الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الدَّلِيلُ الأَوَّلُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]
فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .
فَقَوْلُهُ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} تَعْلِيقٌ لِلْحُكْمِ بِكَوْنِهِمْ يُقَاتِلُوْنَنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا عِلَّةَ الأَمْرِ بِالقِتَالِ (1).
= منها، فلا يجوز قتل الصبي والمجنون؛ لأن القلم مرفوع عنهما، فلا ذنب لهما وهذه العلة لا ينبغي أن يشك فيها في النهي عن قتل صبيان أهل الحرب، وأما العلة المشتركة بينهم وبين النساء، فكونهم ليسوا من أهل القتال على الصحيح الذي هو قول الجمهور).
(1)
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (2/ 515): (فإنما يقاتل من كان ممانعًا عن ذلك، وهم أهل القتال، فأما من لا يقاتل عن ذلك فلا وجه لقتله؛ كالمرأة والشيخ الكبير والراهب ونحو ذلك). وقال أيضًا في الصارم المسلول (2/ 207): (ثم إنه كتب عليهم القتال مطلقًا، وفسره بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} الآية، فمن ليس من أهل القتال لم يؤذن في قتاله).
ثُمَّ قَالَ: {وَلَا تَعْتَدُوا} ، والعُدْوَانُ: مُجَاوَزَةُ الحدِّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قِتَالَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا عُدْوَانٌ (1)، ويدُلُّ عَلَيهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا، فَدَلَّ عَلَى أنَّه لا يحوز الزِّيَادَة.
وَقُوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ، وَلم يَقُلْ: قَاتِلُوْهُمْ، أَمْرٌ بِقَتْلِ مَنْ وُجِدَ مِنْ أَهْلِ القِتَالِ حَيثُ وُجِدَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ طَائِفَةٍ مُمتنِعَةٍ.
ثُمَّ قَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ، وَالْفِتنَةُ: أَنْ يُفْتَنَ المُسْلمُ
(1) قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (2/ 513): (إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، فأمر بقتال الذين يقاتلون، فعلم أن شرط القتال كون المقاتل مقاتلًا) وقال في السياسة الشرعية ص (104): (لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}).
عَنْ دِينِهِ، كما كَانَ المُشْرِكُوْن يَفْتِنُونَ مَنْ أَسْلَمَ عَنْ دِينِهِ (1)؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالى:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُوْنُ: إِذَا اعْتَدَوْا عَلَى المُسْلِمِين، وَكَانَ لهمْ سُلْطَانٌ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ قِتَالُهُمْ (2)، حَتَّى لا تَكُوْنَ فِتْنَةٌ، حَتَّى لا يَفْتِنِوا مُسْلِمًا، وَهَذَا يَحْصُلُ بِعَجْزِهِمْ عَنْ القِتَالِ، وَلَمْ
(1) قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (2/ 514 - 515): (وذلك لأن المقصود بالقتال أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، وأن لا تكون فتنة، أي: لا يكون أحد يفتن أحدًا عن دين الله، فإنما يقاتل من كان ممانعًا عن ذلك، وهم أهل القتال، فأما من لا يقاتل عن ذلك فلا وجه لقتله؛ كالمرأة، والشيخ الكبير، والراهب، ونحو ذلك).
(2)
قلت: وهذا الوجوب يتعين على جميع المسلمين يوم أن كانت الدولة الإسلامية واحدة، وكان واليها واحدًا بحيث يقاتل تحت لوائه، أما في هذا العصر الذي تعددت فيه الولايات، وأصبحت كل دولة لها ولي أمرها المستقل في الحكم والسياسة والنظام، فإن الوجوب يكون وجوبًا عينيًا متحققًا في أهل ذلك البلد الذي اعتدي عليه، ولا يعذر أحد منهم بتركه، أما في حق غيرهم فهو واجب أيضًا لكن على الكفاية، ما لم يترتب عليه مفسدة ظاهرة متحققة، فإن ترتب عليه ما ذكر، فإن لولي الأمر فعل الأصلح للإسلام والمسلمين.
يَقُلْ: وَقَاتِلُوْهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوْا (1).
وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ، وَهَذَا يَحْصُلُ إِذا ظهَرَتْ كَلِمَة الإِسلامِ، وَكَانَ حُكْمُ الله وَرَسوْلِهِ غَالِبًا، فَإِنَّه قَدْ صَارَ الدِّينُ للهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أنَّا إِذَا قَاتَلْنَا أَهْلَ الكِتَاب، فَإِنَّا نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى لا تَكُوْنَ فِتْنَةٌ، ويكُوْنَ الدِّينُ كُلُّهُ لله، وَهَذَا المَقْصُوْدُ يَحْصُلُ إَذَا أَدَّوا
(1) قال شيخ الإسلام في منهاجه (8/ 509 - 510): (وهؤلاء وجد فيهم أحد الأمرين القتال أو الإسلام، وهو سبحانه لم يقل: (تقاتلونهم أو يسلمون) إلى أن يسلموا، ولا قال:(قاتلوهم حتى يسلموا)؛ بل وصفهم بأنهم يقاتلون أو يسلمون، ثم إذا قوتلوا فإنهم يقاتلون كما أمر الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). وقال أيضًا في الموضع السابق (8/ 516):(وقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} وقال: {فَإِنْ تَابُوا}، ولم يقل: قاتلوهم حتى يتوبوا). وقال أيضًا في الصفدية (2/ 321): (وكانوا قد دعوا عام الحديبية إلى قتال من يقاتل أو يعاهد وبعد ذلك يدعون إلى قتال من يقاتلون أو يسلمون، ولم يقل أو يسلموا فإنه كان يكون المعنى حتى يسلموا، وقتالهم لا يجب إلى هذه الغاية).
الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَكَانُوا صَاغِرِين (1).
وَقوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوْا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّي رَسُوْلُ الله، فَإِذَا فَعَلُوْا ذَلِكَ عَصَمُوْا مِنِّي دِمَاءَهمْ وَأَمْوَالَهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله"(2). هُوَ ذِكْرٌ لِلْغَايَةِ الَّتِي يُبَاحُ قِتَالُهُمْ إِلَيهَا، بِحَيثُ إِذَا فَعَلُوْهَا حَرُمَ قِتَالهمْ.
وَالمَعْنَى: أَنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِالقِتَالِ إِلَّا إِلى هَذِهِ الغَايَةِ.
ليسَ المُرَادُ: أَنِّي أُمِرْتُ أن أُقاتِلَ كُلَّ أحَدٍ إِلَى هَذه الغَايَة (3)، فَإِنَّ
(1) قال شيخ الإسلام في الصفدية (2/ 321): (إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فقد قوتلوا القتال المأمور به). وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (1/ 79): (والمقصود: إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، وليس في إبقائهم بالجزية ما يناقض هذا المعنى، كما أن إبقاء أهل الكتاب بالجزية بين ظهور المسلمين لا ينافي كون كلمة الله هي العليا وكون الدين كله لله).
(2)
أخرجه البخاري (ح/ 25، 392)، ومسلم (ح / 20، 21).
(3)
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (8/ 516): (وقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" حق، فإن من قال لا إله إلا الله لم يقاتل بحال، ومن =
هَذَا خِلافُ النَّصِّ والإِجْمَاعِ.
فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا قَطٌ، بَلْ كَانَت سِيرتُهُ أَنَّ مَنْ سَالمَهُ لَمْ يُقَاتِلْهُ (1).
= لم يقلها قوتل حتى يعطى الجزية، وهذا القول هو المنصوص صريحًا عن أحمد، والقول الآخر الذي قاله الشافعي ذكره الخرقي في مختصره، ووافقه عليه طائفة من أصحاب أحمد). وقال أيضًا في الصفدية (2/ 321):(وقتالهم لا يجب إلى هذه الغاية؛ بل إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فقد قوتلوا القتال المأمور به).
