المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌في أصول الأدب

‌في أصول الأدب

نشرت سنة 1955

[إلى السيد ع ح وإخوانه من الطلاب: أخذت الكتاب الذي فيه أسئلتكم، وهذا الفصل هو الجواب.]

العلم والفن

الحق والخير والجمال هي غايات العقول، ومقاصد المعارف، ومُثُل الناس العليا؛ فما يوصل إلى الحق من معارف البشر فهو «العلم» ، وما يريدون به الجمال فهو «الفن» ، وما يصلون به إلى الخير فهو «الأخلاق» .

والعلم والفن يختلفان غايةً وطريقاً ووسيلةً، فالعلم غايته الحقيقة، وطريقه المحاكمة، ووسيلته الفكر. والفن غايته الجمال، وطريقه الشعور، ووسيلته الذوق (1).

الأدب فن من الفنون

والفنون -في اختلاف مظاهرها واتحاد جوهرها- كالكلمات

(1) انظر مقالة «بين العلم والأدب» في كتاب «فِكَر ومباحث» ، وفيها إسهاب لهذا الإيجاز (مجاهد).

ص: 193

المترادفة في التعبير عن المعنى الواحد، فالشاعر والمصوِّر (1) إذا أبصرا غروب الشمس في البحر أثار في نفسَيهما كليهما شعوراً واحداً، ولكن هذا يعبّر عنه بالألفاظ والأوزان، وذاك يعبّر عنه بالخطوط والألوان. فالصورة البارعة قصيدة من الشعر، والقصيدة العبقرية صورة من الصور. والتصوير أخو الموسيقى، وكلها مظاهر متعددة للجوهر الواحد.

وليس يضر الصورة أن لا يكون للشجرة المصوَّرة فيها -مثلاً- وجود حقيقي، ولا الجملة الأدبية أن لا تكون حقيقية بجملتها وتفصيلها. ولو غربلت الأدب بغِربال الحقيقة المجرَّدة لأسقطت أغلى جواهره، من مثل قوله تعالى {واسْأَلِ القَرْيَة} وقوله {واخْفِضْ لَهُما جَنَاحَ الذُّل} ، لأن القرية لا تُسأل ولا تجيب والذل ليس له جناح (2)، ولأضعت ثلاثة الأرباع من أدب كل أمة في الدنيا.

الأدب والنقد وتاريخ الأدب

هذا هو الأدب بمعناه العام، أما الأدب على وجه التحديد والتعريف فهو «مجموع ما في لسان من الألسنة من كلام جميل» من شعر أو نثر، ومن مذكرات أو رسائل، أو عرض (ريبورتاج) أو مقالات أو قصة أو رواية.

فالأدب إنشاء وإبداع، أما النقد فهو وزن وتقويم: يشعر

(1) المقصود هو «الرسّام» وليس الذي يلتقط الصور بآلة التصوير (مجاهد).

(2)

من أجود ما قرأت في مجازات القرآن كتاب «الإشارة» للعز بن عبد السلام، وقد طُبع في إسطنبول سنة 1313هـ.

ص: 194

الأديب، فيعبّر عن شعوره بقطعة من الشعر أو النثر ينشئها ويبدعها، فيجيء الناقد فيضعها في كفّة ميزانه، ويضع في الكفة الأخرى الصورةَ الكاملة التي يريدها لها، ثم يبيّن ما في القطعة من الخفة أو الرُّجْحان، ومن الكمال أو النقصان.

أما تاريخ الأدب فهو ترتيب وتصنيف. الأديب يشعر فيعبّر، والناقد يزن فيقدّر، فيأتي مؤرخ الأدب فينظر في آثار الأدباء وفي أحكام النقاد، ويلحظ التسلسل الفكري والتعاقب الزمني، وينظم ذلك كله في دراسة عامة وسرد شامل.

