الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقفة على الفسطاط
نشرت سنة 1947
قرأت في مذكرات صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي التي طُبعت في مصر هذه السنة أنه كان يتولى رياسة لجنة حفظ الآثار العربية، فقررت اللجنة سنة 1329هـ "إصلاح جامع عمرو وتجديده، اهتماماً به من جهة أنه أول مسجد أسس في الإسلام بمصر، وأنه مَشرق أنوار العلوم الإسلامية بمصر منذ القدم، ولئلا نعاب بقلة الاكتراث بمفاخرنا التاريخية".
واهتم بذلك الأجانب، وكتب إليه أساتذة كبار محبّذين ومشجّعين، وكاد يتم الأمر لولا أن أكثر الأعضاء المسلمين في اللجنة غابوا عن الجلسة التي عُيِّنت لإتمام المشروع، فصارت الأغلبية للأجانب.
قال الأمير: "فلما بدأت في تبادل الآراء مع الأعضاء في مسألة إصلاح الجامع قام هرتس باشا، مهندس الأوقاف إذ ذاك، وسألني: ماذا تعملون في حيطان سور الجامع؟ فقلت: حيث إن السور متهدم متخرب، وإنه جُدِّد مراراً ولم يبقَ له منظر جذاب، نريد أن نعمل سوراً جيداً فخماً يتناسب واسم الجامع. فأظهر أسفه
لهذا العمل وقال: إننا إذن سنكسر ما فيه من طوب أحمر أثري، وإن هذا خسارة لا تعوض لأنها آثار قديمة ستتلف بهذا العمل. وبعد ذلك سأل السيد ديمول، الممثل الألماني لصندوق الدَّيْن قائلاً: ماذا تعملون في البواكي؟ ثم سأل المستشرق السويسري بورك هارت: ماذا تعملون في عمدان الجامع؟ وبعد ذلك قام السيد فارنال، الممثل الإنكليزي لصندوق الدين، وسأل: ماذا تعلمون في البوابة الكبيرة؟ ".
وذكر الأمير جوابه لكل منهم، وهو جواب مقنع، ولكن القوم لم يقتنعوا. قال:"ثم زاد امتعاضي وقلت لجميع الجالسين: أما يَندى جبينكم خجلاً من هذا الوضع أيها الجماعة؟ إن الدين الإسلامي لا يسمح لغير المسلم أن يتدخل في أمور مساجد الله، والحكومة المصرية سمحت وتساهلت إلى حد أن تتدخلوا في شؤون نحو مئتين وخمسين مسجداً في مصر دون حق شرعي، والمسلمون لمّا أرادوا تعظيم شأن جامع مَن أدخل الدين الإسلامي في بلادنا تُحجمون وتوقفون عملنا؟ وعلى هذا فإني متنازل عن رياسة هذه اللجنة".
وتنازل الأمير، ووقف العمل.
* * *
قرأت هذا فأحببت أن أزور الجامع، ولم أكن زرته، وهو قريب من «الرَّوضة» حيث أقيم. فسألت فوجدت أنه لا يصل إليه ترام ولا سيارة، مع أن كل مكان في مصر -إلاّ هو- تمشي إليه سيارة أو ترام! فذهبت أخوض في التراب في طرق مهملة ومسالك
معطلة، حتى وصلت إلى الجامع، وهو قائم كالشيخ المريض المُدنِف وسط العِشَش والفواخير والجيّارات والجبّانات!
قلت: أهذا هو جامع عمرو؟
قالوا: نعم.
قلت: وهذه هي الفسطاط؟
قالوا: نعم.
الفسطاط، أول بلدة للمسلمين في مصر، يهملها المسلمون حتى تعود مقابر للنصارى؟ الفسطاط، منزل الفاتحين الذين نشروا في مصر حضارة الإسلام، يُمحى منها كل مظهر للحضارة فلا يكون فيها إلا الفواخير والجيّارات، وتذهب منها معالم الحياة فلا تكون إلا داراً للموتى!
