الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعثتم ميسرين لا معسرين:
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام أعرابي في المسجد فبال، فتناوله الناس فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه وهريقوا على بوله سجْلًا من ماء أو ذَنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
بلاغة التصوير الأدبي في قوله صلى الله عليه وسلم: "قام أعرابي في المسجد فبال، فتناوله الناس" ترجع إلى أسرار جمالية متنوعة: فالتعبير بقوله: "قام أعرابي" فيه دلالة على أن الأعرابي كان قد أدى الصلاة في المسجد قبل البول، فلما ألحَت عليه الحاجة، اضطر أن يبول في المسجد، والضرورات تبيح المحظورات، فلم يقصد ذلك ابتداء، ويؤكد ذلك ما جاء في رواية أخرى:"أن أعرابيًا دخل المسجد ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا؛ فقال النبي: "لقد تحجرت واسعًا" فلم يلبث أن بال في ناحية المسجد
…
وفيه دلالة أيضًا على أن هناك فرقًا بين "الأعرابي" الذي يسكن في البادية فطبيعته الجفوة، وبين العربي الذي تحضر بأعراف المدنية، لذلك فلا غرابة من صنيع هذا الأعرابي، الذي لم يهيئ نفسه للصلاة والمكث في المسجد.
وفي ذكر المسجد بالألف واللام دلالة على أن هذا الحكم خاص بالمسجد المعد لذلك بالبناء، ولا يطلق على الخلاء بدون بناء لتعرضه للشمس والماء والهواء؛ لأن المسجد له حرمته وتعظيمه، وفي التعبير الفني بالفاء في قوله:"فتناوله الناس" التي وضعت للترتيب والتعقيب؛ دلالة على المسارعة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في الحديث الشريف:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده.." إلخ.
وتجد روعة التصوير البلاغي أيضًا حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه وهريقوا على بوله سَجْلًَا من ماء أو ذنوبًا من ماء" من خلال صور فنية متنوعة:
1-
جمال التصوير الفني بالفاء في صورة: "فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه
…
" إلخ يدل على شفافيته وسرعة بديهته في رد إنكارهم؛ وتوجيههم إلى الأسلوب الأمثل في الدعوة إلى سماحة الإسلام في رفق ورعاية للضرورات البشرية.
2-
وجاءت الصورة الفنية البليغة الثانية: "وهريقوا عليه سجْلا من ماء" لتؤكد سماحة الإسلام في الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، فأمر المعترضين عليه أن يقوموا هم لا الأعرابي بأن يصبوا ماء على مكان البول؛ فهذا يكفي لطهارة المكان وترضية الأعرابي، وفيه دلالة أيضًا على أن الأرض التي لا تصل إليها الشمس لا تطهر إلا بالماء؛ لأن صب الماء عليها يبعد النجاسة عن سطحها، وفي قوله:"على بوله" دلالة على صب الماء من أعلى دون أن يقلب التراب ولا يأتي على كل جوانبه من أسفل.
روعة التصوير الأدبي في قوله: "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" تعتمد على أسرار بلاغية رائعة في صور فنية جميلة: منها
التصوير الفني لسماحة الإسلام ويسره بأسلوب القصر والتوكيد في قوله: "إنما بعثتم ميسرين"، وذلك في صورتين أدبيتين: الأولى التصوير الفني المؤكد بإنما، والثانية: التوكيد بقصر التيسير والسماحة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالمعنى أن التيسير مقصور على أمتكم أنتم وحدكم لا على غيركم، وذلك في قوله:"إنما بعثتم ميسرين"، وفي هذا أيضًا توجيه للأمة كلها؛ ليبلغوا عنه في حضوره وفي غيابه، كما جاء في حديث آخر:"يسروا ولا تعسروا" وفي قوله: "هلك المتنطعون" أي المتشددون.
وكذلك بلاغة التعبير في صورة النفي بعد الإثبات: "ولم تبعثوا معسرين" بعد قوله: "إنما بعثتم ميسرين"، وفي هذا التصوير الفني تأكيد على القيم الأخلاقية والتشريعية السابقة في سماحة الإسلام ويسره، لذلك كرر أسلوب النفي بعد الإثبات، لإثبات هذه القيم بالحجة والدليل، حتى يقتنع المتلقي بنفي العسر وهو النقيض لإثبات اليسر في الإسلام، على سبيل المبالغة بتصوير اليسر بصور متعددة كالرفق بالجاهل، وتقديم أخف الضررين، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وقال أيضًا: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف:
1-
الأرض النجسة يطهرها الماء عند الفقهاء، وقد تطهر الأرض بالشمس والهواء عند بعضهم، أما في المسجد أو المنزل فلا بد من الماء لعدم التعرض للشمس، بالإضافة إلى حرمة المسجد وقداسته فيلزم فيه الماء.
2-
الغسالة طاهرة لأنها تبعد النجاسة عن سطح الأرض.
3-
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الرفق بالجاهل في ذلك حتى يتعلم.
4-
التحرز عن النجاسة، وأنها تزول عند زوال المانع؛ فإذا زالت بالماء أصبح مكانها طاهرًا.
5-
تقديم أخف الضررين، فقد يضر الإنسان احتباس الماء إذا تأخر، مما يدل على سماحة الإسلام ويسره؛ وحرصه على سلامة الإنسان؛ بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف.