الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: حسن المعاملة
الحلال والحرام والشبهات:
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي عبد الله النعمان بن بشير، رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"1.
التصوير الأدبي والبلاغي للحلال والحرام والشبهات بالتعبير البليغ عن التمييز بين الثلاثة، ترغيبًا في الحلال، وتحذيرًا وترهيبًا من الحرام والشبهات، وذلك في أروع صورة أدبية، بلغت القمة في البلاغة البشرية، حتى صارت من جوامع الكلم، التي اختص بها خاتم النبيين، فأعمال المسلم وأقواله لا تتجاوز ثلاثة محاور: حلال واضح يؤدى، وحرام واضح منهي عنه، ومشتبه فيه بين بين، أي بين الحلال والحرام، لا يدري الإنسان هل هو حلال؟ فيؤدى أو حرام فيتقى؛ فالأفضل فيه، أن يتقى حذرًا من أن
1 من معاني الكلمات في الحديث الشريف: "الشبهات والمشتبهات" تشابه بعض الأشياء لبعض، اتقى الشيء: تحفظ منه وحذر منه حتى يتجنب عذابه، استبرأ: حصل على البراءة، العرض: موضع الذم من الإنسان، الحمى: ما يحميه الإنسان ويدافع عنه، يرتع: ترعى الماشية كيف شاءت في خصب وسعة، محارم: الحرمة التي لا يحل هتكها، مضغة: القطعة من اللحمة بمقدار ما يمضغ وهي القلب وهو ما به الحياة في الجسم.
يغريه من الوقوع في الحرام، فأخرجه في صورة أدبية بليغة استمد عناصرها من الواقع، وروافدها من البيئة التي يخالطها الإنسان ويعرفها الناس، فالراعي الذي يرعى غنمه في مرعى قريب من حقل خصيب، يحميه صاحبه ويحافظ عليه، فلا يأمن منه على غنمه، مهما كان حذرًا وشديد الحراسة، أن تتسلل للحقل المحمي، فترعى منه، وتعرضه للمؤاخذة والعقاب، لذلك كان من الأفضل له، أن يختار له مرعى بعيدًا عن هذا الحقل والحمى، وكذلك المسلم، ينبغي أن يبتعد عن الشبهات في القول أو الفعل، حتى لا ينتهي الأمر به إلى التردي في الحرام، فيهلك، واتخذ الحديث الشريف هذه الصورة البليغة:
أولًا: التأكيد بإنَّ المؤكدة في أمر الحلال وأمر الحرام فقال: "إن الحلال بين والحرام بين"، وتأكيد ثان في الإخبار عنهما باختيار لفظ "بين" من البيان وهو البلاغة، وتأكيد ثالث بالشدة على الياء في "بيّن" ليزداد المعنى ثراء، وهو أبلغ من التعبير بالوضوح، إذا قيل الحلال واضح، فقد آثر القرآن البيان في قوله:{الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، ثم تأكيد رابع في التكرار لكلمة بيّن، ليقوى الترغيب ويزداد الإقبال.
ثانيًا: تصوير الابتعاد عن الشبهات بالتقوى، وهي الغاية من الإيمان وأعلى مراتبه، وبالبراءة في "استبرأ" وهي الطهر والعفاف، والنجاة والفوز العظيم، والشرف العزيز الغالي، والأصالة والعراقة؛ لأن العرب تكني عن براءة العرض بالشرف وعراقة النسب الأصيل.
ثالثًا: تصوير المتقي للشبهات بالراعي في تشبيه تمثيلي بليغ، فهي وإن استعملت في رعي الماشية والأغنام؛ إلا أنها تحمل معنى المسئولية والحاكم والقائم على أمور الناس والأحياء؛ مصداقًا للحديث الشريف
"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، مما يدل على خطورة الشبهات واهتمام الإسلام بها، فالنار من مستصغر الشرر، واستمد روافد التشبيه التمثيلي وعناصره، مما يألفه الإنسان في حياته اليومية في الحقل والمرعى والحمى والأنعام والخير والانتفاع، ليستقر المعنى في النفس، ويكون كالدليل الواقعي والحسى من المحسوسات، وهي أقوى من الدليل العقلي والفكري.
رابعًا: ينتهي الحديث الشريف بالقول الفصل والقرار الختامي والنهائي، حين يتناول في صور أدبية بليغة، ذلك بالتعبير البلاغي عن مصدر الحلال والحرام والشبهة الرئيسية، وهو القلب، فإليه يرجع الأمر كله، إن صلح القلب صلح سائر العمل، وإن فسد القلب فسد سائر العمل، في قوله:"ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " لأنه هو موطن الإيمان الحق من التصديق واليقين والإخلاص، والأمن والأمان والعقيدة والاعتقاد، فهو الذي يدير حركة الإنسان كله في أقواله وأفعاله، قال تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ، سأل النواس بن سمعان النبي صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال:"البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس"، وما في الصدر هو القلب.
القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف:
1-
بين الإسلام الحلال والحرام بيانًا شافيًا وصريحًا، لا يحتاج إلى تأويل؛ لأن الحلال تقبله النفس، والحرام تأباه وتنفر منه.
2-
أما الشبهات فالحكم فيه غير واضح، لا يدري الإنسان هل هو حلال أم حرام.