المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[تفسير قوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم}] - قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌الوقفة الأولى

- ‌الوقفة الثانية

- ‌الوقفة الثالثة

- ‌الوقفة الرابعة

- ‌الوقفة الخامسة

- ‌الوقفة السادسة

- ‌الوقفة السابعة

- ‌الوقفة الثامنة

- ‌الوقفة التاسعة

- ‌الوقفة العاشرة

- ‌ أسباب دراسة هذه الرسالة المختصرة:

- ‌ تحقيق نسبة أصل الرسالة المختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية:

- ‌ تحقيق صحة الرسالة المختصرة، وأنها منقولة عن أصل شيخ الإسلام ابن تيمية في قتال الكفار:

- ‌مراد شيخ الإسلام في هذه الرسالة المختصرة:

- ‌عنوان الرسالة المختصرة:

- ‌النسخ الخطية للرسالة المختصرة

- ‌منهجي في الدراسة:

- ‌منهجي في التحقيق:

- ‌نماذج مصورة للنسخ الخطية

- ‌فَصْلٌ في قِتَالِ الكُفَّارِهَل هُوَ سَبَبُ المُقَاتَلَة، أَو مُجَرَّدُ الكُفْرِ

- ‌[الدَّلِيلُ الأَوَّلُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[بَيَانُ مَعْنَى الاعْتِدَاء، وَأنَّهُ غَيرُ مَنْسُوخٍ]

- ‌[تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}]

- ‌[بَيَانُ مَعْنَى الاعْتِدَاءِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّالِثُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الرَّابِعُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الخَامِسُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ السَّادِسُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ السَّابِعُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّامِنُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[مُعَاهَدَةُ الكُفَّارِ وَمُهَادَنَتُهُمْ]

- ‌[المُرَادُ بِالْأَشْهُرِ الحُرُمِ]

- ‌[الجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ الكُفَّارِ]

- ‌[مُقَارَنَةٌ بَينَ شِرْكِ المَجُوسِ وَشِرْكِ العَرَبِ]

- ‌[أَصْلُ الشِّرْكِ فِي العَالَمِ]

- ‌[الحُكْمُ إِذَا نَقَضَ الكُفَّارُ العَهْدَ]

- ‌[الدَّلِيلُ الأَوَّلُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كُفْرِهِ]

- ‌[مُنَاقَشَةُ قَولِ مَنْ يَقُولُ: يُقْتَل الكَافِرُ لمُجَرَّدِ كفْرِهِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كفْرِهِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّالِثُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كُفْرِهِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الرَّابعُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كُفْرِهِ]

- ‌[قَتْلُ الكَافِرِ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِالمُسْلِمِيْنَ فَسَادٌ لَا يُحْبُهُ اللهُ وَلَا رَسُوْلُهُ]

- ‌[قَتْلُ الآدَمِيِّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ بَعْدَ الكُفْرِ]

- ‌[مُنَاقَشَةُ بَعْضُ الإِعْتِرَاضَاتِ]

- ‌[المُوْجِبُ لِلْقَتْلِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الخَامِسُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كُفْرِهِ]

- ‌[الجِزْيَةُ: تَعْرِيْفُهُا، المُرَادُ بِهَا، مِقْدَارُهُا]

- ‌[سَبَبُ وَضْعِ الجِزْيَةِ]

- ‌الخَاتِمَةُ

الفصل: ‌[تفسير قوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم}]

[تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}]

وَقَوْلهُمْ: هَذِهِ تَقْتَضِي أَنَّ القِتَالَ مُبَاحٌ فِي حَقِّ مَنْ قَاتَل مِنَ الكُفَّار، وَلا يُبَاحُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَهَذَا مَنْسُوْخٌ بِقَوْلِهِ تَعالى:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} .

يُقَالُ: قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} . مَذْكُوْرٌ فِي مَوْضِعَينِ:

أَحَدُهُمَا: هَذَا الموْضِعُ، وَهُوَ قَولُهُ:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيثُ أَخْرَجُوكُمْ} ، وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيثُ أَخْرَجُوكُمْ} .

فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى هَؤُلاءِ الَّذِين يُقَاتِلُونَ المُؤْمِنِينَ، هَمُ الَّذِين قَالَ {وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ، وَهَذَا لا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ؛ بَلْ مَنْ كَانَ مِنَ المُحَارِبِينَ المُقَاتِلِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلْ حَيثُ ثَقِف، وَلَيس مِنْ حُكْمِهِ أَنْ لا يُقَاتَلَ إِلَّا فِي حَالَ قِتَالِه، بَلْ مَتَى كَانَ مِنْ أَهْلِ القِتَالِ

ص: 102

الَّذي يُحِيفُ المُسْلِمِينَ، وَمنْ شأَنِهِ أَنْ يُقَاتِلَ، قُتِل قَائِمًا، أَوْ قَاعِدًا، أَوْ نَائِمًا.

وَهُوَ يُقْتَلُ أَسِيرًا، فَقَدْ قَتَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَيرَ وَاحِدٍ بَعْدَ الأَسْر، مِثْل: عُقْبَة بنِ أَبِي مُعَيطٍ، وَالنَّضْرِ بنِ الحارِثِ (1)، وَحَكَّمَ سَعْدَ بنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيظَةَ - لمَّا نَزَلُوْا - أَنْ يَقْتُلَ مُقَاتِلَهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيهِمْ، فَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ، وَكَانُوْا مِائَتَين (2).

(1) انظر: الصارم المسلول (2/ 287، 279، 280، 500، 508).

(2)

انظر: الفتاوى (33/ 40)، والصارم المسلول (2/ 477)، وكتب في هامش المطبوعة:(الذي في المغازي وكتب السير: أنهم كانوا ستمائة، أو أكثر إلى تسعمائة) وانظر: الطبقات الكبرى (2/ 74)، وزاد المعاد (3/ 135).

ص: 103

ثُمَّ ذَكَرَ رحمه الله حَدِيثَ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شُئِلَ عَنْ أَهْلِ الدَّارِ مِنْ المُشْرِكِينَ، يَبِيتُوْنَ فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ؟ فَقَالَ:"هُمْ مِنْهُمْ"(1).

قَالَ: وَهَذَا لا يُنَاقِضُ نَهْيَهُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَان، فَإِنَّ هَذَا إِذَا أُصِيبُوْا بِغَيرِ تَعَمُّدٍ لَهمْ، وَذَاك إِذَا تَعَمَّدُوْا، فَإِنَّهُمْ لَيسُوْا كَصِبْيَانِ المُسْلِمِين وَذُرِّيَّتَهُمْ، وَلا كَأَهْلِ العَهْد، فَإِنِّ لهِؤُلاءِ عِصْمَةً مَضْمُوْنَةً، وَمُؤْتَمَنَةً بِالأَيمَانِ وَالأَمَانِ.

وَنِسَاءُ أَهْلِ الحَرْبِ وِصِبْيَانُهُمْ لِيسَ لَهُمْ عِصْمَةٌ مَضْمُوْنَةٌ، وَلَكِنْ لا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ عَمْدًا، إِذَا كَانوْا لَيسُوا مِنْ أَهْلِ القِتَالِ.

وِإِذَا قُتِلُوْا فِي الحِصَار وَالبَيَاتِ، فَلَيسَ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَدَعُوْا

(1) أخرجه البخاري (ح/ 2850)، ومسلم (ح/ 1745) وغيرهما.

ص: 104

مَا أُمِرُوْا بِهِ مِنْ الجِهَادِ لِئَلَّا يُصَابَ مِثْل هَؤُلاءِ (1).

(1) كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام شيخ الإسلام هنا ينصب فيما لو (حاصر) المسلمون (الكفار فقط) في حال الحرب، أما أن يقاس كلامهما ويحمل على تجويز شن الحرب على معسكر المسلمين في بلاد الإسلام، واستحلال الخروج على إمام المسلمين، وكذلك استهداف المباني المدنية، أو السكنية، أو التجارية، مما يكون فيها جملة من المسلمين أو بعضهم، أو فيها جملة من المعاهدين - مما لم يثبت أنه قاتل بيد أو لسان - وتشبيه ذلك بمسألة التترس، فهذا من القياس الفاسد، والرأي الكاسد، ومن الضلال المبين الذي يعلمه كل منصف متبع للحق، قال ابن عبد البر بعد أن أورد هذا الحديث في كتابه الإستذكار (5/ 25):(حديث الصعب بن جثامة وما كان مثله من التبييت والغارة، فليس فيه ذكر مسلم يتترس به، وقول مالك أصح ما قيل في ذلك؛ لتحريم الله دم المسلم تحريمًا مطلقًا لم يخص به موضعًا من موضع) قلت: وأعلم - رعاك الله - أن من مسالك أهل الأهواء والبدع اتباع المتشابه من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم، وترك المحكم، قال شيخ الإسلام في الكلام عن سبب ضلال بني آدم، كما الجواب الصحيح:(2/ 715): (ومما ينبغي أن يعلم أن سبب ضلال النصارى، وأمثالهم من الغالية، كغالية العُبَّاد، والشيعة