هل يدري هؤلاء الذين يروحون ويغدون على هذه البقعة المتروكة، وهل يدري أولئك الذين لم يزوروها ولم يروها، أنه من هنا سطع النور الذي أضاء مصر بضوء الإسلام، ومن هنا انبجس المَعين الذي روّى العِطاش من أبناء مصر وإفريقيا، ومن هنا مشت الراية الإسلامية حتى رفرفت على نصف دنيا الماضي من البحر الأحمر إلى ما وراء البيرنيه، ومن هنا خرج الصوت الذي ألغى نظام الطبقات وساوى بين الناس في مصر وأعطاهم الحرية في دينهم ودنياهم، وأنها هنا وُلدت مصر زعيمة العروبة ومثابة الإسلام؟
فمن الذي كاد لهذه البقعة الطاهرة حتى صارت أوحش
بقعة في مصر وأحطَّها وأبعدها عن الحضارة والنظافة والبهاء؟ ما الذي صرف الناس عنها، فلا يؤمّها مصري ليذكر مشرق شمس الهداية منها على بلاده، ولا يستطيع أن يصل إليها سائح ليرى فيها آثار أمجد ذكرى في تاريخ مصر؟ أيتخرب المسجد ويُهمَل الحصن، ولا تشفع لهما روعة البطولة ولا خشعة الإيمان ولا عظمة العلم؟
أما والله الذي لا إله إلا هو، لو كانت هذه المآثر لغيرنا، لأمة تحس وتشعر وتقدّر أمجادها، لجعلت بِقاعها كلها كَعبات يُحَجّ إليها ومنابر تتلو على الناس سُوَر البطولة فيصغي إليها الناس، ولخلّدَت كل مكان مرّ منه عمرو وكل طريق سلكه وكل قلعة افتتحها، من العَريش إلى الفرما إلى أم دُنَين (قرب حديقة الأزبكية)، إلى ساحة المعركة في عين شمس، إلى ميدان الوقعة الكبرى التي كان فيها النصر عند حصن بابليون (قصر الشمع) عند جامع عمرو. ولَعَبّدت هذا الطريق، طريق الفتح، وظلّلَته بأشجار الغار وكنَّفَته بالورد والفلّ، ولجعلت في كل قرية وكل بلدة مدرسة باسم عمرو، تعرّف الناس بعمرو وبالدين الذي جاء به عمرو.
* * *
إن فتوح المسلمين أعجوبة التاريخ ومعجزة الدهر، ولكن ليس فيها ما هو أعجب من فتح مصر، فقد حيّر من الوجهة الحربية العسكريين وأدهش بنتائجه المؤرخين.
لقد كان جيش عمرو يوم صدم مصر أربعة آلاف. وما
أربعة آلاف في جنب مصر وملك مصر؟ ولو أطبق عليهم أهلها بأجسادهم لطحنوهم، ولو ضاربوهم بالحجارة لقتلوهم، ولو حصروهم من بعيد لأهلكوهم. ولكن أربعة آلاف فتحت مصر، فتحتها بعبقرية قائدها، فتحتها بخلائقها وبإيمانها. ومَن كان معه الإيمان لا يقف له شيء.
ولقد فتح مصرَ من قبله فاتحون، العرب (الهكسوس) أبناء الجزيرة، والفرس، واليونان، والروم، فكان في مصر غالبون ومغلوبون، غرباء حاكمون ومصريون محكومون، ولبث الفتح ما لبثت القوة، فلما زالت زال وعادت البلاد لأهلها. فلما فتحها عمرو صارت لقومه إلى آخر الدهر.
ولقد دأب الروم -وهم آخر من حكمها- عاملين بالترغيب والترهيب، يستخدمون العطايا والمنايا لحمل المصريين على مذهب في النصرانية غير مذهبهم، فما استطاعوا، وهم جميعاً أهل دين واحد، واستطاع عمرو أن يُدخلهم بطوعهم ورضاهم في الإسلام، فيكونوا هم أهله وتكون بلدهم بلده.
وهذه هي طريقة الفاتحين المسلمين، لم ينقلوا الإسلام إلى البلاد التي فتحوها ولكن نقلوا أهلها إلى الإسلام (1): أراهم فضله وأذاقهم عدله، أعطاهم الحرية في عباداتهم، وأعاد لهم بطريركهم بنيامين الذي طرده الروم، ورفع المظالم عنهم، ومنع بعضهم أن يستعبد بعضاً، وحفر لهم الخليج في سنة واحدة،
(1) الكلمة لشيخ الإسلام ابن تيميّة، وقد كنت عقدت عليها فصلاً في «الرسالة» في السنة الماضية.
