الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من لم يدع قول الزور:
أخرج الجماعة غير مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "من لم يدع قول الزور والعمل به" ترجع إلى عناصر الجمال في دقة الأسلوب، من روافد الإمتاع والتأثير في الوجدان والنفس، والإقناع الشامل بالدليل الواضح والحجة الدامغة؛ فعبر بمن الشرطية لإفادة أمرين، أحدهما: أن "من" تدل على العموم فتشمل كل إنسان رجلًا أو امرأة، صائمًا أو غير صائم، حاكمًا أو محكومًا، في حقوق الله أو في حقوق العباد، صغيرًا أم كبيرًا، لأنه لم يقيد قول الزور وعمله بالرجل أو المرأة وبالصائم أو المفطر، ولا بالحاكم أو المحكوم، فأتى بلفظ يشمل هؤلاء جميعًا فلا فرق بين الرجل والمرأة، إلا أن الأخيرة في الشهادة يكون معها غيرها مقابل الرجل قال تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} إلى قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ،
فلا فرق بين المفطر في رمضان وقائل الزور فيه فعقابهما شديد، لكن عقاب قائل الزور وهو صائم أشد لحرمة شهر رمضان المعظم، الذي يضاعف فيه الأجر، مما يقتضي بشاعة الذنب في الحرمان من ثواب العمل المضاعف، إلى سبعين ضعف والله يضاعف لمن يشاء، وكذلك فالعقاب أشد كما جاء في الحديث الشريف:"فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وثانيهما: عبر "بمن" وهي أداة تدل على الشرط التي تتضمن معنى الالتزام والإلزام باجتناب الزور، ولا مناص من ترتب الثواب على تركه، ولا مناص من العقاب لمن وقع منه، لأنه ترتب على فعل الشرط جواب الشرط وجزاؤه؛ فكان بمعنى الجزاء المتنوع حسب تركه أو فعله، لأن الجزاء من جنس العمل، كما يتضح من قوله:"فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" ويشمل جميع الحقوق، لأن قول الزور في حق الله أولى بالنهي عنه، لأنه يترتب عليه الكذب والافتراء والبهتان على الله ورسوله، ومن فعل ذلك فليتبوأ مقعده من النار، قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلامِ} وكذلك ما يترتب عليه من ضياع حقوق العباد، فيعين على نشر الفساد والظلم قال تعالى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وبلاغة التصوير الأدبي: في التعبير عن ترك الزور والعمل به بصورة فنية محسة حين صور الحديث الشريف التحريم والنهي -وهو معنى مجرد- بمحسوس في "لم يدع" أي لم يترك الشيء المجسم، لأن تأثير المحسوس في النفس يكون أقوى، ويكون أيضًا دليلًا ملموسًا ومرئيًا، لتجمع هذه الصور البليغة بين الإمتاع والتأثير والإقناع معًا، ثم كانت بلاغة التعبير في الجمع بين قول الزور والعمل به، ليستقصي كل أشكاله، في التحريم سواء
أكان قولًا مجردًا من الفعل، حتى لا تشيع الفاحشة بين الناس، أو فعلًا وسلوكًا، وهو أشد فحشًا وإفسادًا في الأرض؛ لذلك جاء التحذير الشديد منه في حديث آخر يجعله من أكبر الكبائر:"ألا وقول الزور" وجعل يكررها حتى تمنى الصحابة رضي الله عنهم أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم.
روعة التصوير الأدبي في بلاغة التعبير لقوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وأسباب الجمال فيه تعتمد على عناصر فنية بليغة، منها أن جواب الشرط هنا جاء في صورة النفي في قوله:"فليس"، للدلالة على النهي والتحريم لبشاعة الجرم والإفساد، وأنه لا فرق في مضاعفة الأجر بين ترك الطعام والشراب وبين ترك المنهيات حتى ولو سقطت الفريضة عن الصائم؛ فلا يستحق مرتكب المحرمات من مضاعفة الأجر، لذلك فالله غير محتاج إلى شيء من ذلك، وإنما الصائم هو الذي يحتاج، وجاءت أيضًا هذه الصورة الفنية على سبيل الكناية، حين نفى السبب وهو ترك الأكل والشرب، وأراد المسبب وهو الرد وعدم التفات الله تعالى له ولا قبوله، بل حذر من الزور وفعله، ثم ذلك التوازن بين الإيقاع الموسيقي في فعل الشرط والجزاء، مما يثير الانتباه ويوقظ الوجدان ويأخذ بمجامع القلب والعاطفة، حتى تستقر هذه القيم في النفس عن طريق منافذ الإدراك المختلفة، مما يتفق مع حديث آخر "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر".