أشكال الأدب (الشعر والنثر)

إن أكثر المتأدّبين لا يفرقون بين الشعر والنثر إلا بالوزن، مع أن في الموزون ما ليس بشعر، كقول ابن مالك:

ولا يَصحّ الابتدا بالنَّكِره

ما لم تُفِد؛ كعِنْدَ زَيد نَمِرَه

وقول معارض الدّريدية:

مَن لم يُرِد أن تنتقب نِعالُهُ

يحملها في يده إذا مَشَى

ومن أراد أن يصونَ رِجْلَهُ

فلبسُها خيرٌ له من الحَفى

وقول الآخر (وهو -إن أردت الصدق- من أصدق القول):

الليل ليلٌ، والنهارُ نهارُ

والأرضُ فيها الماء والأشجار

وفي غير الموزون ما هو الشعر محض الشعر، كالذي ترجمه الزيات نثراً من شعر لامارتين، وما نثر به زكي مبارك الكثير من شعر الشريف، وفي كثير مما كتب الرافعي.

ص: 195

وتعريف الشعر بأنه «الكلام الموزون المُقفَّى قصداً» هو تعريف العَروضيّين لا الأدباء، أما التعريف الأدبي للشعر فهو أنه «التعبير الجميل عن الشعور النبيل» ؛ فما وصف شعوراً أرقّ وأنبل من شعور العامي العادي، وأثار في نفسك مثله، وعبّر عنه باللفظ الجميل فهو الشعر.

والذي أراه أنا أنه لا بد من تقسيمين للكلام: تقسيم له من جهة اللفظ إلى منثور ومنظوم، وتقسيم له من جهة المعنى إلى نثر وشعر. وبذلك يكون الكلام على أربعة أنواع: شعر، وشعر منثور، ونثر، ونثر منظوم.

والأدب له مظاهر وأشكال أهمها:

«المذكرات» : التي يكتبها المرء لنفسه، يدوّن فيها خواطرَه وأفكاره ويصف فيها ما رأى من مشاهد وصور، لا يحتشد لها ولا يحتفل، ولا يبتغي لها إلا أسهل الأساليب وأبعدها عن الصناعة والتكلف. وربما كُتبت القصة الفنية بأسلوب المذكرات، فاستُعملت فيها طرق التحسين والتجميل وخرجت عن حد البداهة والسهولة، كآلام فيرتر (1).

ثم «الرسالة» : والأصل في الرسالة أن تخاطب فيها الصديق

(1) وهي النموذج الأكمل للترجمة، على ما في موضوعها الأصلي من بعد عن الرجولة والقوّة. وأنا أنصح كل ناشئ في الأدب أن يجرب كتابة المذكرات، لا يكتب ماذا أكل وشرب وماذا لبس وركب، بل ما رأى من طرائف وما اعتلج في نفسه من عواطف. وإذا هو لم يصر بذلك كاتباً، قرأ فيه -فيما بعد- تاريخ نفسه وحوادث أمسه.

ص: 196

الواحد، لا تتكلف له تكلفك لجماعة القراء. وربما استُعمل أسلوب الرسائل في كتابة القصص، كقصة ماجدولين (1).

ثم «العرض» (الريبورتاج). ثم «المقالة» ، المقالة الوصفية، والمقالة العاطفية، والمقالة القصصية، والمقالة التحليلية. وقد نجمت فئة تدعو إلى نبذ أدب المقالات، مع أن أدب المقالات من أوسع أبواب الأدب، عندنا وعند اللاتين والسكسون وكل أمة من أمم الشرق والغرب.

ثم «القصة» : وهي تُقسَّم من جهة طولها وقِصَرها إلى أقصوصة، وقصة، ورواية. ومن جهة شكلها إلى مسرحية وقصة، ومن جهة موضوعها إلى ملهاة ومأساة وملحمة (دراما)، ومن جهة أسلوبها إلى واقعية (يمكن أن تقع حوادثها لا أنها وقعت فعلاً) وخيالية وتحليلية وتصويرية، ومن جهة مصدرها إلى تاريخية واجتماعية وعاطفية، إلخ.

وتشتمل كل قصة على عناصر أساسية، هي الظروف (الزمان والمكان)، والأبطال، والعقدة. وقد كان من شروطها أن تُحَلّ العقدة، ولكن من المذاهب الجديدة في الأدب ما يترك العقدة بلا حل ليجهد القارئ ذهنه في حلها.

