المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌لون من الترف العقلي

‌لون من الترف العقلي

نشرت سنة 1987

طرق المؤلفون في كتبهم كلَّ باب من أبواب المعرفة وسلكوا كل طريق من طرق العلم والأدب، وأودعوها كل ما يمكن أن يصل إليه العقل المفكر والقلب الشاعر والوجدان المتأمل، فكان فيها علوم الدين والدنيا؛ فيها مئات ومئات من المجلدات في القرآن، تنزيله وتأويله؛ وفي الحديث، روايته ودرايته؛ وفي الأدب، فنونه وألوانه؛ وفي الطبيعة، قوانينها ومظاهرها؛ وفي التاريخ، قديمه وحديثه.

ولدينا آلاف من الكتب في تراجم العظماء وطبقاتهم: الصحابة والتابعين، والقُرّاء والفقهاء، والقُوّاد والأمراء، والأدباء والشعراء. دوّنوا أخبار العقلاء والمجانين والحمقى والمغفلين كما دونوا أخبار الأذكياء والنابغين! وإذا كان عند اليونان الأقدمين هذه «الإلياذة» التي يَعُدّونها أولى مفاخرهم، والتي استمد منها أدباء الغرب وشعراؤهم المحدثون أكثر مآثرهم، فلقد روى الكتّاني في «التراتيب الإدارية» أن عندنا قصيدة في خمسة آلاف بيت، هَمْزية جيدة في السيرة النبوية. ولابن عيسى القرطبي أرجوزة أخرى في سبعة آلاف بيت. وثالثة عنوانها «المقالات السَّنِيّة في مدح خير

ص: 109

البرية» لعثمان بن علي في تسعة عشر ألف بيت!

وإذا كانت الإلياذة تشتمل على خرافات وعلى تخيّلات، ما يَسندها واقع ولا تعتمد على حقيقة، فإن هذه الأراجيز ما فيها إلا حقائق ثابتة وتواريخ محقَّقة. هذا وأنتم تعرفون الأراجيز العلمية، كألفية ابن مالك وألفية العراقي والكثير من أمثالهما.

ولما ظنوا أنهم شبعوا من الجِدّ واكتفوا استراحوا إلى لون جديد، كما استراح أهل الفن من المصوِّرين والرسامين إلى هذه المذاهب الجديدة في الرسم، التي لا تبلغ معرفتي بها مبلغ القدرة على وصفها والكلام فيها، ولكن لا يصل عجبي منها إلى حد الإعجاب بها أو تذوقها وفهمها.

وكيف أعجب بلوحة ما أرى فيها إلا علب كبريت مكوَّمة أكواماً، أو حجارة مركومة رَكماً، أو سلّماً مقلوباً قد تعلق بخطوط متعرجة متداخلة بلا ترتيب ولا نظام ولا دقة ولا إحكام، كأنها خرابيش الدجاج على بقعة من الرمل، ثم أرى تحتها كتابة موضِّحة لها تقول إنها صورة امرأة جميلة أو مشهد غروب الشمس في البحر

وما ثَمّ شمس ولا بحر، ما هناك إلا الفوضى والعبث! كهذا المذهب الحديث في الشعر، حيث تُرصَف كلمات جميلة لا يربط بينها رباط يتبيّنه الفكر، ولا صورة يلذّها الذوق، ولا موسيقى تطرب لها الآذان، ما هي إلا مُعجَم، ولكنه معجم قد اختلّ ترتيبه! قالوا: إن هذا هو الشعر الحديث!

والذي نعرفه أن الألفاظ أوعية للمعاني، فإذا خَلَت من المعنى المبتكَر والصورة الحلوة عادت ألفاظاً فارغة، لها إن

ص: 110

قرعتَها طنين ورنين وما فيها فائدة للمستفيدين! وصارت ألاعيب لأدباء ذلك الزمان الذي يدعوه مؤرّخو الأدب بعصر الانحطاط؛ كل هم رجاله التلاعب بالألفاظ لا يجاوزونها.

