الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُعَاهَدَةُ الكُفَّارِ وَمُهَادَنَتُهُمْ]
ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَة، ثُمَّ قَالَ:
فَدَلَّتْ الآَيَاتُ عَلَى أَنَّ البَرَاءَةَ كَانَتْ إِلَى المُعَاهَدِينَ الَّذَينَ لَهُمْ عَهْدٌ مُطْلَقٌ غَيرُ مُؤَقَّتٍ، أَو كَانَ مُؤَقَّتًا وَلَمْ يُوَفُوا بِمُوجِبِه، بَلْ نَقَضُوهِ (1).
(1) قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح بعد أن أورد آية براءة (1/ 175): (فإن المشركين كانوا على نوعين: نوع لهم عهد مطلق غير مؤقت، وهو عقد جائز غير لازم، ونوع لهم عهد مؤقت، فأمر الله رسوله أن ينبذ إلى المشركين أهل العهد المطلق؛ لأنه هذا العهد جائز غير لازم، وأمره أن يسيرهم أربعة أشهر ومن كان له عهد مؤقت فهو عهد لازم، فأمره الله أن يوفي له إذا كان مؤقتًا، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى الهدنة لا تجوز إلا مؤقتة، وذهب بعضهم إلى أنه يجوز للإمام أن يفسخ الهدنة مع قيامهم بالواجب، والصواب هو القول الثالث، وهو أنها تجوز مطلقة ومؤقتة، فأما المطلقة فجائزة غير لازمة يخير بين إمضائها وبين نقضها، والمؤقتة لازمة). وقال أيضًا في الفتاوى (29/ 140): (وأما قوله سبحانه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فتلك عهود جائزة لا لازمة، فإنها كانت مطلقة وكان مخيرًا بين إمضائها ونقضها كالوكالة ونحوها، ومن قال من =
وَهُنَا لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
قِيلَ: لا يَجُوزُ العَهْدُ المُطْلَقُ، كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ فِي قَولٍ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَهَؤُلاءِ يَقُولونَ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ: "نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكَم اللهُ"(1)؛ لأَنَّ الوَحَيَّ كَانَ يَنْزِلُ.
= الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: إن الهدنة لا تصلح إلا مؤقتة. فقوله مع أنه مخالف لأصول أحمد يرده القرآن وترده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر المعاهدين، فإنه لم يوقت معهم وقتًا، فأما من كان من عهده موقتًا فلم يبح له نقضه)، وقال أيضًا في الصفدية (2/ 320): (وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه لا يجوز أن يعاهد الكفار إلا إلى أجل مسمى، ثم اضطربوا، فقال: بعضهم يجوز نقضه ولا يكون لازمًا. وقال بعضهم: بل يكون لازمًا لا ينقضي، واضطربوا في نبذ النبي صلى الله عليه وسلم العهد، والصحيح: أنه يجوز العهد مطلقًا ومؤجلًا، فإن كان مؤجلًا كان لازمًا لا يجوز نقضه
…
وإن كان مطلقًا لم يكن لازمًا، فإن العقود اللازمة لا تكون مؤبدة، كالشركة والوكالة، وغير ذلك).
(1)
أخرجه البخاري (ح/ 2213)، ومسلم (ح/ 1551) عن ابن عن عمر رضي الله عنهما.
ثُمَّ العَهْدُ المُؤَقَّت قَدْ يَجُوزُ لِلإِمَامِ أَنْ يُنْقُضَهُ بِلا سَبِبٍ، كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَؤُلاءِ قَدْ يَحْتَجُّون بِقَولِهِ تَعَالَى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَومٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} .
فَإِنَّ هَؤُلِاءِ عَهْدُهُمْ كَانَ مُوَقَّتًا، وَنَقَضَهُ (1).
وَالثَّالثُ: وَهُوَ قَولُ الأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ المُطْلَقُ وَالمُؤَقَّتُ، وَأَنَّ المُؤَقَّتَ: لازِمٌ مِنَ الطَّرَفَينِ يَجِبُ الوَفَاءُ بِه، مَا لَمْ يَنْقُضُهُ العَدَوُّ، وَلِمَا يَجِبُ من الوَفَاءُ بِسَائِرِ العُهُودِ اللَّازِمَة.
وَأَمَّا المُطْلَقُ: فَهُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ، إِنْ شَاءَ فَسَخَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْسَخْهُ، كَمَا فِي العُقُودِ الجَائِزَة، كَالوَكَالَة، وَالشَّرِكَة، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذَا هُوَ القَولُ الآَخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَولُ الشَّافِعِيِّ،
(1) قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 883): (والآية حجة عليهم؛ لأنه إنما أباح نبذ عهدهم إليهم إذا خاف منهم خيانة، فإذا لم يخف منهم خيانة لم يجز النبذ إليهم؛ بل مفهوم هذه الآية مطابق لمنطوق تلك).
وَالآَيَةُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا القَولِ.
فَإِنَّ اللهَ أَمَرَهُ بِنَبْذِ العُهُودِ إِلَّا مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ إِلَى مُدَّةٍ، ثُمَّ وَفَّى بِمُوجَبِه، فَلَمْ يَتْرُكْ مَا أَوجَبَهُ العَهْدُ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ شيئًا وَلَا أَعَانَ عَدُوًّا (1).
وَأَمَّا قَولُهُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَومٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} . فَتِلْكَ فِي سُورَةِ الأَنْفَالِ، وَهِي مُتَقَدِّمَةٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي العُهُودِ المُطْلَقَةِ مَتَى خَافَ مِنْهُمْ خِيَانَةً، فَإِنَّهُ يَنْبِذ إِلَيهِمْ عَلَى سَوَاءٍ (2)، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُمْ بَغْتَةً، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ آمِنُونَ.
(1) قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 882): (والمقصود: أن الله سبحانه قسّم المشركين في هذه السورة إلى ثلاثة أقسام الأول: أهل عهد مؤقت لهم مدة، وهم مقيمون على الوفاء بعهدهم لم ينقصوا المسلمين شيئًا مما شرطوا لهم، ولم يظاهروا عليهم أحدًا، فأمرهم بأن يوفوا لهم بعهدهم ما داموا كذلك .. الخ)
(2)
قال شيخ الإسلام في الفتاوى (29/ 140): (فإنما أباح النبذ عند ظهور أمارات الخيانة؛ لأنه المحذور من جهتهم).
وَأَمَّا العُقُودُ اللَّازِمَة: هَلْ يَجُوزُ فَسْخُهَا بِمُجَرَّدِ خَوفِ الخِيَانَةِ؟ هَذَا فِيهِ قَولَان، وَالَأظْهَرُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ (1)؛ لَأنَّ سُورَةَ بَرَاءَة تُوجِبُ الوَفَاء (2).
(1) قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (4/ 613): (باب الهدنة: ويجوز عقدها مطلقًا ومؤقتًا، والمؤقت لازم من الطرفين يجب الوفاء به ما لم ينقضه العدو، ولا ينقض بمجرد خوف الخيانة في أظهر قولي العلماء، وأما المطلق فهو عقد جائز يعمل الإمام فيه بالمصلحة).
(2)
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 892): (فإذا علم أن المعاهدين يتناول النوعين، وأن الله أمر بنبذ العهد الذي ليس بعقد لازم، وأمر بالوفاء بالعهد اللازم كان في هذا إقرار للقرآن على ما دل عليه، ووافقته عليه السنة، وأصول الشرع، ومصالح الإسلام، والله المستعان).