والكلام في القصة يحتاج إلى مقالات طوال، وما هذا إلا استطراد.

(1) وهي أيضاً من هذا الأدب الضعيف الرخو الذي يقتل الرجولة، ويجعل الحياة وقفاً على نظرة من عينيها أو قبلة من فيها، فإذا وصل إليها لم يعد يبالي دنيا ولا آخرة!

ص: 197

علوم الأدب

والقطعة الأدبية كالعمارة المشيدة؛ لا بد لبنائها من اختيار الحجارة وتمييز أنواعها، ثم معرفة بنيتها لئلا تكون نخرة أو فارغة، ثم نحتها بحيث يركب بعضها على بعض، ثم وضع المخطط بحيث يجيء البناء وفق الطلب ومقتضى الحال، داراً أو فندقاً أو حمّاماً، ثم تجصيصها ودهنها، ثم وضع زخارفها وتحسيناتها.

وحجارة البناء الأدبي الكلمات، تُعرَف أجناسها بعلم اللغة، وتركيبها وبناؤها بالصرف، ونحت أواخرها حتى يتصل بعضها ببعض بالنحو، ووضع القطعة بحسب ما تقتضيه الحال بالمعاني، والافتنان في التعبير بالبيان، والتجميل والتحسين بالبَديع والعروض.

أنواع النقد

والنقد نقدان: نقد القطعة من حيث لغتها وإعرابها وتأليفها ووزنها، وهذا «نقد علمي» لا يختلف فيه ناقد عن ناقد، لأن اعتماده على قواعد ثابتة وقوانين مقرَّرة، فإن اختلف فيه ناقدان رجعا إلى المعاجم الموثوق بها (1) وإلى كتب النحو والصرف والبلاغة والعروض.

ونقدها من حيث جمال أسلوبها وأثرها في نفس قارئها، وهو «نقد فنّي» اعتمادُه على الذوق، فهو لذلك قد يختلف باختلاف النقّاد.

(1) وليس منها «المنجد» ولا أشباهه.

ص: 198

منهج تاريخ الأدب

والتصنيف الذي قلنا إنه عمل مؤرّخ الأدب إما أن يكون تصنيفاً زمنياً (يتبع العصور)، أو تصنيفاً فنياً (يتبع المذاهب).

وتقسيم العصور الأدبية تبعاً للعهود السياسية (وهو المتّبَع في تدريس الأدب في المدارس) تقسيم لا يقوم على أساس.

أولاً: لأنه ليس بين السياسة والأدب تشابه ولا ارتباط، ولا تصحّ النسبة بينهما طرداً ولا عكساً، فربما ازدهر الأدب بازدهار السياسة، كصدر العهد العباسي، وربما تأخر بتقدمها، كعهد الفتح الإسلامي، وربما ارتقى بانحطاطها، كعهد الدول المنقطعة في الأندلس (1).

ثانياً: لهذا الخطأ في إطلاق صفات عامة على أدب كل عصر، كما يفعل مؤلفو الكتب المدرسية، مع أن في كل عصر مجدّدين ومقلدين. ومن شعراء الجاهلية مَن وصف مظاهر الحضارة وكان شعره من أرق الشعر لفظاً وأسلوباً كعَدِيّ بن زيد، ومن شعراء عصرنا من نظم الشعر البدوي محاكاة وتقليداً كمحمود سامي البارودي. ولو صحت مقاييس هؤلاء المؤلفين لكان البارودي الشاعرَ الجاهلي وعدي الشاعرَ العصري (2).

(1) هذا هو اصطلاح مؤرخينا لما يسمى اليوم «ملوك الطوائف» .

(2)

ومن مزايا أدبنا أن الإنكليزي يأخذ شعر شاعر كان في القرن السادس عشر فلا يفهم عنه شيئاً، وأننا نأخذ شعر الجاهلية فنجد فيه -وقد مر عليه أكثر من ألف وأربعمئة سنة- ما هو أسهل وأجمل وأوضح من شعر بعض الشعراء هذه الأيام. كقول ابن كلثوم:=

ص: 199

ثالثاً: لأن التطور الأدبي يخالف في طبيعته التطور السياسي، فقد زالت الدولة الأموية وجاءت الدولة العباسية خلال أيام أو أشهر، ولكن الأدب الأموي لم يذهب خلال هذه الأشهر، والشاعر الذي كان يَنْظم أيام بني أمية على أسلوب لم يبدّله لمّا تبدلت الحكومة. وكما أن الطفل لا يصير شاباً في يوم معين من شهر معين، بل يتم ذلك في المدة الطويلة ويكون كحركة الظل، تراه واقفاً وهو يمشي، فكذلك الأدب، لا يتحول إلا في الزمن المديد وبالسير البطيء.