ألفاظ متشابهة، مجملة، مشكلة منقولة عن الأنبياء، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة، =

ص: 105

فَمَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ، مَنْسُوْخٌ بِقَوْلِهِ:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ، - إِنْ كَانَ قَدْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ:{الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أَنَّهُمْ لا يُقْتَلُوْن إِلَّا حَالَ قِتَالهِمْ - فَقَدْ غَلِطَ فِي فَهْمِ الآيَة، وَكَيفَ تَكُوْنُ مَنْسُوْخَة بِقَوْلِهِ:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} ! ! .

= وتمسكوا بها، وهم كلما سمعوا لفظًا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم، وإن لم يكن دليلًا على ذلك) إلخ.

وقال أيضًا في الفتاوى (3/ 62 - 63): (ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهى ما يشتبه فيها الحق والباطل، حتى تشتبه على بعض الناس ومن أوتى العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل والقياس الفاسد، إنما هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشىء في بعض الأمور بما لا يشبهه فيه، فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الإشتباه، والقياس الفاسد، وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء، ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه، وإفتراق من وجه، فلهذا كان ضلال بنى آدم من قبل التشابه، والقياس الفاسد لا ينضبط

وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات).

ص: 106

اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُوْنَ قَائِلُ هَذَا القَوْل مِمَّنْ يُسَمِّي تَقْييدَ المُطْلَقِ وَتَخْصِيصَ العَامِ نَسْخًا، حَتَّى قَدْ يُسَمِّي الاسْتِثْنَاء نَسْخًا، وَهَذَا اصْطِلَاحُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَف، فَكُلُّ آيَةٍ رَفَعَتْ مَا يُظَنُّ مِنْ دَلالَةٍ أُخْرَى قَالُوْا: إِنَّها نَسَخَتْهَا، وَتَسْمِيةُ هَذَا نَسْخًا مُطَابِقٌ لِلغَة، كَمَا سَمَّى اللهُ رَفْعَ مَا أَلْقَى الشَّيطَانُ نَسْخًا بِقَوْلِهِ:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} (1).

(1) قال شيخ الإسلام في الفتاوى (13/ 272): (قال طائفة من المفسرين المتقدمين: إن المحكم هو الناسخ، والمتشابه المنسوخ، أرادوا - والله أعلم - قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}، والنسخ هنا: رفع ما ألقاه الشيطان، لا رفع مما شرعه الله، وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد وهو أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة، ومقابل المنسوخ أخرى، والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف العام كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح، كتخصيص العام، وتقييد المطلق، فإن هذا متشابه؛ لأنه يحتمل معنيين) إلى أن قال: (وتارة يكون الأحكام في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع، وهو اصطلاحي، أو =

ص: 107

وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُوْلُ: قَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (1). مَعَ أَنَّ هَذِهِ فِي آلِ عِمْرَان، وَهِي

= يقال: - وهو أشبه بقول السلف - كانوا يسمون كل رفع نسخًا سواء كان رفع حكم، أو رفع دلالة ظاهرة).

(1)

قال شيخ الإسلام في الفتاوى (13/ 29 - 30): (ولم يكن السلف يقبلون معارضة الآية إلا بآية أخرى تفسرها وتنسخها، أو بسنة الرسول تفسرها، فإن سنة رسول الله تبين القرآن، وتدل عليه، وتعبر عنه، وكانوا يسمون ما عارض الآية ناسخًا لها، فالنسخ عندهم: اسم عام لكل ما يرفع دلالة الآية على معنى باطل، وإن كان ذلك المعنى لم يرد بها، وإن كان لا يدل عليه ظاهر الآية؛ بل قد لا يفهم منها، وقد فهمه منها قوم فيسمون ما رفع ذلك الإبهام والإفهام نسخًا، وهذه التسمية لا تؤخذ عن كل واحد منهم، وأصل ذلك من إلقاء الشيطان ثم يحكم الله آياته فما ألقاه الشيطان في الأذهان من ظن دلالة الآية على معنى لم يدل عليه سمى هؤلاء ما يرفع ذلك الظن نسخًا، كما سموا قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ناسخًا لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ناسخًا لقوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}، وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه).

