المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوصف الخيالي والوصف الواقعي - فصول في الثقافة والأدب

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌الوصف الخيالي والوصف الواقعي

‌الوصف الخيالي والوصف الواقعي

نشرت سنة 1955

[كتب إليّ طالب جامعي يسألني بيان الفرق بين الوصف الخيالي والوصف الواقعي. ويقول إنه سمع من مدرّسي الأدب وقرأ في كتبه كلاماً طويلاً في التعريف بهما، ولكن لم يَضِحْ له الفارق بينهما.]

وأنا لن أقول له في الجواب كلاماً طويلاً ولا قصيراً، ولكن أسوق مثالين يُغْنيان عن هذا الكلام. المثال الأول قول أبي تمام في حريق عَمّورية (1):

لقد تركتَ -أميرَ المُؤمنينَ- بها

للنّارِ يوماً ذَليل الصَّخْرِ والخَشَبِ

(1) عندي فضول قديم لمعرفة موقع عَمُّورية هذه، وقد وجدت أن غاية ما ذكره ياقوت أنها في بلاد الروم، ثم وصلت إلى أنها كانت إلى الشمال الغربي من قونية (جنوب أنقرة، في الأناضول. والأناضول هي تركيا الحالية) على بعد يتراوح بين ثمانين كيلاً منها ومئة وثمانين؛ هذا ما استطعت استنتاجه من خرائط «أطلس تاريخ الإسلام» لحسين مؤنس. وهو كتاب عظيم جليل النفع، ولكن يبدو أن المواقع لم تُحدَّد على خرائطه بدقة كبيرة، فهي تتفاوت بين خريطة وأخرى كما وجدت في حالة مدينتنا هذه (مجاهد).

ص: 207

غادَرْتَ فيها بَهيمَ الليلِ وهْو ضُحىً

يُشِلّهُ (1) وَسْطَها صُبْحٌ مِنَ اللهَبِ

حتى كأنَّ جَلابيبَ الدُّجى رَغِبَتْ

عن لونِها، أو كأنَّ الشّمسَ لم تَغِبِ

ضَوْءٌ من النّارِ، والظَّلْماءُ عاكِفَةٌ

وظُلْمَةٌ من دُخانٍ في ضُحىً شَحِبِ

فالشّمسُ طالِعَةٌ مِنْ ذا وقد أَفَلَتْ

والشّمسُ واجِبةٌ مِنْ ذا ولم تَجِبِ

فانظر كيف وصف الحريق:

1 -

أتت النّار على كل ما في البنيان من حجر وأخشاب، فأفاض الشاعر على هذه الحقيقة خيالَه وصَبَّ في هذه الجامدات الحياة، فإذا الجذوع التي كانت تتمايل تيهاً وفخراً والصخرُ الذي كان يَشمخ عُجْباً وكِبْراً قد عادا -أمام النار- ذليلَين مَهينَين.

2 -

ولم تكن هذه الصورة إلا ارتفاع الطيّارة عن الأرض في طريقها إلى طِباق الجو؛ فلما فرغ منها أوغل في خياله، فإذا هذا الحريق يجيء بأعجوبة، فيبدّل قوانين الكون ويداخل الأوقات بعضها ببعض، فيجعل الليل البهيم ضُحى سافراً.

3 -

ثم لا يدعك تطمئن إلى هذه الصورة العجيبة ولا ينتظرك لتفكّر فيها وتدرك أسرارها، حتى يسرع إليك فيمحوها ويقرّر أنه لم يبدَّل الليل ضُحىً، فالليل ليل، ولكن الصبح عجّل في مسيره

(1) يقال: شَلّ الصباحُ الظلامَ، بمعنى غلبه (مجاهد).

ص: 208

فطرد ظلام الليل قبل الأوان!

4 -

فتفكر في هذا الصبح: كيف جاء قبل موعده؟ وتحاول أن تستمرئ هذه القصة، وإذا به يفاجئك بأن الصبح ليس الصبح المعتاد، ولكنه صبح من اللهب!

5 -

ثم يدع هذا كله ويأتي بشيء جديد، هو أن هذا أيضاً ليس صبحاً حقيقياً ولا صبحاً من اللهب، ولكنه الليل مَلَّ ثيابه السود فاستبدل بها -هذه المرّةَ- الثياب البيض.

6 -

ثم يرجع فيقول: لا، لا شيء من ذلك كله؛ فلا الليل تبدل ضحى ولا الصبح طرد الليل ولا استُبدلت ثياب بثياب، وإنما المسألة أن الشمس لم تغب، فمن هنا جاء هذا الضياء.

7 -

فإذا اطمأننت إلى هذا التفسير المعقول عاد يحوّلك عنه ويقول لك إن هذا الضوء ليس ضوء الشمس. إذن ما هو يا سيدنا الشاعر؟ قال: هو ضوء النار، والظلام لا يزال عاكفاً. فتقول: وهذا أيضاً معقول، فالنار من شأنها أن تضيء في الظلام.