المذاهب الأدبية

وخير من ذلك أن ندرس الأدب تبعاً للمذاهب الأدبية.

وللإفرنج مذاهب معروفة: المذهب الاتّباعي (الكلاسيك)، والعاطفي (الرومانتيك)، والواقعي، والخيالي، والطبيعي، والرمزي. ولكل ذلك أنواع وفروع؛ فواقعية إميل زولا غير واقعية قُصّاص الروس، وتاريخية ديكنز غير تاريخية دوماس الكبير. فلِمَ لا نكشف في الأدب العربي عن الصفات المتشابهة في طائفة من الشعراء فنجعلها مذهباً؟ فيكون في الغَزَل المذهب العذري،

= إذا بلغ الرّضيعُ لنا فِطاماً

تَخِرّ له الجبابرُ ساجدينا

وقول الأَوْدي:

والبيت لا يُبتنَى إلا له عَمَدٌ

ولا عِمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ

وهذه مزية للعربية أكرمها الله بها لمكان القرآن منها، وكل محاولة لتبديل قواعدها أو تغيير حروفها أو إحلال العامية مكانها محاولة خائبة، لأن الله حفظ هذه اللغة بالقرآن.

ص: 200

والمذهب القصصي، والمذهب الصوفي، والمذهب المادي، يلتقي في كل مذهب كلُّ من ذهب إليه من الشعراء، من لدن امرئ القيس إلى شعراء هذا العصر. ويكون مثل ذلك في المدح والهجاء والوصف والرثاء

وهذه الرابطة في المذهب أقوى من رابطة العصر التي يتمسك بها واضعو مناهج الأدب في المدارس.

عيوب في برامج الأدب المدرسية

من عيوب هذه البرامج أنها تأتي التلميذ المبتدئ الذي لا عهد له بالأدب فتفرض عليه أصعب نصوصه وأبعدَها عنه ألفاظاً ومعاني وأسلوباً وموضوعاً، وكلما ازداد قوة زادته تسهيلاً، حتى ينتهي بدرس الأدب العصري! وهو ضد ما توجبه الفطرة وما تدعو إليه قواعد التعليم وما يراه صاحب الذوق السليم.

ومن عيوب هذه المناهج أنها تهمل الأدب نفسَه وتُعنى بتاريخه، فتعرّف الطالب بمزايا الأديب ومكانته ونسبته إلى أدباء عصره، ولكنها لا تفرض عليه فهم شعره، ولا تلزمه دراسة نصوص منه دراسةَ لغةٍ وبلاغة وتحليل. ولست أدري كيف يدرس الطالب شاعراً وهو لم يفهم شعره!

وإنْ شرح المدرّسون والمؤلفون بيتاً اقتصروا على تفسير الغريب من ألفاظه، مع أنه ربما فُهمت ألفاظه كلها ولم يُفهَم معناه. ولقد اشتغلت مرة شهراً كاملاً حتى فهمت معنى هذا البيت وأدركت ما هو الذي عضّ برأسه:

وما زلتُ خيراً منك مُذْ عَضَّ كارهاً

برأسِك عادِيُّ النِّجادِ رَكوبُ (1)

(1) البيت لأرطأة بن سُهَيَّة يهجو به شَبيب بن البَرْصاء، وخبره في=

ص: 201

مع أن ألفاظه كلها مفهومة.

وكنت أشرح بعض كتب الأدب لطلاب القسم العالي في الكلية الشرعية في سوريا، فكانت تمرّ بي أبيات كثيرة أفهم معاني ألفاظها كلها ولا أدرك حقيقة المراد منها. لذلك كانت طريقة شرّاحنا الأوّلين -في شرح المفردات ثم تفسير المعنى- أقوَمَ وأوْصَلَ إلى الغاية.

