المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب «الأغاني»لأبي الفرج الأصفهاني - فصول في الثقافة والأدب

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌كتاب «الأغاني»لأبي الفرج الأصفهاني

‌كتاب «الأغاني»

لأبي الفرج الأصفهاني

حديث أذيع سنة 1972

أنا أحب أن تكون أحاديثي للناس كلهم، أو لأكثرهم إذا كان من المتعذّر أن تكون لهم كلهم، ولكني أضطر أحياناً أن أجعل الحديث للمتعلّمين وحدهم، فمعذرة إليكم.

موضوع اليوم عن كتاب، كتاب مشهور جداً ومفيد جداً، ولكن الناس رفعوه فوق منزلته ووثقوا به أكثر مما ينبغي أن يوثَق به، وصار كثير من كبار الأدباء والباحثين ينقل منه الأخبار التاريخية ويعزوها إليه، كأن العَزْو إليه يُسقط عن الباحث تَبِعة التحقيق. بل لقد وجدنا من هؤلاء الباحثين الكبار من ينقل منه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه ينقل من صحيح البخاري! مع أن هذا الكتاب ما كان قط كتاب حديث، ولا كتاب تاريخ، ولا يوثَق بأخباره ولا يعتمَد عليها.

هو كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني.

وأنا ليس من منهجي في هذه الأحاديث الكلام على الكتب، ولكن كتاباً له مثل شهرة «الأغاني» ، وينقل عنه أكبر أدباء العرب

ص: 101

اليوم أخباراً تصوّر المجتمع الإسلامي منصرفاً إلى اللهو غارقاً في الفسوق، إن كتاباً كهذا من حقه أن نتكلم عنه في هذه الأحاديث، بياناً لحقيقته وتوضيحاً لحال مؤلفه.

أبو الفرج الأصفهاني عربي أموي صحيح النسب، وإن كان منسوباً إلى أصفهان، المدينة الفارسية. وكثير من المنسوبين اسماً إلى بلدان فارس كانوا عرباً خُلَّصاً من سلائل القبائل التي استقرت في تلك البلاد بعد الفتح. ومن أعجب العجب أن أبا الفرج كان أموياً وكان يتشيّع! وما أعرف الأموية اجتمعت مع التشيّع في أحد قبله ولا في أحد بعده.

وكان الرجل رقيق الدين سيّئ السيرة، يعطي نفسه هواها وينغمس في المعاصي. وكان وسخ الثوب، قذر الهيئة، بذيء اللسان، ولكنه كان -مع هذا كله- آية في سعة الحفظ وكثرة الرواية، عارفاً بأكثر العلوم، كاتباً ناقداً موسيقياً شاعراً، يحسن الوصف وإن كان الغالب عليه الهجاء.

أما كتاب «الأغاني» ، فإن من أراد متعة الأدب، وطلب جيد الشعر، وأراد الإحاطة بأخبار الشعراء والمغنّين، للّذة الأدبية وتقوية الملَكة البيانية، فلا يجد كتاباً أجمع لهذا كله منه. وما منّا إلا مَن كان «الأغاني» عُدّته الأولى في إقامة اللسان وتجويد البيان. ولقد قرأته كله (وهو بضعة وعشرون جزءاً) ثلاث مرات، واستفدت منه في الأدب واللغة ما لم أستفِد مثلَه من غيره.

كل هذا صحيح، أما أن يكون كتاب دين تؤخَذ منه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يفعل هؤلاء الأدباء الكبار المعروفون، أو أن

ص: 102

يكون كتاب تاريخ يُعتمَد عليه في تحقيق الأخبار، فلا.

إن من يأخذ «الأغاني» على أنه كتاب تاريخ يجد المجتمع الإسلامي العباسي مجتمعاً لاهياً عابثاً، لا شغل له إلا شرب الخمر وسماع الغناء والفتنة بالجواري والغلمان، من أكبر خليفة في القصر إلى أصغر ملاّح في دجلة، مع أن هذا غير صحيح.

ولقد كان في بغداد على عهد أبي الفرج أكثر من مليونين من السكان، وكان في هذا العدد الضخم من السكان فُسّاق وشُرّاب خمر وزُناة ولاهُون، وكان فيهم الفارغون المتبطّلون المقبلون على الغناء والطرب، يعيشون لذلك لا يشتغلون بغيره، ولكن هؤلاء كانوا قِلّة وكانوا أقل من القلة. وكان إلى جنب هؤلاء الفُسّاق من أمثال مطيع بن إياس ويحيى والحمّادَين (1) وأبي نُواس وأمثالهم، كان إلى جنبهم أبو حنيفة وشَريك وابن المُبارك وسُفيان والشافعي وابن حنبل، والعلماء والعُبّاد، وكان إلى جنبهم أئمة اللغة ورُواة الأدب ممّن عُرفوا بالصلاح والتقوى، وكان التجّار والعامة ممن كانت تمتلئ بهم المساجد حتى كانت تتصل صفوف المصلّين من مسجد الرُّصافة في بغداد إلى الشط.

فليس المجتمع كله كما يصوّره أبو الفرج. ثم إن أبا الفرج في «الأغاني» يتكلم عن الرجل ممن تَرجَم له، فيُغفل جوانبه كلها ويَعْمَد إلى جانب اللهو والغناء فيتكلم عليه ويبالغ فيه، لأن هذا

(1) حمّاد عَجْرَد وحمّاد الراوية، ويحيى هو يحيى بن زياد، وكل من ذُكر من الشعراء المُجّان وأكثرهم من المُخَضْرَمين (الذين أدركوا آخر الدولة الأموية وأول الدولة العباسية)(مجاهد).

ص: 103

هو موضوع كتابه. وكثير من الأخبار التي يرويها مَكذوب أو مبالَغ فيه.

فمن ذلك أخبار عمر بن أبي ربيعة. تصوّروا لو أن شاعراً دخل بين النساء وهنّ في الطواف أو عند رمي الجِمار، وأقبل ينظر في وجوههن، هل يتركه الناس؟ فكيف إن نَظَمَ فيهنّ أشعار الغزل؟ هل يسمح الناس اليوم لشاعر أن ينظم أشعار الغزل بالحاجّات؟ فكيف إن نشر هذا الغزل في جريدة، هل يسمح له الناس أن ينشره في جريدة؟

هذا مع العلم أن زمان ابن أبي ربيعة هو زمان الصحابة، وهو صدر الإسلام، فإذا كنا نحن الآن -على فساد الزمان وبعد العهد- لا نسمح بأن يقوم فينا من يصنع ما زعم صاحب «الأغاني» وأمثاله أن ابن أبي ربيعة كان يصنعه، فهل يسمح له بذلك الصحابة؟ فلا شك أن أخبار عمر بن أبي ربيعة التي يرويها صاحب «الأغاني» أكثرها مكذوب.

والخلاصة أن «الأغاني» كتاب من أعظم كتب الأدب، ولكن لا يجوز الاعتماد على صحة أخباره ولا يجوز أن يُنقَل منه التاريخ، وصاحبه -على جلالة قدره في الأدب- رقيق الدين سيّئ السمعة بذيء اللسان، لا يوثَق بروايته ولا بصدقه. فاقرؤوا كتاب «الأغاني» للمتعة الأدبية ولتقويم المَلَكة البيانية، ولكن لا تصدّقوا كل ما يرويه فيه ولا تعتمدوا عليه.

* * *

ص: 104