8 -

فيسرع إليك فيقول: ولكن هذا الظلام ليس ظلام الليل، بل هو ظلام الدخان.

9 -

وليس الوقت ليلاً أضاءته النار، ولكنه ضحى شاحب سوّده الدخان!

10 -

وما دام الوقت ضحى فالشمس طالعة. فتتحول الصورة إلى ضحى تبدو شمسه ويحجبها هذا الدخان بظلامه.

11 -

فيقول: لا؛ إن التي طلعت ليست الشمس، ولكنها

ص: 209

شمس أخرى، شمس من ضياء النار، أما الشمس الحقيقية فقد أفلت.

12 -

فتقول: هذا حسن، قد أفلت الشمس وغابت، فهي إذن غائبة. فيقول: لا، إنها ليست غائبة الغياب المعروف، ولكن غيّبَها الدخان، وهي في الحقيقة لم تَغِبْ.

فهذه اثنتا عشرة صورة في خمسة أبيات، تلاعب فيها بألباب السامعين وجاء فيها بشيء قد يدعو إلى الإعجاب، لما فيه من التصرف في أفانين القول وما فيه من العجيب النادر من التَّشابيه والاستعارات.

ولكن هل عرفتَ ما هو هذا الحريق؟ وكيف كان؟ وما الذي احترق؟ إلى آخر ما يعرض للذهن من أسئلة. أوَلا ينطبق هذا الوصف على حريق روما على عهد نيرون، وحريق الأموي أيام السلطان عبد الحميد، وعلى كل حريق في الدنيا؟ ألم تشعر أنك لم تخرج منه -على إبداعه- بشيء؟

هذا مثال للوصف الخيالي.

* * *

المثال الثاني قول البحتري في موكب المتوكل يوم العيد:

أظْهَرْتَ عِزَّ المُلكِ فيهِ بجَحْفَلٍ

لَجِبٍ يُحاطُ الدِّينُ فيهِ ويُنْصَرُ

خِلْنا الجِبالَ تَسيرُ فيهِ وقد غَدَتْ

عُدَداً يَسيرُ بها العَديدُ الأكثرُ

ص: 210

فالخيلُ تَصهَلُ والفوارسُ تدّعي

والبِيضُ تلمعُ والأسنّة تُزهِرُ

والأرضُ خاشعةٌ تَميدُ بثِقْلِها

والجوُّ مُعتَكرُ الجوانبِ أغبرُ

حتى طلعْتَ بضَوْءِ وجهكَ فانْجَلَتْ

تلك الدُّجى وانْجابَ ذاك العِثْيَرُ (1)

وافْتَنَّ فيك النّاظرون فإصْبَعٌ

يُومَا إليك بها وعَيْنٌ تَنظُرُ

ذكَروا بطلعتِكَ النبيَّ فهلّلوا

لمّا طلَعْتَ منَ الصفوفِ وكبّروا

ومشَيت مِشيةَ خاضعٍ متواضعٍ

للهِ، لا يُزهَى ولا يَتكبّرُ

حتى انتهيتَ إلى المُصَلّى لابساً

نورَ الهُدى يبدو عليكَ ويَظهَرُ

فَلَوَ انّ مشتاقاً تكلّف فوقَ ما

في وُسعِهِ لسعى إليكَ المِنبرُ

فأنت هنا مع البحتري على أرض الواقع، تمشي صاحِياً تعرف أين تضع قدمك، وقد كنت مع أبي تمام تطير على أجنحة الخيال في كون عجيب، تبدلت فيه قوانين الوجود وتغير مسير الأفلاك وتداخلت فيه الأوقات، ترى ما يُدهش ويُعجب ولكنك لا تدرك حقيقة ما ترى.

(1) انْجابَ العِثْيَر: انكشف الغبار (مجاهد).

ص: 211

أنت هنا أمام «فِلْم» ناطق، ينقلك إلى ذلك الزمان وذلك المكان، ويريك ما رأى مَن شهد الموكب. ألا ترى الجيشَ أمامك بعدده الكثير وآلاته الضخمة التي تشبه الجبال، من الدبّابات والعَرّادات والكِبَاش والمَنْجَنيقات (1)؟ ألا تسمع صهيل الخيل