التصوير البلاغي: المستمد من المعاني الحقيقية، التي تواضع عليها علماء اللغة لألفاظ الحديث الشريف، وبلاغة أسلوبه، منها: بلاغة من الشرطية في صورة أدبية تفيد العموم، فلا فرق في تحريم الزور والعمل بين
الصائم والمفطر، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين الصغير والكبير، ولا بين المكلف والمميز غير المكلف، حتى يصير عادة له كما في حديث الصلاة:"أؤمروه لسبع واضربوه عليها لعشر"، ومنها الصورة البلاغية في "لم يدع" لا "لم يترك"؛ لأن من معانيها الوداعة والرفق والحب والميل القلبي، ولا يكون ذلك إلا عن إيمان وحب وإخلاص، ابتغاء مرضاة الله عز وجل، سواء في ترك الزور والعمل به، أو ترك الطعام والشراب، ومنها الصورة البليغة في التعبير "بحاجة" منكرة لإفادة التنويع، لأن الله تعالى غني عن عباده، لا يحتاج شيئًا مطلقًا صغيرًا كان أو كبيرًا، فجند الله تعالى كثير من غير الأناسي، يسبحون بحمده على الدوام كالملائكة لا يفترون، بل يسبح له كل ما في الكون:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ، ومنها الصورة الفنية المستمدة من موسيقى التزاوج بين القول والعمل، وبين الطعام والشراب، لأن الإسلام عقيدة وعمل، وقول وسلوك، فكمال الصيام لا يتم إلا بترك المنهيات والمحرمات من الطعام والشراب، وقول الزور والعمل به وهو أقبح المنهيات لفظاعته.
التصوير الفني في بلاغة الأسلوب البياني المستمد من الصور الخيالية، التي تحرك المشاعر والعاطفة، وتستقر في العقل والوجدان، منها ذلك التشخيص الحي في صورتين أدبيتين بليغتين، وذلك بتشخيص قول الزور والعمل به بشخص له إرادة في قول "يدع" فيتعامل بها مع الصائم، ويتفاعل معه فيقاومه بالترك أو بعدمه، فقد ينتصر أحدهما على الآخر في صراع ومقاومة، وكذلك صراع النفس وهواها مع قوام حياته من الطعام والشراب، فلا يستغنى عنه بحال، فهو من ضروريات الحياة وبدونهما يكون الهلاك والموت، ومنها الصورة البليغة في التوازن الموسيقي بين جملتي الشرط: وهي "من لم يدع قول الزور والعمل به" وبين جواب
الشرط وجزائه في قوله: "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، فهذا النسق الإيقاعي الرتيب يثير النفس، وينبه الذهن، فتفتح له منافذ الإدراك، وتستقر معانيه في القلب والعقل معًا، وكذلك ما يفيده أسلوب الشرط والجزاء من حتمية النتيجة والقرار والحكم الفصل، الذي لا مرد فيه ولا شفاعة، بمعنى من لم يترك قول الزور فليس بصائم، ولا يقبل صومه بحال، فتتمكن هذه القيم الإسلامية من الصائم، وذلك من خلال التطابق بين قول الزور والعمل به، وكذلك بين طعامه وشرابه، ثم التقابل بين الجملتين الأولى:"قول الزور والعمل به". والثانية "يدع طعامه وشرابه" ليشكل صورة بليغة غنية بالألوان متنوعة المعاني المتطابقة والمتقابلة، فتؤكد ما تدل عليه من القيم الخلقية والتشريعية في أحكام الصيام المقبول والمثاب.
القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف:
1-
ترك قول الزور والنهي عن العمل به وخاصة في الصيام فهو يضاعف فيه أجر الصيام، ويعظم فيه عقاب الزور.
2-
الزور يحرم الصائم من ثوابه المضاعف.
3-
يحث الإسلام المؤمن على التحقيق والتثبت في القول والعمل.
4-
بشاعة الزور؛ لأنه يعين على أكل أموال الناس بالباطل، ويشيع الفتنة بين الناس، والفتنة أشد من القتل.
5-
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع في المستقبل بأن بعض الناس سيتخذون شهادة الزور حرفة وعملًا يرتزقون منها، كما يحدث في المحاكم حديثًا.
6-
لا يقتصر مفهوم الصيام على الإمساك على الطعام والشراب، بل يتسع فيشمل ترك قول الزور والعمل به والفحشاء والمنكر.
7-
بالإضافة إلى ما ذكر من القيم في التصوير النبوي في الحديث الشريف.