المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[أصل الشرك في العالم] - قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌الوقفة الأولى

- ‌الوقفة الثانية

- ‌الوقفة الثالثة

- ‌الوقفة الرابعة

- ‌الوقفة الخامسة

- ‌الوقفة السادسة

- ‌الوقفة السابعة

- ‌الوقفة الثامنة

- ‌الوقفة التاسعة

- ‌الوقفة العاشرة

- ‌ أسباب دراسة هذه الرسالة المختصرة:

- ‌ تحقيق نسبة أصل الرسالة المختصرة لشيخ الإسلام ابن تيمية:

- ‌ تحقيق صحة الرسالة المختصرة، وأنها منقولة عن أصل شيخ الإسلام ابن تيمية في قتال الكفار:

- ‌مراد شيخ الإسلام في هذه الرسالة المختصرة:

- ‌عنوان الرسالة المختصرة:

- ‌النسخ الخطية للرسالة المختصرة

- ‌منهجي في الدراسة:

- ‌منهجي في التحقيق:

- ‌نماذج مصورة للنسخ الخطية

- ‌فَصْلٌ في قِتَالِ الكُفَّارِهَل هُوَ سَبَبُ المُقَاتَلَة، أَو مُجَرَّدُ الكُفْرِ

- ‌[الدَّلِيلُ الأَوَّلُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[بَيَانُ مَعْنَى الاعْتِدَاء، وَأنَّهُ غَيرُ مَنْسُوخٍ]

- ‌[تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}]

- ‌[بَيَانُ مَعْنَى الاعْتِدَاءِ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّالِثُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الرَّابِعُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الخَامِسُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ السَّادِسُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ السَّابِعُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّامِنُ عَلَى تَحْرِيمِ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ مِنَ الكُفَّارِ]

- ‌[مُعَاهَدَةُ الكُفَّارِ وَمُهَادَنَتُهُمْ]

- ‌[المُرَادُ بِالْأَشْهُرِ الحُرُمِ]

- ‌[الجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ الكُفَّارِ]

- ‌[مُقَارَنَةٌ بَينَ شِرْكِ المَجُوسِ وَشِرْكِ العَرَبِ]

- ‌[أَصْلُ الشِّرْكِ فِي العَالَمِ]

- ‌[الحُكْمُ إِذَا نَقَضَ الكُفَّارُ العَهْدَ]

- ‌[الدَّلِيلُ الأَوَّلُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كُفْرِهِ]

- ‌[مُنَاقَشَةُ قَولِ مَنْ يَقُولُ: يُقْتَل الكَافِرُ لمُجَرَّدِ كفْرِهِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كفْرِهِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الثَّالِثُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كُفْرِهِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الرَّابعُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كُفْرِهِ]

- ‌[قَتْلُ الكَافِرِ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِالمُسْلِمِيْنَ فَسَادٌ لَا يُحْبُهُ اللهُ وَلَا رَسُوْلُهُ]

- ‌[قَتْلُ الآدَمِيِّ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ بَعْدَ الكُفْرِ]

- ‌[مُنَاقَشَةُ بَعْضُ الإِعْتِرَاضَاتِ]

- ‌[المُوْجِبُ لِلْقَتْلِ]

- ‌[الدَّلِيلُ الخَامِسُ عَلَى تَحْرِيمِ قَتْلِ الكَافِرِ لمُجَرَّدِ كُفْرِهِ]

- ‌[الجِزْيَةُ: تَعْرِيْفُهُا، المُرَادُ بِهَا، مِقْدَارُهُا]

- ‌[سَبَبُ وَضْعِ الجِزْيَةِ]

- ‌الخَاتِمَةُ

الفصل: ‌[أصل الشرك في العالم]

[أَصْلُ الشِّرْكِ فِي العَالَمِ]

فَإِنَّ الشِّرْكَ أَصْلُهُ نَوعَانِ (1):

شِرْكُ قَومِ نُوحٍ، وَكَانَ أَصْلُهُ تَعْظِيمَ الصَّالحِينَ المَوتَى وَقُبُورَهُمْ وَالعُكُوفَ عَلَيهَا، ثُمَّ صَوّرَوا تَماثِيلَهُمْ، ثُمَّ عَبَدُوهُمْ.