من النيل إلى البحر الأحمر، استعملهم فيه بالأجرة لا بالسخرة، وجعله لهم لا لغيرهم، فكان للخير والبركات، لا كقناة السويس التي هي في أرضنا وليست لنا!
فكانت هذه الأعمال خطباً ومحاضرات في الدعوة إلى الإسلام، ما سمعها المصريون حتى انقلبوا جميعاً مسلمين، وكذلك تكون الدعوة: بالأعمال لا بالأقوال.
* * *
لقد رأيت مرة رواية مسرحية في جمعية إسلامية مثّل فيها الممثلُ عَمْراً رجلاً قميئاً ثعلبياً محتالاً، يتدسّس في القوم ويستَرِق الأخبار ويوقع الشر ويتعمد الكذب، فعلمت أن هؤلاء الذين هداهم الله بعمرو لا يعرفون من هو عمرو!
لقد كان عمرو شريفاً في الجاهلية والإسلام، وكان صادقاً صريحاً، وكان شاعراً فصيحاً، وكان أبيّاً عَزوفاً لا يرضى بالدَّنِيّة من عُمَر (وهو مَنْ هو) ويردّ عليه الكلمة بمثلها حين راسله في أمر خراج مصر. وكان فقيهاً في دينه، أسلم طائعاً مختاراً، فتوافقت على ورود شِرعة الإسلام يومئذ عبقريتا عظيمَين من عظماء الناس كلهم لا العرب وحدهم وماردين من مَرَدة القيادة والحروب، سيد القواد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. هداه إلى الإسلام نطق سديد، لم يدخله فيه طمع ولا طبَع، ولم تدفعه إليه رغبة ولا رهبة، وكان صادقاً في إسلامه قوياً في إيمانه، حتى ولاّه الرسول صلى الله عليه وسلم حَطْم رب من أرباب الباطل، اختاره لهدم سُواع، وأقره على إمارة سرية فيها سادة الإسلام ومشايخه: أبو بكر وعمر
وأبو عبيدة، وجعله رسولَه إلى ملك عُمان وأمينَه على الصدقات فيها، وشهد له أنه «من صالحي قريش» ، وقال فيه:«نِعْمَ أهل البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله» . ونظر إليه عمر فقال: «ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميراً» ، وقال قَبِيصَة ابن جابر:«صحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلاً أَبْيَنَ قرآناً ولا أكرم خلقاً ولا أشبه سريرةً بعلانية منه» . وكان عمر إذا رأى رجلاً عَيِيّاً يتلجلج في كلامه يقول: «أشهد أن خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد» (1).
وكان مشهده يوم بلغه انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملأ الأعلى مشهداً يلين القلوب الجامدة، وما يُفجَع ولد بأبيه أو محب بحبيبه فتكون لوعته عليه وحسرته لفقده أشدَّ من حسرة عمرو ولوعته.
وكان يومَ الردة سيفاً من سيوف الله التي رجعت الإسلامَ إلى موطنه بعدما كادت تشرّده عنه الخطوب، وأعز الله به الدين وقمع الثائرين. ثم رمى به الصدّيقُ الرومَ، وقدّمه على «مَن هم أقدم منه سابقة وحرمة» (2) وجعله أحد القوّاد الأربعة، فتجلّت عبقريته حتى رجع الثلاثة إلى رأيه، وبلغ الرأيُ أبا بكر فأقرّ ما رأى. وكان في اليرموك ثاني الأبطال بعد نابغة المعارك خالد، وكان بطل أَجْنادين، فضرب الله به أرطبون الروم بأرطبون العرب، فكان أرجح منه في الميزان وكانت عبقريته أبقى على وجه الزمان، حتى قال عُمَر: غلبه عمرو، لله عمرو!
(1) تخريج الأحاديث في الإصابة لإمام الحُفّاظ ابن حجر.
(2)
من كلام أبي بكر له في وصيته العجيبة التي تشهد لنا أننا نحن أهل البطولة وأهل الحضارة لا هؤلاء الغربيون.
أما النبل في سلائقه والسمو في خلائقه، وقوة جنانه وفصاحة لسانه، فاسألوا عنها كتب الرجال، فما يتسع لها المقال.