ص: 108

مَدَنِيَّةٌ، وَتِلْكَ فِي التَّغَابُنِ وَهِي مَكِّيَّةٌ، أَوْ بَعْضُهَا.

والنَّسْخُ هُوَ: الرَّفْعُ وَالإِزَالَةُ (1)، فَإِذَا جَاءَتْ آيَةٌ رَفَعَتْ مَا يُظَنُّ دَلالَةَ تِلْكَ الآيَةِ عِلَيهَا كَانَتْ رَفْعًا لِهَذَا الظَّنِّ، وَهَذَا بَيَانٌ.

وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ (2) أَنَّ النَّسْخَ هُوَ: بَيانُ مَا لَمْ يَرِدْ بِاللَّفْظِ العَامِ فِي الأزْمِانِ مَعْ تَرِاخِيهِ عَنْهُ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّخْصِيص، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّرَاخِي.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَابُدَّ عِنْد نُزُوْلِ المَنْسُوْخِ مِنْ الاسْتِعَارَةِ بِالنَّاسِخ، وَعَلَى هَذَا: فَالنَّسْخُ عِنْد هَؤلاءِ مِنْ جِنْسِ تَقْيِيدِ المُطْلَق، وَهُوَ بَيَانُ مَا لَمْ يَرِد بِالخِطَاب، وَهَذَا النَّسْخُ لا يُنْكِر أَحَدٌ، لا اليَهُوْدُ ولا غَيرُهُمْ.

(1) انظر: روضة الناظر (1/ 69).

(2)

منهم: القاضي أبو بكر الباقلاني، والصيرفي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والغزالي، والآمدي، وابن الانباري وغيرهم. انظر:(إرشاد الفحول) ص (312).

ص: 109

وَتَسْمِيَةُ هَذَا النَّوْعِ نَسْخًا جَائِزٌ لا نِزَاعَ فِيه، لَكِنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُوْلُ:(لا نَسْخَ إِلَّا هَذَا)، هُوَ مَحَلُّ النِّزَاع، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ الأُخْرَى تَقَوْلُ فِي النَّسْخِ هُوَ: رَفْعٌ لِلحُكْمِ بَعْد شَرْعِهِ؛ وَلهِذَا يَجُوْزُ النَّسْخُ قَبْلَ مَجِيءِ الوَقْتِ وَقَبْلَ التَّمَكُّن، كَمَا نَسَخَ اللهُ أَمْرَ ابْرَاهِيم بِالذَّبْحِ قَبْلَ التَّمَكُّن، وَنَسَخَ الصَّلَوَاتِ مِنَ الخَمْسِينَ إِلَى خَمْسٍ قَبْلَ مَجِيءِ الوَقْت، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الفُقَهَاء، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الكَلَامِ كَالقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْن عَقِيلٍ، وَالغَزَّالِيِّ، وأَبَي مُحَمَّدٍ المَقْدِسِيّ، وَغَيرِهِمْ (1).

وَالْقَوْلُ الأَوْلُ، هُوَ قَوْلُ المُعْتَزِلَة، وَقَدْ وَافَقَتْهُمْ عَلِيهِ طَائِفَةٌ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُتَكَلِّمِين، كَأَبِي الحَسَنِ الجَزَرِيّ، وَالقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَكَأَبِي إِسْحَاق الأَسْفَرَايِنِيّ، وَأَبِي

(1) انظر: روضة الناظر (1/ 75)، وإرشاد الفحول ص (315).

ص: 110

المَعَالِيِّ (1).

لَكِنَّ هَؤُلاءِ تَنَاقَضُوْا، فَإِنَّهُمْ يُجَوّزُوْنَ النَّسْخَ قَبْلَ مَجِيءِ الوَقْت، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَكُوْنُ بِرَفْعِ جَمِيعِ مَدْلُوْلِ الخِطَابِ (2)، وَطَائِفَةٌ طَرَدَتْ قَوْلَهَا كَأَبِي الحَسَنِ الجَزَرِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغِيرِه، فَإِنَّ هَؤُلاءِ وَافَقُوا المُعْتَزِلَةَ فِي المَنْعِ مِنَ النَّسْخِ قَبْل التَّمَكُنِ مِنَ الفِعْل، وَقَبْلَ

(1) قال شيخ الإسلام في الفتاوى (14/ 146): (والمعتزلة تنكر الحكمة الناشئة من نفس الأمر؛ ولهذا لم يجوزوا النسخ قبل التمكن، وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب أحمد، وغيرهم كأبي الحسن التميمي). وانظر الفتاوى (19/ 290).