(1)«الدَّبّابة» اسم قديم لآلة حربية استعملها المسلمون في حروبهم، وهي برج من الخشب الصلب يُغلَّف بجلود تُنقَع في الخَلّ لمقاومة الاشتعال، ويُثبَّت هذا البرج على قاعدة ذات عجلات. والغاية من الدبّابة الاقتراب من الأسوار وحماية النقّابين الذين تحملهم في داخلها. و «الكَبْش» آلة تتكون من عَمود خشبي طويل قد يبلغ طوله عشرة أمتار، وفي رأسه كرة من الحديد أو الفولاذ، ولعلها كانت على شكل رأس الكبش، ومن هنا اكتسبت هذه الآلة اسمها. وكانوا يدفعونها بالخيل على الأسوار لهدمها، وربما أرجحوها إلى الأمام وإلى الخلف وهم يدقّون بها السور حتى ينهدم أو ينتقب. وقد يكون الكبش جزءاً من الدبّابة، حيث تحمل الدبابة في مقدّمتها كرة معدنية كرأس الكبش متصلة بعمود معلق في داخل الدبابة بحبال تجري على بكرات معلَّقة بسقفها، ويتعاون الجنود الذين يتحصنون في داخل الدبابة على ضرب السور بها حتى يخرقوه. ولك أن تتخيل شكل هذا السلاح المركَّب قريباً من شكل دبابة معاصرة تحمل مدفعها أمامها! أما «المَنْجَنيق» فإنه آلة معروفة يعرف الناسُ اليومَ شكلها، وكانوا يرمون به الحجارة فيَدُكّون بها الأسوار، وربما رمَوا الزّفت والنّفط (بكسر النون أو بفتحها، كلا الوجهين صحيح فصيح) المشتعل فحرّقوا الحصن المهاجَم بالنار، ومنه اشتقوا الفعل: جَنَق الحجرَ (وجنّقه، بتشديد النون وبالتخفيف)، والرماةُ به هم المَنْجنيقيّة. و «العَرّادة» مَنجنيق صغير يمكن حمله على الدواب؛ فكأن المَنْجنيقات -في عرف اليوم- هي المدافع الكبيرة والعَرّادات هي مدافع البازوكا! =

ص: 212

وصياح الفرسان؟ ألا ترى السيوف والأسنّة تلمع خلال الغبار؟ ألا تحسّ كأنْ قد مادت الأرض تحت أقدامك؟

وإنك لفي هذه الضجة وهذه الحركة، وإذا بكل متحرك قد سكن وكل صوت قد سكت، وإذا بالغبار قد انجاب، فتسأل: ماذا جرى؟ فتُجاب همساً أنْ قد وصل الخليفة.

ولا تسمع من هذه الخلائق كلها رِكزاً، ولا ترى إلا رؤوساً متدانية تتناجى في خفوت، وأصابع ممتدة تشير إليه، وأنظاراً جائلة تحاول أن تقع عليه. حتى إذا برز من بين الصفوف وصار

= وكانت عندهم أيضاً «النَّفّاطات» ، وهي قاذفات النفط خاصة ولا تقذف الأحجار، و «الأمخال» ، وهي آلات ينزعون بها الحجارة، و «الزحّافات» ، وهي نوع من الدبّابات الصغيرة تتسع لجندي واحد.

هذه الآلات كلها -وغيرها من عدّة الحرب- تجدون وصفها في كتاب اسمه «التذكرة الهَرَويّة في الحِيَل الحربية» لعلي بن أبي بكر الهَرَوي المتوفى سنة 611هـ، وهو كتاب نادر في موضوعه وقليلٌ انتشارُه في الأسواق، فقد طبعته وزارة الثقافة السورية منذ ربع قرن بتحقيق قيّم وتعليقات نفيسة لمطيع المرابط، ولم أعلم أنه أُعيد نشره ولا رأيت منه نسخاً في المكتبات من سنين طويلة، وأحسب أن نسخه كلها قد نفدت منذ زمن بعيد. وقد استفاد المحقّق فائدة عظيمة من كتاب نشرته وزارة الثقافة في دمشق أيضاً قبل نشر «التذكرة» بنحو عشر سنين، وهو كتاب «الحياة العسكرية عند العرب» لإحسان الهندي. هذا ما قرأته في حواشي «التذكرة» وفي قائمة مراجع التحقيق في آخرها، ولم أطّلع على هذا الكتاب للأسف ولا وصلت إليه، فأحسن الله إلى الرجلين على ما أفادانا به من علم في هذا الموضوع الذي يقلّ العلم فيه أو يكاد ينعدم (مجاهد).

ص: 213

وسط الساحة ارتجّت الدنيا بالتكبير والتهليل؛ لا يكبّرون للمنصب ولا للرغبة ولا للرهبة، ولكن لأنهم ذكروا بطلعته النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا هو يمشي مشية خاشع متواضع، متواضع لله لا للناس، حتى وصل إلى المُصلّى (1).

فهل غاب عنك شيء من دقائق هذا المشهد؟ هل يمكن أن ينطبق هذا الوصف على كل موكب كما انطبق ذاك على كل حريق؟

هذا هو الوصف الواقعي، وإن كانت قد خالطَته صور من غير الواقع، كلبس النّور وسعي المنبر؛ فقد سرق البحتري «سعي المنبر» من «سعي المكان الجَديب» عند أبي تمام، ولكنه سرق واسترقّ وأخذ وزاد.

وإذا لم يَكْفِ السائلَ المثال، كانت لي عودة إلى هذا المجال.

* * *

(1) إن شئت فاقرأ شرحاً أكثر إسهاباً لهذه الأبيات في حلقة «دروس الأدب في بغداد» في «الذكريات» (3/ 407 - 409)(مجاهد).

ص: 214