الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لعبة شِطرنج
حديث أذيع سنة 1960
أحدّثكم اليومَ عن واقعة غريبة من وقائع التاريخ. وفي وقائع التاريخ وفي حوادث الحياة عجائب أغرب من أفانين الخيال. واقعة موضوعها «لعبة شِطرنج» (1).
والشطرنج لعبة معروفة، وهو أعلى أنواع اللعب وأدقّها، عُنيت به الأمم قديماً وحديثاً، وكان العرب من أشدّ الأمم عناية به وبراعة فيه، حتى إن منهم من كان يلاعب وهو مُسْتدبِر الرقعة لا ينظر إليها، ومن كانا يلعبان وهما مسافران على ظهور الإبل، ليس أمامهما رقعة ولا حجارة، وإنما يتخيلان الرقعة وحركات الحجارة تخيّلاً.
وبرع فيها جماعة منهم أبو القاسم التّوزي الشطرنجي، الذي وصفه ابن الرومي في قصيدة طويلة منها قوله:
غَلِطَ الناسُ، ليسَ تلعبُ بالشِّطْرنج، لكنْ بأنْفُسِ اللُّعَباءِ
لك مَكرٌ يَدِبُّ في القوم أَخْفَى من دبيب الفَناء في الأعضاء
تقتلُ الشّاهَ حيث شئتَ من الرقعة طَبّاً بالقِتْلَةِ النَّكراء
(1) قال الفيروزابادي: "الشِّطْرَنْج بالكسر، ولا يُفتَح أوّله"(مجاهد).
غيرَما ناظرٍ بعينِك في الدَّسْتِ ولا مُقبلٍ على الرُّسَلاء
بل تراها وأنت مُستدبِرُ الظَّهرِ بقلبٍ مُصوَّرٍ من ذكاء
ونُظمت فيه مقطَّعات وقصائد وكان له أدب.
ولقد شبّه شوقي الحرب برقعة الشطرنج في قصيدته عن نابليون وكلامه عن موقعة إسترلتز، فقال:
عند أُسْتَرْلِتْزَ كان المُلتقى
…
واصطدامُ النَّسْرُ بالمُسْتَنْسِرينْ
وُضِعَ الشِّطرَنْجُ فاستقبلتَه
…
ببَنانٍ عابثٍ باللاعِبينْ
صِدْتَ شاهَ الرّوسِ والنّمسا معاً
…
مَنْ رأى شَاهَيْنِ صِيدا في كَمين؟
* * *
والشطرنج والنرد أشهر اللعَب القديمة، وإن كان الحكم الشرعي أن النرد (الطاولة) وأمثاله من اللُّعَب التي يكون الغَلَب فيها بالحظ والمصادفة (بالزهر) حرام بالاتفاق، واللعَب التي يكون الغلب فيها بالبراعة والذكاء ولا دخل للحظ فيها فهي جائزة في بعض المذاهب الأربعة. ولعل من الحكمة في ذلك أن على المسلم أن يعتمد على نفسه بعد اعتماده على ربه، وأن لا يمشي إلا في الطريق الواضح، ولا يضع قدمه إلا على الأرض الثابتة المستقرة، ولا يجعل اعتماده على المصادفات والحظوظ.
وللشطرنج اليوم طريقتان للعب: الطريقة العربية؛ ويُشترَط فيها التنبيه قبل ضرب أي حَجَر، ويُحظر فيها التَّبْييت (1) إلا في
(1)«التبييت» في لغة الشطرنج هو العملية التي يقوم بها اللاعب لتحصين الملك؛ حيث يحرّك ملكَه أفقياً مربّعين باتجاه أي من القلعتين،=
أول اللعب، ويمشي فيها الجندي (البَيْدق) بيتاً بيتاً. والطريقة الإفرنجية؛ ولا يُشترَط فيها التنبيه، ويكون التبييت في كل وقت، ويمشي البيدق أولاً بيتين. وكل طريقة تدل على أخلاق أهلها، فالعرب شرفاء لا يأخذون شيئاً إلا بعد الإنذار، يأخذونه قوة واقتداراً لا سرقةً وخطفاً، ويمشون خطوة خطوة لا يَثِبون للغنيمة وثباً.
