الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منابع الخير والحب في الإنسان:
أخرج ابن حبان والبيهقي عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس"، قيل: يا رسول الله، من أين لنا صدقة نتصدق بها؟ فقال:"إن أبواب الخير لكثيرة؛ التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، ويسمع الأصم، ويهدي الأعمى، وتدل المستدل عن حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم من طريق الناس صدقة، وهديك الرجل في أرض الضالة لك صدقة".
الصدقة الحسية والنفسية: بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم أخرجت الصدقة من إطارها المادي التقليدي إلى آفاق رحبة فسيحة، لتتسع إلى معان كثيرة وقيم إنسانية سامية، تتنوع فيها منابع الخير والحب، والمودة والإخاء في النفس البشرية، فلو اقتصرت الصدقة على الجانب المادي وحده؛ للتطهير من الشح وإعانة الفقراء والمحتاجين؛ لتعطلت وتوقف مدها خلال الاكتفاء الذاتي في بعض العصور، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تبحث عن الفقير، لتعطيه الصدقة فلا تجد، كما حدث في زمن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فلم يجد واليه في أفريقيا فقيرًا، يعطيه الزكاة بعد
أن جمعها؛ فالصدقة بالمفهوم المادي، صرح اقتصادي ما دام الفقر موجودًا، ويتوارى دورها خلال الاكتفاء الذاتي، لكن بلاغة هذا الحديث الشريف، جعل الصدقة لا تتوارى مطلقًا، بل تظل حية شاخصة في كل حين لما تقتضيه الضرورة من التصدق عن النفس كل يوم؛ شكرًا لله عز وجل على نعمائه الكثيرة، فخرجت عن إطارها المادي إلى قيم نفسية وإنسانية سامية، جاءت بالتفصيل في هذا الحديث، لأن أبواب الخير كثيرة، لا يدخل تحت حصر، جاءت في تصوير بلاغي عجيب، يصل إلى أعماق النفس وأصداء الوجدان، لتوقيع ألحان صافية، يحرك بها العوطف والمشاعر، فيأخذ بالعقول والألباب، ذلك في صور بليغة منها:
التصوير البلاغي للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالعرفان بالجميل، وبالشكر على النعيم والنعم الإلهية، فيلهج اللسان والقلب بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} .
التصوير البلاغي للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالخير والحب والإخاء، وهي صدقة معنوية فترفع البلاء والمحنة والعذاب عن أخيه الإنسان، وعن المجتمع المسلم؛ فيلهج لسانه بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} ، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
التصوير الأدبي للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالخير والحب والإخاء والتعاون؛ وهي صدقة معنوية فتميط الأذى عن الطريق، فترفع
الحجر والعظم والشوكة، حتى لا يتعثر بها إنسان، فيدمى قدمه وجسده، أو حيوان أعجم فتؤذيه، لأنه كان سيحزن لإيذاء أخيه، ويفرح لنعمائه، فذلك هو الإيمان الصادق، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وهل هناك رابطة أقوى من المودة والألفة والحب، قال تعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} .
التصوير البلاغي للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالخير والحب والإخاء، وهي صدقة معنوية، فيسمع الأصم، ويهدي الأعمى، ويدل المستدل على حاجته، ويسعى في حاجة اللهفان المتسغيث، ويتعاون بذراعيه مع الضعيف، ويهدي الضال، فهي صدقة نفسية، ومبادئ إنسانية سامية، تربط المجتمع بالحب والتعاون والإخاء والمودة، والوحدة والترابط، فلا فرق بين الضعيف والقوي، ولا بين السليم السوي والعاجز المعان، ولا بين البصير والأعمى، ولا بين السميع والأصم، ولا بين الخبير المحنك والضال، ولا بين المستغني واللهفان المستغيث، مثلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
التصوير الأدبي البليغ للنفس الإنسانية وهي تحرك مشاعرها بالخير والحب والمودة، وهي صدقة شعورية ووجدانية وعاطفية، في قوله صلى الله عليه وسلم:"وتبسمك في وجه أخيك صدقة"، فيدخل البهجة والسرور في نفس أخيه فربما قد حزبه أمر، ويغشاه هم أو غم، فتشاركه فيه لتخرجه منه بتلك الابتسامة الرقيقة، فتنزعه مما هو فيه من حزن أو غضب وهم، فرق كبير
في ذلك بين النفوس المريضة بالتأزيم والتزمت، والعابسة المقطبة المكشرة وبين غيرها، فإنها تترك الأسى والكبت والحزن والجفوة والجفاء والأذى، قال تعالى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} .
القيم الخلقية والتشريعية في الحديث الشريف:
1-
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته، فحثهم على شكر الله عز وجل على نعمه الظاهرة والباطة بالصدقة كل يوم؛ لتغشاهم رحمته ورضوانه.
2-
إن الصدقة في الإسلام نوعان؛ مادية: كالأموال والأعيان والعقارات والمأكولات والمشروبات وغيرها من الغني الميسور، ومعنوية وتجمعها أبواب الخير وهي كثيرة جاء بعضها في هذا الحديث، للدلالة على نظائرها ممن لا يملك صدقة مادية، تزيد عن حاجته، ومن تلزمه نفقتهم.
3-
أعظم الصدقات المعنوية من أبواب الخير هي: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4-
من الصدقات المعنوية والخلقية إماطة الأذى عن الطريق، مثل إقالة العثرات عن الطريق، وتمهيده ونظافته من القاذورات والمهملات، ومنع الدخان والأصوات المزعجة والعالية، وعدم تلويث الهواء بما يؤذي الإنسان من العوادم والغازات المضررة.
5-
ومنها أيضًا تعليم الأصم، وتمكينه من ممارسة حياته المألوفة، فيتعلم ويقرأ ويشارك المجتمع من حوله، فلا يعيش معزولًا عنه بالعزلة والغربة.
6-
ومنها أيضًا إرشاد الأعمى والضال إلى الطريق الصحيح وتوجيهما إلى مقصدهما، وملاطفتهما في الحديث، وتعليمهما وفتح أبواب المشاركة مع المجتمع من حولهما، حتى لا يشعر بالغربة والعزلة.
7-
ومنها أيضًا إعانة المستغيث والضعيف، فتسعى معهما، حتى ترد عنهما الأذى، وتدفع عنهما الشر، الذي يحيط بهما، ما دمت قادرًا على ذلك بلا ضرر ولا ضرار.
8-
ومنها أيضًا حسن المعاملة للآخرين، بطلاقة الوجه وحسن الاستقبال وإشراق الوجه بالابتسامة، بلا عبوس ولا تكشير، ولا اشمئزاز ولا إعراض.