الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين المسلم والمهاجر:
أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "المسلم من سلم المسلمون" عبر الحديث الشريف بالمسلم وهو دون المؤمن في الظاهر، لأن بلاغة المقام ومقتضى الحال يُؤْثِر التعبير بالمسلم؛ لأنه جاء مقيدًا بما بعده وهو: من سلم المسلمون، فالذي لا يتعرض لأذى، بل للمحبة وتمني الخير، يكون مسلمًا كاملًا، أي مؤمنًا محسنًا في إيمانه، وهذه قمة البلاغة، لأن التعبير بالمؤمن لا يحتاج إلى قوله:"من سلم المسلمون" لعدة أمور:
أولًا: حتى لا يوصف الحديث بالحشو والزيادة ورسول الله أبلغ العرب، ثانيًا: لأن بلاغة الحديث الشريف تقتضي التصريح بهذا القيد؛ لأنه أبلغ من الإضمار لما فيه من التصريح بالسلامة، ثالثًا: ليدخل في المسلمين كل الناس: المسلم والمؤمن والمحسن من باب أولى، وكذلك يدخل فيه غير المسلم؛ لأن من استأمنه جماعة المسلمين على أرضهم، أخذ حكم المسلمين من الأمن والسلامة؛ لذلك كان حرف "من" في موقعه من الحديث، قد بلغ الغاية في بلاغة التصوير الأدبي عن هؤلاء جميعًا، لما يفيده من العموم والشمول، فهو يشمل المؤمن والمسلم وغير المسلم في ديار المسلمين، وتلك هي بلاغة المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي تصور سماحة الإسلام وعدالته، ولا يخفى علينا أن التعبير بالمسلم يشمل الذكر والأنثى والصغير والكبير.
بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "من لسانه ويده": أجمع علماء البلاغة على أن هذا الحديث من جوامع الكلم، التي اختص بها من بين الأنبياء جميعًا، لأن اقتصاره على اللسان واليد؛ في التصوير الأدبي لكل ما يقع من الإنسان؛ قولًا أو فعلًا بلغ القمة في بلاغة الإيجاز، فاللسان هو الذي يعبر عما في النفس، وهو أبلغ من التصوير بالقول، الذي لا يشمل خروج
اللسان من الفم استهزاء؛ فليس قولًا، ولأن الإنسان يحاسب على ما يصدر من اللسان، ولا يعاقب على نية الشر والأذى قبل ترجمتها باللسان، لذلك كان اللسانُ ملاك الأمور كلِّها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم معاذ رضي الله عنه:"هل أدلك على ملاك الأمر كله"، قال معاذ: بلى يا رسول الله قال: "أمسك عليك هذا" وأشار إلى لسانه فقال معاذ: وهل نحن يا رسول الله مؤاخذون بما نتكلم، فقال:"وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".
وقدّم اللسان على اليد، لأن الأذى باللسان، يشمل من في الماضي والموجود في الحاضر، والحادث في المستقبل بعد ذلك. بخلاف اليد فالإيذاء بها خاص بالموجودين، اللهم إلا إذا كان عن طريق الكتابة فقط.
وبلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم في اقتصاره الإيذاء على اليد فقط، دون بقية الجوراح التي يحصل الأذى بها، لأن معظم الأفعال إنما يتحصل باليد في الغالب، إذ بها يكون البطش والقطع والوصل والأخذ والمنع، لذلك قيل لكل عمل، وإن كان بغير اليد:"هذا مما عملته أو جنته أيديهم" وبلاغة التعبير باليد، يُدْخِلُ اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير الحق؛ لذلك كانت اليد تطلق على كل فعل ينسب إليها، قال الله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} .
بلاغة التصوير الأدبي في قوله: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وفي هذه الفقرة تعددت ألوان البلاغة، فأصبح الحديث الشريف كالروضة، ضمت ألوانًا وأنواعًا مختلفة، تناغمت فيها الأنواع وتناسقت بينهما الأشكال والألوان، ويظهر هذا التناسقُ بين الأنواع المختلفة، والتآلفُ بين الألوان المتنوعة، فيما أطلق عليه علماء البلاغة الجناس والطباق والمقابلة،
فأما الجناس فقد كان في اتحاد الألفاظ مع اختلاف المعاني، فكان بين لفظي المسلم وسَلِم، ولفظي: المهاجر وهجر، التي أشاعت ألوانًا من التناسق بين أنغام الحروف ونسقها الإيقاعي، مما يثير الانتباه، ويحرك العواطف والمشاعر، وأما الطباق فتجده بين المسلم والمهاجر، وبين سلم وهجر ونهى، وبين لسانه ويده، والتضادُّ بين معاني كل لفظين، يعطي تنويعًا وتلوينًا وتعميقًا للمعاني، حتى تتمكن من النفس أيما تمكن، وأما التقابل فكان بين هذين الفقرتين، بين:"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" و"المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" فالتقابل هنا بين الإيجاب والسلب وبين الأمر والنهي، يدل على أن الحديث الشريف جمع بين الأوامر والنواهي جميعها؛ لذلك كان من جوامع الكلم.
انظر إلى بلاغة التصوير الفني بالمهاجر، وهي تدل على المشاركة على العكس من كلمة الهاجر وهو المراد في الأصل، للدلالة على أن الإنسان دائمًا في صراع بين الخير والشر، وبين النفس الأمارة بالسوء والنفس الطيبة، وكذلك بلاغة التصوير البلاغي باسم الموصول في "من هجر"، لأن الإنسانية تقتضي عموم ذلك بين الإنسان مسلمًا كان أو غير مسلم، وكذلك ما تفيده بلاغة العموم في قوله:" ما نهى الله عنه"؛ لأنه لا فرق بين المنهي عنه حقيرًا كان أو عظيمًا لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .
القيم التشريعية والخلقية في الحديث الشريف:
1-
أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطمئن من لم يهاجر من المسلمين بعد انقطاع الهجرة؛ بأن هجرة المعاصي تعد هجرة؛ فالمهاجر من هجر المعاصي.
2-
كمال الإسلام لا يتحقق إلا بالأصول والفروع، وكل ما به كمال الإيمان.
3-
الإيمان يزيد بالطاعات وعمل الخيرات، وينقص بالتقصير فيها.
4-
الإسلام دين السلام والسماحة؛ فهو يحث على كف الأذى عن الناس جميعًا ونشر المحبة بينهم.
5-
جمع الحديث الشريف بين المحافظة على حقوق الله تعالى وحقوق عباده.
6-
بالإضافة إلى ما ذكر في التصوير النبوي من الحديث الشريف.