هذا هو عمرو وما عرفتموه؟ قرأتم ما كَذَبه عليه المؤرّخون يوم التحكيم ولم تقرؤوا الحقيقة التي رواها المحدّثون وهم أوثق نقلاً وأصدق قولاً -كما في «العواصم من القواصم» للقاضي أبي بكر بن العربي (1) - وسمعتم أنه من دُهاة العرب فحسبتم الدهاء
(1) لا يعرف هذا الكتابَ الجليل غيرُ قليل من الناس؛ إنما يعرفون القطعة الصغيرة منه التي نشرها محب الدين الخطيب باسم «العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم» . ولم يكن كتاب محب الدين صدر يوم نشر علي الطنطاوي هذه المقالة، بل صدر بعدها بخمس سنين. على أن نسخة كاملة منه كانت قد صدرت من قبل، أصدرها شيخ النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1347هـ، وحققها معتمداً على نسخة مفرَدة عثر عليها في جامع الزيتونة. كل ذلك ذكره محب الدين الخطيب في تقديمه القيّم لهذا الكتاب، لكن الناس قلّ أن يقرؤوا هذه المقدمة ثم يظنون أن الذي نشره هو الكتاب كله. وقد مضى على الطبعة التي نشرها الشيخ ابن باديس رحمه الله دهر طويل وما عاد يعثر عليها أحد، وحُرم الناس هذا الكتاب حتى قيّض الله له أستاذاً في جامعة الجزائر هو الدكتور عمار طالبي، الذي عثر على أربع مخطوطات للكتاب فأعاد تحقيقه معتمداً عليها، ثم نشره كاملاً من نحو خمس عشرة سنة. والكتاب فيه مناقشات لعشرات المسائل في الفلسفة والعقيدة والفقه والحديث والتفسير، سوى ما نعرفه من تحقيق مواقف الصحابة والخلاف الذي شجر بينهم، وفي ذلك كله يظهر العقل الكبير والذهن المتوقد للقاضي ابن العربي (وهو من كبار فقهاء المالكية أيضاً). على=
لا يكون إلا بالكذب والاحتيال والدس والوقيعة. لا يا سادة، إن من تخرّج في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم وكان رسولَ رسولِ الله لا يكون دسّاساً ولا كذاباً. إن المؤمن لا يكذب، هكذا قال الرجل الذي قال:«ابنا العاص مؤمنان، عمرو وهشام» (1)، محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا هو عمرو؛ فأي فاتح صنع مثل ما صنع عمرو؟ أي قائد كان أعظم بركة في ظَفَره من عمرو؟ أي مصلح كان أبقى أثراً في إصلاحه من عمرو؟
إنه ما شهد في مصر مسلم أنه لا إله إلا الله، ولا قام متبتّل في صلاة، ولا قعد واعظ في مصلاّه، ولا قاض إلى منصته، ولا مدرّس إلى أسطوانته، ولا عمل مصري من خير، إلا وعمرو شريكه في ثواب عبادته؛ لأنه السبب في هدايته، ومَن سَنّ سُنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
عمرو بنى جامع ابن طولون، وشاد الأزهر، وعمّر هذه المدارس وأقام هذه المساجد، وأنشأ كل مظهر للإسلام في مصر ما كان لولا عمرو. عمرو هو الذي ردّ برابرة الشرق في عين جالوت، وبرابرة الشمال في المنصورة، وكان له فضل كل نصر كتبه الله للإسلام في مصر.
= أن الطبعة الجديدة لا تغني عن طبعة محب الدين الخطيب لما في هذه الأخيرة من التعليقات والتعقيبات النافعة الجامعة المانعة، ولو أن ناشراً جمع حواشي ابن باديس وحواشي محب الدين إلى الطبعة الكاملة المحقَّقة الأخيرة لجاء بشيء عظيم يخدم به هذا الكتاب ويفيد قارئيه (مجاهد).
(1)
«الاستيعاب» للحافظ الأندلسي ابن عبد البر.
هذا هو عمرو، فهل تلبي مصرُ -في إصلاح جامعه- دعوةَ الأمير؟ وهل تُرجع للفسطاط عهودَها الخاليات؟
* * *