(2)

قال شيخ الإسلام في الفتاوى (17/ 198): (فالمعتزلة القدرية: .. لا يجوز عندهم أن يأمر وينهى لحكمة تنشأ من الأمر نفسه؛ ولهذا أنكروا جواز النسخ قبل التمكن من فعل العبادة، كما في قصة الذبيح ونسخ الخمسين صلاة التي أمر بها ليلة المعراج إلى خمس، ووافقهم على منع النسخ قبل وقت العبادة طائفة من أهل السنة المثبتين للقدر؛ لظنهم أنه لابد من حكمة تكون في المأمور به والمنهى عنه فلا يجوز أن ينهى عن نفس ما أمر به، وهذا قياس من يقول: إن النسخ تخصيص في الزمان، فإن التخصيص لا يكون برفع جميع مدلول اللفظ لكنهم تناقضوا).

ص: 111

حُضُوْرِ الوَقْتِ، وَهَذَا فِي الحقِيقَةِ مُوَافَقَةٌ مِنْهُمْ لَمِنْ مَنَعَ النَّسْخَ مِنَ اليَهُوْدِ.

وَمَنْ حُكِيَ عَنْهُ مِنَ المُسْلِمِينَ المَنْعُ مِنَ النَّسْخِ كَأَبِي مُسْلِمٍ الأَصْفَهَانِيِّ (1)، فَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِ إِذَا كَان التَّخْصِيصُ المُتَّصِلُ لا يَمْنَعَهُ أَحَدٌ مِنْ عُقَلاءِ بَنِي آدَمَ.

وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَ البَيَانِ عَنْ مَوْرِدِ الخِطَاب، وَلَا فِي النَّسْخ، كَأَبِي الحُسَينِ البَصْرِيّ، فَإِنَّهُ يَقُوْلُ: لابُدَّ إِذَا وَرَدَ خِطَابٌ - وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَنْسَخَهُ فِيمَا بَعْدُ - أَنْ يُشْعِرَ المُخَاطَبِينَ بِنَسْخِهِ؛ لئَلَّا يُفْضِي إِلَى

(1) قال الآمدي في الأحكام (3/ 127): (وقد اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلًا وعلى وقوعه شرعًا، ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى أبي مسلم الأصفهاني، فإنه منع من ذلك شرعًا وجوزه عقلًا، ومن أرباب الشرائع سوي اليهود).

ص: 112

تَجْهِيلِهِمْ بِاعْتِقَادِهِ (1).

وَالجُمْهُوْرُ يَقُوْلُونَ: مَنِ اعْتَقَدَ تَأْبِيدَهُ بِغَيرِ دَلِيلٍ كَانَ قَدْ فَرَّطَ، وَأُتِيَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ.

فَالَّذِينَ قَالُوْا: هَذَا مَنْسُوْخٌ بِقَوْلِهِ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} قَدْ أَرَادُوْا: أَنَّ قَوْلَهَ: {وَاقْتُلُوهُمْ} بيَّنَ مَعْنَى قَوْلَهُ: {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ، وَنَسَخَ مَا يُظَنُّ مِنْ أَنَّهَمْ لا يُقَاتَلُونَ إِلَّا حَالَ المُسَايَفَة، وَهَذَا مَعْنَى صَحِيحٌ لا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَأَمَّا قَوْلٌ مَنْ قَالَ: {وَلَا تَعْتَدُوا} مَنْسُوخٌ.

فَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الاعْتِدَاءَ هُوَ الظُّلْمُ (2)، وَاللهُ لا يُبِيحُ الظُّلْمَ

(1) قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح (5/ 147): (هل من شرط النسخ الإشعار بالمنسوخ، ولنظار المسلمين فيه قولان، أحدهما: أنه لا بد إذا شرع حكما يريد أن ينسخه، فلا بد أن يشعر المخاطبين بأنه سينسخه؛ لئلا يظنوا دوامه فيكون ذلك تجهيلا لهم. والثاني: لا يشترط ذلك).

(2)

قال شيخ الإسلام في الزهد والورع والعبادة (1/ 28): (والظلم هو الاعتداء).

ص: 113

قَطٌّ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالنَّسْخِ بَيَانُ الاعْتِدَاءِ المُحَرَّم، كَمَا تَقَدَّمَ.

ص: 114