وكان المثل الأعلى لشادي الأدب -لمّا بدأنا النظر في الأدب- مقامات الحريري، يحرص أساتذتنا على أن ندمن قراءتها ونحفظ ما نستطيع حفظه منها، ونرى غاية ما يصل إليه الكاتب أن يصنع مثل ما صنع الحريري -مثلاً- في المقامة السادسة، حين التزم أن تكون فيها كلمة منقوطة بعدها كلمة مُهمَلة بلا نَقْط، وجرى على هذا في المقامة كلها، فيقول: "الكرَمُ -ثبّتَ الله جيشَ سُعودك- يَزين، واللؤم -غَضّ الدّهر جَفْنَ حسودك- يَشين

"، وما صنعه في المقامة السادسة عشرة، حين جاء بلون آخر من ألوان اللعب بالألفاظ كان مألوفاً في ذلك العصر، هو أن يجيء بجملة إذا قرأت حروفها منكوسة، فبدأت بآخر حرف منها ورجعت إلى ما قبله، لم تتبدل الجملة. وصنع في ذلك شعراً متكلَّفاً سخيفاً (1)، حاولت أن أرويه، ثم وجدت أنني أزعج

(1) هي «المقامة المغربية» ، وفيها طائفة من أمثال هذه الجُمَل التي تُقرأ من اليمين إلى اليسار كما تُقرَأ من اليسار إلى اليمين:«كبِّرْ رَجاءَ أجرِ ربّك» ، وهذه بعض الأبيات التي أشار الشيخ إليها ووصفها بالسخافة (وهي حقاً كذلك):

اُسْلُ جَنابَ غاشِم

مُشاغِب إنْ جَلَسا

اُسْكُنْ تَقَوَّ فعَسى

يُسعِفُ وقْتٌ نَكَسا

ومن شاء المزيد، وهو كثير، فليرجع إلى المقامة المذكورة في كتاب «مقامات الحريري» (مجاهد).

ص: 111

بروايته القراء ولا أعوّضهم عن هذا الإزعاج متعة ولا منفعة.

ومن هذا الباب أن العماد الكاتب لما ودّع القاضي الفاضل (وهو من أساتذة هذا المذهب، مذهب الصناعة اللفظية الميتة التي لا روح فيها) قال له: «سِرْ فلا كَبا بك الفرس» . وهي جملة إن عكستها لم تنعكس، فأجابه بمثلها على الفور فقال:«دام عُلا العماد» .

ومن أجود ما أحفظ في هذا الباب (إن كان فيه شيء جيد!) قول القائل:

مودّتُهُ تَدومُ لكلِّ هَوْل

وهل كلٌّ مودّتُه تَدومُ؟

خذوا حروف هذا البيت فاقلبوها تجدوها تبقى على حالها.

كانوا يَعُدّون نهاية الأرب وغاية الأدب أن يقدر الأديب على مثل هذا العبث، حتى إن الشيخ محمود الحَمْزاوي، أشهر المُفتين في دمشق في القرن الثالث عشر الهجري، ألّف تفسيراً صغيراً للقرآن مطبوعاً، وهو عندي في مكتبتي، كل حروفه مُهمَلة، أي ليس فيه حرف منقوط، فليس فيه كلمة فيها باء ولا تاء ولا جيم ولا خاء ولا شين ولا ضاد

فتصوروا الجهد الذي بذله فيه ثم انظروا النفع الذي يأتي منه، تجدوا جهداً كبيراً ونفعاً ضئيلاً.

ورأيت من قديم في المكتبة العربية في الشام كتاباً فيه جداول أربعة أو خمسة (نسيت)، في الجدول الأول كتاب في الفقه مثلاً، وفي الثاني نحو وصرف، وفي الثالث تاريخ، وفي الرابع بحث مكتوب بلسان الترك، ثم إذا قرأت السطر كله معاً متجاوزاً حدود

ص: 112

هذه الجداول جاء معك كتاب آخر فيه علم آخر (1).

ولما شرّفني المجمع العلمي العراقي بعضويته من نحو ثلاثين سنة كان يتفضل فيرسل إليّ مطبوعاته، وهي من أنفس ما أخرجت المطابع، فلما جئت المملكة انقطعت عني واستحييت أن أسأل عنها فحُرمت منها. قرأت في مجلة المجمع يومئذ وصفاً لكتاب مثل هذا، يزيد عليه بأن فيه ثمانية جداول وأنه يُقرَأ بالمائل من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين، وفي ذلك ما يُدهش ولكنه لا يفيد (2).

كقصة الرجل الذي قالوا إنه كان يُلقي على الأرض إبرة، ثم يلقي عليها بأخرى وهو قائم فتقع في خرمها، ولا يزال يرمي واحدة بعد واحدة حتى يجمع مئة إبرة متصلاً بعضها ببعض. فرُفع أمره إلى حاكم البلد -وكان عاقلاً كريماً- فأمر له بمئة دينار وأن يُجلَد مئة جلدة، فسألوه فقال: أما الدنانير فلهذه البراعة النادرة، وأما الجلد فلأنه صرف همته إلى هذا العبث ولم يوجّهها وجهة ينتفع بها الناس.