والشطرنج يعلّم صاحبه الفكر والتدبير، ولكنه إن زاد في الاشتغال به صار مُوسوِساً ودخله الهوَس؛ لذلك اشترط الفقهاء الذين قالوا بجوازه ألاّ يشغل عن واجب ولا يؤدي إلى محظور، ولا يُبالَغ فيه حتى يكون همّ اللاعب الأول وشغله الشاغل.
* * *
أما الواقعة التي جئت أحدثكم حديثها فقد وقعت في الأندلس، حين انقسمت الدولة الواحدة دولاً، وترك المسلمون دينهم فتسلط الكفرة عليهم، وصار الإسبان يغزونهم ويقتطعون من ديارهم بعد أن غزوا هم الإسبان وفتحوا بلادهم.
كانت هذه الواقعة أيام ملوك الطوائف (الذين كان يسميهم علماؤنا «الدول المُنقطعة»)، إذ سيّرَ الأذْفونش (ألفونس) ملك
= اليمنى أو اليسرى، وينقل القلعةَ إلى المربع الذي عبره الملك. ويُشترط لصحة التبييت أن يكون كل من الملك والقلعة التي يتحرك باتجاهها في موضعَيهما الأصليين لم يتحركا بعد، وأن لا يكون بينهما أي حجر. وهذه هي الحركة الوحيدة التي يُسمَح فيها بتحريك قطعتين في وقت واحد (مجاهد).
الإسبان جيشاً ضخماً يريد أن يهاجم به مملكة الملك الشاعر ابن عبّاد، وكان وزيره هو الوزير الشاعر ابن عمّار (الذي حدثتكم السنة الماضية طرفاً من حديثه (1) فوجّهه إلى قتاله. ولم يكن لمملكة ابن عمار طاقة بالإسبان، فاعتمد ابن عمار على الحيلة. وكان لاعباً بالشطرنج، لا نظير له ولا يقوم له في اللعبة أحد، فصنع رقعة نادرة المثال وتأنق فيها، وجعل قطع اللعب من الأبنوس والصّنْدل والعود الرطب، وحلاّها بالذهب والجواهر، ووضع فيها من عبقرية الفن ما جعلها تحفة.
وكان ملك الإسبان ممن يلعب الشطرنج، فوجّه إليه ابن عمار رسولاً من قِبَل الملك المعتمد للمفاوضة، وحمل معه هذه الرقعة وهذه القطع. وكانت لابن عمار منزلة أدبية ومكانة اجتماعية حملت ملك الإسبان على أن يستقبله ويبالغ في إكرامه ويأمر وجوه دولته بالتردد على خبائه، وتلطف ابن عمار حتى أراه الرقعة والقطع، فلما رآها دُهش لها وجُنّ بها وسأله أن يهبها له، فأبى إلاّ بشرط. قال: وما هو؟ قال: ألعب معك عليها، فإن غلبتني كانت لك، وإن غلبتك كان لي حكمي.
ومثل هذا الشرط لا يجوز بين المسلمين، ولكنه مع كافر، والحرب خدعة. ورشا ابن عمار وزراء الملك الإسباني ووزّع عليهم المال الجمّ والهدايا الثمينة ليساعدوه عند الملك، فما زالوا بالملك يهوّنون عليه الأمر ويقولون: إن غلبته كانت لك رقعة
(1) انظر فصل «الوزير الشاعر» ، وهو في كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).
لا نظير لها، وإن غلبك فما عساه يطلب؟ حتى قبل الملك. فقال ابن عمار: اكتب ما اتفقنا عليه واجعل بيني وبينك شهوداً. فكتب الاتفاق وأشْهَدَ عليه.
ولعبا، وكان ابن عمار -كما قلنا- طبقة وحده في الأندلس، لا يقوم له أحد في هذه اللعبة، فغلب الملك غلبةً ظاهرة ليس عليها مطعن. فقال له: ماذا تطلب؟
قال: أطلب أن تأمر جيوشك بالرجوع.
فغضب الملك وقال: هذا ما لا يكون أبداً.
فأقبل وزراؤه الذين رشاهم ابن عمار يكلمونه ويقولون: إنه لا يَجمُل -وأنت ملك الإسبان- أن تنقض عهداً كتبته وأشهدت عليه. وما زالوا به حتى قبل، وردّ الله كيده عن المسلمين بلعبة شطرنج.
وهكذا صرنا نحارب برقعة شطرنج، بعدما كنا أبطال الدنيا وسادة الأرض!
* * *