وربما توقف فهم المعنى على مسألة فقهية، كبيت أبي تمام:

بسُنَّة السَّيْفِ والخَطّيِّ من دَمِهِ

لا سُنّةِ الدّينِ والإسلامِ مُختضبِ (1)

أو مسألة فلكية، كقوله عن الأبراج:

= «الأغاني» أن أرطأة "كان قد هاجى شبيباً، ثم دخل على عبد الملك ابن مروان فأنشده قوله فيه:

أبي كانَ خيراً من أبيكَ ولم يَزَلْ

جَنيباً لآبائي وأنتَ جَنيبُ

(الجَنيب هو التابع المنقاد) فقال له عبد الملك: كذبت. ثم أنشده البيت الآخر فقال: «وما زلتُ خيراً منك مُذْ عَضَّ كارهاً

» فقال له عبد الملك: صدقت". ووجدت للبيت شرحاً في أول الجزء الثاني من «الأمالي» ، لكني استقبحت معناه فأعرضت عن ذكره هنا (مجاهد).

(1)

لأن المَسْنون هو الخِضاب بالحنّاء، وهذا الفارس (الذي أشار إليه في البيت الذي يسبق في القصيدة هذا البيتَ بقوله: «كم بين حيطانها من فارس بطل

»، أي من فرسان الأعداء الأشدّاء) قد اختضب بدمه، فهي ليست سنّةَ الإسلام في الخضاب بل سنّة الرمح (الخطّي) والسيف؛ كناية عن القتل (مجاهد).

ص: 202

ما كان مُنقلِباً أو غيرَ مُنْقَلِبِ (1)

(1) صدر البيت: «وصَيّروا الأَبْرُجَ العُلْيا مرتَّبة

»، فهم يجعلون في البروج منقلِباً وثابتاً (غير منقلب)، فإذا جاء الأمر في وقت البرج الثابت احتفلوا به، وإذا جاء في البرج المنقلب طرحوه وأهملوه. وليست هذه من مسائل علم الفلك، بل هي من شَعْوذات المنجّمين. والفرق كبير بين «العلم» و «الشعوذة» ؛ «الفلك» علم رَصين له فوائد في حساب الأهلّة وحركة الشمس، فهو من العلوم التي يحتاج المسلم إليها، وقد برع فيه المسلمون كما لم تبرع فيه أمة أخرى من قبلهم. أما التنجيم فلا يعدو أن يكون تخريفاً وتخريقاً. لذلك أتْبَعَ أبو تمام بيته هذا بقوله:

يَقْضونَ بالأمر عنها وهْيَ غَافِلةٌ

ما دارَ في فَلَكٍ منها وفي قُطُبِ

«يقضون بالأمر عنها» : أي عن الأفلاك والبروج. وقد كان فتح عمورية كله نكسة نكس الله بها المنجمين وخِزياً أخزاهم به.

وليس العتب على المنجّمين، بل على المغفَّلين الذين يستمعون إليهم ثم هم لهم مصدّقون، ولو آمن هؤلاء حقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنوا أنه الصادق الأمين لخافوا من سوء العاقبة، فقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاة أربعين ليلة» ؛ هذا الذي سأل، فما بالك بالذي صدّق؟ ذلك قد خسر آخرته كلها؛ عن أبي هريرة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد» . وليس شرطاً لتأتي العراف أن تقطع المسافات إليه، بل لو فتحت صفحة الأبراج في المجلة أو الجريدة فقرأتها فقد أتيت واحداً من العرّافين

فاعتبروا يا أيها المؤمنون! واعذروني على هذا التطويل والاستطراد، غير أني لم أستطع أن أقاوم فرصة سنحت لي لجَلاء هذه المسألة التي يتعامل معها كثير من الناس وكأنها من صغائر اللّمَم، وإنها لمن كبريات مسائل الاعتقاد (مجاهد).