* * *

وإذا رجعتم إلى مجلة «الرسالة» ، إلى العدد الذي صدر يوم

(1) أظنه كتاب «عنوان الشّرف الوافي» لإسماعيل بن أبي بكر المقرئ، وهو مطبوع متداوَل رأيته مراراً، وهذه صفته (مجاهد).

(2)

أذكر أنني رأيت كتاباً مطبوعاً بهذه الصفة منذ بضع سنين، لكنني استسخفته ولم أهتم به فنسيت اسمه واسم مؤلفه، ولو أن قارئاً مهتماً بحث عنه في المكتبات فأحسب أنه سيجده (مجاهد).

ص: 113

الإثنين 23 رجب 1354هـ (أي من أربع وخمسين سنة) وجدتم مقالة لي فيها وصف لكتاب عجيب ليس له في تراثنا الفكري مثيل، لا لأنه حوى من حقائق العلم أو من طرائف الفن ما لم يَحْوِه كتاب غيره، بل لأنه جاء فيه بشيء جديد من هذا الذي سمّيته «الترف العقلي» ؛ فقد تعمد أن لا يأتي فيه إلا بما هو خطأ محرَّف عن أصله، معدول به عن جادة الصواب مُمال به عن سبيل الحق، فلا بيتَ يُنسَب إلى صاحبه، ولا كتابَ يُعْزى إلى مؤلفه، ولا مسألةَ تورَد على وجهها، ولا بلدةَ توضع في موضعها

وقد أورد ذلك كله بحذق ومهارة وفرط لباقة، حتى إنك لتتلوه فتحسّ -لحلاوة ما تقرأ- أنك تقرأ حقاً وصدقاً، وما فيه من الحق والصدق شيء! (1)

ولا يقدر على الخطأ الذي لا صواب فيه إلا من يقدر على الصواب الذي لا خطأ معه؛ يحتاج كلاهما إلى علم بمواقع الخطأ ووجوه الصواب. ثم إنه حلاّه بالنكات اللغوية والمسائل النحوية والطرائف الأدبية والآراء الفلسفية، وزيّنه بالحِكَم الباهرة والأمثال السائرة، واستشهد على كل مسألة من مسائله بأقوال العرب، ولكن ذلك كله محرَّف عن الصواب.

هذا الكتاب اسمه «اختراع الخُراع» (والخُراع في اللغة داء يصيب الدابة في ظهرها فتبرك فلا تستطيع القيام)، ومؤلفه هو صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، أحد أئمة القلم والأدب في عصره، ومؤلف الكتاب الكبير «الوافي بالوفيات» ، الذي يُعَد

(1) ستأتي المقالة كاملة في آخر هذا الكتاب إن شاء الله (مجاهد).

ص: 114

من أجمع كتب التراجم.

أول هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال أبو خُرافة الهدّ القشيري سامحه الله تعالى: حضرت في بعض أوطان أوطاري وأوطار أبكاري مع جماعة

فابتدر أحد ظرفائهم فأنشدنا بيتين هما:

لو كنت بَكْتوت امرأة جارية الفَضْل

وكان أكل الشعير في البرد مَلْبَسكو

لا بدّ من الطلوع إلى بئرك في

الليل وظلام النهار متضحٍ اً (1)

قال: فأخذ الجماعة في العجب مما اتفق فيهما من اضطراب النظم، واختلال القافية، وعدم الإعراب، ومخالفة أوضاع اللغة، وتناقض المعنى وفساده، والتخبيط في التاريخ

(2)

ثم مضى في الشرح فقال: قال الشارح عفا الله عنه: نبدأ أولاً بما في البيتين من اللغة، وثانياً بما فيهما من الإعراب، وثالثاً بما

(1) لعل الله كشف للصفدي طرفاً من مستقبل الأدب، فجعله يقرأ ما يُنشَر في أيامنا من الكلام على أنه شعر، والذي لا يختلف عن هذين البيتين اللذين أوردهما! هذا الشعر الذي تعب أخونا الأستاذ الفاضل أكرم زعيتر في وضع الأسماء له. وكثرة الأسماء ليست دائماً دليلاً على شرف المسمَّى، فالقط له أكثر من خمسين اسماً، ثم لم يكن إلا قطاً، ما صار نمراً ولا أسداً.

(2)

قلت: فكيف لو قرؤوا شعر الحداثة الذي تنشره الصحف على أنه هو الشعر لا ما رواه الرواة وأودعوه الكتب وملؤوا به الدواوين؟

ص: 115

فيهما من التاريخ وتقدير المعنى، ورابعاً بما فيهما من البديع، وخامساً في الكلام على ما يتعلق بعَروضهما، وسادساً بما يتعلق بعلم القافية.