(1)
قال ابن القيم في هداية الحيارى (1/ 12): (ولم يكره أحدًا قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالًا لأمر ربه سبحانه، حيث يقول:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ، وهذا نفي في معنى النهي، أي: لا تكرهوا أحدًا على الدين .. والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار فلا يكرهون على الدخول في الدين؛ بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية
…
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أنه لم يكره أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيمًا على هدنته لم ينقض عهده؛ بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له
…
ولما قدم المدينة صالح اليهود، وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم، وكذلك لما هادن قريشًا عشر سنين، لم يبدءهم بقتال حتى بدؤوا هم بقتاله ونقضوا عهده، فعند ذلك غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحد، ويوم الخندق، ويوم بدر أيضًا هم جاؤوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم، والمقصود: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحدًا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارًا وطوعًا).
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (1/ 79): (القتل إنما وجب في مقابلة الحراب لا في مقابلة الكفر، ولذلك لا يقتل النساء، ولا الصبيان، ولا الزمنى، والعميان، ولا الرهبان، الذين لا يقاتلون؛ بل نقاتل من حاربنا، وهذه كانت سيرة رسول الله في أهل الأرض، كان يقاتل من حاربه إلى أن يدخل في دينه، أو يهادنه أو يدخل تحت قهره بالجزية، وبهذا كان يأمر سراياه وجيوشه إذا حاربوا أعداءهم، كما تقدم من حديث بريدة، فماذا ترك الكفار محاربة أهل الإسلام وسالموهم، وبذلوا لهم الجزية عن يد وهم صاغرون كان في ذلك مصلحة لأهل الإسلام وللمشركين، أما مصلحة أهل الإسلام: فما يأخذونه من المال الذي يكون قوة للإسلام مع صغار الكفر وإذلاله، وذلك أنفع لهم من ترك الكفار بلا جزية، وأما مصلحة أهل الشرك: فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه أو بلغتهم أخباره فلا بد أن يدخل في الإسلام بعضهم، =
وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ والإِجْمَاعِ: أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ والمَجُوْسِ إِذَا أَدَّوْا الجِزْيةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُوْنَ حَرُمَ قِتَالهمْ (1).
وَقَد اِدَّعَى طَائِفَةٌ أَنَّ هَذِهِ الآيةَ مَنْسُوْخَةٌ، يَعْنِي قَوْلَه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} .
قَالَ أبوْ الفَرَجِ (2): اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ: هَلْ هَذِهِ الآيَة مَنْسُوْخَة أَمْ
= وهذا أحب إلى الله من قتلهم).
(1)
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (8/ 514): (ولما أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس، واتفق المسلمون على أخذها من أهل الكتاب والمجوس، وتنازع العلماء في سائر الكفار على ثلاثة أقوال، فقيل: جميعهم يقاتلون بعد ذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون إذا لم يسلموا، وهذا قول مالك، وقيل: يستثنى من ذلك مشركوا العرب، وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وقيل: ذلك مخصوص بأهل الكتاب ومن له شبهة كتاب، وهو قول الشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه، والقول الأول والثاني متفقان في المعنى).
(2)
انظر: زاد المسير (1/ 197).
لا؟ عَلَى قَوْلَينِ: أَحَدُهُمَا: بِأَنَّهَا مَنْسُوْخَةٌ، واخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا القَوْل في المَنْسُوْخِ مِنْهَا عَلَى قَوْلَينِ:
أَحَدُهُمَا: أنَّهُ أَوَّلُها، وَهُوَ قَولهُ:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} .
قَالُوْا: وَهَذَا يَقْتَضي أَنَّ القِتَالَ مُبَاحٌ فِي حَقِّ مَنْ قَاتَلَ مِنَ الكُفَّار، وَلا يُبَاحُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَهَذَا مَنْسُوْخٌ بِقَوْلِهِ:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} .