ص: 203

أو مسألة تاريخية، كقوله (1):

مُصْفَرّةٌ مُحْمَرّةٌ فكأنّها

عُصَبٌ تَيَمَّنُ في الوَغَى وتَمَضَّرُ

الأسلوب

ومن أكبر عيوب برامجنا أنها لا تعنى بدراسة الأسلوب، مع أن غاية ما يبلغه الأديب إدراك مزايا الأساليب. و «الأسلوب» كلمة لا تزال مُبهَمة، لم يُحدَّد معناها تحديداً منطقياً يجمع أفراد ما تدل عليه ويُخرج أضدادها.

والذي أراه أن الأسلوب يتصل -أولاً- بالكلمات: غرابة ووضوحاً ورقّة وجَفاء. ولكل كاتب أو شاعر قاموس خاص؛ مجموعة من الكلمات يدور كلامه عليها ويُكثر من استعمالها، وأول معالم الأسلوب عند أديب أن تعرف له هذه الكلمات.

ثم الجمل: طولاً وقِصَراً، وبياناً وغموضاً، واشتمالاً على السَّجْع والمُحَسِّنات أو خُلُوّاً منها.

ثم معرفة نوع هذا الأسلوب: هل هو أسلوب صحفي، أو علمي، أو خطابي، أو عاطفي، أو وصفي

وهل تكثر فيه الصور أو تكثر الأفكار.

(1) البيت لأبي تمام يصف الربيع وأزهارَه ذوات الألوان المختلفات. أما التشبيه فجاء به من الشِّعار الذي اتخذه في الحرب العدنانيون (وأشهر فروعهم مُضَر) والقحطانيون، وكان العداء بين الفريقين شديداً منذ القِدَم وبينهما وقائع، فاتخذ المُضَريّون العمائم الحمر والرايات الحمر، واتخذ أهل اليمن الأصفر من ذلك (مجاهد).

ص: 204

ثم الروح التي تلوح من ثناياه: هل هي روح جِدّ أم فكاهة، وحماسة أم هدوء، وتفاؤل أم تشاؤم، وصراحة أم مُداورة ولفّ وتعريض.

ثم النسق: هل يُكثر من المقدّمات والاستطرادات أم يدخل في صلب الموضوع فوراً، وهل هو من أرباب الاختصار أم من أصحاب التطويل.

ثم الموضوعات، ولكل أديب موضوعات يحبّها ويطرقها، وأخرى لا يدنو منها ولا يتكلم فيها.

وأنت إذا أدمنت النظر في آثار كاتب وأكثرت القراءة له، ثم وجدت قطعة له ليس عليها اسمه، عرفته بها من هذه الصفات التي ذكرتها لك.

وبشّار لما سمع هذا البيت:

وأنكرَتْني، وما كانَ الذي نكرت

من الحوادثِ إلا الشّيبَ والصّلَعَا

منسوباً إلى الأعشى حكم أنه ليس له، من كلمة واحدة فيه عرف أنها ليست من قاموس الأعشى.

* * *

والخلاصة: أنكم قد تصيرون نُقّاداً بالاطلاع على علوم الأدب، وإدمان النظر في آثار بُلَغاء العرب، والتمرس بأساليبهم ومحاولة الوقوف على مزاياها وخصائصها. وقد تكونون مُؤرِّخين

ص: 205

للأدب إذا ضممتم -إلى ذلك كله- الوقوفَ على آراء النُّقّاد ومعرفة المذاهب الأدبية. أما أن تكونوا أدباء مُبدعين، كُتّاباً وشعراء وقَصَصيّين، فإن ذلك يحتاج إلى شيء آخر، شيء لا أملكه لكم ولا يستطيع أحدٌ أن يُهديَه إليكم هو «المَلَكة الأدبية» ، وهي يا إخواني منحة من الله يمنحها من يشاء. والسلام عليكم ورحمة الله (1).

* * *

(1) من كان مهتماً بموضوع هذه المقالة فليقرأ معها «مقالة في التحليل الأدبي» ، وليقرأ أيضاً:«المَلَكة والثقافة» و «كيف تكون كاتباً» و «في النقد» و «الأدب العربي في مدارس العراق» و «الترجمة والتأليف» ، وهي منشورة كلها في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد).

ص: 206