القول في اللغة:

قوله «بَكْتوت» : هو اسم علم مركب من اللغة العربية والتركية، بَكْ بالعربي وتوت بالتركي، ومعناهما أمير توت. ومن قال إن معنى ذلك بالعربية أمير النيروز فلا يتأتى له ذلك، إلا إن كان النيروز في شهر توت، على ما ذكره السخاوي في «سمع الكيان» .

قوله «امرأة» : المرأة مشتقة من المِرآة، وهي التي يرى الإنسان فيها وجهه إذا كانت في جيبه.

قوله «جارية» : فيها قولان، منهم من قال: هي السّاقية لأنها تجري من أسفل إلى فوق، ومنهم من قال هي في مقابلة المملوك.

قوله «الفضل» : هو كل شيء ناقص، ومنه سُمّي عبد الرحيم كاتب مروان بالفاضل لأنه كان قصيراً. وفي أمثال بُزُرْجمِهْر:«لأمرٍ ما جدع قصيرٌ أنفَه» .

قوله «كان» : معلوم أنها للاستقبال، وسيأتي الكلام عليها في الإعراب.

قوله «الشعير» : معروف أنه من فواكه الآدميين، ولا يوجد إلا في جزرات الهند بالمغرب في الليل دون النهار صيفاً.

ص: 116

قوله «في الليل» : الليل معروف، وهو من الزوال إلى أذان العصر في العُرف، وفي اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها

إلخ.

القول في الإعراب:

«لو» : حرف يجرّ الاسم ويكسر الخبر على ما ذكر الرمّاني في «شرح طبيعي الشفا» والكسائي في «رموز الكنوز» . هذا مذهب الكوفيين، والصحيح أنها من الأفعال الناقصة التي لا عمل لها، وإنما قلنا إنها فعل ناقص لأنها كانت في الأصل «لوى» ، فنقصت حرفاً، وإنما قلنا إنها لا عمل لها لأنها متى نقصت ضعفت عن العمل، هذا الذي ذهب إليه إقليدس وأرشميدس في مخارج الحروف وبرهنّاه مستشهدين على ذلك بقول الشمّاخ في رائيّته

إلخ.

«أكل» : فعل مضارع، لأن في أوله أحد الزوائد الخمسة وهو الهمزة، إنما قلنا بزيادتها لأنه لا يصحّ تجريدها، تقول: كل شيء.

«الشعير» : الألف واللام أصلية، وهي نكرة إن قلنا بأنها أداة التعريف، ومعرفة إذا قلنا بأصليّتها، ذكر ذلك المبرَّد في كتاب ديسقوريدوس في باب النعت، وهو ها هنا مرفوع على الحال.

إلى أن قال: «في» : اسم، لأنه يَحسن دخول حرف الجر عليه، تقول: انتقل من الشمس إلى فيء الظل. ودخول الألف واللام، تقول: هذه الدراهم مبلغ ألفي درهم. والإضافة، تقول: أعجبني حسن فيك. والتنوين أيضاً، تقول: هذا المال فيءٌ

ص: 117

للمسلمين

وعلى الجملة فما للنحاة في الأسماء كلمة تدخلها علامات الاسم كلها إلاّ «في» ، وهي ممنوعة من الصرف لأنه اجتمع فيها من العلل أكثر مما اجتمع في أذربيجان

إلخ.

* * *

والقطعة الموجودة من الكتاب كلها على هذا النمط، فيها طرافة وفيها غرابة وفيها مهارة، أكتفي بما نقلته عنها ورويته منها لأنه شيء لا يهمّ إلا الخاصة من القراء، وأعتذر إلى غيرهم من إيرادها والتطويل فيها، وأرجو أن يهتمّ أحد الطلاب الذين يُعِدّون لشهادة العالمية (الدكتوراة) بهذا الكتاب ويفتشوا عنه ويستقرئوا هذا النوع من الأدب، فهو موضوع جيد لرسالة مبتكَرة (1).

* * *

(1) حين نشر الشيخ رحمه الله هذه المقالة في صحيفة «الشرق الأوسط» سنة 1987 اقتصر منها على هذا الجزء اليسير، وفي الأصل الذي نشره في مجلة «الرسالة» سنة 1935 تطويل وزيادة، وفيها أيضاً تعليقات وضّح فيها موطن الخطأ في كل لفظة وردّها إلى الصواب ليفهم القارئ وجه الطرفة فيها. وقد أورد طرفاً من ذلك في هذه المقالة، لكنني جرّدتها منه هنا لأنها ستأتي كاملة مع تعليقاته عليها في موضع آخر من هذا الكتاب بإذن الله، فلم أجد حاجة إلى التكرار (مجاهد).

ص: 118