وَهَذَا النَّوعُ وَاقِعٌ فِي النَّصَارَى، وَلَكِنْ لَا يَصْنَعُونَ أَصْنَامًا

(1) قال شيخ الإسلام في الرد على المنطقيين (1/ 285): (والشرك في بني آدم أكثره عن أصلين أولهما: تعظيم قبور الصالحين، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون [ثانيهما]: الشرك، وهو شرك قوم نوح

وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس، وذكره أهل التفسير والسير من غير واحد من السلف في قوله تعالى:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم. وأن هذه الأصنام صارت إلى العرب، وذكر ابن عباس قبائل العرب التي كانت فيهم مثل هذه الأصنام. والسبب الثاني: عبادة الكواكب، فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب

).

ص: 164

مُجَسَّدَةً (1)، بَلْ مَرْقُومَةً، فَإِنَّ الرُّومَ وَاليُونَانَ قَبْل أَنْ يَدْخُلَ إِلَيهِمْ التَّوحِيدُ ابْتَدَعُوا نَوعًا مِنَ الشِّرْكِ خَلَطُوهُ بِالتَّوحِيد، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.

وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنَ الضُّلَّالِ المُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلَام في نَوعٍ مِنْ ذَلِكَ، مُضَاهَاةٍ لِلنَّصَارَى، وَصَارُوا يُصَلُّونَ إِلَى المَشْرِق، فَجَعَلُوا السُّجُودَ إِلَى جِهَةِ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ بَدَلًا عَنِ (2) السُّجُودِ لَهَا، وَأَينَ هَذَا مِنْ نَهْيِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ عَنِ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْس، وَوَقْتَ

(1) في هامش المطبوعة ما نصه: (لعل الشيخ لم يدخل كنائس النصارى، فإنه لو دخلها لوجد فيها من التماثيل المقدسة، والأصنام المعبودة مثل ما عند غيرهم سواء). قلت: ومثل ذلك قاله في الرد على المنطقيين (1/ 290) فإنه قال: (كان أولئك اليونان والروم يتخذون الأصنام المجسدة التي لها ظل، فاتخذ النصارى الصور المرقومة في الحيطان والسقوف التي لا ظل لها). ومثله أيضًا في الجواب الصحيح (1/ 346).

(2)

في الأصل: (لا من)، ولعل ما أثبته هو الصواب، وانظر: الجواب الصحيح (1/ 346)، والفتاوى (17/ 331).

ص: 165

غُرُوبِهَا لِئَلَّا يُشْبِهُوا مَنْ يَسْجُدُ لَهَا حِينَئِذٍ؟ ! .

وَكَذَلِكَ نَهَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ، يحذِّرُ أُمَّتَهُ مَا فَعَلُوا، لِئَلَّا يُشْبِهُوا مَنْ يَدْعُو أَهْلَ القُبُور، وَيَجْعَلَهُمْ شُفَعَاءَ يَسْتَشْفِعُ بِهِمْ وَقُرْبَانًا يَتَقَرَّبُ بِهِمْ، كَمَا يَفْعَلُهُ النَّصَارَى، فَنَهَاهُمْ عَنْ سَبَبِ الشِّرْكِ الَّذِي كَانَ فِي قَومِ إبْرَاهِيم عَنِ الشِّرْكِ الأَرْضِيِّ وَالسَّمَائِيِّ، سَدًّا لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ (1).

(1) قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 63): (فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب، معللًا ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون، أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسمًا لمادة المشابهة بكل طريق، ويظهر بعض فائدة ذلك: بأن من الصابئة المشركين اليوم ممن يظهر الإسلام يعظم الكواكب، ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه، ويسجد لها وينحر ويذبح

فإذا كان في هذه الأزمنة من يفعل مثل هذا تحققت =

ص: 166

وَالمَجُوسُ مُشْرِكُونَ أَعْظَم مِنْ شِرْكِ النَّصَارَى، وَلِهَذَا كَانَ مَانِيُّ - الذي يَنتسِبُ إِلَيهِ المَانَوِيَّةُ - أَحْدَثَ دِينًا مُرَكَّبًا مِنْ دِينِ المَجُوسِ وَدَينِ النَّصَارَى، أَخَذَ عَنِ المَجُوسِ الأَصْلَينِ: النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، وَخَلَطَهُ بِدِينِ النَّصَارَى، فَكَانَتِ المَانَوِيَّةُ أَكْفَرَ مِنْ النَّصَارَى، وَالعَرَبُ كَانَ شِرْكُهُمْ عِبَادَةَ الأَوثَانِ (1).

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَير: "أَنَّ أَصْنَامَ قَومِ نُوحٍ صَارَتْ إِلَيهِمْ، وَهِي: وُدٌّ، وَسُوَاعٌ، ويَغُوثُ، ويَعُوقُ،

= حكمة الشارع صلوات الله وسلامه عليه في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات؛ سدًّا للذريعة)، ونحوه في الموضع السابق (1/ 334)، وأيضًا في الفتاوى وغيرها.

(1)

قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح (2/ 111): (ولا ريب أن هذا القول سرى إلى النصارى من المجوس؛ لهذا لا ينقلون هذا القول في كتاب منزل ولا عن أحد من الحواريين؛ ولهذا كان المانوية دينهم مركبًا من دين النصارى والمجوس، وكان رأسهم ماني نصرانيًّا مجوسيًا، فالنسب بين النصارى والمجوس، بل وسائر المشركين نسب معروف).

ص: 167

وَنَسْرٌ) (1)، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا قَومًا صَالحِينَ، وَكَانَ شِرْكُهُمْ مِنْ جِنْسِ شِرْكِ قَومِ نُوحٍ بِالصَّالحِين.

وَأَوَّلُ مَنْ نَقَلَ الأَصْنَامَ إِلَى مَكَّةَ: عَمْرُو بن لُحَيٍّ سَيدُ خُزَاعَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِين إبْرَاهِيم، نَقَلَ الأَصْنَامَ مِنَ الشَّامِ مِنْ أَرْضِ البَلْقَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"رَأَيتُ عَمْرَو بنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ"، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الشِّرْكَ وَالتَّحَرِيمَ، فَحَرَّمَ (2) السَّائِبَةَ وَالوَصِيلَةَ (3).

(1) أخرجه البخاري (خ/ 4920).

(2)

في الأصل: (فجعل)، ولعل ما أثبته هو الأقرب.

(3)

قال شيخ الإسلام في الفتاوى (27/ 90): (ويقال: إن أول ما ظهر الشرك في أرض مكة بعد إبراهيم الخليل من جهة عمرو بن لحى الخزاعي الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر أمعاءه في النار، وهو أول من سيب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم قالوا: أنه ورد الشام، فوجد فيها أصنامًا بالبلقاء يزعمون أنهم ينتفعون بها في جلب منافعهم ودفع مضارهم، فنقلها إلى مكة، وسنَّ للعرب الشرك وعبادة الأصنام).

ص: 168

وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ: أَنَّ الَّلَات كَانَ يَلِتُّ السَّوِيقُ لأَهْلِ الطَّائِف، ثُمَّ عَبَدُوهُ، فَشِرْكُ العَرَبِ بِالأَصْنَامِ المَجْعُولَةِ تَمَاثِيل لِلصَّالحِينَ، وَمِنْهَا أَصْنَامٌ جُهِلَ أَهْلُهُا، لَكِنَّ الشِّرْكَ الغَالِبَ فِي أَرْضِ العَرَبِ كَانَ بِالأَصْنَامِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِي جُعِلَتْ تَماثِيلَ لِلصَّالحِينَ، وَلَا يُعْرَفُ فِيهِمْ صَنَمٌ مَشْهُورٌ بَأَنَّهُ طُلْسُمًا لِلشَّمْسِ أَو القَمَرِ أَو نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ شرْكُ غَيرِهِمْ كَالكِلْدَانِيِينَ.

وَالمَجُوسُ شرْكُهُمْ كَانَ عِبَادَة الشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَالنَّاس، وَهَذَا أَعْظُمُ مِنْ عِبَادَةِ الصَّالحِينَ، فَإِنَّ عُبَّادَ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالحِين يَجْعَلُونَهُمْ شُفَعَاءَ وَقُرْبَانًا، كَمَا كَانَتْ العَرَبُ تَقُولُ فِي أَوثَانِهَا.

وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَطْلُبُونَ مِنَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ وَالكَوَاكِبِ الأَفْعَالَ، ويعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُدَبِّرَةٌ لِهَذَا العَالَم، وَلَا يَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهَا إِلَى الله، وَلَا يَتَّخِذُونَهَا شُفَعَاءَ.

فَتبَيَّنَ: أَنَّ شرْكَ المَجُوسِ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ شرْكِ مُشْرِكِي العَرَب، وَكَانُوا يُعَادُونَ أَهْلَ الكِتَابِ كَالنَّصَارَى، وَلَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّةِ المَسِيح،

ص: 169

وَلَا مُوسَى، وَلَا إبْرَاهِيم الخَلِيل.

وَكَانَ العَرَبُ (1) يُعَظِّمُونَ إبْرَاهِيم الخَلِيل، وَهمْ عَلَى بَقَايَا مِلَّتِه، مِثْل: حَجِّ البَيْتِ، وَالخِتَان، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ ذَوَاتِ المَحَارِم، وَكَانُوا يُسَمَّونَ حُنَفَاء، لَكِنْ حُنَفَاءَ مُشْرِكِين، لَيسُوا حُنَفَاءَ مُخْلِصِينَ.

قَالَ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ (2): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن يَحْيَى حَدَّثَنَا العَبَّاسُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بن زُرَيعٍ حَدَّثَنَا سعِيدُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: "الحَنِيفِيَّةُ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، يَدْخُلُ فِيهَا تَحْرِيمُ الأُمَّهَات، وَالبَنَات، وَالخَالَات، وَالعَمَّات، وَمَا حَرَّمَ اللهُ، والخِتَان، فَكَانَتْ حَنِيفِيَّةً فِي الشِّرْك، كَانَوا أَهْلَ الشِّرْك، وَكَانُوا يحرِّمُونَ فِي شِرْكِهِمْ الأُمَّهَات، وَالبَنَات، والخَالَات، وَالعَمَّات، وَكَانُوا يَحُجُّونَ البَيتَ، وينْسُكُونَ المناسِكَ".

(1) في المطبوعة: (وكانوا يعظمون إبراهيم).

(2)

(1/ 242، 4/ 1331).

ص: 170

فَاسْمُ الحُنَفَاءِ فِي الأَصْلِ: لَمِنْ كَانَ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيم، وَهُمْ الصَّابِئُونَ الحُنَفَاءُ، مِثْل: أَولَادِ إسماعيل قَبْلَ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِمُ الشِّرْكَ، كَانُوا عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيم حُنَفَاءَ مُخْلِصِينَ، وَهُمْ مِنَ الصَّابِئِينَ الَّذِين أثْنَى اللهُ عَلَيهِمْ بِقَولِهِ (1){إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية.

فَهَؤُلَاءِ الصَّابِئَةُ مِنَ الحُنَفَاءِ المُخْلِصِينَ، وَالصَّابِئُونَ المُشْرِكُونَ فَيهِمْ كَالَّذِين أَشْرَكُوا مِنَ الحُنَفَاء، كَمَا تَقَدَّمِ (2).

وَأَمَّا المَجُوسُ: فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيءٌ مِنْ آثَارِ الأَنْبِيَاء، بَلْ كَانُوا

(1) في المطبوعة: (يقول) وهو خطأ.

(2)

قال شيخ الإسلام في الرد على المنطقيين (1/ 288): (فإن الصابئة نوعان: صابئة حنفاء موحدون، وصابئة مشركون، فالأولون هم الذين أثنى الله عليهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، فأثنى على من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا من هذه الملل الاربع المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين .. والصابئون الذين كانوا قبل هؤلاء كالمتبعين لملة إبراهيم امام الحنفاء، وهذا بخلاف المجوس والمشركين فإنه ليس فيهم مؤمن).

ص: 171

يَسْتَحِلُّونَ نِكَاحَ ذَوَاتِ المَحَارِم، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَبَائِحِهِمْ وَمُنَاكَحَتِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَيسُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَاب، وَتَكَلَّمُوا فِي جُبْنِهِمْ لأَجْلِ الأَنْفِحَة، لأَنَّ ذَبَائِحَهُمْ كَذَبَائِحِ المُشْرِكِينَ، وَجُبْنُهُمْ كَجُبْنِ المُشْرِكِين؛ وَلِهَذَا لمَّا بَلَغَ أَحْمَدَ أَنَّ أَبَا ثَورٍ يجَعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَاب، ويُبِيحُ ذَبَائِحَهُمْ دَعَا عَلَيهِ أَحْمَدُ، وَذَكَر إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ (1).

(1) قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (1/ 96): (وأما تحريم ذبائحهم ومناكحتهم فاتفاق من الصحابة رضي الله عنهم؛ ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيره على أبي ثور طرده القياس، وإفتاءه بحل ذبائحهم، وجواز مناكحتهم، ودعا عليه أحمد حيث أقدم على مخالفة أصحاب رسول الله، والصحابة كانوا أفقه وأعلم، وأسدَّ قياسًا ورأيًا، فإنهم أخذوا في الدماء بحقنها موافقة لقول رسول الله وفعله، حيث أخذها منهم، وأخذوا في الأبضاع والذبائح بتحريمها احتياطًا، وإبقاء لها على الأصل، وإلحاقًا لهم بِعُبَّاد الأوثان؛ إذ لا فرق في ذلك بين عبَّاد الأوثان وعبَّاد النيران، فالأصل في الدماء حقنها، وفي الأبضاع والذبائح تحريمها، فأبقوا كل شيء على أصله، وهذا غاية الفقه، وأسد ما يكون من النظر). =

ص: 172

وَهَذَا القَولُ قَولٌ مُحْدَثٌ فِي الإِسلَام، وَهُوَ قُولُ أَبِي ثَورٍ، وَدَاوُد، وابنِ حَزْمٍ، وَحُكِيَ قَولًا لِلشَّافِعِيّ، وَجَعَلَ ابنُ حَزْمٍ نَبِيَّهُمْ زَرَادِشْت، وَاحَتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَليٍّ:"أَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ، فَلَمَّا استَحَلُّوا نِكَاحَ ذَوَاتِ المَحَارِمِ رُفِعَ ذَلِكَ الكِتَابُ"(1).

وَالإِمَامُ أَحْمَدُ ضَعَّفَ هَذَا الحَدِيثَ، وَبِتَقْدِير صِحَّتِهِ فَإِذَا رُفِعَ الكِتَابُ، وَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَلَا هُمْ مُسْتَمْسِكِينَ بِشَيءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَاب، وَلَمْ يَكُونُوا خَيرًا مِنَ العَرَبِ المُشْرِكَين، فَإْنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيم.

= وقال ابن كثير في تفسيره (2/ 21): (وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعًا وإلحاقًا لأهل الكتاب؛ فإنهم لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم، خلافا لأبي ثور - إبراهيم بن خالد الكلبي، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي - لما قال ذلك واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه، يعني في هذه المسألة).

(1)

سبق تخريجه.

ص: 173

ثُمَّ لمَّا بَدَّلُوهَا لَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا كَانُوا عَلَيهِ قَبْلُ مِنَ الشِّرْك، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا زَرَادِشْت نَبِيًّا صَادِقًا، بَلِ المَشْهُور عَنْهُ: أَنَّهُ مِنَ الكَذَّابِينَ (1)، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَينِ مِنْ قَبْلِنَا} .

(1) قال العيني في عمدة القاري (19/ 235): (وفي كتاب "الطبقات" لصاعد كانت الفرس أول أمرها موحدة على دين نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن أتى برداسف المشرقي إلى طهمورس ثالث ملوك الفرس بمذهب الحنفاء، وهم الصابئون، فقبله منه وقسر الفرس على التشرع به، فاعتقدوه جميعًا نحو ألف سنة ومائتي سنة إلى أن تمجسوا جميعًا بظهور زرادشت في زمن بستاسف ملك الفرس حين مضى من ملكه ثلاثون سنة، ودعى إلى دين المجوسية من تعظيم النار وسائر الأنوار، والقول بتركيب العالم من النور والظلام، واعتقاد القدماء الخمسة: إبليس والهيولى والزمان والمكان وذكر آخر، فقبل منه بستاسف، وقاتل الفرس عليه حتى انقادوا جميعًا إليه، ورفضوا دين الصابئة، واعتقدوا زرادشت نبيًّا مرسلًا إليهم، ولم يزالوا على دينه قريبًا من ألف سنة وثلاث مائة سنة إلى أن أباد الله عز وجل ملكهم على يد عمر رضي الله تعالى عنه).

