيحَ} ، وصرّح بأن هذه المصابيح هي الكواكب:{بِزينَةٍ الكَوَاكِب} ، فدلّ ذلك على أن الكواكب تحت السماء الدنيا لأن المصابيح لا تكون إلا تحت السقف.
والذي تبين لي من هذا كله، من نصوص الكتاب المُبين ومن مقرَّرات علماء الفلك، أن الشمس وتوابعها (وهنّ الأرض وأخواتها) وهذه النجوم والأجرام التي لا يُحصى عددها تسبح في فضاء عظيم، وهذا الفضاء تحيط به كله «كرة» هائلة، وهذه الكرة هي «السماء الدنيا» ، وهذا العالَم بأرضه وشمسه وأجرامه جميعاً في وسطها.
ولهذه الكرة سمك الله أعلم بمقداره، قال تعالى:{رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا} ، وهي في فضاء لعله مثل هذا الفضاء أو أصغر أو أكبر، وحوله كرة أخرى لها سمك هي السماء الثانية، ثم فضاء، ثم كرة
…
وهكذا إلى السماء السابعة. وبغير هذه الصورة لا تكون السماوات «طِبَاقاً» ، لا تكون طِباقاً إلا إن انطبقت كلُّ نقطة فيها على التي تقابلها من الأخرى.
وبعد السماء السابعة مخلوقات يستحيل على العقل أن يتخيلها أو يتصورها، منها الكرسي:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالأرْضَ} ، ثم العرش:{وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظيم} ، وسِدْرة المُنتهى، وما عبّر الله عنه بما لم تره إلا عين بشرية واحدة، أكرم الله صاحبها فأراه هذه الآية الكبرى ليلة المعراج، هي عين نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
هذه كلها عظمة المخلوق، فما بالكم بعظمة الخالق؟ لا إله إلا هو، تعالى عمّا يقول الظالمون عُلُوّاً كبيراً.
* * *
أما آية {وَجَعَلَ القَمَرَ فيهِنَّ نُورَاً} (أي في السماوات)
فلا تدلّ على غير ما قلت، لأن القمر إذا كان في السماء الدنيا فهو في السماوات كلها، كما لو كانت جوهرة في علبة، وهذه العلبة في علبة أخرى، والثانية في ثالثة، فقلتَ إن في هذه العلبة جوهرة. والآيتان الأوْلَيان أصرح، ولا يُترَك الدليل القطعي لدليل محتمَل (1).
ولمّا صعدوا إلى القمر أنكر ذلك بعضُ المشايخ ونسوا أنه كان علينا -نحن المسلمين- أن نسبقهم في الوصول إلى القمر، لأن ديننا دين علم، ولأن أول كلمة من كتابنا كانت كلمة {اقْرَأ} وأول تمجيد فيه لله أنه {عَلّمَ بالقَلَمِ، عَلّمَ الإنْسَانَ ما لَمْ يَعْلَم} ، وأن الله أعطانا عقولاً تفكّر وقال لنا:{انْظُرُوا مَاذا في السَّماواتِ وَالأرْضِ} . وظنوا أن القمر في السماء وأن السماء لا يمكن أن يبلغها أحد، واستندوا إلى أحاديث رُويت ولا تفيد العلم، ونسوا أن الله يقول في القرآن:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَينِ وَأَوْحَى في كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، وَزَيَّنّا السّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابيح} ، وبيّن في الآية الأخرى (والقرآن يفسّر بعضُه بعضاً):{إنّا زَيَّنّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزينَةٍ الكَواكِبَ} ؛ فالله قد جعل السماء سقفاً محفوظاً وجعل الكواكب مصابيح، والمصابيح إنما تكون تحت السقف.
وإذا نحن وصلنا إلى القمر والمريخ، بل والشمس، فأين القمر والمشتري والشمس من السماء؟ إذا كان بعد الشمس عنا كبعد إبهامك عن خنصرك تكون السماء أبعد عنك من أميركا بملايين الملايين من المرات!
(1) قالوا: الدليل إذا تطرّق إليه الاحتمال امتنع به الاستدلال.
وإذا كان علماء الفلك يقولون بأن من النجوم والمجرات ما يسير الضوء الصادر عنه في الفضاء من أول الزمان ولم يصل إلينا إلى الآن، فمعنى ذلك أننا لو اخترعنا مركبة فضائية تسير بسرعة الضوء ولو ركبنا فيها يوم وُلد نوح وسرنا من ذلك الوقت إلى اليوم لا نكون قد قطعنا من طريق السماء (الدنيا) إلا كما تقطع النملة التي تمشي دقيقة واحدة من هنا إلى أميركا!
* * *
وأنا حين أنتهي إلى هذه الصورة وأرى أن عالمنا كله -بأجرامه وفضائه- محبوس في وسط الكرة الصغرى التي هي السماء الدنيا، أجد ذهني ينتقل إلى الجنين «المحبوس» في بطن أمه. هذا الجنين لو استطعت أن تسأله واستطاع أن يجيبك وقلت له: ما هي الدنيا؟ لقال لك: الدنيا هي هذا البطن وهذه الأغشية. فلو خبّرته أن ها هنا دنيا أكبر، عالَماً فيه برّ وبحر وسهل وجبل ومدن كِبار، وأن داراً واحدة من دور هذه المدن أكبر من دنياه هو بملايين المرات، لم يستطع أن يفهم ما تقول أو أن يتصوره. وكذلك نحن حين نسمع أن الجنة عرضها كعرض السماوات والأرض وأن قصراً واحداً من قصورها أكبر من هذه الأرض كلها.
إن نسبة مُلك الله إلى هذا «الفضاء» الذي فيه الكواكب والنجوم والمجرات كنسبة هذا الفضاء إلى بطن الأم، بل هو أكبر. فسبحان الله، لا إله إلا الله، وما أحمق من لا يؤمن بالله!
والله الذي خلق هذه المخلوقات التي يعجز العقل عن تصوّر
مدى كبرها خلق أخرى يعجز عن تخيل مدى صغرها؛ ففي الذرة التي لا تراها العين شبه هذه الفضاء، فيها قريب مما فيه من الأجرام الدقيقة التي تمشي على نظام قدّره رب العالمين، يدور بعضها من حول بعض، تتقارب وتتباعد وتختلف وتأتلف على قانون محكم وضعه رب العالمين. وفي الخلية الحية وما كشفوه فيها من المورِّثات التي تنقل بعض الطبائع والسّمات من الآباء إلى الأبناء آية أخرى.
وفي كل شيء له آية، ولكن الناس في غفلة عن ذكر الله:{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَميعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمينِه} ، {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله} .
* * *