الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى الأستاذ الرافعي
نشرت في مجلة «الرسالة» سنة 1934
أَعِرْني -يا سيدي- هذا القلم السحري الذي تكتب به، لأصف لك الشعور الذي خامرني وإخواني هنا حين قرأنا فصلك الأخير:«قصة زواج» ، فما أدري والله كيف أصفه لك.
وقد والله قرأناه مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ، وقد والله قطعنا القراءة مرة وثانية وثالثة، لأننا لم نكن نملك نفوسنا أن تُفلت من قيود المادّة وتنفذ من بين السطور إلى عالم أسمى وأوسع، تطير في أرجائه لتلحق بهذه البلاغة العلوية التي تسمو بِتاليها وتسمو، حتى تدنو به من حدود العالم الكامل، عالم القرآن، وتريه تحقيق ما قاله فيها سعد: كأنها تنزيل من التنزيل!
وقد والله خرجنا منها وكأننا لم نعرف عبد الملك أمير المؤمنين وسعيداً سيد التابعين إلا الساعة
…
فإذا أنت قد نقلت المُلْكَ والجلال من ذاك إلى هذا، وإذا مقالة منك واحدة تغلب عبد الملك على جيوشه وأمواله وملكه، ثم تجرّده منها، ثم تعرضه جسداً هزيلاً، وتمنح سعيداً -على فقره وتواضعه- أسمى العظمة والهيبة والجلال.
وأقسم لقد سمعت هذه القصة وقرأتها، وحفظتها وحدّثت
بها، وانحدرت بين أذني ورأسي ولساني عشرين مرة، ثم كأني لم أسمع بها إلا الآن، وكأني كنت فيها في ليل مظلم فطلعَت عليّ مقالتك شمساً ساطعة؛ عرفت معها كيف تكون حُصَيَّاتُ الليل لآلئَ النهار. فما بالك بمن لم يسمع باسم سعيد؟ وما بالك بمن لا يعرف في الدنيا أدباً إلا الأدب الذي يسقط علينا من باريس أو لندن، ولا يدري من البلاغة إلا أنها التي تلوح بين سطورها رؤوس البنادق وأفواه المدافع وأجنحة الطيارات؟
ومثل أولئك كثير؛ فقد عابوك بالغموض ورمَوَك بالإبهام، وادّعَوا أن كتبك لا تُفهَم ومعانيك لا تُسَاغ، فلما ظهر أن في الغرب شاعراً فحلاً مذهبه الغموض يتخذه ويدعو له ويدافع عنه، أصبح الغموض فناً من فنون الأدب تُتمَحَّل له الأسباب وتُتلمَّس له الدّوَاعي! فما الذي جعل سيئة الرافعي حسنة بول فاليري، إلا أن ذاك من فرنسا وهذا من مصر؟
أما إن هذا الإيمان بالغرب إذا انتقل من الشيوخ إلى الشبّان لم يكن إلا كفراً بالشرق وإلحاداً بالعقائد الشرقية وجهلاً باللغة الشرقية وخروجاً من الجلدة الشرقية! وإن عندنا في دمشق ندوة أرادت أن تَعيب مَجْمَعنا الأدبي (1)، فلم تجد أبلغ في العيب
(1) يريد «ندوة المأمون» التي كان ميشيل عفلق من أعضائها وكانت على خصومة مع المجمع. انظر أخبار «المجمع الأدبي» في دمشق في الحلقة 66 من الذكريات (ج3 ص377 من الطبعة الجديدة)، وكان علي الطنطاوي عضواً فيه، ولمّا نشر هذه المقالة في مجلة «الرسالة» في تلك السنة ذيّلها باسمه مع إشارة إلى عضويته في المجمع، فتركتها كما هي لأنها صارت صفحة من سجل التاريخ (مجاهد).
من قولها: «إن المجمع ثقافته شرقية» ! بل لقد ضبطتنا متلبسين بالجريمة وأشهدت علينا أننا كنا نحمل كتباً صفراء، وكان الذي نحمله «شرح المواقف» للسيد. ومثل هؤلاء لا يقرؤون الأدب العربي إلا إذا صيغ هذه الصياغة!
* * *
وعندنا أن هذه القصة بكل ما قرأنا -في العربية- من قصص ما يزال أكثر أصحابها يُنشئون أدباً فرنسياً أو إنكليزياً بحروف عربية. وعندنا أنك إذا استكثرت من هذا النوع غَطّيت على خيام أهل الجديد ودُورهم المَبنيَّة من الطين والقش بقصر شامخ من الصخر يَثبت ما ثبت الدهر. وعندنا أن مئة قصة من مثل هذه القصة تنشئ الأدب العربي إنشاء جديداً، وتخرج من الشيخ الهِمّ الفاني الذي ينتظر الموت شاباً قَويّاً بَهيّاً جاء يستأنف الحياة بحنكة الشيخوخة، وتجعل من الأدب العربي أدبين: أدب أربعة عشر قرناً، وأدب الرافعي!
ولست والله أمدحك لأتملّقك وأتزلف إليك، وما بي -بحمد الله- رذيلة التملّق والتزلف. بل إني لأنقم منك أحياناً أنك تبالغ في الدقة وتُمعن في السَّبْك الفنّي لمعانيك وألفاظك حتى ما أكاد أفهم عنك. وإننا لنحفظ جُمَلك هذه الغامضةَ ونتنادر بها، على حين أنك تعرف من نفسك القدرة على أسهل الكلام وأوضحه وأن شعرك ليّن سائغ عذب كالماء.
ولكني أمدحك -وما أجدني صنعت شيئاً- لأنك في نفسي أكبر من ذاك؛ إنك واحد من عشرة هم كُتّاب العربية في كل
عصورها، إنك لسان القرآن الناطق.
فاقبل تحياتي وإكباري وشكري، وأسألك أن تَزيدنا من هذا النوع من الأدب، وأن تستكثر من هذه الفصول الاجتماعية، وأن تعلم أن مقالاتك في الزواج كان لها من الأثر ما لا يكون لقانون صارم من ورائه السجن والغرامة.
علي الطنطاوي
(عضو المجمع الأدبي بدمشق)
* * *