ص: 174

والمَجُوسُ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الأُمَم، فَلَو أنزِلَ عَلِيهِمْ كِتَابٌ لَكَانَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَى ثَلاثِ طَوَائِف، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّما أُنْزِلَ عَلَى طَائِفَتَين، وَقَدْ احْتَجَّ بِهَذَا غَيرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَلَكِنْ إِنَّمَا وَقَعَتِ الشُّبْهَةُ فِيهِمْ (1) لِطَائِفِةٍ مِنْ أَهْلِ العِلْم، لمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ الجِزْيَة لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ - وَقَدْ أُخِذَتْ مِنْهُم بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعَ - صَارُوا:

تَارَةً يَقُولُونَ: لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ.

وَتَارَةً يَقُولُونَ: هُمْ مختلَفٌ فِيهِمْ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ.

وَاحْتَجُّوا بِالحَدِيثِ المَرْوِيِّ (2) فِيهِمْ: "سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ

(1) في المطبوعة: (منهم).

(2)

في المطبوعة: (المعروف).

ص: 175

الكِتَابِ" (1).

وَهَذَا الحدِيثُ إِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ، فَإِنَّ جَعْفَرًا رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُوهُ لَمْ يُدْرِكْ عَبْدَ الرَّحْمَن، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ لَفْظِهِ: فَهُوَ يَدَلُّ (2) عَلَى أَنَّهُمْ لَيسُوا مِنْ أَهِل الكِتَاب، لَكِنِ المُرَادُ: أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ

(1) أخرجه عبد الرزاق (6/ 68)، وابن أبي شيبة (12/ 243)، ومالك (1/ 278)، والبزار (3/ 264)، وأبو يعلى (2/ 168)، والشاشي (1/ 288)، والدراقطني (4/ 299)، والبيهقي في الكبرى (9/ 189) من طرق عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وهو منقطع قال الدارقطني بعد أن ذكره في علله (4/ 299):(يرويه جعفر بن محمد واختلف عنه، فرواه مالك من رواية أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عنه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن الحسين، وخالفه أصحاب مالك لم يقولوا فيه: عن جده، وكذلك رواه الثوري، وسليمان بن بلال، وعبد الله بن إدريس، وحفص بن غياث، وأنس بن عياض، وأبو عاصم النبيل عن جعفر بن محمد، ولم يسمع أبو عاصم من جعفر بن محمد غيره، وعبد الوهاب الثقفي، والقاسم بن معن، وابن جريج، وعلي بن غراب، وغيرهم عن جعفر عن أبيه مرسلًا عن عبد الرحمن بن عوف لم يذكروا فيه علي بن الحسين، وهو الصواب).

(2)

في المطبوعة: (دال).

ص: 176

الجِزَيةُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ (1).

ثُمَّ تَخْصِيصُ أَهْلِ الكِتَابِ بِالذِّكْرِ فِي آَيَةِ الجِزْيَةِ:

فَهِمَ مِنْهُ طَائِفَةٌ: أَنَّ غَيرَهُمْ يُقَاتَلْ مُطْلَقًا، وَإِنْ أَدَّى الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُوَ صَاغِرٌ.

وَفَهِمَ الأَكثرونَ مِنْهُ: أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَنْبِيهِ الخِطَابِ وَفَحْوَاهُ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ لَا يَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ إِلَّا مَعَ الجِزْيَةِ والصَّغَار،

(1) قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى (32/ 189): (وقول النبي: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أمر أن يسن بهم سنتهم في أخذ الجزية خاصة، كما فعل ذلك الصحابة، فإنهم لم يفهموا من هذا اللفظ إلا هذا الحكم، وقد روي مقيدًا غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم، فمن جوَّز أخذ الجزية من أهل الأوثان قاس عليهم غيرهم في الجزية، ومن خصهم بذلك قال: إن لهم شبهة كتاب بخلاف غيرهم).

ص: 177

فَغَيرُهُمْ أَولَى بِذَلِك (1).

فَهُوَ نَهْيٌّ عَنْ مُهَادَنِةِ الكُفَّارِ بِغَيرِ جِزْيَةٍ وَصَغَارٍ، كَمَا كَانَ الأَمْرُ عَلَيهِ أَولًا فِي حَالَةِ ضَعْفِ الإِسْلَام، كَانَ يُهَادِنُ الكُفَّارَ مِنَ المُشْرِكِين وَأَهْلِ الكِتَابِ بِغَيرِ جِزْيَةٍ وَصَغَارٍ، وَأَهْلُ خَيبَرٍ - بَعْدَ فَتْحِهَا - أَقَرَّهُمْ فِيهَا بِغَيرِ جِزْيَةٍ، فَنَسَخَتْ آَيَةُ الجِزْيَةِ ذَلِك؛ وَلِهَذَا أَخَذَ الجِزَيَةَ مِنْ المَجُوسَ وَلَيسُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَاب، وَهَذَا مَذْهَبُ الأَكثَرِينَ: أنَّهُ يَجُوزُ مُهَادَنَةُ جَمِيعِ الكُفَّارِ بِالجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ.

وَهَذَا يُنَاسِبُ (2) الأَصْلَ الَّذِي قَالَ بِهِ الجُمْهُورُ، وَهُوَ: أَنَّهُ إَذَا كَانَ

(1) قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (8/ 515): (فعدم أخذ الجزية منهم - أي من العرب - هل كان لأنه لم يبق فيهم من يقاتل

أو لأن الجزية لا يجوز أخذها منهم بل يجب قتالهم إلى الإسلام، فعلى الأول تؤخذ من سائر الكفار، كما قاله أكثر الفقهاء، وهؤلاء يقولون: لما أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ونهى عن معاهدتهم بلا جزية، كما كان الأمر أولًا، وكان هذا تنبيهًا على أن من هو دونهم من المشركين أولى أن لا يهادن بغير جزية؛ بل يقاتل حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون).

(2)

في المطبوعة: (باب)، وهو خطأ.

ص: 178

القِتَالُ لِأَجْلِ الحِرَابِ (1)، فَكُلُّ مَنْ سَالَمَ وَلَمْ يحارِبْ لَا يُقَاتَلُ، سَوَاءٌ كَانَ كِتَابِيًّا أَو مُشْرِكًا، الجُمْهُورُ يَقُولونَ بِهَذَا، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيرِهِمَا.

ثُمَّ ذَكَرَ:

أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذِ الجِزْيَةَ مِنَ المَجَوسِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَر (2).

ثَمَّ قَالَ:

فَإِذَا عَرَفْتَ حَقِيقَةَ السُّنَّةِ: تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُفَرِّقْ بَينَ عَرِبِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَأَنْ أَخْذَهُ لِلجِزْيَةِ مِنَ المَجُوسِ كَانَ أَمْرًا ظَاهِرًا مَشْهُورًا، وَحَدِيثُ عَمْرِو بنِ عَوفٍ فِي قُدُومِ أَبِي عُبَيدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَينِ

(1) في المطبوعة: (أنه كان القتال لأجل الحرب)، وهو خطأ.

(2)

أخرجه البخاري (ح/ 2978) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.

ص: 179

مَعْرُوفٌ فِي الصَّحِيحَينِ (1)، وَمَا الَّذِي جَعَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ [بنَ عَوفٍ] أَعْلَمَ بِهَذَا مِنْ سَائِرِ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ كَانُوا أَعْلَم بِهَذَا مِنْهُ؟ مِثْل أَبِي عُبَيدَة الَّذِي هُوَ قَدِمَ بِالجِزْيَة، وَالأَنْصَارِ الَّذِين وَافَوهُ لمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِ المَالِ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ بَسْطًا كَثِيرًا.

وَلَكِنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَنْسَى (2) مَا وَقَعَ لَهُ، كَمَا نَسِيَ عُمَرُ مَا جَرَى لَهُ وَلعَمَّارٍ فِي التَّيَمُّمِ (3)، وَقَدْ يَذْهَلُ عَنِ الآَيَةِ مِنَ القُرْآن، حَتَّى يُذَكَّرَ

(1) أخرجه البخاري (ح/ 6061)، ومسلم (ح/ 2961) من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه.

(2)

في الأصل: (نسي)، ولعل ما أثبته هو الأقرب، وانظر: الفتاوى (22/ 248).

(3)

أخرجه البخاري (ح / 331)، ومسلم (368) واللفظ له من حديث عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: أن رجلا أتى عمر فقال إني أجنبت فلم أجد ماء فقال: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية، فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك".

ص: 180

بِهَا، كَمَا جَرَى لِعُمَرَ فِي الصَّدَاقِ (1)، لمَّا أَرَادَ أَنْ يُقَدِّرَ أَكْثَرَهُ، وَيَجْعَلَ الزِّيَادَةَ فِي بَيتِ المَال، فَلَّما ذُكِّرَ بِقَولِهِ تَعَالَي:{وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ.

فَقَدْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ، فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَن بن عَوفٍ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهَذَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَة، وَكَانَ فِي مَغِيبِ أَبِي عُبَيدَةَ أَو

(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده كما في المطالب العالية (8/ 94) عن مسروق قال: (ركب عمر رضي الله عنه المنبر منبر رسول الله، فقال: لا أعرفن ما زاد الصداق على أربعمائة درهم، ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في صدقاتهن إلى أربعمائة درهم؟ ! قال: نعم. قالت: أما سمعت الله تعالى يقول في القرآن: {وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} الآية، فقال: اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب، فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، أو فمن طابت نفسه فليفعل). قال ابن كثير في تفسيره (1/ 468): (إسناده جيد قوي). والحديث قد رواه أصحاب السنن بنحوه مختصرًا، وذكره الحافظ الدارقطني في علله (2/ 239)، وأشار إلى الإختلاف الكثير الذي وقع في سنده، فراجعه فإنه مهم للغاية.

ص: 181

بَعْدَ مَوتِه، وَإِلَّا فَأَبُو عُبَيدَةَ هُوَ قَدِمَ بِالجِزْيَة، وَعُمَرُ كَانَ يُقَدِّمُهُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوفٍ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا أَمْر كَانَ مَعْرُوفًا فِي الصَّحَابَةِ.

وَتَوَقُفُ عُمَرَ فِي أَخْذِ الجِزْيَةِ مِنَ المَجُوسِ أَوَّلًا؛ إِذْ كَانَ القُرْآنُ لَيسَ فِيهِ نَصٌّ فِيهِمْ، وَإِنَّمَا النَّصُّ فِي أَهْلِ الكِتَاب، وَمنْ هُنَا حَصَلَ الاشْتِبَاهُ لِكَثِيرٍ مِنَ العُلَمَاءِ:

* فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لمَّا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ (1) مِنْ غَيرِهِمْ، ثُمَّ اضطَرَبُوا فِي المَجُوسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ مُشْرِكِيِّ العَرَب، بَلْ أَمَرَ بِقَتَالهِمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَه إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ الله، وَمَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا بِأَرْضِ العَرَبِ مُشْرِكٌ.

* وَأَمَّا جُمْهُورُ العُلَمَاءِ: فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَينَ المَجُوسِ وَبَينَ سَائِرِ المُشْرِكِين، وَهُمْ شَرٌّ مِنْ غَيرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا أَخَذَ مِنْهُمْ فَمِنْ

(1) في المطبوعة: (لا تؤخذ).

ص: 182

غَيرِهِمْ بِطَرِيقِ الأَولَى.

ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خصَّ العَرَبَ بَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ، فَاسْتَثْنَاهُمْ، فَقَالَ: تُقْبَلُ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ، إِلَّا مِنْ مُشْرِكِيِّ العَرَبِ، كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ.

وَآخَرُونَ قَالُوا: لَا يُسْتَثْنَى أَحَدٌ، وَمُشْرِكُوا العَرَبِ لا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، لَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُم إِلَّا مَنْ أَسْلَمَ، وَهَذَا أَصَحُّ الأَقْوَالِ.

فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخُصَّ العَرَبَ بِحُكْمٍ فِي الدِّين، لَا بِمَنْعِ الجِزْيَةِ، وَلَا مَنعْ الاسْتِرْقَاق، وَلَا تَقْدِيمِهِمْ فِي الأَمَان، وَلَا بِجْعَلِ غَيرِهُمْ لَيسَ كُفْوًا لهمْ في النِّكَاح، وَلَا بِحِلِّ مَا اسْتَطَابُوهُ دُونَ مَا اسْتَطَابَهُ غَيرُهُمْ؛ بَلْ إِنَّمَا عَلَّقَ الأَحْكَامَ بِالْأَسْمَاءِ المَذْكُورَةَ فِي القُرْآن، كَالمُؤْمِن، وَالكَافِر، وَالبَرّ، وَالفَاجِرِ (1). إِلَى أَنْ قَالَ:

(1) قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى (19/ 18): (فلا يُظنَّ أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلًا؛ بل إنما علق الأحكام بإسم: مسلم، وكافر، ومؤمن، =

ص: 183